الرحمة والإحسان والفضل الإلهي والمغفرة والنعمة. وإنما عبّر سبحانه عن هذا الجزاء الحسن بقوله: يَرْجُونَ وقد مدحهم، لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة، ولو بلغ في الطاعة كل مبلغ، وذلك لأمرين:
أحدهما- لا يدري بم يختم له.
والثاني- لئلا يتّكل على عمله، والرجاء مصحوب أبدا بالخوف، كما أن الخوف معه رجاء.
والهجرة التي امتدح الله بها المؤمنين كانت فرضا على المسلمين من مكة إلى المدينة، ثم نسخت
بقوله صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية»
ومع ذلك يؤخذ من علة وجوب الهجرة في عهد التشريع أنها تجب بمثل تلك العلة في كل زمان ومكان، فلا يجوز لمؤمن أن يقيم في بلاد يفتن فيها عن دينه، بأن يؤذى إذا صرح باعتقاده، أو عمل بما يجب عليه.
المرحلة الثانية من مراحل تحريم الخمر وحرمة القمار
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩)
الإعراب:
ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ماذا كلمة واحدة منصوبة بفعل: يُنْفِقُونَ.
والْعَفْوَ: منصوب ب: ينفقون المقدر، وتقديره: قل: ينفقون العفو. وقرئ: الْعَفْوَ بالرفع على أن ما استفهامية مبتدأ، وذا خبره، ويُنْفِقُونَ: صلته، والعفو خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو العفو.
البلاغة:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فيه إيجاز بالحذف، أي عن تعاطيهما، بدليل قوله تعالى:
قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ.
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما فيه إطناب، وهو التفصيل بعد الإجمال.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ فيه تشبيه مرسل مجمل، أي كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ووعيده، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها.
المفردات اللغوية:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أي عن حكم شربهما وتعاطيهما. والسائلون: هم المؤمنون.
والخمر: من خمر الشيء: إذا ستره وغطاه، سميت بها، لأنها تستر العقل وتغطيه. وهي عند الحنفية: النيء من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، وتطلق في رأي الجمهور على عصير العنب والتمر والذرة وكل ما يسكر. والميسر: القمار، مأخوذ من اليسر وهو السهولة، لأنه كسب بلا جهد ولا مشقة. قال مجاهد: كل القمار من الميسر، حتى لعب الصبيان بالخرز. وكان قمار العرب في الجاهلية بالأقداح أو الأزلام وهي عشرة، سبعة يكتب على كل واحد منها نصيب معلوم، وثلاثة غفّل لا نصيب لها، كانوا يشترون جزورا نسيئة (لأجل) وينحرونه قبل أن ييسروا، ويقسمونه ٢٨ قسما أو ١٠ أقسام، ويجعلون الأقداح العشرة في كيس يحركها شخص ثقة منهم، ويدخل يده، فيخرج منها الأقداح، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ نصيبه، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له، لم يأخذ شيئا، وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك، ويذمون من لم يشترك معهم.
فِيهِما في تعاطيهما إِثْمٌ كَبِيرٌ الإثم: الذنب، ولا ذنب إلا فيما كان ضارا من قول أو فعل، والضرر إما في البدن أو النفس أو العقل أو المال. والكبير: العظيم، وسبب الوقوع في الإثم: ما يقع بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش.
وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ باللذة والفرح في الخمر وتحقيق الربح بالتجارة فيها، وإصابة المال بلا كدّ ولا جهد في الميسر، فهي منافع اقتصادية أو شهوانية.
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما أي ما ينشأ عنهما من المفاسد وعقاب التعاطي أعظم من نفعهما:
وهو الالتذاذ بشرب الخمر، ولعب القمار، والطرب فيهما، وسلب الأموال بالقمار والافتخار على الأقران، فالكثرة تعني أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة.
الْعَفْوَ: الفضل والزيادة عن الحاجة التي يحتاجها الإنسان هو ومن يعوله، فلا ينفق ما يحتاج إليه ويضيع نفسه.
سبب النزول:
نزلت آية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ... في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر، فإنهما مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
وروى أحمد عن أبي هريرة قال: «قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهما، فنزلت الآية، فقال الناس: ما حرّم علينا، إنما قال: إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر، حتى كان يوم، صلى رجل من المهاجرين، وأمّ الناس في المغرب، فخلّط في قراءته، فأنزل الله آية أغلظ منها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى، حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء ٤/ ٤٣]. ثم نزلت آية أغلظ من ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة ٥/ ٩٠] إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قالوا: انتهينا ربّنا».
من هذه الرواية وغيرها يتبين أن تحريم الخمر مرّ في أربع مراحل تدرج فيها التشريع لينقل الناس من الأخف إلى الأشد تدريجيا، وتلك سياسة تربوية ناجحة، فلو قيل لهم دفعة واحدة: لا تشربوا الخمر، لقالوا جميعا: لا ندع الخمر، فنزل في الخمر أربع آيات في مكة، لمعالجة الإدمان على الخمر، وتخليص الناس من هذا الداء العضال:
الأولى- وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النحل ١٦/ ٦٧]
فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال.
والثانية- قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة ٢/ ٢١٩]، التي نزلت كما بينا باستفتاء عمر ومعاذ ونفر من الصحابة، فشربها قوم، وتركها آخرون.
والثالثة- لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء ٤/ ٤٣] نزلت بعد أن دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا من الصحابة، فشربوا وسكروا، فأمّ بعضهم، فقرأ: قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «أعبد ما تعبدون» فنزلت، فقلّ بعدها من يشربها، وامتنعوا عن شربها نهارا، لأن أوقات الصلاة متقاربة، وشربوها ليلا.
والرابعة- إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ التي نزلت بعد أن دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقاص، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا، حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار، فضربه أنصاري بلحى بعير، فشجه شجّة موضحة، فشكا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عمر: «اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة ٥/ ٩٠- ٩١] فقال عمر: انتهينا يا رب «١».
قال القفّال: والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب: أن الله تعالى علم أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بها كثيرا، فعلم الله أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق.
وأما سبب نزول قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ:
فهو ما
أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في
سبيل الله، أتوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ؟ قُلِ: الْعَفْوَ
والسائل هم المؤمنون، وهو الظاهر من واو الجماعة، وقيل: السائل:
عمرو بن الجموح. والنفقة هنا: قيل: في الجهاد، وقيل: في الصدقات أي التطوع في رأي الجمهور، وقيل: في الواجب أي الزكاة المفروضة «١».
المناسبة:
أبان الله تعالى في الآيات السابقة أحكام القتال، وذلك أمر له صلة بالعلاقات الخارجية، ثم انتقل إلى إصلاح الأوضاع الداخلية، على أساس من الفضيلة والكرامة والتضامن الاجتماعي وطهر الاعتقاد وطهر الجسد، ولا بد لكل نهضة أو رسالة من الإصلاح الخارجي والداخلي، لتتمكن من تحقيق المسيرة الظافرة والأمجاد السامقة، وبناء الأمة (أو الجماعة) والفرد على أسس متينة ودعائم وطيدة الأركان.
وكانت هذه الآية كسابقتها وتاليها إجابة عن أسئلة الصحابة، قال ابن عباس: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة، كلهن في القرآن: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة ٢/ ٢٢٢]، يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [البقرة ٢/ ٢١٧]، وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [البقرة ٢/ ٢٢٠]، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم «٢».
التفسير والبيان:
يسألك أصحابك يا محمد عن حكم تناول الخمر، ولعب الميسر، أحلال هما أم حرام؟ ومثل شرب الخمر: بيعها وشراؤها وكل الوسائل التي تساعد أو تؤدي إلى
(٢) تفسير القرطبي: ٣/ ٤٠
تناولها. قل لهم: إن في تعاطيهما إثما كبيرا، لما فيهما من أضرار كثيرة ومفاسد عظيمة.
أما إثم الخمر: فإيذاء الناس وإيقاع العداوة والبغضاء.
وأما إثم الميسر: فهو أن يقامر الرجل، فيمنع الحق، ويظلم، فتقع العداوة والبغضاء. وفيهما منافع للناس، أما منفعة الخمر: فهي الاتجار بها، والالتذاذ بها، والنشوة، وبسط يد البخيل، وتقوية قلب الجبان.
وأما منفعة الميسر: فهي ما يصيبهم من الربح أو الأنصباء، أو التصدق بلحم الجزور على الفقراء، ومنفعة القمار وهمية ومضرته حقيقية، إذ المقامر يبذل ماله لربح موهوم، فيبتز منه المحترفون ثروته كلها، وهو في طلبه الربح المتوهم يفسد فكره، ويضعف عقله، ويعظم همه، ويضيع وقته.
وإثمهما أكبر من نفعهما، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتل بعضهم بعضا، وإذا قامروا وقع بينهم الشر والنزاع، ونشأت في صدورهم الأحقاد. وإذا كان الضرر أكبر من النفع وجب الامتناع عنهما، لأن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» لذا امتنع كثير من عرب الجاهلية عن الخمر، مثل العباس بن مرداس، فقد قيل له: ألا تشرب الخمر، فإنها تزيد في حرارتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي، فأدخله في جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيد القوم، وأمسي سفيههم.
وأجمع الأطباء على ضرر الخمور، وقامت جمعيات كثيرة في أوربا وأمريكا تدعو لمنع المسكرات وإصدار القوانين بمنع بيعها وشرائها.
الخمر وأضرارها:
اختلف العلماء في بيان المراد بالخمر، فذهب أبو حنيفة وجماعة العراقيين:
إلى أن الخمر: هي الشراب المسكر من عصير العنب فقط. أما المسكر من غيره، كشراب التمر أو الحنطة أو الشعير أو الذرة ونحوها، فلا يسمى خمرا، بل يسمى نبيذا، فتكون آية تحريم الخمر مقتصرة عليها، وأما الأشربة المسكرة الأخرى وهي الأنبذة فالقليل منها حلال، والكثير المسكر منها حرام بالسنة النّبوية.
وذهب الجمهور (غير أبي حنيفة) وأهل الحجاز والمحدثون: إلى أنها الشراب المسكر من عصير العنب وغيره، فكل مسكر من عصير التمر، والشعير والبر خمر.
وإذا كانت الخمر اسما لكل ما أسكر، كان تحريم جميع المسكرات قليلها وكثيرها بنص القرآن.
واحتج الفريق الأول باللغة والسنة: أما اللغة: فإن الأنبذة لا تسمى خمرا، ولا يسمى الشيء خمرا في اللغة إلا النيء المشتد من ماء العنب.
وأما السنة:
فحديث أنس بن مالك عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الخمر بعينها حرام، والسّكر من كل شراب»
وفي رواية عن علي: «حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب» «١»
والسكر: كل ما يسكر، ويطلق على نبيذ الرطب.
قالوا: ومما يدل على أن قليل الأنبذة ليس بحرام أن الله ذكر في علة تحريم الخمر العداوة والبغضاء ونحوها بقوله: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة ٥/ ٩١] وهذه المعاني لا تحصل إلا بالسكر، فلا يحرم من المسكرات إلا القدر المسكر، لأنه هو الذي توجد فيه هذه العلة.
واحتج الفريق الثاني باللغة والسنة الثابتة:
أما اللغة: فلأن الخمر تطلق لغة على ما خامر العقل أي ستره، وهذه الأنبذة
قد روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «كل مسكر حرام».
تخامر العقل. وإذا كانت اللغة لا تثبت قياسا فإن الصحابة فهموا مدلول «الخمر» وهم أدرى باللغة والقرآن، وأنها تطلق على كل مسكر من عنب وزبيب وتمر وذرة وشعير وغيره.
وأما السنة: فقد ورد فيها أحاديث كثيرة تحرم قطعا كل مسكر، منها الحديث المتواتر الذي رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن ستة عشر صحابيا كعمر وابن عمر وغيرهما: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» والحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن حبان عن جابر، وأحمد والنسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو: «ما أسكر كثيره فقليله حرام».
والحديث الذي رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة:
«الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة» والحديث الذي رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن النعمان بن بشير: «إن من العنب خمرا، وإن من العسل خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن الحنطة خمرا، ومن التمر خمرا، وأنا أنهاكم عن كل مسكر».
فصريح هذه الأحاديث الصحيحة يدل على أن الأنبذة تسمى خمرا، لأنها مسكرة، فتكون حراما، ويدل على حرمتها قليلها وكثيرها ما
أخرجه البخاري عن عائشة قالت: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البتع (نبيذ العسل) وعن نبيذ العسل، فقال: كل شراب أسكر فهو حرام».
والراجح قول أهل الحجاز (الفريق الثاني)، لأن الصحابة لما سمعوا تحريم الخمر، فهموا منه تحريم الأنبذة، وهم كانوا أعرف الناس بلغة العرب ومراد الشارع، وقد ثبت ذلك من حديث أنس قال: «كنت ساقي القوم حيث حرمت الخمر في منزل أبي طلحة، وما كان خمرنا يومئذ إلا الفضيخ- نقيع البسر- فحين سمعوا تحريم الخمر، أحرقوا الأواني وكسروها» وأثبت المؤرخون أنه كان
تحريم الخمر في المدينة، وكان المشروب نبيذ البر والتمر.
وقد اتفق العراقيون مع الحجازيين على أن الله حرم من عصير العنب الكثير للسكر، والقليل، لأنه ذريعة إلى الكثير، فوجب أن يكون كذلك في سائر الأنبذة حيث لا فرق.
وأما أضرار الخمر فكثيرة مادية ومعنوية أشارت إليها الآية القرآنية: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة ٥/ ٩١] وجمع الحديث النّبوي الصحيح مضارها، وهو الذي رواه الطبراني عن ابن عمر: «الخمر أم الفواحش، وأكبر الكبائر، ومن شرب الخمر ترك الصلاة، ووقع على أمه وعمته وخالته».
[مضار الخمر]
ومضارها تشمل البدن والنفس والعقل والمال وتعامل الناس بعضهم مع بعض، من ذلك:
١- مضارها الصحية:
إفساد كل أعضاء جهاز الهضم، وفقد شهوة الطعام، وجحوظ العينين، وعظم البطن بسبب اتساع المعدة، وتشمع الكبد، ومرض الكلى، وداء السل، وتعجل الشيخوخة أو إسراع الهرم، بسبب تصلب الشرايين، وإضعاف النسل أو انقطاعه، فولد السكير يكون هزيلا ضعيف العقل.
٢- مضارها العقلية:
إنها تضعف القوى العقلية، لتأثيرها في الجملة العصبية، وقد تؤدي إلى الجنون.
٣- مضارها المالية:
تبدد الثروة وتتلف المال، وتؤدي إلى إهمال واجب النفقة على الزوجة والأولاد.
٤- مضارها الاجتماعية:
وقوع النزاع والخصام بين السكارى بعضهم مع
بعض، وبينهم وبين الناس الآخرين، وكثيرا ما تقع حوادث قتل وضرب وجرح من السكارى وعليهم.
٥- مضارها الأدبية:
يصبح السكران ذليلا مهينا وموضع هزء وسخرية وضحك وتهكم، لاضطراب كلامه وهيئته وحركاته. ويتجرأ السكران على القذف والشتم والسب والزنى والقتل، لذا سميت الخمر (أم الخبائث).
٦- مضارها العامة:
إفشاء الأسرار، فكثيرا ما تسربت أخبار الدولة الخطيرة إلى الجواسيس على موائد السكر «١».
٧- مضارها الدينية:
لا تتأدى من السكران عبادة صحيحة، ولا سيما الصلاة التي هي عماد الدين، فالخمر تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وبقية الواجبات الدينية، لأن السكران لا يهمه إلا معاقرة الخمر، والانقياد للأهواء والشهوات، ويصبح ضعيف الإرادة، خاملا كسولا، بل لا يستطيع الامتناع عن السكر بسهولة بسبب الإدمان، ومخالطة الكحول الدم، فيصبح المدمن متعطشا لتناول الشراب المسكر قهرا عنه ودون إرادة.
والخلاصة: إن الخمر أم الخبائث، فهي وسيلة إلى كل منكر وقبيح، روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: «اجتنبوا الخمر، فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن قبلكم متعبد، فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها، فقالت له: إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة، عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليّ، أو تشرب من هذه الخمر كأسا، أو تقتل هذا الغلام، قال: فاسقيني من هذه الخمر كأسا، فسقته كأسا، فقال:
زيدوني، فزادوه، فلم يبرح حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر، فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه».
الميسر أو القمار وأضراره:
الميسر: إما من اليسر كما بينا، أو من يسرت الشيء: إذا جزأته، ويطلق على الجزور، لأنه موضع التجزئة، والميسر الذي ذكره الله وحرمه: هو ضرب القداح على أجزاء الجزور قمارا، ثم أطلق على النرد وكل ما فيه قمار.
وكيفية الميسر عند العرب كما بينا: أنه كانت لهم عشرة قداح، وتسمى الأزلام والأقلام أيضا «١»، وأسماؤها: الفذّ، والتّوأم، والرقيب، والحلس، والمسبل، والمعلّى، والنّافس، والمنيح، والسفيح، والوغد، لكل واحد من السبعة الأولى نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزءونها، إما عشرة أجزاء، أو ثمانية وعشرين جزءا، ولا شيء للثلاثة الأخيرة، فكانوا يعطون للفذ سهما، وللتوأم سهمين، وللرقيب سهمين، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، وهو أعلاها «٢».
وكانوا يجعلون هذه الأزلام في الرّبابة، وهي الخريطة (الكيس) توضع على يد عدل، يجلجلها، ويدخل يده، ويخرج منها واحدا باسم رجل، ثم واحدا باسم رجل آخر، وهكذا، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء، أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح لا نصيب له، لم يأخذ شيئا، وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء، ولا يأكلون منها شيئا، ويفتخرون بذلك، ويذمون من لم يدخل فيه، ويسمونه البرم أي الوغد: اللئيم عديم المروءة «٣»، كما بينا سابقا.
(٢) ومنه يقال للفائز بأكبر الحظوظ: هو صاحب القدح المعلى.
(٣) تفسير القرطبي: ٣/ ٥٨
وللقمار أضرار كثيرة: منها: أنه يورث العداوة والبغضاء، ويصد عن ذكر الله، كالخمر، كما أبان القرآن.
ومنها إفساد التربية، بتعويد النفس الكسل، وانتظار الرزق من الأسباب الوهمية، وإضعاف القوة العقلية، بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية، وإهمال الياسرين (المقامرين) للزراعة والصناعة والتجارة التي هي أركان العمران.
ومنها وهو أشهرها: إفلاس المقامر وتخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغنى إلى الفقر في ساعة واحدة، فكم من ثروة بددت في ليلة من الليالي، وأصبح المقامر في عداد الفقراء.
إنفاق الزائد عن الحاجة (العفو) :
ويسألونك يا محمد عن مقدار ما ينفقه المسلم، امتثالا لقوله تعالى:
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة ٢/ ١٩٥]، فقل لهم: ينفقون العفو، أي الفضل (ما فضل) الزائد عن الحاجة، فأنفقوا ما فضل عن حاجتكم، ولا تنفقوا ما تحتاجون إليه، وتضيعوا أنفسكم.
كذلك «١» : أي وكما بين لكم ما ذكر (أي مثل ذلك البيان السابق في تحريم الخمر والميسر ووجوب إنفاق الزائد عن الحاجة) يبين الله لكم الأحكام والآيات الواضحات في سائر كتابه، فيما يحقق مصالحكم ومنافعكم، ويوجهكم لما فيه من نفع وضر. والحكمة من شرع هذه الأحكام: هي لتتفكروا بعين البصر والوعي في أمور الدنيا والآخرة، فتعلموا زوال الأولى وحقارتها، وبقاء الثانية وجلالها، أو
لتحسبوا من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا، وتنفقوا الباقي فيما ينفعكم في العقبى.
وقد ورد في معنى الآية أحاديث كثيرة: منها ما
روى ابن جرير الطبري عن جابر بن عبد الله قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل ببيضة من ذهب، أصابها في بعض المعادن، فقال: يا رسول الله، خذ هذه صدقة، فو الله، ما أصبحت أملك غيرها، فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيمن، فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قال مثل ذلك، فقال: هاتها مغضبا، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابته شجته أو عقرته. ثم قال: «يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى» وروي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ارضخ «١» من الفضل، وابدأ بمن تعول، ولا تلام على كفاف» وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول».
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي-: «إذا كان أحدكم فقيرا، فليبدأ بنفسه، فإن كان له فضل، فليبدأ مع نفسه بمن يعول، ثم إن وجد فضلا بعد ذلك، فليتصدق على غيره».
والأصح أن هذه الآية ثابتة الحكم غير منسوخة، فليس في الآية ما يدل على وجوب إنفاق الفضل، بل الآية نزلت جوابا لمن سألوا ماذا ينفقون نفقة تطوع، لا زكاة مفروضة، فبين لهم ما فيه الله رضا من الصدقات.
فقه الحياة أو الأحكام:
يحرم كل ما يسكر، قليلا كان أو كثيرا، سواء أكان من عصير العنب أم من
غيره، ويجب الحد في تناوله، ولا فرق بين المسكرات التي كانت في الماضي والمسكرات ذات التسميات الحديثة المتخذة من التفاح أو البصل أو غيرهما، فكل مادة مسكرة تذهب العقل وتضيع الصحة والمال، وتقضي على الكرامة الشخصية، فهي حرام كالخمر، لوجود علة الإسكار فيها، وبالأولى ما هو أفتك منها وأشد كبعض السموم التي تؤخذ حقنا تحت الجلد، أو شمّا بالأنف كالمورفين والكوكايين والهيروين.
ومن خصائص التشريع الإسلامي ومزاياه الطيبة أنه لم يوجب على المسلمين الشرائع دفعة واحدة، ولكن تدرج بهم، وأوجب عليهم مرة بعد مرة تكريما لهذه الأمة وبرا بها، وهذا هو مبدأ التدرج في التشريع، وقد جاء تحريم الخمر والربا على هذا النحو.
وكل لعب فيه غرم بلا عوض، وفيه استيلاء على أموال الناس بغير حق ولا جهد معقول فهو حرام، فالميسر أو القمار ولعب الموائد والسباق على عوض من أحد المتسابقين يغرمه للآخر الفائز، وأوراق اليانصيب، كل ذلك حرام، لما فيه من المتسابقين يغرمه للآخر الفائز، وأوراق اليانصيب، كل ذلك حرام، لما فيه من إضاعة المال أو الكسب من غير طريق شرعي، ولاشتماله على أضرار كثيرة مدمرة للجماعة والأفراد.
روي عن أبي موسى عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا هذه الكعاب الموسوسة التي يزجر بها زجرا، فإنها من الميسر».
وقال عليه الصلاة والسّلام أيضا- فيما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي موسى-: «من لعب بالنرد، فقد عصى الله ورسوله».
وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وآخرون من الصحابة والتابعين: كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب «١»، إلا ما أبيح من الرّهان في الخيل، والقرعة في إفراز الحقوق، بأن
يكون العوض أو المكافأة من شخص ثالث كالدولة أو بعض الأغنياء، أو من أحد المتسابقين دون أن يلتزم الآخر بشيء إذا خسر.
وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو: النّرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه.
وذكر العلماء: أن المخاطرة (المراهنة) من القمار، قال ابن عباس: المخاطرة قمار، وإن أهل الجاهلية كانوا يخاطرون على المال والزوجة، وقد كان ذلك مباحا، إلى أن ورد تحريمه، وقد خاطر أبو بكر المشركين، حين نزلت:
الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [الروم ٣٠/ ١] وخسر الرهان،
فقال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «زد في الخطر، وأبعد في الأجل»
ثم حظر ذلك ونسخ بتحريم القمار.
وأما ما يسمى باليانصيب الخيري لمواساة الفقراء ورعاية الأيتام وأولي العاهات، أو لبناء المدارس والملاجئ والمشافي وغيرها من أعمال البر والصالح العام، فهو حرام أيضا، لأن هذه الأعمال، وإن كانت معتبرة في الشريعة، ولكن الطريق إليها حرام، لأن الحرام في ذاته كالرشوة وشهادة الزور لا يجوز اللجوء إليه للوصول إلى الحلال، ولا ينتج عن العصيان طاعة كما
قال عليه الصلاة والسّلام في الحديث الصحيح: «إن الله طيّب لا يقبل إلا طيبا».
وقد حرّم الشرع الميسر الذي كان عليه عرب الجاهلية، وإن كانوا يطعمون الأنصباء الفقراء، ولا يأكلون منها شيئا.
وكون اليانصيب غير الخيري لا يؤدي إلى ضرر العداوة والبغضاء، لعدم معرفة الرابح من قبل الخاسرين، خلافا لميسر العرب وقمار الموائد، لا يسوغ القول بالجواز، لأن فيه مضار القمار الأخرى وأهمها: أنه طريق لأكل أموال
الناس بالباطل، أي بغير عوض حقيقي من عين أو منفعة، وهذا محرم بنص القرآن.
والادعاء بأن في ميدان اليانصيب قد سمح المشتركون للرابح بأموالهم وخرجوا له عن طيب أنفسهم: غير صحيح، لأن التراضي لا وجود له في الحقيقة، وكل من يدفع ثمن بطاقة يحلم بالربح، وهو في حال الخسران يحقد على الرابحين.
والرضا المعتبر هو في العقود والمعاملات بشرط خلوة من العيوب، وبخاصة الإكراه في أي صورة، سواء أكان ماديا أم معنويا. والرضا في اليانصيب رضا قسري، كالرضا الحاصل في الربا والرشوة، والرضا شرعا لا يعتبر إلا إذا كان في حدود الشرع.
ويمكن تحقيق المقصد الخيري لليانصيب من أجل الصالح العام بطريق فرض ضرائب على أموال الأغنياء، وتؤخذ بدون مقابل، لسد حاجة البلاد، وفقا لقاعدة: «يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام» أو يستدين الحاكم من الأغنياء إذا كان هناك احتمال امتلاء الخزينة.
وإن وجود بعض المنافع التجارية أو اللذة والطرب في الخمر، أو مواساة الفقراء في الميسر أو سرور الرابح وصيرورته غنيا بدون تعب، لا يمنع تحريمهما، لأن المعول عليه في التحريم أو الحظر غلبة المضار على المنافع، والإثم أكبر من النفع في الدنيا نفسها، وأعود بالضرر في الآخرة، فالإثم بعد التحريم، والمنافع قبل التحريم.
وأما نفقة التطوع: فهي الزائدة عن الحاجة وهي العفو، وقد كان السؤال في هذه الآية عن قدر الإنفاق، أما السؤال في الآية المتقدمة التي نزلت في شأن عمرو بن الجموح فكان عن الجهة التي تصرف إليها: «قل: ما أنفقتم من خير فللوالدين..».