
قوله تعالى: ﴿والخوف﴾ : العامَّةُ على جَرِّ «الخوف» نسقاً على «الرجوع»، ورُوي عن أبي عمرو نصبُه، وفيه أوجه، أحدها: أن يُعطف على «لباس». الثاني: أن يُعْطَفَ على موضعِ «الجوع» ؛ لأنه مفعولٌ في المعنى للمصدرِ. التقدير: «أَنْ أَلْبَسَهم الجوعَ والخوفَ»، قاله أبو البقاء، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ اللباسَ اسمُ ما يُلْبَسُ، وهو استعارةٌ بليغةٌ كما سأنبِّهك عليه. الثالث: أن ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ قاله أبو الفضل الرازي. [الرابع: أن يكونَ حَذْفِ مضافٍ، أي:] ولباس
صفحة رقم 293
الخوف، ثم حُذِف وأقيم [المضافُ إليه] مُقامَه قاله الزمخشري.
ووجه الاستعارةِ ما قاله الزمخشري، فإنه قال: «فإن قُلْتَ، الإِذاقةُ واللباسُ استعارتان فما وجهُ صحتِهما؟ والإِذاقةُ المستعارةُ مُوَقَّعَةٌ على اللباس المستعار فما وجهُ صحةِ إيقاعِها عليه؟ قلت: الإِذاقَةُ جَرَتْ عندهم مَجْرَى الحقيقةِ لشيوعِها في البلايا والشدائد وما يَمَسُّ الناسَ منها، فيقولون، ذاقَ فلانٌ البؤْسَ والضُّرَّ، وإذاقة العذابُ، شَبَّه ما يُدْرِكُ مِنْ أثرِ الضررِ والألمِ بما يُدْرِكُ مِنْ طَعْمِ المُرِّ والبَشِع، وأمَّا اللباسُ فقد شبَّه به لاشتمالِه على اللابسِ ما غَشِيَ الإِنسانَ والتبس به من بعض الحوادث. وأمَّا إيقاعُ الإِذاقةِ على لباسِ الجوعِ والخوفِ فلأنه لمَّا وقع عبارةً عَمَّا يُغْشَى منهما ويُلابَسُ، فكأنه قيل: فأذاقهم ما غَشِيهم من الجوعِ والخوفِ. ولهم في هذا طريقان، أحدهما: أن ينظروا فيه إلى المستعار له كما نَظَرَ إليه ههنا، ونحوُه قول كثيِّر:
٣٠٢ - ٠- غَمْرُ الرِّداءِ إذا تَبَسَّم ضاحكاً | غَلِقَتْ لضَحْكَتِهِ رِقابُ المالِ |
٣٠٢ - ١- صفحة رقم 294

يُنازعني رِدائي عَبْدُ عَمْرٍو | رُوَيْدَك يا أخا عمرِو بن بكر |
ليَ الشَّطْرُ الذي ملكَتْ يميني | ودونَك فاعْتَجِر منه بِشَطْرِ |
وقال ابن عطية:» لمَّا باشرهم ذلك صار كاللباس، وهذا كقول الأعشى:
٣٠٢ - ٢- إذا ما الضَّجِيْعُ ثنى جِيْدَها | تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا |
٣٠٢ - ٢- وقد لَبِسَتْ بعد الزبيرِ مُجاشِعٌ | لباسَ التي حاضَتْ ولن تَغْسِل الدَّما |
وقوله:» فأذاقهم «نظيرُ قولِه تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز صفحة رقم 295

الكريم} [الدخان: ٤٩]، ونظيرُ قولِ الشاعر:
٣٠٢ - ٣- دونَكَ ما جَنَيْتَه فاحْسُ وذُقْ... وفي قراءةِ عبد الله «فأذاقها اللهُ الخوفَ والجوعَ»، وفي مصحف أُبَيّ «لباسَ الخوفِ والجوعِ».
وقوله: ﴿بِأَنْعُمِ الله﴾ أتى بجمعِ القلَّةِ، ولم يَقُلْ «بِنِعَمِ الله» جمعَ كثرةٍ تنبيهاً بالأدْنى على الأَعْلى؛ لأنَّ العذابَ إذا كان على كُفْرانِ الشيءِ القليلِ فكونُه على النِّعَم الكثيرةِ أَوْلَى.
و «أنْعُم» فيها قولان، أحدُهما: أنها جمعُ «نِعْمةٍ» نحو: شِدَّة: أَشُدّ. قال الزمخشري: «جمعُ» نِعمة «على تَرْكِ الاعتداد بالتاء كَدِرْع وأَدْرُع». وقال قطرب: «هي جمع نُعْم، والنُّعْمُ: النَّعيم، يقال:» هذه أيامُ طُعْم ونُعْم «. وفي الحديث:» نادى مُنادي رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمَوْسِم بمنى: «إنها أيام طُعْمٍ ونُعْمٍ فلا تَصُوموا».
قوله: ﴿بِمَا كَانُواْ﴾ يجوز أَنْ تكونَ مصدريةً، أو بمعنى الذي، والعائدُ

محذوفٌ، أي: بسبب صُنْعهم أو بسببِ الذي كانوا يصنعونه. والواو في «يَصْنعون» عائدةٌ على أهل المعذَّب. قيل: قرية، وهي نظيرةُ قولِه ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] بعد قولِه ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾.
صفحة رقم 297