
قوله تعالى: وَلا يَزالُونَ ابتداء خبر من الله- عز وجل- وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة، ويَرُدُّوكُمْ نصب ب حَتَّى لأنها غاية مجردة، وقوله تعالى وَمَنْ يَرْتَدِدْ [أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر، قالت طائفة من العلماء: يستتاب المرتد فإن تاب وإلا قتل.
وقال عبيد بن عمير وطاوس والحسن- على خلاف عنه- والشافعي في أحد قوليه: يقتل دون أن يستتاب، وروي نحو هذا عن أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل.
قال القاضي أبو محمد: ومقتضى قولهما إنه يقال له للحين: راجع، فإن أبى ذلك قتل، وقال عطاء ابن أبي رباح: «إن كان المرتد ابن مسلمين قتل دون استتابة وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب»، وذلك لأنه يجهل من فضل الإسلام ما لا يجهل ابن المسلمين، واختلف القائلون بالاستتابة: فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستتاب ثلاثة أيام. وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه.
وقال الزهري: «يدعى إلى الإسلام فإن تاب وإلا قتل».
وروي عن علي أبي طالب رضي الله عنه أنه استتاب مرتدا شهرا فأبى فقتله، وقال النخعي والثوري:
يستتاب محبوسا أبدا، قال ابن المنذر: واختلفت الآثار عن عمر في هذا الباب.
قال القاضي أبو محمد: كان رضي الله عنه ينفذ بحسب جرم ذلك المرتد أو قلة جرمه المقترن بالردة، وحبط العمل إذا انفسد في آخر فبطل، وقرأ أبو السمال «حبطت» بفتح الباء في جميع القرآن.
وقال علي بن أبي طالب والحسن والشعبي والحكم والليث وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه: ميراث المرتد لورثته من المسلمين، وقال مالك وربيعة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور: ميراثه في بيت المال، وأجمع الناس على أن ورثته من أهل الكفر لا يرثونه إلا شذوذا، روي عن عمر بن عبد العزيز وعن قتادة، وروي عن عمر بن عبد العزيز خلافه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٨ الى ٢٢٠]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا الآية، قال جندب بن عبد الله وعروة بن الزبير وغيرهما: لما قتل واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام توقف رسول الله ﷺ عن أخذ خمسه الذي وفق في فرضه له عبد الله بن جحش وفي الأسيرين، فعنف المسلمون عبد الله بن جحش وأصحابه حتى شق ذلك عليهم، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية في الشهر الحرام، ثم بذكرهم والإشارة إليهم في قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، ثم هي باقية في كل من فعل ما ذكر الله عز وجل، وهاجر الرجل إذا انتقل نقلة إقامة من موضع إلى موضع وقصد ترك الأول إيثارا للثاني، وهي مفاعلة من هجر، ومن قال المهاجرة الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد أوهم بسبب أن ذلك كان الأغلب في العرب، وليس أهل مكة مهاجرين على قوله، وجاهد مفاعلة من جهد إذا استخرج الجهد، وَيَرْجُونَ

معناه يطمعون ويستقربون، والرجاء تنعم، والرجاء أبدا معه خوف ولا بد، كما أن الخوف معه رجاء، وقد يتجوز أحيانا ويجيء الرجاء بمعنى ما يقارنه من الخوف، كما قال الهذلي: [الطويل]
إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها | وحالفها في بيت نوب عوامل |
وقوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الآية، السائلون هم المؤمنون، والْخَمْرِ مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خمروا الإناء»، ومنه خمار المرأة، والخمر ما واراك من شجر وغيره، ومنه قول الشاعر:
ألا يا زيد والضحاك سيرا | فقد جاوزتما خمر الطريق |
في لامع العقبان لا يمشي الخمر يصف جيشا جاء برايات غير مستخف، ومنه قولهم دخل فلان في غمار الناس وخمارهم، أي هو بمكان خاف، فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطي عليه سميت بذلك، والخمر ماء العنب الذي غلي ولم يطبخ أو طبخ طبخا لم يكف غليانه، وما خامر العقل من غير ذلك فهو في حكمه. قال أبو حنيفة: قد تكون الخمر من الحبوب، قال ابن سيده: وأظنه تسفحا منه، لأن حقيقة الخمر إنما هي ماء العنب دون سائر الأشياء، وروي أن النبي ﷺ قال: «الخمر من هاتين الشجرتين: العنب والنخلة»، وحرمت الخمر بالمدينة يوم حرمت وهي من العسل والزبيب والتمر والشعير والقمح، ولم تكن عندهم خمر عنب، وأجمعت الأمة على خمر العنب إذا غلت ورمت بالزبد أنها حرام قليلها وكثيرها، وأن الحد واجب في القليل منها والكثير، وجمهور الأمة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره.
والحد في ذلك واجب. وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيره من غير خمر العنب، فما لا يسكر منه حلال، وإذا سكر أحد منه دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف يرده النظر، وأبو بكر الصديق وعمر الفاروق والصحابة على خلافه، وروي أن النبي عليه السلام قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام»، قال ابن المنذر في الإشراف: «لم يبق هذا الخبر مقالة لقائل ولا حجة لمحتج»، وروي أن هذه الآية أول تطرق إلى تحريم الخمر، ثم بعده لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: ٤٣]، ثم قوله صفحة رقم 292

تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، [المائدة: ٩١]، ثم قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: ٩٠]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حرمت الخمر»، ولم يحفظ عن النبي ﷺ في حد الخمر إلا أنه جلد أربعين، خرجه مسلم وأبو داود، وروي عنه ﷺ أنه ضرب فيها ضربا مشاعا، وحزره أبوبكر أربعين سوطا، وعمل بذلك هو ثم عمر، ثم تهافت الناس فيها فشدد عليهم الحد وجعله كأخف الحدود ثمانين، وبه قال مالك، وقال الشافعي بالأربعين، وضرب الخمر غير شديد عند جماعة من العلماء لا يبدو إبط الضارب، وقال مالك: «الضرب كله سواء لا يخفف ولا يبرح»، ويجتنب من المضروب الوجه والفرج والقلب والدماغ والخواصر بإجماع، وقالت طائفة: هذه الآية منسوخة بقوله: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: ٩٠]، يريد ما في قوله وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ من الإباحة والإشارة إلى الترخيص.
والْمَيْسِرِ مأخوذ من يسر إذا جزر، والياسر الجازر، ومنه قول الشاعر:
فلم يزل بك واشيهم ومكرهم | حتّى أشاطوا بغيب لحم من يسروا |
أقول لهم بالشّعب إذ ييسرونني | ألم تيأسوا إنّي ابن فارس زهدم؟ |
المطعمو الضيف إذا ما شتا | والجاعلو القوت على الياسر |
بأيديهم مقرومة ومغالق | يعود بأرزاق العفاة منيحها |

المنيح الممدوح، وأما المنيح الذي هو أحد الثلاثة الأغفال، فذلك إنما يوصف بالكر، وإياه أراد جرير بقوله: [الكامل]
ولقد عطفن على فزارة عطفة | كرّ المنيح وجلن ثمّ مجالا |
[الطويل]
إذا يسروا لم يورث اليسر بينهم | فواحش ينعى ذكرها بالمصائف |
وقوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ الآية، قال ابن عباس والربيع: الإثم فيهما بعد التحريم، والمنفعة فيهما قبله، وقالت طائفة: الإثم في الخمر ذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية والتعدي الذي يكون من شاربها، والمنفعة اللذة بها كما قال حسان بن ثابت:
ونشربها فتتركنا ملوكا | وأسدا ما ينهنهنا اللقاء |
ولما سمع عمر بن الخطاب قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: ٩١] قال: «انتهينا، انتهينا»، قال الفارسي: وقال بعض أهل النظر: حرمت الخمر بهذه الآية لأن الله تعالى قال: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ [الأعراف: ٣٣]، وأخبر في هذه الآية أن فيها إثما، فهي حرام.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ليس هذا النظر بجيد لأن الإثم الذي فيها هو صفحة رقم 294

الحرام، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر. وقال قتادة: ذم الله الخمر بهذه الآية ولم يحرمها.
وقوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ قال قيس بن سعد: «هذه الزكاة المفروضة». وقال جمهور العلماء: بل هي نفقات التطوع. وقال بعضهم: نسخت بالزكاة. وقال آخرون: هي محكمة وفي المال حق سوى الزكاة. والْعَفْوَ: هو ما ينفقه المرء دون أن يجهد نفسه وماله. ونحو هذا هي عبارة المفسرين، وهو مأخوذ من عفا الشيء إذا كثر، فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «من كان له فضل فلينفقه على نفسه، ثم على من يعول، فإن فضل شيء فليتصدق به»، وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الصدقة ما أبقت غنى»، وفي حديث آخر: «ما كان عن ظهر غنى».
وقرأ جمهور الناس «العفو» بالنصب، وقرأ أبو عمرو وحده «العفو» بالرفع، واختلف عن ابن كثير، وهذا متركب على ماذا، فمن جعل «ما» ابتداء و «ذا» خبره بمعنى الذي وقدر الضمير في يُنْفِقُونَ هـ عائدا قرأ «العفو» بالرفع، لتصح مناسبة الجمل، ورفعه على الابتداء تقديره العفو إنفاقكم، أو الذي تنفقون العفو، ومن جعل ماذا اسما واحدا مفعولا ب يُنْفِقُونَ، قرأ «قل العفو» بالنصب بإضمار فعل، وصح له التناسب، ورفع «العفو» مع نصب «ما» جائز ضعيف، وكذلك نصبه مع رفعها.
وقوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ الإشارة إلى ما تقدم تبيينه من أمر الخمر والميسر والإنفاق، وأخبر تعالى أنه يبين للمؤمنين الآيات التي تقودهم إلى الفكرة في الدنيا والآخرة، وذلك طريق النجاة لمن تنفعه فكرته، وقال مكي: «معنى الآية أنه يبين للمؤمنين آيات في الدنيا والآخرة تدل عليهما وعلى منزلتيهما لعلهم يتفكرون في تلك الآيات، فقوله فِي الدُّنْيا متعلق على هذا التأويل ب الْآياتِ، وعلى التأويل الأول وهو المشهور عن ابن عباس وغيره يتعلق فِي الدُّنْيا ب تَتَفَكَّرُونَ.
قوله قبل فِي الدُّنْيا ابتداء آية، وقد تقدم تعلقه، وكون تَتَفَكَّرُونَ موقفا يقوي تعلق فِي الدُّنْيا ب الْآياتِ، وقرأ طاوس «قل أصلح لهم خير»، وسبب الآية فيما قال السدي والضحاك أن العرب كانت عادتهم أن يتجنبوا مال اليتيم ولا يخالطوه في مأكل ولا مشرب ولا شيء، فكانت تلك مشقة عليهم، فسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب: سببها أن المسلمين لما