المشقة (١) ﴿فِى سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في نصرة دين الله (٢).
﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ قال الزجاج: إنما قال: ﴿يَرْجُونَ﴾ لأنهم عند أنفسهم غير بالغين ما يجب لله (٣) عليهم، ولا يعلمون ما يختم به أمرهم (٤). ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ غفر لعبد الله بن جحش وأصحابه ما لم يعلموا ورحمهم.
٢١٩ - قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ الآية، نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وسعد بن أبي وقاص وجماعة، أتوا رسول الله - ﷺ -، فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر، فإنهما مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فنزل قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ (٥).
(٢) "تفسير الثعلبي" ٢/ ٧٦٩.
(٣) في (ي): (ما يحب الله).
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٩٠ - ٢٩١.
(٥) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٧٧٠، وعنه ابن حجر في "العجاب" ١/ ٥٤٦، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص ٧٣، البغوي في "تفسيره" ١/ ٢٤٩، وابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٢٣٩، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٢/ ١٥٦. وورد عن عمر قوله: لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في البقرة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ فدعي عمر فقرئت عليه، قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. الحديث رواه أبو داود =
والخَمْر عند أهل اللغة سميت خمرًا لسترها العقل. قال ابن المُظَفَّر: الَخْمر معروف، واختمارها: إِدْرَاكها وغَلَيَانُها، ومُخَمِّرُها: مُتَّخِذُها، وخُمْرَتُها: ما غشي المَخْمورَ من الخُمَارِ (١)، وأنشد:
وقد أَصَابَتْ حُمَيَّاها مَقَاتِلَهُ | فلم تكَد تَنْجَلِي عن قَلْبِه الخُمَرُ (٢) |
وقد اخْتَمَرَتِ المرأةُ بخمارها، وتَخَمَّرَتْ وهي حَسَنَهُ الخِمْرَةِ،
(١) في "مقاييس اللغة" ٢/ ٢١٥ زيادة: [والسكر في قلبه] والكلام منسوب إلى الخليل فلعل الليث ناقل كما قال محقق "تهذيب اللغة"، كما أنه أخبر عن الخمر بالمذكر فقال: معروف، وكذا في "التهذيب"، والعبارة المنقولة عن الخليل: الخمر معروفة.
(٢) البيت بلا نسبة في "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٩٩، "مقاييس اللغة" ٢/ ٢١٥، "لسان العرب" ٢/ ١٢٥٩ (خمر) وروايته: لذٌّ أصابت.
(٣) نقله عن ابن المظفر في "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٩٩.
(٤) نقل عنه في "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٩٩ قوله: أبو عبيد عن الكسائي: خمرت العجين وفطرته، وهي الخمرة الذي يجعل في العجين يسميه الناس: الخمير.
(٥) في "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٩٩: ثعلب عن ابن الأعرابي.
(٦) رواه البخاري (٣٢٨٠) كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم (٢٠١٣) كتاب الأشربة باب تغطية الإناء في الأشربة باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء، من حديث جابر بن عبد الله. والتخمير: التغطية.
ويقال: خَامِرِي أمَّ عَامر (١)، أي: ادخُلِي الخَمَرَ، واستتري، والخَمَرَ: ما واراك من شجرٍ وغيره من وهْدَةٍ وأَكَمَةٍ.
وقيل: سميت خمرًا؛ لأنها تُغَطَّى حتى تدرك، وقال ابن الأنباري: سميت خَمْرًا؛ لأنها تُخَامِرُ العَقْلَ، أي: تخالِطُه، يقال: خَامَره الداءُ، إذا خَالَطَه، وأنشد لكثير:
هَنِيئًا مَرِيئًا غيرَ داءٍ مُخَامِرٍ (٢)
يقال: خامر السقامُ كبدَه، وخامرت كبدُه السقامَ، تجعل أيهما شئت فاعلًا، قال:
أتَيْت الوَلِيدَ له عَايدًا | وقد خَامَرَ القَلْبُ منه سَقَامَا (٣) |
(٢) عجز البيت: لعزة من أعراضنا ما استحلت.
والبيت في "ديوانه" ص١٠٠، كتاب "العين" ٤/ ٢٦٣، "مقاييس اللغة" ٢/ ٢١٦. "المعجم المفصل" ١/ ٥٤٧.
(٣) البيت لم أهتد إلى قائله، ولا من ذكره.
(٤) في (ش) (وهو).
(٥) في (ي) (خالطه).
(٦) ينظر في مادة خمر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٩١، "تهذيب اللغة" ١/ ١١٠١، "المفردات" ص ١٦٥، "عمدة الحفاظ" ١/ ٦١٤، "اللسان" ٢/ ١٢٦١.
فأما حدها: فمذهب الثوري (١) وأبي حنيفة وأكثر أهل الرأي (٢): أن الخمر ما اعتصر من الحبلة (٣) والنخلة، فغلى (٤) بطبعه دون عمل النار فيه، وأن ما سوى ذلك فليس بخمر، ومذهب مالك (٥) والشافعي (٦) وأحمد (٧) وأهل الأثر (٨): أن الخمر كل شراب مسكر، سواء كان عصيرًا أو نقيعًا، مطبوخًا كان أو نيئًا. واللغة تشهد لهذا.
قال الزجاج: القياس أن ما عمل عمل الخمر أن يقال لها خمر، وأن يكون (٩) في التحريم بمنزلها (١٠)، لأن إجماع العلماء أن القمار كله حرام، وإنما (١١) ذكر الميسر من بينه وهو قمار في الجُزُر (١٢)، وحُرِّم كلُّه قياسًا على الميسر، وكذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلته، وكل مُسْكِرٍ مخالط للعقل مُغَطٍّ عليه فهو خمر، ويقال لكل شارب غلبه بخار شرب المسكر،
(٢) ينظر: "مختصر الطحاوي" ص ٢٧٨، "شرح معاني الآثار" ٤/ ٢١٢، "أحكام القرآن" للجصاص ١/ ٣٢٤.
(٣) الحبلة: العنبة.
(٤) في (م): (فغشي).
(٥) ينظر: "الموطأ" في الأشربة، باب: الحد في الخمر ١/ ٨٤٣، "المدونة" ٦/ ٢٦١.
(٦) ينظر. "الأم" ٦/ ١٩٥.
(٧) ينظر: "المغني" ١٢/ ٥١٤، "شرح الزركشي على مختصر الخرقي" ٦/ ٣٧٢.
(٨) ينظر: "التمهيد" ١/ ٢٤٥، "أحكام القرآن" لابن العربي ١/ ١٤٩.
(٩) في (ش) (تكون).
(١٠) ابن الأنباري، ذكره الزجاج ١/ ٢٩١.
(١١) في (ش): (وإما).
(١٢) في (م): (الجزد)، وفي (ش): (الجرر)، وفي (ي): (الحرر).
أيِّ مُسْكِرٍ كان: مخمور، وبه خمار، فهذا بين واضح، وقد قال النبي - ﷺ - "إن من التمر لخمرًا، وإن من العنب لخمرًا، وإن من الزبيب لخمرًا، وإن من الحنطة لخمرًا، وإن من الشعير لخمرًا، وإن من الذرة لخمرًا، وأنا أنهاكم عن كل مسكر" (١).
وقوله تعالى: ﴿وَالْمَيْسِرِ﴾ يعني: القمار، قال ابن عباس: كان الرجلُ في الجاهلية يخاطر الرجلَ على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله، فأنزل الله هذه الآية (٢). والمَيْسِر عند أهل اللغة: مَفْعِل، من قولهم: يَسَر لي هذا الشيء يَيْسِرُ يَسَرًا ومَيْسِرًا، إذا وجب، والياسر: الواجبُ بقدح وجب ذلك أو مُنَاحبةٍ (٣) أو غير ذلك، هذا أصله، ثم قيل للقمار: ميسر، وللمقامر: ياسر ويسرٌ (٤)، قال:
يَسَرُ الشِّتَاءِ وفَارِسٌ ذو قدمة | في الحَرْبِ أن حَاصَ الجَبَانُ مَحِيصَا (٥) |
(٢) رواه أبو عبيد في " الناسخ والمنسوخ" ص ٢٤٩، والطبري في "تفسيره" ٢/ ٣٥٨، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٩٠، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" ١/ ٦٢٨، والثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٨٧٨، "الدر المنثور" ١/ ٤٥٢.
(٣) في (ش): مناجية. وفي (أ) كأنها: مناخبة، وما أثبت من "تفسير الثعلبي" ٢/ ٨٧٨، والمناخبة: المراهنة والمخاطرة كما في النهاية، وأثبت محقق "تفسير الطبري" فتاحة.
(٤) "تفسير الطبري" ٢/ ٣٥٧، "تفسير الثعلبي" ٢/ ٨٧٨، وعنده: الواجب بقداح.
(٥) البيت لم أهتد لقائله، ولا من ذكره.
ويجمع يَسَر أَيْسَارًا. قال طرفة:
وهم أيْسَارُ لُقْمَانَ إذا | أغْلَتِ الشَّتْوَةُ أبْدَاءَ الجُزُرْ (١) |
أقولُ لهم بالشِعْبِ إذ يَيْسِرُونني | ألم تيأسوا أني ابنُ (٤) فَارِسِ زَهْدَمِ (٥) |
قال النضر: الياسر: الجزار، ويَسَرْتُ الناقة، أي (٨): جَزَّأْتُ
(٢) نقله في "اللسان" ٨/ ٤٩٥٩ (يسر).
(٣) من قوله: يسر الياسر. ساقط من (أ) و (م).
(٤) في (ش) و (ي): (لي).
(٥) البيت لسحيم بن وثيل اليربوعي، ينظر: "مجاز القرآن"،"اللسان" ٨/ ٤٩٥٩، "تفسير القرطبي" ٣/ ٥٣، ورواية الأزهري في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٨١ "يسر". أقول لأهل الشعب، ورواية "اللسان": ألم تعلموا. وتيأسوا: تعلموا. وزهدم: اسم فرس.
(٦) ليست في (أ) ولا (م).
(٧) ينظر: "الميسر والقداح" لابن قتيبة ص ٥٦ - ١٥٤، "تفسير الثعلبي" ٢/ ٨٧٩، "المحرر الوجيز" ٢/ ٢٣٤، "الميسر والأزلام" لعبد السلام هارون ص ١٢ - ٥٤.
(٨) في (ش): (إذا).
لَحْمَها (١)، وقول الأعشى:
والجَاعِلُو القُوتِ على اليَاسِرِ (٢)
يعني: الجازر، وقيل: الميسر من اليُسْر، وهو تَسَهُّلُ الشيء، وذلك أنهم كانوا يشتركون في الجزور لِيَسْهُل أمرُه (٣)، وإلى هذا ذهب مقاتل؛ لأنه قال: (٤) سمي ميسرًا لأنهم كانوا يقولون: يَسِّرُوا لنا ثَمَنَ الجَزُور (٥)، وليست هذه الآية المُحَرِّمَةُ للخمر ﴿وَالْمَيْسِرِ﴾ (٦) إنما المحرمة التي في المائدة (٧).
وقوله تعالى: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ أراد: الإثم بسببهما من المخاصمة والمشاتمة، وقول الفحش والزور، وزوال العقل والمنع من الصلاة، والقمار يورث (٨) الجماعة (٩) العداوة، بأن يصير مال الإنسان إلى غيره بغير جزاء يأخذه عليه (١٠).
(٢) عجز بيت للأعشى، وصدره:
لمطعمون اللحم إذا ما شتوا
ينظر: "ديوانه" ص ٩٥، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٨٠، "لسان العرب" ٨/ ٤٩٥٩ (يسر).
(٣) ينظر في الميسر: "الميسر والقداح" لابن قتيبة، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٨١، "عمدة الحفاظ" ٤/ ٤٠٩، "لسان العرب" ٨/ ٤٩٥٩ (يسر).
(٤) ليست في (ش)
(٥) "تفسير مقاتل" ١/ ١٨٨.
(٦) ليست في (ي).
(٧) تقدم ذلك في ذكر سبب نزول الآية.
(٨) من قوله: الخاصمة. ساقط من (أ) ولا (م).
(٩) ليست في (أ) ولا (م) ولا (ي).
(١٠) ينظر: "تفسيرالثعلبي" ٢/ ٨٨٩ - ٨٩٠.
وقال الربيع (١) والضحاك (٢): إثم كبير بعد التحريم، ومنافع للناس قبل التحريم. والأول الوجه، وعنى بالمنافع ما كانوا يصيبونه من المال في بيع الخمر، والتجارة فيها، واللذة عند شربها، والتقوي بها (٣)، كقول الشاعر (٤) الأعشى:
لنا من ضُحَاها خُبْثُ نَفْسٍ وكَأبةٌ | وذِكرى هُمُومٍ ما تَغِبُّ أَذَاتُها |
وعند العِشَاءِ طيبِ نَفْسٍ ولَذّةٍ | ومالٍ كثِيرٍ عدة نَشَوَاتُها (٥) |
وقال قتادة: في هذه الآية ذمها ولم (٧) يحِّرْمها، وهي يومئذ حلال (٨).
وذهب قوم من أهل النظر: إلى أن الخمر حرمت بهذه الآية؛ لأن الكتاب قد دل في موضع آخر على تحريم الإثم في قوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ﴾ [الأعراف: ٣٣] وقد حرم الإثم، وقال: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾، فوجب أن يكون محرمًا (٩).
(٢) رواه عنه الطبري في "تفسيره" ٢/ ٣٦١، وذكره النحاس في "معاني القرآن" ١/ ١٧٤، والثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٨٩١.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٩٢، "تفسير الثعلبي" ٢/ ٨٩٠
(٤) ليست في (أ) ولا (م) ولا (ي).
(٥) البيتان للأعشى بن قيس في قصيدة فخر له، ينظر: "ديوانه" ص ٣١ وفي الأشربة لابن قتيبة ص ١٩٨، "تفسير الطبري" ٢/ ٣٥٩ "تفسير الثعلبي" ٢/ ٨٩٠.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٩٣، "تفسير الثعلبي" ٢/ ٨٩٠.
(٧) في (ي): (فلم).
(٨) رواه الطبري في "تفسيره" ٢/ ٣٦٣، وذكره في "زاد المسير" ١/ ٢٤١٤، وفي "الحجة" ٢/ ٣٠٧.
(٩) من "الحجة" ٢/ ٣٠٨.
واختلف القراء في قوله: ﴿إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ فقرأ حمزة والكسائي (كثير) بالثاء، الباقون بالباء (١)، وحجتهم: أن الباء أولى؛ لأن الكِبَر مثلُ العِظَم، ومقابل الكِبرِ الصِّغَر، قال الله تعالى: ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر: ٥٣] وقد استعملوا في وصف الذنب العِظَمَ والكِبَرَ، يدل على ذلك قوله: ﴿كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾ [النجم: ٣٢]، ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [النساء: ٣١]، بالباء، كذلك هاهنا ينبغي أن يكون بالباء، ألا ترى أن شرب الخمر والميسر من الكبائر.
وقالوا في اللمم: صغيرٌ وصغيرة، ولم يقولوا: قليل، فلو كان (كثير) متجهًا في هذا لوجب (٢) أن يقال في غير الكبيرة (٣): قليل، ألا ترى أن القلة تقابل الكثرة، كما أن الصغر يقابل الكبر. واتفاق القراء على الباء في ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ﴾، ورفضهم الثاء مما يقوي الباء.
وأما من قرأ بالثاء فلأنه قد جاء فيهما ما يقوي (٤) وصف الإثم فيهما بالكثرة دون الكبر، وهو قوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ﴾ [المائدة: ٩١] فذكر عددًا من الذنوب فيهما، ولأن (٥) النبي - ﷺ - لعن عَشْرَةً في سبب الخمر (٦)،
فدل على كثرة الإثم فيها، ولأن الإثم في هذه الآية عودل به المنافع فَحَسُنَ أن يوصف بالكثرة (١)؛ لأنه كأنه قال: فيه مضارٌّ كثيرةٌ ومنافعُ (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ نزل في سؤال عمرو بن الجموح، لما نزل قوله: ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: ٢١٥] في سؤاله أعاد السؤال وسأل عن مقدار ما ينفق، فنزل قوله: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ (٣). قال ابن عباس في رواية مقسم: العفو: ما فضل من المال عن العيال (٤)، وهو قول السدي (٥) وقتادة (٦) وعطاء (٧).
(٢) من "الحجة" ١/ ٣١٢ - ٣١٤ بتصرف.
(٣) ذكر السيوطي في "لباب النقول" ١/ ٤١ أن ابن المنذر أخرج عن أبي حيان أن عمرو ابن الجموح سأل النبي - ﷺ - ماذا ننفق من أموالنا، وأين نضعها؟ فنزلت. وذكره مقاتل بنحوه ١/ ١٨٨ وذكر الثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٨٩١ أن رسول الله - ﷺ - حثهم على الصدقة، ورغبهم فيها من غير عزم، فقالوا: يا رسول الله، ماذا ننفق وعلى من نتصدق؟ فنزلت، وعنه نقله ابن حجر في "العجاب" ١/ ٥٤٦، والسيوطي في "لباب النقول" ص ٤٢، وعزاه لابن جرير، وبنحوه عند ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٣٨١.
(٤) رواه سعيد بن منصور في "سننه" ٣/ ٨٣٨، والطبري في "تفسيره" ٢/ ٣٦٤، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٣٩٣، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" ١/ ١٣٣، والثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٨٩٤.
(٥) رواه عنه الطبري ٢/ ٣٦٤، والثعلبي ٢/ ٨٩٣، البغوي في "تفسيره" ١/ ٢٥٣.
(٦) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٨٩، والطبري ٢/ ٣٦٤، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٣٩٣، والثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٨٩٣
(٧) رواه سعيد بن منصور ٣/ ٣٣٩، والطبري في "تفسيره" ٢/ ٣٦٤، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٣٩٣، والثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٨٩٣.
وقال في رواية الوالبي: ما لا يتبين (١) في أموالكم (٢).
وقال مجاهد: صدقة عن ظهر غنى (٣). وأصل العفو في اللغة: الزيادة، قال الله تعالى: ﴿حَتَّى عَفَوْا﴾ [الأعراف: ٩٥]، أي: زادوا على (ما) (٤) كانوا عليه من العدد (٥).
وقال الشاعر:
ولكنا نُعِضُّ السَّيْفَ منها | بأسْؤُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ (٦) |
قال أهل التفسير: أُمِروا أن ينفقوا الفَضْل، وكان أهل المكاسب يأخذ الرجل من كسبه ما يكفيه في عامه، وينفق باقيه، إلى أن فرضت الزكاة، فنسخت آيةُ الزكاة المفروضة هذه الآية وكل صدقة أمروا بها قبل نزول الزكاة (٧) (٨).
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" ٢/ ٣٦٤، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٣٩٤، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" ١/ ٦٣١، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٨٩٤.
(٣) رواه الطبري في "تفسيره" ٢/ ٣٦٥ بمعناه، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٨٩٤.
(٤) ساقطة من (ش).
(٥) "تفسيرالثعلبي" ٢/ ٨٩٦
(٦) القائل: لبيد، ينظر: "ديوانه" ص ١٠٤، "مجاز القرآن" ٠/ ٢٢٢، "تفسير الطبري" ٢/ ٣٦٦ "تفسير الثعلبي" ٢/ ٨٩٦ والضمير في قوله: منها، يعود إلى الإبل، يقال: أعضَّه السيف، إذا ضربه به والباء في (أسوق) زائدة، كُوْم: عظام الأسمنة يقال في البعير: أكوم، والناقة: كوماء.
(٧) من قوله: المفروضة. ساقطة من (ي).
(٨) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٩٣، وعزاه الثعلبي ٢/ ٨٩٩ للكلبي، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص ٢٣٨، واستظهر ابن الجوزي أن لا نسخ في الآية،=
واختلف القرَّاء في رفع العفو ونصبه، فقرؤا بالوجهين جميعًا (١)، فمن نصب جعل (ماذا) اسمًا واحدًا، فيكون قوله: ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ بمنزلة ما ينفقون (٢)، و (ماذا) في موضع نصب، كما أن ما وأيًّا في قولك: ما ينفقون، وأيًّا ينفقون، كذلك (٣)، وجواب هذا العفو بالنصب، كما تقول في جواب: ما أنفقت؟ درهمًا، أي: أنفقت درهمًا.
ومن رفع العفو جعل ذا (٤) بعد (ما) بمنزلة الذي، ورد العفو عليه فرفع، كأنه قال: ما الذي ينفقون؟ فقال: العفو، أي: الذي ينفقون العفو، فيضمن (٥) المبتدأ الذي كان خبرًا في سؤال السائل، كما تقول في جواب ما الذي أنفقته؟ مال زيد، أي: الذي أنفقته مال زيد (٦).
قال أبو إسحاق: ويجوز أن تنصب ﴿الْعَفْوَ﴾ وإن كان (ما) وحدها اسمًا، تحمل (العفوَ) على ينفقون (٧)، كأنه قيل (٨): قل أنفقوا العفو،
(١) قرأ أبو عمرو: ﴿قل العفوُ﴾ رفعا، والباقون نصبًا.
(٢) قوله: بمنزلة ما ينفقون ساقطة من (أ) و (م).
(٣) ساقطة من (ي).
(٤) في (ي): (إذا).
(٥) في (ش): (فيضمر) لحلها هي الصواب.
(٦) من "الحجة" ٢/ ٣١٨ بتصرف.
(٧) في (ي): (ما ينفقون).
(٨) (قيل) ساقطة من (ش).
ويجوز (١) أن يرفع العفو، وإن جعلت ما وذا بمنزلة شيء واحد، على معنى: قل هو العفو (٢)، والكلام في (ماذا) قد مر مستقصى (٣).
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ أشار إلى ما بين في الإنفاق، كأنه قال: مثل الذي بينه لكم في الإنفاق إذ يقول: (قل العفو) يبين لكم الآيات لتتذكروا (٤) في أمر الدنيا والآخرة، فتعرفوا فضل الآخرة على الدنيا.
وقيل: مثل البيان في الخمر والميسر يبين الله لكم الآيات (٥). وقال: ﴿كَذَلِكَ﴾ وهو يخاطب جماعة؛ لأن الجماعة معناها القبيل، كأنه قال: كذلك أيها القبيل.
وقد أتى القرآن في غير موضع (بذلك) للجماعة، قال الله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ﴾ ثم قال: ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [الأحزاب: ٣٠] والأصل: (ذلكن) (٦)، إلا أن الجماعة في معنى القبيل، وجائز أن يكون الكاف للنبي - ﷺ -، أي: كذلك أيها النبي يبين الله لكم الآيات؛ لأن خطاب النبي - ﷺ - مشتمل على خطاب أمته، كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ [الطلاق: ١] (٧).
(٢) ذكره الزجاج ١/ ٢٩٣.
(٣) ينظر ما تقدم.
(٤) (لتتفكروا) في (ش)، وفي (ي): (تتفكروا).
(٥) ينظر: "تفسير الطبري" ٢/ ٣٦٨ - ٣٦٩، "بحر العلوم" ١/ ٢٠٣، "تفسير الثعلبي" ٢/ ٩٠٠ - ٩٠١، "الكشاف" ١/ ٢٦٣.
(٦) في (ي) و (ش) و (م): (ولكن).
(٧) من "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٩٣ - ٢٩٤ بتصرف، "تفسير الثعلبي" ٢/ ٩٠٠.