آيات من القرآن الكريم

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ
ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ

قوله - تعالى -: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً﴾ الآية.
اعلم أنه - تعالى - هدَّد الكفار بالوعيد الشَّديد في الآخرة، وهدَّدهم أيضاً بآفاتِ الدنيا، وهي الوقوع في الجوع والخوف؛ كما ذكر - تعالى - في هذه الآية.
واعلم أن المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معيَّنة، سواءٌ كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن، وقد يضرب بشيء موجود معيَّن، فهذه القرية يحتمل أن تكون موجودة ويحتمل أن تكون غير موجودة.
فعلى الأول، قيل: إنها مكَّة، كانت آمنة، لا يهاجُ أهلها ولا يغار عليها، مطمئنة

صفحة رقم 172

قارة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتجاع كما يفعله سائر العرب، ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ﴾ يحمل إليها من البرِّ والبحر، ﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله﴾ جمع النِّعمة، وقيل: جمع نُعمى، مثل: بؤسَى وأبؤس فأذاقهم لباس الجوع، ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين، وقطعت العرب عنهم المِيرة بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتى جهدوا وأكلوا العظام المحرقة، والجيف، والكلاب الميَّتة والعلهز: وهو الوبر يعالج بالدَّم.
قال ابن الخطيب: والأقرب أنَّها غير مكَّة؛ لأنها ضربت مثلاً لمكَّة، ومثل مكَّة يكون غير مكَّة.
وهذا مثل أهل مكة؛ لأنَّهم كانوا في الطمأنينة والخصب، ثم أنعم الله عليهم بالنِّعمة العظيمة، وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكفروا به، وبالغوا في إيذائه، فسلَّط الله عليهم البلاء، وعذَّبهم بالجوع سبع سنين، وأمَّا الخوف فكان يبعث إليهم السَّرايا فيغيرون عليهم. وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: أنه - تعالى - وصف القرية بصفات:
أحدها: كونها آمنة، والمراد: أهلها، لأنها مكان الأمن، ثم قال «مُطْمَئنَّةٌ»، والاطمئنان هو الأمن، فلزم التَّكرار.
والجواب: أن قوله: «آمِنَ"ً» إشارة إلى الأمن، وقوله: «مُطْمَئِنَّةً» إشارة إلى الصحَّة؛ لأن هواء هذه البلد لمَّا كان ملائماً لأمزجتهم، فلذلك اطمأنُّوا واستقرُّوا فيه؛ قال العقلاء: [الرجز]

٣٣٦٤ - ثَلاثَةٌ ليْسَ لهَا نِهايَهْ الأمْنُ والصِّحَّةُ والكِفايَهْ
السؤال الثاني: الأنعم جمع قلَّة، فكان المعنى: أنّ أهْلَ تلك القريةِ كفرت بأنواعٍ قليلة من نعم الله، فعذبها الله، وكان اللائقُ أن يقال: إنهم كفروا بنعم عظيمة لله تعالى، فاستوجبوا العذاب، فما السَّبب في ذكر جمع القلَّة؟.
والجواب: أن المقصود التَّنبيه بالأدنى على الأعلى، يعني: أنَّ كفران النِّعم القليلة لما أوجب العذاب، فكفران النِّعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب.
و «أنْعُم» فيها قولان:
أحدهما: أنها جمع «نِعْمة» ؛ نحو: «شِدَّة وأشُدّ». قال الزمخشري: «جمع نِعْمَة على ترك الاعتداد بالتاء؛ كدِرْع وأدْرُع».
وقال قطرب: هي جمع «نُعْم»، والنُّعم: النَّعيم؛ يقال: «هذه أيَّام طُعْمٍ ونُعْمٍ فلا تَصُومُوا».

صفحة رقم 173

السؤال الثالث: نقل أن ابن الرَّاونْدِي قال لابن الأعرابي الأديب: هل يذاق اللِّباس؟ قال ابن الأعرابي: لا باس ولا لباس؛ يا أيُّها النِّسْنَاس، هب أنَّك تشكُّ أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان نبيًّا أَوَما كان عربيًّا؟ وكان مقصود ابن الرَّاوندِي الطَّعنَ في هذه الآية، وهو أن اللِّباس لا يذاق بل يلبس، فكان الواجب أن يقال: فكساهم الله لِبَاس الجوع، أو يقال: فأذاقهم الله طعم الجوع.
والجواب: من وجوه:
الأول: أن ما أصابهم من الهزال والشحوب، وتغيير ظاهرهم عمَّا كانوا عليه من قبل كاللِّباس لهم.
الثاني: أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان:
أحدهما: المذوق هو الطَّعام، فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع.
والثاني: أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً، فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهاتِ، فأشبه اللِّباس.
فالحاصل أنه حصل في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق، وحالة تشبه الملبوس، فاعتبر تعالى كلا الاعتبارين، فقال: ﴿فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف﴾.
الثالث: أن التقدير: عرفها الله لباس الجوع والخوف، إلا أنه - تعالى - عبَّر عن التعريف بلفظ الإذاقة، وأصل الذَّوق بالفم، ثم يستعار فيوضع موضع التعريف والاختيار الذَّواق بالفم، تقول: ناظر فلاناً وذُقْ ما عنده؛ قال الشاعر: [الطويل]

٣٣٦٥ - ومَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فإنِّي طَعِمْتُها وسِيقَ إليْنَا عَذْبُهَا وعَذابُهَا
ولباس الجوع والخوف: ما ظهر عليهم من الضمور، وشحوب اللون، ونهكة البدن وتغيُّر الحال؛ كما تقول: تعرَّفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان، فكذقتُ لباس الجوع والخوف على فلان.
الرابع: أن يحمل لفظ اللباس على المماسَّة، فصار التقدير: فأذاقها الله مساس الجوع والخوف.
ثم قال - تعالى -: ﴿بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد تكذيبهم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإخراجه من مكَّة وهمهم بقتله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال الفراء: ولم يقل بما صنعت، ومثله في القرآن كثير؛ كقوله: ﴿فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] ولم يقل: قائلة.
وتحقيق الكلام: أنه - تعالى - وصف القرية بأنَّها مطمئنَّة يأتيها رزقها رغداً فكفرت

صفحة رقم 174

بأنعم الله، فكلّ هذه الصِّفات وإن أجريت بحسب اللفظ على القرية، إلا أن المراد في الحقيقة أهل القرية، فلذلك قال: ﴿بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾.
قوله: «والخَوْفِ» العامة على جرِّ «الخَوْفِ» نسقاً على «الجُوعِ»، وروي عن أبي عمرو نصبه، وفيه [أوجه] :
أحدها: أنه يعطف على «لِباسَ».
الثاني: أنه يعطف على موضع الجوع؛ لأنه مفعول في المعنى للمصدر، التقدير أي: ألبسهم الجوع والخوف، قاله أبو البقاء.
وهو بعيد؛ لأن اللباس اسم ما يلبس وهو استعارة بليغة.
الثالث: أن ينتصب بإضمار فعل؛ قاله أبو الفضل الرَّازي.
الرابع: أ، يكون على حذف مضافٍ، أي: ولباس الخوف، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، قاله الزمخشري.
ووجه الاستعارة ما قال الزمخشري: «فإن قلت: الإذاقة واللباس استعارتان، فما وجه صحَّتهما والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحَّة إيقاعها عليه؟.
قلت: الإذاقة جرت عندهم مجرى الحقيقة؛ لشيوعها في البلايا، والشدائد، وما يمس الناس منها، فيقولون: ذاق فلانٌ البؤس والضر وإذاقة العذاب شبَّه ما يُدْرك من أثر الضَّرر والألم، بما يُدْرَك من طعم المُرّ والبشع، وأما اللِّباس فقد شُبِّه به؛ لاشتماله على اللاَّبس ما غشي الإنسان، والتبس به من بعض الحوادث، وأمَّا إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنَّه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس؛ فكأنه قيل: فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف، ولهم في هذا طريقان:
أحدهما: أن ينظروا فيه إلى المستعار له، كما نظروا إليه ههنا؛ ونهحوه قول كثيرة عزَّة: [الكامل]

٣٣٦٦ - غَمْرُ الرِّدَاءِ إذَا تَبسَّمَ ضَاحِكاً غَلقَتْ لِضَْكتِهِ رِقَابُ المَالِ
استعار الرداء للمعروف، لأه يصون عرض صاحبه صون الرِّداء لما يلقى عليه، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنَّوال لا وصف الرداء؛ نظراً إلى المستعار له.
والثاني: أن ينظر فيه إلى المستعار؛ كقوله: [الوافر]

صفحة رقم 175

٣٣٦٧ - يُنَازِعُنِي رِدائِي عَبْدُ عَمرٍو رُوَيْدكَ يا أخَا عَمْرِو بِنِ بَكْرِ
لِيَ الشَّطْرُ الذي مَلكَتْ يَمِينِي ودُونكَ فاعْتَجِرْ مِنْهُ بشَطْرِ
أراد بردائه: سيفه، ثم قال:» فاعْتَجْرْ منهُ بِشطْرٍ «فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقال: فكساهم لباس الجوع والخوف، ولقال كثير: صافي الرِّداء إذا تبسَّم ضاحكاً» انتهى.
وهذا نهاية ما يقال في الاستعارة.
وقال ابن عطية: لمَّا باشرهم، صار ذلك كاللِّباس؛ وهذا كقول الأعشى: [المتقارب]
٣٣٦٨ - إذَا ما الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدهَا تَثَنَّتْ عَليْهِ فَكانَتْ لِبَاسَا
ومثله قوله - تعالى -: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٨٧] ؛ ومثله قول الشاعر: [الطويل]
٣٣٦٩ - وَقَدْ لَبِستْ بَعْدَ الزُّبَيْرِ مُجاشِعٌ لِباسَ الَّتي حَاضَتْ ولمْ تَغْسل الدِّمَا
كأن العار لما باشرهم ولصق بهم، كأنهم لبسوه.
وقوله: «فأذَاقَهَا» نظير قوله ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ [الدخان: ٤٩] ؛ ونظيره قول الشاعر: [الرجز]
٣٣٧٠ - دُونَكَ ما جَنَيْتَهُ فاحْسُ وذُقْ... وفي قراءة عبد الله: «فأذاقها الله الخوف والجوع» وفي مصحف أبيّ: «لِبَاسَ الخَوفِ والجُوعِ».
قوله: ﴿بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ يجوز أن تكون «مَا» مصدريَّة أو بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: بسبب صنعهم، أو بسبب الذي كانوا يصنعونه.
والواو في «يَصْنعُونَ» عائدة على «أهْل» المقدَّر قبل «قَرْيةٍ»، ونظيره قوله: {أَوْ هُمْ

صفحة رقم 176

قَآئِلُونَ} [الأعراف: ٤] بعد قوله: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ [الأعراف: ٤].
قوله - تعالى -: ﴿وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ﴾ الآية لما ذكر المثل ذكر الممثل فقال: «ولقَدْ جَاءَهُم» يعني: أهل مكة، «رسُولٌ مِنهُمْ»، أي: من أنفسهم يعني: محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب﴾ قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يعني الجوع.
وقيل: القتل يوم بدر، والأول أولى؛ لقوله - تعالى - بعده: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً واشكروا نِعْمَةَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾، أي: إنَّ ذلك الجوع بسبب كفرهم، فاتركوا الكفر حتى تأكلوا.
وقوله: ﴿مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾ [المائدة: ٨٨]، أي من [الغنائم] ؛ قاله ابن عبَّاس - رضي اله عنه -.
وقال الكلبي: «إن رؤساء مكَّة كلَّموا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين جهدوا، وقالوا: عاديت الرِّجال، فما بال النِّساء والصِّبيان؟ وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأذن بحمل الطعام إليهم».
قوله تعالى: ﴿واشكروا نِعْمَةَ الله﴾ صرَّح هنا بالنِّعمة؛ لتقدم ذكرها مع من كفر بها، ولم يجئ ذلك في البقرة، بل قال: ﴿واشكروا للَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٢] لما تقدَّم ذلك، وتقدَّم نظير ما هنا.

صفحة رقم 177
اللباب في علوم الكتاب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
تحقيق
عادل أحمد عبد الموجود
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان
سنة النشر
1419 - 1998
الطبعة
الأولى، 1419 ه -1998م
عدد الأجزاء
20
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية