
نَفْسٍ
المعنى لغفور رحيم يوم، وقوله: كُلُّ نَفْسٍ أي كل ذي نفس، ثم أجري الفعل على المضاف إليه المذكور، فأتت العلامة، ونَفْسٍ الأولى هي النفس المعروفة، والثانية هي بمعنى الذات، كما تقول نفس الشيء وعينه أي ذاته، وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ أي يجازى كل من أحسن بإحسانه وكل من أساء بإساءته.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر الآية أن كل نفس تُجادِلُ كانت مؤمنة أو كافرة، فإذا جادل الكفار بكذبهم وجحدهم للكفر شهدت عليهم الجوارح والرسل وغير ذلك بحسب الطوائف، فحينئذ لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون، فتجتمع آيات القرآن باختلاف المواطن، وقالت فرقة: «الجدال» قول كل أحد من الأنبياء وغيرهم: نفسي نفسي، وهذا ليس بجدال ولا احتجاج إنما هو مجرد رغبة.
قوله عز وجل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٢ الى ١١٤]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤)
قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة والقرية المضروب بها المثل مكة كانت بهذه الصفة التي ذكر الله لأنها كانت لا تغزى ولا يغير عليها أحد. وكانت الأرزاق تجلب إليها، وأنعم الله عليها رسوله والمراد بهذه الضمائر كلها أهل القرية، فكفروا بأنعم الله في ذلك وفي جملة الشرع والهداية، فأصابتهم السنون والخوف، وسرايا رسول الله ﷺ وغزواته، هذا إن كانت الآية مدنية وإن كانت مكية فجوع السنين وخوف العذاب من الله بحسب التكذيب.
قال القاضي أبو محمد: وإن كانت هي التي ضربت مثلا فإنما ضربت لغيرها مما يأتي بعدها ليحذر أن يقع فيما وقعت هي فيه، وحكى الطبري عن حفصة أم المؤمنين أنها كانت تسأل في وقت حصر عثمان بن عفان رضي الله عنه ما صنع الناس وهي صادرة من الحج من مكة، فقيل لها قتل فقالت: والذي نفسي بيده، إنها القرية تعني المدينة التي قال الله لها، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا الآية.
قال القاضي أبو محمد: فأدخل الطبري هذا على أن حفصة قالت: إن الآية نزلت في المدينة وإنها هي التي ضربت مثلا، والأمر عندي ليس كذلك وإنما أرادت أن المدينة قد حصلت في محذور الملل وحل بها ما حل بالتي جعلت مثلا، وكذلك يتوجه عندي في الآية أنها قصد بها قرية غير معينة، جعلت مثلا لكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة، ورَغَداً نصب على الحال و «أنعم» جمع نعمة كشدة وأشد كذا قال سيبويه وقال قطرب «أنعم» جمع نعم وهي بمعنى التنعيم، يقال هذه أيام

طعم ونعم وقوله فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ استعارات أي لما باشرهم ذلك صار كاللباس وهذا كقول الأعشى: [المتقارب]
إذا ما الضجيع ثنى جيدها | تثنّت عليه فصارت لباسا |
وقد لبست بعد الزبير مجاشع | ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما |
دونك ما جنيته فأحسن وذق
وقرأ الجمهور: «والخوف» عطفا على الْجُوعِ وقرأ أبو عمرو: بخلاف عنه «والخوف» عطفا على قوله لِباسَ، وفي مصحف أبي بن كعب «لباس الخوف والجوع»، وقرأ ابن مسعود، «فأذاقها الله الخوف والجوع» ولا بذكر لِباسَ، والضمير في جاءَهُمْ لأهل مكة، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والْعَذابُ الجوع وأمر بدر ونحو ذلك إن كان التمثيل بمكة وكانت الآية مدنية، وإن كانت مكية فهو الجوع فقط، وذكر الطبري أنه القتل ببدر، وهذا يقتضي أن الآية نزلت بالمدينة، وإن كان التمثيل بمدينة قديمة غير معينة، فيحتمل أن يكون الضمير في جاءَهُمْ لأهل تلك المدينة، ويكون هذا مما جرى فيها كمدينة شعيب وغيره ويحتمل أن يكون الضمير المذكور لأهل مكة وتأمل. وقوله فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ الآية، هذا ابتداء كلام آخر، ومعنى حكم، والفاء في قوله فَكُلُوا الصلة الكلام واتساق الجمل خرج من ذكر الكافرين والميل عليهم إلى أمر المؤمنين بشرع ما فوصل الكلام بالفاء وليست المعاني موصولة، هذا قول، والذي عندي أن الكلام متصل المعنى، أي وأنتم أيها المؤمنون لستم كهذه القرية، فَكُلُوا واشكروا الله على تباين حالكم من حال الكفرة وهذه الآية هي بسبب أن الكفار كانوا سنوا في الأنعام سننا وحرموا بعضا وأحلوا بعضا فأمر الله تعالى المؤمنين بأكل جميع الأنعام التي رزقها الله عباده وقوله حَلالًا حال، وقوله طَيِّباً أي مستلذا، ووقع النص في هذا على المستلذات ففيه ظهور النعمة وهو عظم النعم وإن كان الحلال قد يكون غير مستلذ، ويحتمل أن يكون الطيب بمعنى الحلال وكرره مبالغة وتوكيدا وباقي الآية بين، وقوله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إقامة للنفوس كما تقول لرجل: إن كنت من الرجال فافعل كذا، على معنى إقامة نفسه، وذكر الطبري: أن بعض الناس قال نزلت هذه الآية خطابا للكافر عن طعام كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثه إليهم في جوعهم، وأنحى الطبري على هذا القول وكذلك هو فاسد من غير وجه.
قوله عز وجل: صفحة رقم 427