
﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) ﴾
شرح الكلمات:
﴿الْخَمْرِ١﴾ : كل ما خامر العقل وغطاه فأصبح شاربه لا يميز ولا يعقل، ويطلق لفظ الخمر على عصير العنب أو التمر أو الشعير وغيرها.
الميسر٢: القمار، وسمي ميسراً؛ لأن صاحبه ينال المال بيسر وسهولة.
الإثم٣: كل ضار فاسد يضر بالنفس أو العقل أو البدن أو المال أو العرض.
المنافع٤: جمع منفعة، وهي ما يسر ولا يضر من سائر الأقوال والأفعال والمواد.
﴿الْعَفْوَ﴾ : العفو هنا: ما فضل وزاد عن حاجة الإنسان من المال.
﴿تَتَفَكَّرُونَ﴾ : فتعرفون ما ينفع في كل منهما فتعلمون لدنياكم ما يصلحها، وتعملون لآخرتكم ما يسعدكم فيها، وينجيكم من عذابها.
﴿تُخَالِطُوهُمْ﴾ : تخلطون مالهم مع مالكم ليكون سواء.
﴿لاعْنَتَكُمْ﴾ : العنت: المشقة الشديدة، يقال: أعنته إذا كلفه مشقة شديدة.
٢ الميسر: مأخوذ من اليسر، وهو: وجوب الشيء لصاحبه، يقال: يسر لي كذا، إذا وجب شرط – والمضارع: ييسر يسراً وميسراً، وهو القمار، وسواء كان بالإزلام، أو النرد، أو الكعاب، أو الجوز، أو الكيرم.
٣ والخمر كلها إثم، إذ ما فيها كله ضرر، وقد سماها العرب: الإثم، قال الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي | كذلك الإثم يذهب بالعقول |

معنى الآيتين:
كان العرب في الجاهلية يشربون الخمور ويقامرون وجاء الإسلام فبدأ دعوتهم إلى التوحيد والإيمان بالبعث الآخر، إذ هما الباعث القوي على الاستقامة في الحياة، ولما هاجر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعديد من أصحابه وأصبحت المدينة تمثل مجتمعاً إسلامياً وأخذت الأحكام تنزل شيئاً فشيئاً فحدث يوماً أن صلى أحد الصحابة بجماعة وهو ثملان فخلط في القراءة فنزلت آية النساء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ فكانوا لا يشربونها إلا في أوقات معينة، وهنا كثرت التساؤلات حول شرب الخمر فنزلت هذه الآية: ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ فأجابهم الله تعالى بقوله: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ فترك الكثير١ كلاً من شرب الخمر ولعب القمار لهذه الآية. وبقي آخرون فكان عمر يتطلع إلى منعهما منعاً باتاً ويقول: "اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً" فاستجاب الله تعالى له، ونزلت آية المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ إلى قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ فقال عمر: "انتهينا ربنا" وبذلك حرمت الخمر وحرم الميسر تحريماً قطعياً كاملاً، ووضع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حد الخمر وهو الجلد. وحذر من شربها وسماها أم الخبائث وقال: "مدمن الخمر لا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه" في ثلاثة نفر وهم: العاق لوالديه، ومسبل إزاره، ومدمن الخمر.
وقوله تعالى: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ٢ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ فهو كما قال تعالى فقد بين في سورة المائدة منشأ الإثم، وهو أنهما يسببان العداوة والبغضاء بين المسلمين ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة، وأي إثم أكبر في زرع العداوة والبغضاء بين أفراد المسلمين، والإعراض عن ذكر الله، وتضييع الصلاة حقاً إن فيهما لإثماً كبيراً، وأما المنافع فهي إلى جانب هذا الإثم قليلة ومنها: الربح في تجارة الخمر وصنعها، وما تكسب شاربها من النشوة والفرح والسخاء والشجاعة، وأما الميسر فمن منافعه الحصول على المال بلا كد ولا تعب وانتفاع بعض الفقراء به، إذ كانوا يقامرون على الجزور من الإبل ثم يذبح ويعطى للفقراء والمساكين.
٢ لما كان تحريم الخمر تدريجياً كان من الحكمة ذكر ما كانوا يرونه من المنافع في الاتجار بها وشربها وكذا منافع الميسر إذ كانوا يعطون ما يربحونه للفقراء، وحسبهم وهم المؤمنون صرفاً لهم عن الخمر والميسر قوله: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾، وإذا زادت المضرة على المنفعة بطل العمل عقلاً وشرعاً.

أما قوله تعالى في الآية: ﴿وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ فهو سؤال نشأ عن استجابتهم لقول الله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ فأرادوا أن يعرفوا الجزء الذي ينفقونه من أموالهم في سبيل الله. فأجابهم الله تبارك وتعالى بقوله: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ أي: ما زاد على حاجتكم وفضل عن نفقتكم على أنفسكم. ومن هنا قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" رواه البخاري. وقوله: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ أي: مثل هذا البيان يبين الله لكم الشرائع والأحكام والحلال ليعدكم بذلك إلى التفكير الواعي البصير في أمر الدنيا والآخرة فتعملون لدنياكم على حسب حاجتكم إليها وتعملون لآخرتكم التي مردكم إليها وبقاؤكم فيها على حسب ذلك.
وهذا ما تضمنته الآية الأولى (٢١٩)، أما الآية الثانية (٢٢٠) :﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ الآية، فإنه لما نزل قوله تعالى من سورة النساء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ خاف المؤمنون والمؤمنات من هذا الوعيد الشديد، وفصل من كان في بيته يتيم يكفله، فصل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه، وحصل بذلك عنت ومشقة كبيرة وتساءلوا عن المخرج، فنزلت هذه الآية، وبينت لهم أن المقصود هو إصلاح مال اليتامى وليس هو فصله أو خلطه، فقال تعالى: ﴿قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ... ﴾ مع الخلط خير من الفصل مع عدم الإصلاح، ودفع الحرج في الخلط فقال: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ١ فَإِخْوَانُكُمْ﴾، والأخ يخالط أخاه في ماله، وأعلمهم أنه تعالى يعلم المفسد لمال اليتيم من المصلح له ليكونوا دائماً على حذر، وكل هذا حماية لمال اليتيم الذي فقد والده. ثم زاد الله في منته عليهم برفع الحرج في المخالطة فقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لاعْنَتَكُمْ٢﴾ أي: أبقاكم في المشقة المترتبة على فصل أموالكم عن أموال يتاماكم، وقوله: ﴿إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي غالب على ما يريده حكيم فيما يفعله ويقضي به.
٢ مفعول المشيئة محذوف كما هو الغالب فيه، والتقدير: ولو شاء الله عنتكم لأعنتكم، أي: كلفكم ما فيه العنت والمشقة، ولكنه لم يفعل رحمة بكم ولطفاً بحالكم.