آيات من القرآن الكريم

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ
ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ

أما قوله: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
البحث الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: (يَوْمَ) مَنْصُوبٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدَهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يَوْمَ تَأْتِي يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِي الرحمة والغفران في ذلك ليوم الَّذِي يَعْظُمُ احْتِيَاجُ الْإِنْسَانِ فِيهِ إِلَى الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَذَكِّرْهُمْ أَوِ اذْكُرْ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ الْعَظَمَةُ وَالْإِنْذَارُ وَالتَّذْكِيرُ.
البحث الثَّانِي: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النَّفْسُ لَا تَكُونُ لَهَا نَفْسٌ أُخْرَى، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها.
وَالْجَوَابُ: النَّفْسُ قَدْ يُرَادُ بِهِ بَدَنُ الْحَيِّ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ ذَاتُ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتُهُ، فَالنَّفْسُ الْأُولَى هِيَ الْجُثَّةُ وَالْبَدَنُ. وَالثَّانِيَةُ: عَيْنُهَا وَذَاتُهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ يَأْتِي كُلُّ إِنْسَانٍ يُجَادِلُ عَنْ ذَاتِهِ وَلَا يُهِمُّهُ شَأْنُ غَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى:
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عَبَسَ: ٣٧] وَعَنْ بَعْضِهِمْ: تَزْفِرُ جَهَنَّمُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلَّا جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَقُولُ: يَا رَبِّ نَفْسِي نَفْسِي حَتَّى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَمَعْنَى الْمُجَادَلَةِ عَنْهَا الِاعْتِذَارُ عنها كقولهم: هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الأعراف: ٣٨] وَقَوْلِهِمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: ٢٣].
ثم قال تَعَالَى: وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ فِيهِ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ جَزَاءَ مَا عَمِلَتْ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَقَوْلُهُ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يُنْقَضُونَ. قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى مَا نَذْهَبُ إِلَيْهِ فِي الْوَعِيدِ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ/ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ، وَلَوْ أَنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ عِقَابَ الْمُذْنِبِ بِسَبَبِ الشَّفَاعَةِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ: لَا نِزَاعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْعُمُومَاتِ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِكُمْ، إِلَّا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ التَّمَسُّكَ بِظَوَاهِرِ الْعُمُومَاتِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ، وَأَيْضًا فَظَوَاهِرُ الْوَعِيدِ مُعَارَضَةٌ بِظَوَاهِرِ الْوَعْدِ، ثُمَّ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [الْبَقَرَةِ: ٨١] أَنَّ جَانِبَ الْوَعْدِ رَاجِحٌ عَلَى جَانِبِ الْوَعِيدِ مِنْ وُجُوهٍ كثيرة، والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : آية ١١٢]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا هَدَّدَ الْكُفَّارَ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي الْآخِرَةِ هَدَّدَهُمْ أَيْضًا بِآفَاتِ الدُّنْيَا وَهُوَ الْوُقُوعُ فِي الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْمَثَلُ قَدْ يُضْرَبُ بِشَيْءٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقَدْ يُضْرَبُ بِشَيْءٍ مَوْجُودٍ مُعَيَّنٍ، فَهَذِهِ الْقَرْيَةُ الَّتِي ضَرَبَ اللَّهُ بِهَا هَذَا الْمَثَلَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شَيْئًا مَفْرُوضًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ قَرْيَةً مُعَيَّنَةً، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَتِلْكَ الْقَرْيَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَكَّةَ أَوْ غيرها،

صفحة رقم 278

وَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا مَكَّةُ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا غَيْرُ مَكَّةَ لِأَنَّهَا ضُرِبَتْ مَثَلًا لِمَكَّةَ، وَمَثَلُ مَكَّةَ يَكُونُ غَيْرَ مَكَّةَ.
المسألة الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْقَرْيَةِ صِفَاتٍ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهَا آمِنَةً أَيْ ذَاتَ أَمْنٍ لَا يُغَارُ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٧] وَالْأَمْرُ فِي مَكَّةَ كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَ يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. أَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ حَرَمِ اللَّهِ، وَالْعَرَبُ كَانُوا يَحْتَرِمُونَهُمْ وَيَخُصُّونَهُمْ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ وَصْفُ الْقَرْيَةِ بِالْأَمْنِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِأَهْلِهَا لِأَجْلِ أَنَّهَا مَكَانُ الْأَمْنِ وَظَرْفٌ/ لَهُ، وَالظُّرُوفُ مِنَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ تُوصَفُ بِمَا حَلَّهَا، كَمَا يُقَالُ: طَيَّبٌ وَحَارٌّ وَبَارِدٌ.
وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مُطْمَئِنَّةً قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا قَارَّةٌ سَاكِنَةٌ فَأَهْلُهَا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الِانْتِقَالِ عَنْهَا لِخَوْفٍ أَوْ ضِيقٍ. أَقُولُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهَا مُطْمَئِنَّةً أَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الِانْتِقَالِ عَنْهَا بِسَبَبِ الْخَوْفِ، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا آمِنَةً، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الِانْتِقَالِ عَنْهَا بِسَبَبِ الضِّيقِ، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ التَّكْرَارُ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعُقَلَاءَ قَالُوا:

ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ وَالْكِفَايَةُ
قَوْلُهُ: آمِنَةً إِشَارَةٌ إِلَى الْأَمْنِ، وَقَوْلُهُ: مُطْمَئِنَّةً إِشَارَةٌ إِلَى الصِّحَّةِ، لِأَنَّ هَوَاءَ ذَلِكَ الْبَلَدِ لَمَّا كَانَ مُلَائِمًا لِأَمْزِجَتِهِمُ اطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ وَاسْتَقَرُّوا فِيهِ، وَقَوْلُهُ: يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْكِفَايَةِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَقَوْلُهُ: مِنْ كُلِّ مَكانٍ السَّبَبُ فِيهِ إِجَابَةُ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٧] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْقَرْيَةَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ قَالَ: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ الْأَنْعُمُ جمع نعمة مثل أشد وشدة أقول هاهنا سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ الْأَنْعُمَ جَمْعُ قِلَّةٍ، فَكَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ كَفَرَتْ بِأَنْوَاعٍ قَلِيلَةٍ مِنَ النِّعَمِ فَعَذَبَّهَا اللَّهُ، وَكَانَ اللَّائِقُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِنِعَمٍ عَظِيمَةٍ لِلَّهِ فَاسْتَوْجَبُوا الْعَذَابَ، فَمَا السَّبَبُ فِي ذِكْرِ جَمْعِ الْقِلَّةِ؟
وَالْجَوَابُ: الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى يَعْنِي أَنَّ كُفْرَانَ النِّعَمِ الْقَلِيلَةِ لَمَّا أَوْجَبَ الْعَذَابَ فَكُفْرَانُ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْعَذَابِ، وَهَذَا مِثْلُ أَهْلِ مَكَّةَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْأَمْنِ وَالطُّمْأَنِينَةِ وَالْخِصْبِ، ثُمَّ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَفَرُوا بِهِ وَبَالَغُوا فِي إِيذَائِهِ فَلَا جَرَمَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: عَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِالْجُوعِ سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ وَالْعِظَامَ وَالْعِلْهِزَ وَالْقَدَّ، أَمَّا الْخَوْفُ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ إِلَيْهِمُ السَّرَايَا فَيُغِيرُونَ عَلَيْهِمْ. وَنُقِلَ أَنَّ ابْنَ الرَّاوَنْدِيِّ قَالَ لِابْنِ الْأَعْرَابِيِّ الْأَدِيبِ: هَلْ يُذَاقُ اللِّبَاسُ؟ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَا بَاسَ وَلَا لِبَاسَ يَا أَيُّهَا النِّسْنَاسُ، هَبْ أَنَّكَ تَشُكُّ أَنَّ مُحَمَّدًا مَا كَانَ نَبِيًّا أَمَا كَانَ عَرَبِيًّا وَكَانَ مَقْصُودُ ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ الطَّعْنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللِّبَاسَ لَا يُذَاقُ بَلْ يُلْبَسُ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ:
فَكَسَاهُمُ اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ، أَوْ يُقَالَ: فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ طَعْمَ الْجُوعِ. وَأَقُولُ جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَحْوَالَ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُمْ عِنْدَ الْجُوعِ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَذُوقَ هُوَ/ الطعم فلما

صفحة رقم 279
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية