
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَسُؤَالِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [الْبَقَرَةِ: ٢٠١].
وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى وَلِيًّا لِلْعَبْدِ يُنَاسِبُ أَنْ يَطْلُبَ الْعَبْدُ مِنْهُ دَفْعَ الْمَضَارِّ وَتَحْصِيلَ الْمَنَافِعِ لِيُظْهِرَ آثَارَ كَرَمِهِ وَفَضْلِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ، وَأَيْضًا اشْتِغَالُ الْعَبْدِ بِالتَّوْبَةِ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ يُنَاسِبُ طَلَبَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَذَكَرَ السَّبَبَ الْأَوَّلَ أَوَّلًا، وَهُوَ كَوْنُهُ تَعَالَى وَلِيًّا لَهُ وَفَرَّعَ عَلَيْهِ طَلَبَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ السَّبَبَ الثَّانِيَ، وَهُوَ اشْتِغَالُ الْعَبْدِ بِالتَّوْبَةِ وَالْخُضُوعِ فَقَالَ: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُدْنا أَيْ تُبْنَا وَرَجَعْنَا إِلَيْكَ، قَالَ اللَّيْثُ:
«الْهَوْدُ» التَّوْبَةُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا السَّبَبَ أَيْضًا لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي يَقْتَضِي حُسْنَ طَلَبِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ إِلَّا مَجْمُوعَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَوْنُهُ إِلَهًا وَرَبًّا وَوَلِيًّا، وَكَوْنُنَا عَبِيدًا لَهُ تَائِبِينَ خَاضِعِينَ خَاشِعِينَ، فَالْأَوَّلُ: عَهْدُ عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ.
وَالثَّانِي: عَهْدُ ذِلَّةِ الْعُبُودِيَّةِ، فَإِذَا حَصَلَا وَاجْتَمَعَا فَلَا سَبَبَ أَقْوَى مِنْهُمَا. وَلَمَّا حَكَى اللَّه تَعَالَى دُعَاءَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا كَانَ جَوَابًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فقال تعالى قَالَ: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ مَعْنَاهُ أَنِّي أُعَذِّبُ مَنْ أَشَاءُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيَّ اعْتِرَاضٌ لِأَنَّ الْكُلَّ مِلْكِي، وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ مَنْ أَسَاءَ مِنَ الْإِسَاءَةِ، وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَقَوْلُهُ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ. قِيلَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ هُوَ أَنَّ رَحْمَتَهُ فِي الدُّنْيَا عَمَّتِ الْكُلَّ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَقِيلَ: الْوُجُودُ خَيْرٌ مِنَ الْعَدَمِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا مَوْجُودَ إِلَّا وقد وصل إليه. رحمته وأقل المراتب وجوده،. قيل الْخَيْرُ مَطْلُوبٌ بِالذَّاتِ، وَالشَّرُّ مَطْلُوبٌ بِالْعَرَضِ وَمَا بِالذَّاتِ رَاجِحٌ غَالِبٌ، وَمَا بِالْعَرَضِ مَرْجُوحٌ مَغْلُوبٌ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الرَّحْمَةُ عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَةِ الْخَيْرِ، وَلَا حَيَّ إِلَّا وَقَدْ خَلَقَهُ اللَّه تَعَالَى لِلرَّحْمَةِ وَاللَّذَّةِ وَالْخَيْرِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُنْتَفِعًا أَوْ مُتَمَكِّنًا مِنَ الِانْتِفَاعِ فَهُوَ بِرَحْمَةِ اللَّه مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ وَإِنْ حَصَلَ هُنَاكَ أَلَمٌ فَلَهُ الْأَعْوَاضُ الْكَثِيرَةُ، وَهِيَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَقَالَ أَصْحَابُنَا قَوْلُهُ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، كَقَوْلِهِ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: ٢٣].
أَمَّا قَوْلُهُ: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ تَكَالِيفِ اللَّه مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: الْأَوَّلُ: التُّرُوكُ، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ تَرْكُهَا، وَالِاحْتِرَازُ عَنْهَا وَالِاتِّقَاءُ مِنْهَا، وَهَذَا النَّوْعُ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَالثَّانِي: الْأَفْعَالُ وَتِلْكَ التَّكَالِيفُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَوَجِّهَةً عَلَى مَالِ الْإِنْسَانِ أَوْ عَلَى نَفْسِهِ.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ الزَّكَاةُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ عِلْمًا وَعَمَلًا أَمَّا الْعِلْمُ فَالْمَعْرِفَةُ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلُ بِالْأَرْكَانِ وَيَدْخُلُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَإِلَى هَذَا الْمَجْمُوعِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: ٢، ٣].
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٧]
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مِنْ صِفَةِ مَنْ تُكْتَبُ لَهُ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ التَّقْوَى وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَالْإِيمَانَ بِالْآيَاتِ، ضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَتِهِ اتِّبَاعُ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ يَتَّبِعُوهُ بِاعْتِقَادِ نُبُوَّتِهِ مِنْ حَيْثُ وَجَدُوا صِفَتَهُ فِي التَّوْرَاةِ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّبِعُوهُ فِي شَرَائِعِهِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَى الْخَلْقِ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: وَالْإِنْجِيلِ إِنَّ الْمُرَادَ سَيَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا فِي الْإِنْجِيلِ، لِأَنَّ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَجِدُوهُ فِيهِ قَبْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّه الْإِنْجِيلَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ مَنْ لَحِقَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيَّامَ الرَّسُولِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ اللَّاحِقِينَ لَا يَكْتُبُ لَهُمْ رَحْمَةَ الْآخِرَةِ إِلَّا إِذَا اتَّبَعُوا الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَقْرَبُ، لِأَنَّ اتِّبَاعَهُ قَبْلَ أَنْ بُعِثَ وَوُجِدَ لَا يُمْكِنُ. فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الرَّحْمَةَ لَا يَفُوزُ بِهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَنِ اتَّقَى وَآتَى الزَّكَاةَ وَآمَنَ بِالدَّلَائِلِ فِي زَمَنِ مُوسَى، وَمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فِي أَيَّامِ الرَّسُولِ إِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ مُتَبِّعًا لِلنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ فِي شَرَائِعِهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِفَاتٍ تِسْعٍ.
الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُ رَسُولًا، وَقَدِ اخْتَصَّ هَذَا اللَّفْظُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ بِمَنْ أَرْسَلَهُ اللَّه إِلَى الْخَلْقِ لِتَبْلِيغِ التَّكَالِيفِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ نَبِيًّا، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ رَفِيعَ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُ أُمِّيًّا. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْأُمِّيَّ الَّذِي هُوَ عَلَى صِفَةِ أُمَّةِ الْعَرَبِ.
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ»
فَالْعَرَبُ أَكْثَرُهُمْ مَا كَانُوا يَكْتُبُونَ وَلَا يَقْرَءُونَ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ كَذَلِكَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ أُمِّيًّا. قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ وَكَوْنُهُ أُمِّيًّا بِهَذَا التَّفْسِيرِ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ كِتَابَ اللَّه تَعَالَى مَنْظُومًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلِ أَلْفَاظِهِ وَلَا تَغْيِيرِ كَلِمَاتِهِ وَالْخَطِيبُ مِنَ الْعَرَبِ إِذَا ارْتَجَلَ خُطْبَةً ثُمَّ أَعَادَهَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُزِيدَ فِيهَا وَأَنْ يُنْقِصَ عَنْهَا بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ يَكْتُبُ وَمَا كَانَ يَقْرَأُ يَتْلُو كِتَابَ اللَّه مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَلَا تَغْيِيرٍ. فَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: ٦] وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُحْسِنُ الْخَطَّ وَالْقِرَاءَةَ لَصَارَ مُتَّهَمًا فِي أَنَّهُ رُبَّمَا طَالَعَ كُتُبَ الْأَوَّلِينَ فَحَصَّلَ هَذِهِ الْعُلُومَ مِنْ تِلْكَ الْمُطَالَعَةِ فَلَمَّا أَتَى بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ وَلَا مُطَالَعَةٍ، كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَهَذَا هُوَ المراد من قوله: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٨] الثَّالِثُ: أَنَّ تَعَلُّمَ الْخَطِّ شَيْءٌ سَهْلٌ فَإِنَّ أَقَلَّ النَّاسِ ذَكَاءً وَفِطْنَةً يَتَعَلَّمُونَ الْخَطَّ بِأَدْنَى سَعْيٍ، فَعَدَمُ تَعَلُّمِهِ يَدُلُّ عَلَى نُقْصَانٍ عَظِيمٍ فِي الْفَهْمِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى آتَاهُ عُلُومَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَأَعْطَاهُ مِنَ الْعُلُومِ وَالْحَقَائِقِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ، وَمَعَ تِلْكَ الْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ فِي الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ جَعَلَهُ بِحَيْثُ لَمْ يَتَعَلَّمِ الْخَطَّ الَّذِي يَسْهُلُ تَعَلُّمُهُ عَلَى أَقَلِّ الْخَلْقِ عَقْلًا وَفَهْمًا، فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ

الْمُتَضَادَّتَيْنِ جَارِيًا مَجْرَى الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ وَجَارٍ مَجْرَى الْمُعْجِزَاتِ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَعْتَهُ وَصِحَّةَ نُبُوَّتِهِ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا لَكَانَ ذِكْرُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنَفِّرَاتِ لليهود النصارى عَنْ قَبُولِ قَوْلِهِ، لِأَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الْكَذِبِ والبهتان من أعظم النفرات، وَالْعَاقِلُ لَا يَسْعَى فِيمَا يُوجِبُ نُقْصَانَ حَالِهِ، وَيُنَفِّرُ النَّاسَ عَنْ قَبُولِ قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّعْتَ كَانَ مَذْكُورًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ.
الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ اسْتِئْنَافًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَقُولُ مَجَامِعُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ مَحْصُورَةٌ فِي
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّه وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّه»
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَإِمَّا مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ. أَمَّا الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ فَهُوَ اللَّه جَلَّ جَلَالُهُ، وَلَا مَعْرُوفَ أَشْرَفُ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَإِظْهَارِ عُبُودِيَّتِهِ وَإِظْهَارِ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ عَلَى بَابِ عِزَّتِهِ وَالِاعْتِرَافِ بِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مُبَرَّأً عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ مُنَزَّهًا عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ، وَأَمَّا الْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَيَوَانًا، فَلَا سَبِيلَ إِلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ مَشْرُوطٌ بالحياة، ومع هذا فإن يَجِبُ النَّظَرُ إِلَى كُلِّهَا بِعَيْنِ التَّعْظِيمِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ للَّه تَعَالَى، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الْمَخْلُوقَاتِ لَمَّا كَانَتْ دَلِيلًا قَاهِرًا وَبُرْهَانًا بَاهِرًا عَلَى تَوْحِيدِهِ وَتَنْزِيهِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ النَّظَرُ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الِاحْتِرَامِ. ومن حيث أن اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الْمَخْلُوقَاتِ أسراراً عجيبة وحكماً خفية فيحب النَّظَرُ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الِاحْتِرَامِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ مِنْ جِنْسِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ يَجِبُ إِظْهَارُ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ وَبَثُّ الْمَعْرُوفِ فَثَبَتَ أَنَّ
قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّه وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّه»
كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ جِهَاتِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ.
الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَضْدَادُ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ، وَالْقَوْلُ فِي صِفَاتِ اللَّه بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالْكُفْرُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى النَّبِيِّينَ، وَقَطْعُ الرَّحِمِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ.
الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالطَّيِّبَاتِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي حَكَمَ اللَّه بِحِلِّهَا وَهَذَا بِعِيدٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تصير الآية ويحل لهم المحللات وهذ مَحْضُ التَّكْرِيرِ. الثَّانِي: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَخْرُجُ الْآيَةُ عَنِ الْفَائِدَةِ، لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّه مَا هِيَ وَكَمْ هِيَ؟ بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْأَشْيَاءَ الْمُسْتَطَابَةَ بِحَسَبِ الطَّبْعِ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَنَاوُلَهَا يُفِيدُ اللَّذَّةَ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَنَافِعِ الْحِلُّ فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَا تَسْتَطِيبُهُ النَّفْسُ وَيَسْتَلِذُّهُ الطَّبْعُ الْحِلُّ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.
الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يُرِيدُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكُمْ فِسْقٌ وَأَقُولُ: كُلُّ مَا يَسْتَخْبِثُهُ الطَّبْعُ وَتَسْتَقْذِرُهُ النَّفْسُ كَانَ تَنَاوُلُهُ سَبَبًا لِلْأَلَمِ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، فَكَانَ مُقْتَضَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا يَسْتَخْبِثُهُ الطَّبْعُ فَالْأَصْلُ فِيهِ/ الْحُرْمَةُ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ: فَرَّعَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَحْرِيمَ بَيْعِ الْكَلْبِ، لِأَنَّهُ
رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه سلم