
أما الرسول فحماه أبو طالب، وأما أبو بكر فحماه قومه، وأخذ الآخرون وألبسوا دروع الحديد، ثم أجلسوا في الشمس، فبلغ منهم الجهد بحرّ الشمس والحديد، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويوبخهم، ويشتم سمية، ثم طعنها بحربة في ملمس العفة.
عاقبة كفران النّعم في الدنيا
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٢ الى ١١٣]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣)
الإعراب:
قَرْيَةً بدل من مَثَلًا.
وَهُمْ ظالِمُونَ الجملة حال.
البلاغة:
قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً المراد أهلها على سبيل المجاز المرسل، لأجل أنها مكان الأمن وظرف له، والظروف توصف بما حل فيها.
فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ استعارة مكنية في أذاقها، حذف منها المشبه به، شبه ذلك اللباس لكراهته بالطعام المرّ، وحذف المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الإذاقة، على طريق الاستعارة المكنية، أي أنه استعار الذوق لإدراك أثر الضرر، واللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف، وأوقع الإذاقة عليه، نظرا إلى المستعار له.
المفردات اللغوية:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي وجعلها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم، فأبطرتهم النعمة، فكفروا، فأنزل الله بهم النقمة، أو لمكة قَرْيَةً هي مكة، والمراد أهلها، وقال الرازي: والأقرب أنها غير مكة لأنها ضربت مثلا لمكة، وهو غير مكة. آمِنَةً من الغارات، لا تهاج. مُطْمَئِنَّةً

لا يحتاج إلى الانتقال عنها لضيق أو خوف. رِزْقُها قوتها. رَغَداً واسعا. مِنْ كُلِّ مَكانٍ من نواحيها. فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ أي بنعمه، جمع نعمة، كدرع وأدرع، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس، وكفرانها بتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم. فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ فقحطوا سبع سنين.
وَالْخَوْفِ بتهديدهم بسرايا النبي صلّى الله عليه وسلّم. بِما كانُوا يَصْنَعُونَ بصنعهم.
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ محمد صلّى الله عليه وسلّم. فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الجوع والخوف. وَهُمْ ظالِمُونَ حال التباسهم بالظلم.
المناسبة:
بعد أن هدد الله تعالى الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة، هددهم أيضا بآفات الدنيا وهو الوقوع في الجوع والخوف.
التفسير والبيان:
ذكر الله صفة قرية للعبرة، كانت بأهلها آمنة من العدو، مطمئنة لا يزعجها خوف، يأتيها رزقها الوافر رغدا أي هنيئا سهلا واسعا من سائر البلاد، فكفر أهلها بنعم الله، أي جحدوا بها، فعمّهم الله بالجوع والخوف، وبدلوا بأمنهم خوفا، وبغناهم جوعا وفقرا، وبسرورهم ألما وحزنا، وذاقوا مرارة العيش بعد سعته، بسبب أفعالهم المنكرة.
وجاءهم رسول من جنسهم، فكذبوه فيما أخبرهم به من أنه رسول إليهم، مبلّغ عن ربه بأن يعبدوه ويطيعوه ويشكروه على النعمة، وتمادوا في كفرهم وعنادهم، فعذبوا بعذاب الاستئصال الشامل، حال كونهم ظالمين أنفسهم بالكفر وتكذيب الرسل، متلبسين بالظلم: وهو الكفر والمعاصي، وما ظلمهم الله أبدا.
والمثل: قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة، سواء كان ذلك الشيء موجودا أو لم يكن موجودا، وقد يضرب بشيء موجود معين، فهذه القرية يحتمل أن تكون شيئا مفروضا، ويحتمل أن تكون قرية معينة، وهذه القرية إما مكة

أو غيرها، وأكثر المفسرين على أنها مكة وأهلها، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة، يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمنا لا يخاف، فجحدت بآلاء الله، وأعظمها بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فأذاقها الله شدة الجوع والخوف، بعد الرفاه والأمن، وأبوا إلا معاندة الرسول صلّى الله عليه وسلّم،
فدعا عليهم بقوله: «اللهم اشدد ووطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف»
فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء وابتلوا بالقحط، فاضطروا إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعظام المحرقة، والعلهز: وهو وبر البعير المخلوط بدمه إذا نحروه. ثم قتل رؤساؤهم في بدر.
وقال الرازي: والأقرب أنها غير مكة، لأنها ضربت مثلا لمكة، ومثل مكة يكون غير مكة. أي أن هذا المثل عبرة لكل قرية، وعلى التخصيص مكة إنذارا من مثل عاقبتها، وهي مثل لكل قوم أنعم الله عليهم، فأبطرتهم النعمة، فكفروا وتولوا، فأنزل الله بهم نقمته.
وقوله: آمِنَةً إشارة إلى الأمن، وقوله: مُطْمَئِنَّةً إشارة إلى الصحة بسبب طيب الهواء والمناخ، وقوله: يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ إشارة إلى الكفاية «١». وبعد أن وصفت القرية بهذه الصفات الثلاثة قال: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ والأنعام جمع نعمة، وهو جمع قلة، أي أنها كفرت بأنواع قليلة من النعم، فعذبها الله. والمقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان كفران النعم القليلة موجبا العذاب، فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب.
وهذه الصفات، وإن وصفت بها القرية، إلا أن المراد في الحقيقة أهلها،
ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصحة والكفاية