
والهجرة الثانية: هجرة الآثام والإجرام، فهي لا ترتفع أبدًا.
وقال الحسن في قوله تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ): أي بالعداوة منه لمن كفر باللَّه.
وقال أبو بكر الصديق - رضي اللَّه تعالى عنه -: أن يهجر قومه وداره ويخرج لله.
وقوله: (وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
المجاهدة تكون على وجوه:
مجاهدة العدو، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس.
وقوله: (أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ).
فيه دلالة على أن الذي يحق رجاؤه يعمل ما ذكر اللَّه.
وقوله: (رَحْمَتَ اللَّهِ)، يحتمل وجهين: الرحمة: الجنة، والرحمة: المغفرة.
وقوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
لما كان منهم من التقصير فيما ذكر من المجاهدة والمهاجرة.
* * *
قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
وقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا

أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا).
(قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، بعد الحرمة (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)، قبل الحرمة، (وَإِثْمُهُمَا)، بعد الحرمة (أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)، قبل التحريم.
والمنفعة في الميسر: بعضهم ينتفع به، وبعضهم يخسر، وهو القمار.
وذلك أن نفرًا كانوا يشترون الجزور فيجعلون لكل رجل منهم سهمًا، ثم يقترعون، فمن خرج سهمه برئ من الثمن حتى يبقى آخر رجل، فيكون ثمن الجزور عليه وحده، ولا حق له في الجزور، ويقتسم الجزور بقيتهم.
وقيل: يقسم بين الفقراء؛ فذلك الميسر.
ثم قال: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، في ركوبهما؛ لأن فيهما ترك الصلاة، وترك ذكر اللَّه، وركوب المحارم والفواحش.
ثم قال: (وَمَنَافِعُ للِنَّاسِ)، يعني التجارة، واللذة، والربح.
ثم اختلف فيه:
قال قوم: إن الخمر محرمة بهذه الآية حيث قال (إِثْمٌ كَبِيرٌ)، والإثم محرم بقوله: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ).
وقال قوم: لم تحرم بهذه الآية؛ إذ فيها ذكر النفع، ولكن حرمت بقوله: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ)، والرجس محرم، وقال اللَّه تعالى: (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، وعمل الشيطان محرم.
ثم أخبر في آخرها أنه: (يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ)، وذلك كله محرم.
والأصل عندنا في هذا: أنهم أجمعوا على حرمة الميسر مع ما كان فيه من المنافع للفقراء وأهل الحاجة والمعونة لهم؛ لأنهم كانوا يقتسمون على الفقراء، فإذا حرم اللَّه هذا ثبت أن المقرون به أحق في الحرمة مع ما فيه من الضرر. الذي ذكرنا. واللَّه أعلم.
وقال الشيخ، رحمه اللَّه تعالى، في قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ): ولم يبين في السؤال أنه عن أي أمرهما كان السؤال؛ وأمكن استخراج حقيقة ذلك عن الجواب بقوله: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، كان السؤال كان " عما فيهما "؛ فقال: فيهما كذا.
وعلى ذلك قوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى)، كأن السؤال عما يعمل في أموال اليتامى، من المخالطة وأنواع المصالح، وكذلك قوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) كأنه قال: عن غشيان في المحيض، إذ في ذلك جرى الجواب فلم يبين

في السؤال لما في الجواب دليله، أو لما كان الذين سألوا معروفين يوصل بهم إلى حقيقة ذلك. واللَّه أعلم.
وقيل: هذه الآية تدل على حرمتهما بما قال: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، وقد قال اللَّه تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ) إلى قوله: (وَالإثْمَ)، ثبت أن الإثم محرم.
وأكثر السلف على أن الحرمة فيهما ليست بهذه الآية، ولكن بقوله (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ).
وقوله: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، يبلغ أمر الخمر والميسر إلى ما يكون فيهما (إِثْمٌ كَبِيرٌ)، من نحو ما بين عند السكر والميسر في سورة المائدة من وقوع العداوة والبغضاء والصد عما ذكر، (فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ)، في ذلك الوقت بوجوه:
أما في الخمر: إلى أن يسكر، وفي التجارة فيها.
وفي الميسر: لما كان يفرق ما فيه ذلك على الفقراء، وما فيه من التجارة ونحو ذلك.
وعلى التأويل الأول يخرج قوله: (قُل فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ)، أي: في الشرب والعمل إذ حرما، (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)، قبل أن يحرما. واللَّه أعلم.
ثم الذي علينا: أن نعرف حرمتهما اليوم إن كانت في هذه الآية أو لم تكن، فينتهي الانتفاع بهما ويحذر ذلك، وقد بين اللَّه الكافي من ذلك في سورة المائدة، وجاءت الآثار في تحريمهما، على ما في الميسر من الخطر والجهالة التي جاءت الآثار على كون أمثالها في حكم الربا، وفي الخمر ما لا يتخذ للمنافع وإنما يتخذ للهو والطرب، وكل ذلك مما نهينا عنه، مع ما في ذلك من ذهاب العقل الذي هو أعز ما في البشر، وغلبة السفه في أهله. فحقيق لمن عقل اتقاه لو كان حلالًا؛ لما في ذلك من التبذير، فكيف وقد ظهرت الحرمة.
ثم كان معلومًا علة حرمة الخمر إذا سكر منها الشارب، ثم جاء به القرآن، وليست تلك العلة في شرب القليل منه، فلم يلحق بحق القليل غيرها، وأُلحق بالكثير كل شراب يعمل ذلك العمل، لما فيه المعنى الذي ذكره، إذ كانت الخمر لا تتخذ في المتعارف للمصالح ولا لأنواع المنافع، بل تتخذ لما ذكرت من اللهو والطرب، ولا يستعمل شربها

إلا المعروفون بالفسق، فتكون حرمة الخمر بعينها، لا ما ذكرت من قصد العواقب بها.
وكل جوهر لا يتخذ لا يقصد باتخاذ ذلك فهو غير محرم بعينه. واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ).
(الْعَفْوَ): هو الفضل عن القوت، وذلك أن أهل الزروع كانوا يتصدقون بما يفضل عن قوت سنة، وأهل الغلات يتصدقون بما يفضل عن قوت الشهور، وأهل الحرف والأعمال يتصدقون بما يفضل عن قوت يوم، ثم نسخ ذلك بما رُويَ عن أنس بن مالك، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " الزكاة نسخت كل صدقة كانت، وصوم شهر رمضان نسخ كل صوم كان، والأضحية نسخت، كل دم كان ". فإن ثبت هذا فهو ما ذكرنا.
ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، قال: كان هذا قبل أن تقرض الصدقة.
دليل ذلك ظهور أموال كثيرة لأهلها في الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عنهم أجمعين، إلى يومنا لم يخرجوا من أملاكهم، ولا تصدقوا بها، ولا أنكر عليهم؛ فثبت أن الأمر في ذلك منسوخ، أو هو على الأدب.
وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ).
وقوله: (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).
قيل: أما في الدنيا: فتعلمون أنها دار بلاء وفناء، وأما الآخرة: دار جزاء وبقاء، فتفكرون فتعملون للباقية منهما.
وقال الحسن: إي - واللَّه - ومن تفكر فيهما ليعلمن أن الدنيا دار بلاء، وأن الآخرة دار بقاء.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه -: (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، قال: يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها. بل يعلم بالتفكر أن الدنيا للزوال، علم أنها هي للتزود لدار القرار، فيصرف سعيه إلى التقديم، وجهده في فكاك