
قال عروة بن الزُّبَيْر وغيره: لما عَنَّفَ المسلمون عبْدَ اللَّه بن جَحْشٍ وأصحابه، شَقَّ ذلك عليهم، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية، ثم هي باقيةٌ في كلِّ من فعل ما ذكره اللَّه عزَّ وجلَّ «١».
وهَاجَرَ الرجُلُ، إِذا انتقل نقلة إِقامة من موضعٍ إِلى موضعٍ، وقصد ترك الأول إِيثاراً للثاني، وهي مُفَاعَلَةٌ من هَجَرَ، وجَاهَدَ مفاعلة من جهد، إذا استخرج الجهد، ويَرْجُونَ: معناه يَطْمَعُون ويستقْربُون، والرجاء تنعُّم، والرجاء أبداً معه خوفٌ ولا بدَّ، كما أن الخوف معه رجاء.
ت: والرجاءُ ما قارنه عمَلٌ، وإلا فهو أمنيّة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٩ الى ٢٢٠]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ... الآية: السائلُون هم المؤمنُونَ، والخَمْر: مأخوذ من خمر، إِذا ستر ومنه: خِمَارُ المَرْأة، والخَمَرُ: ما واراك من شَجَر وغيره، ومنه قولُ الشاعر: [الوافر]
أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا | فَقَدْ جاوزتما خمر الطّريق |
ونوقش: بأن العموم في آية المواريث قد خص بحديث أسامة بن زيد: «لا يرث المسلم من الكافر» كما خص توريث الكافر من المسلم، وهو وإن كان من أخبار الآحاد إلا أن الأمة تلقته بالقبول، واستعملته في منع توريث الكافر من المسلم، فصار في حيز المتواتر لأن آية المواريث خاصة بالاتفاق. وأخبار الآحاد مقبولة في تخصيص مثلها.
وأجيب: بأن حديث أسامة المراد به إسقاط التوارث بين أهل الملتين، وليست الردة بملة قائمة لأنه غير مقرّ عليها. وليس محكوما عليه بحكم الملة التي انتقل إليها، فلم يتناول الحديث محل النزاع.
ينظر: «أثر الاختلاف في الأحكام» لشيخنا «بدران أبو العينين»، «تفسير الجصاص» (٢/ ١٢٧)، «مغني» ابن قدامة (٧/ ١٧٤)، «المنتقى» على الموطأ (٦/ ٢٥٠)، «الأم» للشافعي (٤/ ٣)، «المحلى» لابن حزم (٩/ ٣٠٨).
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٣٦٩) برقم (٤١٠٦)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٩١).
(٢) البيت بلا نسبة في «الأزهيّة» (ص ١٦٥) و «الدرر» (٦/ ١٦٨) و «شرح قطر الندى» (ص ٢١٠) -

ولما كانت الخمر تستُرُ العَقْل، وتغطِّي عليه، سُمِّيت بذلك، وأجمعت الأمة على تحريمِ خَمْر العِنَبِ، ووجوبِ الحدِّ في القليلِ والكثيرِ منْه، وجمهورُ الأمة على أن ما أسكر كثيرُهُ مِنْ غير خَمْرِ العِنَبِ محرَّم قليلُهُ وكثيرُهُ، والحدُّ في ذلك واجبٌ.
وروي أنَّ هذه الآية أولُ تطرُّق إِلى تحريمِ الخَمْر، ثم بعده: لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: ٤٣] ثم إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ... الآية إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: ٩١]، ثم قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائد: ٩٠] فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «حرّمت الخمر» «١»
واستشهد بقوله: «يا زيد والضحاك» حيث روي بنصب «الضحاك» ورفعه، فدلّ ذلك على أنّ المعطوف على المنادى المبنيّ، إذا كان مفردا، يجوز فيه وجهان: الرفع على لفظ المنادى، والنصب على محلّه.
(١) أخرجه النسائي (٨/ ٣٢١)، كتاب «الأشربة»، باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أراد شرب السكر، من طريق ابن شبرمة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن ابن عباس موقوفا بلفظ: «حرمت الخمر قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب».
قال النسائي: ابن شبرمة لم يسمعه من عبد الله بن شداد، وأخرجه (٨/ ٣٢١) كتاب «الأشربة»، باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أراد شرب السكر، من طريق ابن شبرمة قال: حدثني الثقة عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس به. قال: خالفه أبو عون محمد بن عبيد الله الثقفي.
فرواه عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس بزيادة: «حرمت الخمر بعينها: قليلها، وكثيرها»...
أخرجه النسائي (٨/ ٣٢١) ثم أخرجه من طريق عباس بن ذريح، عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال:
«حرمت الخمر قليلها وكثيرها، وما أسكر من كل شراب».
قال النسائي: وهذا أولى بالصواب من حديث ابن شبرمة، وهشيم بن بشير- الراوي عنه- كان يدلس، وليس في حديثه ذكر السماع من ابن شبرمة، ورواية أبي عون أشبه بما رواه الثّقات عن ابن عباس.
وقد أخرجه النسائي (٨/ ٣٢١)، والدارقطني (٤/ ٢٥٦)، وأبو نعيم في «الحلية» (٧/ ٢٢٤)، من طريق شعبة، عن مسعر، عن أبي عون به، عن ابن عباس موقوفا.
وفي الباب عن علي مرفوعا: أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (٤/ ١٢٣- ١٢٤)، من طريق محمد بن الفرات الكوفي، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث، عن علي قال: طاف النبي صلّى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة أسبوعا، ثم استند إلى حائط من حيطان مكة، فقال: «هل من شربة» ؟ فأتي بقعب من نبيذ، فذاقه، فقطب، قال: فرده، قال: فقام إليه رجل من آل حاطب، فقال: يا رسول الله، هذا شراب أهل مكة، قال: فرده. قال: فصب عليه الماء حتى رغا، ثم شرب، ثم قال: «حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب».
قال العقيلي: لا يتابع عليه.
ونقل عن يحيى قوله: ليس بشيء، وعن البخاري قوله: منكر الحديث. -

ولم يحفظ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم في حدِّ الخمر إِلا أنَّه جلد أربعين، خرّجه مسلم، وأبو داود «١»، وروي عنه صلّى الله عليه وسلم أَنَّهُ ضرب فيها ضَرْباً مُشَاعاً «٢»، وحَزَرَهُ أبو بكر أربعين سوطاً، وعمل بذلك هو، ثُمَّ عمر «٣» ثم تهافَتَ النَّاس فيها، فشدَّد عليهم الحدّ، وجعله كأخفّ الحدود
فقد تابعه عبد الرحمن بن بشر الغطفاني.
أخرجه هو في «ضعفائه» (٣/ ٤٢٤) من طريقه، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الأشربة، عام حجة الوداع، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «حرم الله الخمر بعينها، والسكر من كلّ شراب».
قال العقيلي: عبد الرحمن بن بشر مجهول في النسب والرواية حديثه غير محفوظ.
ليس له من حديث أبي إسحاق أصل، وهذا يعرف عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن ابن عباس قوله.
(١) أخرجه أحمد (٣/ ٦٧)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣/ ١٥٧)، كتاب «الحدود»، باب حد الخمر، من طريق يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن زيد العمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال:
جلد على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم في الخمر بنعلين أربعين، فلما كان زمن عمر جلد بدل كل نعل سوطا.
وزيد العمي ضعيف، والمسعودي كان قد اختلط.
(٢) أخرجه البخاري (١٢/ ٦٦) كتاب «الحدود»، باب الضرب بالجريد والنعال، حديث (٦٧٧٨)، ومسلم (٣/ ١٣٣٢) كتاب «الحدود»، باب حد الخمر، حديث (٣٩/ ١٧٠٧)، وأبو داود (٤/ ٦٢٦)، كتاب «الحدود»، باب إذا تتابع في شرب الخمر، حديث (٤٤٨٦)، وابن ماجة (٢/ ٨٥٨)، كتاب «الحدود»، باب حد السكران، حديث (٢٥٦٩)، وأحمد (١/ ١٢٥)، وأبو يعلى (١/ ٢٨١) برقم (٣٣٦)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار»، كتاب «الحدود»، باب حد الخمر، والبيهقي (٨/ ٣٢١)، كتاب «الأشربة والحد فيها»، باب الشارب يضرب زيادة على الأربعين. كلهم من حديث علي قال: ما كنت لأقيم حدا على أحد، فيموت، وأجد في نفسي منه شيئا، إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يتبين فيه شيئا.
قال البيهقي: وإنما أراد- والله أعلم- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يسنه زيادة على الأربعين، أو لم يسنه بالسياط، وقد سنه بالنعال، وأطراف الثياب مقدار أربعين.
(٣) أخرجه أبو داود (٤/ ٦٢٨)، كتاب «الحدود»، باب إذا تتابع في شرب الخمر، حديث (٤٤٨٩)، والشافعي (٢/ ٩٠) كتاب «الحدود»، باب حد الشرب، حديث (٢٩٢)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣/ ١٥٦)، كتاب «الحدود»، باب حد الخمر، والحاكم (٤/ ٣٧٥)، كتاب «الحدود»، باب كان الشارب يضرب بالأيدي والنعال، والبيهقي (٨/ ٣٢٠) كتاب «الأشربة»، باب عدد حد الخمر، عن عبد الرحمن بن أزهر قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم غداة الفتح، وأنا غلام شاب يتخلل الناس، يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتي بشارب، فأمرهم، فضربوه بما في أيديهم، فمنهم من ضربه بالسوط، ومنهم من ضربه بعصا، ومنهم من ضربه بنعليه، وحثى رسول الله صلّى الله عليه وسلم التراب، فلما كان أبو بكر، فسألهم عن ضرب النبي صلّى الله عليه وسلم الذي ضرب، فحزروه أربعين، فضرب أبو بكر أربعين.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. [.....]

ثمانين وبه قال مالك «١».
وذهب الشافعي (في أصح مذهبه) إلى أن قدرها أربعون، وهو مذهب الظاهرية، وأبي ثور، وإحدى الروايتين عن أحمد، قال الشافعي: وللإمام أن يبلغ به ثمانين، وتكون الزيادة على الأربعين تعزيرات على تسببه في إزالة عقله، وفي تعرضه للقذف والقتل وأنواع الإيذاء، وترك الصلاة وغير ذلك.
واحتج الأولون بما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصحّحه عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم «أتي برجل قد شرب الخمر، فجلد بجريدتين نحو أربعين. وفعله أبو بكر، فلمّا كان عمر استشار النّاس، فقال عبد الرّحمن: أخفّ الحدود ثمانين. فأمر به عمر».
وبما رواه أحمد عن أبي سعيد قال: جلد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الخمر بنعلين أربعين، فلما كان زمن عمر جعل بدل كل نعل سوطا.
وجه الدلالة: أن شارب الخمر كان يجلد بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثمانين لأنه كان يضرب بالجريدتين أو بالنعلين مجتمعين أربعين، فتكون الجملة الحاصلة ثمانين لأن كل ضربة ضربتان. وإن كانت الرواية الأولى محتملة لقوله: «فجلد بجريدتين نحو أربعين» إلا أن الثانية جازمة، بأن الضرب بنعلين أربعين، ولذا استشار عمر الصحابة (رضوان الله عليهم أجمعين) فرأوا أن الجلد في الخمر ثمانون سوطا بدل الضرب بالنعال ونحوها.
وروى الإمام مالك (رضي الله عنه) عن ثور بن زيد الدّيلي أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل فقال له علي بن أبي طالب: «نرى أن تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى. أو كما قال. فجلد عمر في الخمر ثمانين».
وجه الدلالة: أن عمر (رضي الله عنه) استشار الصحابة في عقوبة شرب الخمر، فأشار عليه عليّ بأنها ثمانون، فوافقه عمر عليها، وعمل بها فدل ذلك على أنها ثمانون، ولم يعلم له مخالف.
وأما المعقول فقالوا: إن هذا حد في معصيته، فلم يكن أقل من ثمانين، كحد الفرية والزنا.
وأما الإجماع، فقالوا: إن الصحابة في عهد عمر أجمعوا على أن حدّ شرب الخمر ثمانون. يدل لذلك ما روى الدارقطني قال: حدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدّورقي، قال: حدثنا صفوان بن عيسى، قال: حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أزهر، قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم حنين، وهو يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتي بسكران، قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمن عنده، فضربوه بما في أيديهم، وقال: وحثا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليه التراب قال: ثم أتي أبو بكر (رضي الله عنه) بسكران، قال: فتوخى الذي كان من ضربهم يومئذ، فضرب أربعين. قال الزهري: ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن ابن وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر، قال: فأتيته ومعه عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وطلحة والزبير (رضي الله عنهم). وهم معه متكئون في المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام، ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه، فقال عمر: هم هؤلاء عندك، فسلهم، فقال علي: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون. قال: فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، قال: فجلد خالد ثمانين، وعمر ثمانين.

ويجتنبُ من المضروبِ: الوجْهُ، والفَرْجُ، والقَلْب، والدِّماغ، والخَوَاصر بإِجماع.
قال ابن سِيرِينَ، والحسنُ، وابْنُ عَبَّاس، وابن المُسَيَّب، وغيرهم: كلُّ قمارٍ مَيْسِرٌ مِنْ نَرْدٍ وشِطْرَنْجٍ، ونحوه، حتّى لعب الصّبيان بالجوز «١».
قال الباجي: «واستدل أن ذلك حكمه، وإلى ذلك ذهب مالك، وأبو حنيفة أن حد شارب الخمر ثمانون، وقال الشافعي: أربعون. والدليل على ما نقوله ما روي من الأحاديث الدالة على أنه لم يكن من النبي صلّى الله عليه وسلم نص في ذلك على تحديد، وكان الناس على ذلك ثم وقع الاجتهاد في ذلك في زمن عمر بن الخطاب، ولم يوجد عند أحد منهم نص على تحديد، وذلك من أقوى الدليل على عدم النص فيه لأنه لا يصح أن يكون فيه نص باق حكمه، ويذهب على الأمة لأن ذلك كان يكون إجماعا منهم على الخطأ ولا يجوز ذلك على الأمة، ثم أجمعوا واتفقوا على أن الحد ثمانون، وحكم بذلك على ملأ منهم، ولم يعلم لأحد فيه مخالفة فثبت أنه إجماع.
واستدل الشافعي ومن معه بالسنة، والأثر، والمعقول. فمن السنة ما روى مسلم عن أنس (رضي الله عنه) أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين.
وجه الدلالة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين فدل ذلك على أنها حده.
وأمّا الأثر، فما روى مسلم عن حضين بن المنذر قال: شهدت عثمان بن عفان أتي بالوليد قد صلّى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم، فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: «ول حارّها من تولى قارّها» فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده، فجلده وعلي يعدّ حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبي أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلّ سنّة، وهذا أحب إليّ».
وجه الدلالة: أن عليا (كرم الله وجهه) جزم في إخباره بأن النبي صلّى الله عليه وسلم جلد أربعين، وسائر الأخبار ليس فيها عدد محدد إلا بعض الروايات السالفة عن أنس، ففيها نحو الأربعين- بطريق التقريب، والجمع بين الأخبار أن عليا جزم بالأربعين، فهو حجة على من ذكرها بلفظ التقريب، فعملنا بما جزم به عليّ في إخباره عن الجلد الواقع في عهد الرسول (عليه الصلاة والسلام) وعهد أبي بكر، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ولذلك قال لعبد الله بن جعفر لما بلغ الأربعين: أمسك.
وأما المعقول فقالوا: إن الشرب سبب يوجب الحد، فوجب أن يختص بعدد لا يشاركه فيه غيره، كالزنا والقذف.
ينظر: «الباجي» على الموطأ (٣/ ١٤٤)، و «الزرقاني» على الموطأ (٤/ ٣٤٤)، و «تفسير القرطبي» (١٢/ ١٦٥)، و «فتح الباري» (١٢/ ٥٥).
(١) أخرجه الطبري (٢/ ٣٧٠- ٣٧١) برقم (٤١١٤- ٤١١٥)، عن محمد بن سيرين، وبرقم (٤١١٨)، عن الحسين، وبرقم (٤١٢٠) عن سعيد بن المسيب، وبرقم (٤١٢٤) عن ابن عباس.
وذكره ابن عطية (١/ ٢٩٤).

ت: وعبارة الداوديّ: وعن ابْنِ عُمَر: المَيْسِرُ القِمَار كلُّه «١»، قال ابن عبَّاس:
كلُّ ذلك قمارٌ حتى لعِبْ الصِّبْيَان بالجَوْز، والكِعَاب «٢». انتهى.
وقوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ... الآية: قال ابن عبّاس، ٥٤ أوالرّبيع: الإثم فيها بعد التحريم/، والمنفعةُ قبله «٣».
وقال مجاهد: المنفعةُ بالخَمْر كسب أثمانها «٤»، وقيل: اللَّذَّة بها إِلى غير ذلك من أفراحِها «٥»، ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنَّ الإِثم أكْبَرُ من النَّفْع، وأعود بالضَّرر في الآخرة، فهذا هو التقدمة للتحريم.
وقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ قال جمهور العلماء: هذه نفقاتُ التطوُّع، والعفُو مأخوذ من عَفَا الشَّيْء، إِذا كَثُر، فالمعنَى: أنفِقُوا ما فَضَل عن حوائجِكُم، ولم تُؤْذُوا فيه أنفُسَكم، فتكونوا عالَةً على النَّاس.
وقوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ: الإِشارة إِلى ما تقدَّم تبيينُهُ من الخَمْر والمَيْسِر، والإِنفاق، وأخبر تعالى أنه يبيِّن للمؤمنين الآياتِ التي تقودُهم إِلى الفِكْرة في الدنيا والآخرة، وذلك طريقُ النجاة لمن نفعته فكرته.
قال الداوديّ: وعن ابن عبَّاس: لعلَّكم تتفكَّرون في الدنيا والآخرةِ، يعني: في زوال الدنْيا وفنائِها، وإِقبال الآخرة وبقائها «٦». انتهى.
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ٣٧١) برقم (٤١٢٤)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٤٥٢)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في «ناسخه» عن ابن عباس. والكعاب:
فصوص النرد، واحدها كعب وكعبة.
ينظر: «لسان العرب» (٣٨٨٩).
(٣) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٩٤) والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٤٥٣)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس.
(٤) أخرجه الطبري (٢/ ٣٧٢) برقم (٤١٣٧)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٩٤).
(٥) أخرجه الطبري (٢/ ٣٧٣) برقم (٤١٤٠)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٩٤)، والسيوطي (١/ ٤٥٢)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في «ناسخه» عن ابن عباس.
(٦) أخرجه الطبري (٢/ ٣٨١) برقم (٤١٨١)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٢٩٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٤٥٦)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في «العظمة» عن ابن عباس.