بَلْ قَدْ يَكُونُ تَابِعًا لِشَرْعِ غَيْرِهِ كَالرُّسُلِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ عَمَلًا وَحُكْمًا بَيْنَ النَّاسِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّا أَنْزَلَنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينِ هَادُوا (٥: ٤٤) الْآيَةَ.
وَقَدْ يَكُونُ نَاسِخًا لِبَعْضِهِ كَمَا نَسَخَ عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَأَقَرَّ أَكْثَرَهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً لِمَا خَاطَبَ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ (٣: ٥٠) وَسِيرَتُهُ الْمَأْثُورَةُ عَنِ الْإِنْجِيلِيِّينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. فَفِيهَا أَنَّهُ مَا جَاءَ لِيَنْقُضَ النَّامُوسَ (أَيِ: التَّوْرَاةَ) وَإِنَّمَا جَاءَ لِيُتَمِّمَ، وَأَنَّهُ أَحَلَّ لَهُمْ بَعْضَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ حَتَّى مَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ تَرْكِ الْعَمَلِ يَوْمَ السَّبْتَ فَخَصَّهُ بِغَيْرِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، بَلْ نَرَى فِرَقَ النَّصَارَى الرَّسْمِيِّينَ بَعْدَ تَكْوِينِ نِظَامِ الْكَنِيسَةِ قَدْ تَرَكُوا مَا عَدَا الْوَصَايَا الْعَشْرِ مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَاسْتَبْدَلُوا يَوْمَ الْأَحَدِ بِيَوْمِ السَّبْتِ فِيمَا حَرَّمَتِ الْوَصَايَا مِنَ الْعَمَلِ فِيهِ، وَخَالَفَ الْأَكْثَرُونَ وَصِيَّةَ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ، وَلَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَأْتُوا بِدَلِيلٍ عَلَى هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمَسِيحِ وَلَا مِنْ فِعْلِهِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الرَّسُولَ أَخَصُّ فِي عُرْفِ شَرْعِنَا مِنَ النَّبِيِّ، فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَا عَكْسَ، وَإِذَا أُطْلِقَ الرَّسُولُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَعُمُّ رُسُلُ الْمَلَائِكَةِ كَانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَعَمُّ مِنَ النَّبِيِّ؛ لِأَنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَجْعَلْ فِيهِمْ أَنْبِيَاءَ. فَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيٌّ رَسُولٌ، وَجِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَسُولٌ غَيْرُ نَبِيٍّ، وَآدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَبِيٌّ غَيْرُ رَسُولٍ كَأَكْثَرِ أَنْبِيَاءِ إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ فِي نَصِّ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا النَّاطِقِ بِأَنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عَدَدِ الرُّسُلِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ جَوَازُ تَسْمِيَتِهِ رَسُولًا فِي عُرْفِ بَعْضِ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَأَنَّهُمْ لِهَذَا الْعُرْفِ عَدُّوهُ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ تَجِبُ مَعْرِفَةُ رِسَالَتِهِمْ، وَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ تَأْوِيلَاتٍ تَجِدُهَا هُنَالِكَ.
وَصَفَ اللهُ الرَّسُولَ الَّذِي أَوْجَبَ اتِّبَاعَهُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَدْرَكَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ بِصِفَاتٍ وَنُعُوتٍ: أَوَّلُهَا - (أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الْكَامِلُ) ثَانِيهَا - قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) وَمَعْنَاهُ الَّذِي يَجِدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ صِفَتَهُ وَنُعُوتَهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَإِنَّمَا
ذَكَرَ الْإِنْجِيلَ وَالسِّيَاقُ فِي قَوْمِ مُوسَى؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ
بِالذَّاتِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَمِمَّا هُوَ مَأْثُورٌ عَنِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ: لَمْ أُبْعَثْ إِلَّا إِلَى خِرَافِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. وَلَا يُعَارِضُهُ مَا رَوَوْا عَنْهُ مِنْ أَمْرِهِ تَلَامِيذَهُ أَنْ يُكْرِزُوا بِالْإِنْجِيلِ فِي الْخَلِيقَةِ كُلِّهَا، إِذْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا أَنْ يُرَادَ بِالْخَلِيقَةِ مَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ (الْيَهُودِيَّةَ) وَالْعِبَارَةُ الْأَوْلَى نَصٌّ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا بِاسْمِهِ وَنُعُوتِهِ الشَّرِيفَةِ بِحَيْثُ لَا يَشُكُّونَ أَنَّهُ هُوَ؛ وَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: يَجِدُونَ نَعْتَهُ أَوْ وَصْفَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ، وَالظَّرْفُ (عِنْدَهُمْ) لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ، وَأَنَّ شَأْنَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَاضِرٌ عِنْدَهُمْ لَا يَغِيبُ عَنْهُمْ اهـ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي فَصْلٍ خَاصٍّ.
ثَالِثُهَا وَرَابِعُهَا - قَوْلُهُ: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ أَهَمِّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ عِنْدَ بِعْثَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِمَا كُتِبَ. وَالْمَعْرُوفُ مَا تَعْرِفُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ حُسْنَهُ، وَتَرْتَاحُ الْقُلُوبُ الطَّاهِرَةُ لَهُ لِنَفْعِهِ وَمُوَافَقَتِهِ لِلْفِطْرَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ الْعَاقِلُ الْمُنْصِفُ السَّلِيمُ الْفِطْرَةِ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ إِذَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ. وَالْمُنْكَرُ مَا تَنْكِرُهُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ، وَتَأْبَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْمَعْرُوفِ بِمَا أَمَرَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، وَالْمُنْكَرِ بِمَا نَهَتْ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ تَفْسِيرِ الْمَاءِ بِالْمَاءِ. وَكَوْنُ مَا قُلْنَاهُ يُثْبِتُ مَسْأَلَةَ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّينَ وِفَاقًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَخِلَافًا لِلْأَشْعَرِيَّةِ مَرْدُودٌ إِطْلَاقُهُ بِأَنَّنَا إِنَّمَا نُوَافِقُ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ، وَنُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهٍ اتِّبَاعًا لِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفَهْمِ السَّلَفِ لَهُمَا فَلَا نُنْكِرُ إِدْرَاكَ الْعُقُولِ لِحُسْنِ الْأَشْيَاءِ مُطْلَقًا، وَلَا نُقَيِّدُ التَّشْرِيعَ بِعُقُولِنَا، وَلَا نُوجِبُ عَلَى اللهِ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ لَا سُلْطَانَ لِشَيْءٍ عَلَيْهِ، فَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ مَا شَاءَ إِنْ شَاءَ كَمَا كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لِمَنْ شَاءَ، وَأَنَّ مِنَ الشَّرْعِ مَا لَمْ تَعْرِفِ الْعُقُولُ حُسْنَهُ قَبْلَ شَرْعِهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا شَرَعَهُ تَعَالَى يُطَاعُ بِلَا شَرْطٍ وَلَا قَيْدٍ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَا نَصُّهُ: هَذِهِ صِفَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهَكَذَا كَانَتْ حَالُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِخَيْرٍ وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَنْ شَرٍّ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَارْعِهَا سَمْعَكَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ تُنْهَى عَنْهُ، وَمِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ وَأَعْظَمِهِ
مَا بَعَثَهُ اللهُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، كَمَا أَرْسَلَ بِهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (١٦: ٣٦) وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - وَذَكَرَ سَنَدَهُ إِلَى أَبِي حُمَيْدٍ، وَأَبِي أَسِيدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا
سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَتَرَوْنُ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَنْفِرُ مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبَشَارُكُمْ وَتَرَوْنُ أَنَّهُ مِنْكُمْ بَعِيدٌ، فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ.
خَامِسُهَا وَسَادِسُهَا - قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ الطَّيِّبُ مَا تَسْتَطِيبُهُ الْأَذْوَاقُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، وَتَسْتَفِيدُ مِنْهُ التَّغْذِيَةُ النَّافِعَةُ، وَمِنَ الْأَمْوَالِ مَا أُخِذَ بِحَقٍّ وَتَرَاضٍ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَالْخَبِيثُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ مَا تَمُجُّهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ وَتَسْتَقْذِرُهُ ذَوْقًا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ، أَوْ تَصُدُّ عَنْهُ الْعُقُولُ الرَّاجِحَةُ لِضَرَرِهِ فِي الْبَدَنِ كَالْخِنْزِيرِ الَّذِي تَتَوَلَّدُ مِنْ أَكْلِهِ الدُّودَةُ الْوَحِيدَةُ، أَوْ لِضَرَرِهِ فِي الدِّينِ كَالَّذِي يَذْبَحُ لِلتَّقَرُّبِ بِهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى سَبِيلِ الْعِبَادَةِ - أَيْ: لَا مَا يَذْبَحُ لِتَكْرِيمِ الضِّيفَانِ؛ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أَوْ أَمِيرٍ أَوْ سُلْطَانٍ - وَالَّذِي يَحْرُمُ ذَبْحُهُ أَوْ أَكْلُهُ لِتَشْرِيعٍ بَاطِلٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ - كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي، وَالْخَبِيثُ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا يُؤْخَذُ بِغَيْرِ الْحَقِّ كَالرِّبَا وَالرِّشْوَةِ وَالْغُلُوِّ وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْغَصْبِ وَالسُّحْتِ. وَقَدْ كَانَ اللهُ - تَعَالَى - حَرَّمَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ عُقُوبَةً لَهُمْ كَمَا قَالَ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلْتَ لَهُمْ (٤: ١٦٠) الْآيَةَ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَحَرَّمُوا هُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَيِّبَاتٍ أُخْرَى لَمْ يُحْرِّمْهَا اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ، وَأَحَلُّوا لِأَنْفُسِهِمْ أَكْلَ أَمْوَالٍ غَيْرَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ بِالْبَاطِلِ، كَمَا حَكَى اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ بَعْدَ ذِكْرِ اسْتِحْلَالِ بَعْضِهِمْ أَكَلَ مَا يَأْتَمِنُهُمْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٣: ٧٥) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
سَابِعُهَا - قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ الْإِصْرُ: الثِّقَلُ الَّذِي يَأْصِرُ صَاحِبَهُ؛ أَيْ: يَحْبِسُهُ مِنَ الْحَرَاكِ لِثِقَلِهِ، وَهُوَ مَثَلٌ لِثِقَلِ
تَكْلِيفِهِمْ وَصُعُوبَتِهِ نَحْوَ اشْتِرَاطِ قَتْلِ الْأَنْفُسِ فِي صِحَّةِ تَوْبَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْأَغْلَالُ مَثَلٌ لِمَا كَانَ فِي شَرَائِعِهِمْ مِنَ الْأَشْيَاءِ الشَّاقَّةِ، قَالَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَذَكَرَ لِلثَّانِي عِدَّةَ أَمْثِلَةٍ مِنْ شِدَّةِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ أَنَّهُ جَاءَ بِالتَّيْسِيرِ وَالسَّمَاحِ كَمَا وَرَدَ الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَمِيرَيْهِ مُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ لَمَّا بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ: " بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُّوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا " وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. حَاصِلُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا فِيمَا أُخِذُوا بِهِ مِنَ الشِّدَّةِ فِي أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْعُقُوبَاتِ كَالَّذِي يَحْمِلُ أَثْقَالًا يَئِطُّ مِنْهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُوثَقٌ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ فِي عُنُقِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى حِكْمَةَ أَخْذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالشِّدَّةِ فِي الْأَحْكَامِ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
خَفَّفَ عَنْهُمْ بَعْضَ التَّخْفِيفِ فِي الْأُمُورِ الْمَادِّيَّةِ وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَحْكَامِ الرُّوحِيَّةِ؛ لِمَا كَانَ مِنْ إِفْرَاطِهِمْ فِي الْأُولَى، وَتَفْرِيطِهِمْ فِي الْأُخْرَى، وَكُلُّ هَذَا وَذَاكَ قَدْ جَعَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - تَرْبِيَةً مَوْقُوتَةً لِبَعْضِ عِبَادِهِ، لِيَكْمُلَ اسْتِعْدَادُهُمْ لِلشَّرِيعَةِ الْوُسْطَى الْعَادِلَةِ السَّمْحَةِ الرَّحِيمَةِ الَّتِي يَبْعَثُ بِهَا خَاتَمَ الرُّسُلِ الَّذِي أَوْجَبَ اتِّبَاعَهُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَدْرَكَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ.
فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يَطْلُبُ التَّعْزِيرَ فِي اللُّغَةِ عَلَى الرَّدِّ وَالضَّرْبِ وَالْمَنْعِ وَالتَّأْدِيبِ وَالتَّعْظِيمِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: التَّعْزِيرُ النُّصْرَةُ مَعَ التَّعْظِيمِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَزَّرُوهُ: عَظَّمُوهُ وَوَقَّرُوهُ. لَكِنْ وَرَدَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرُسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٤٨: ٩) وَالْأَقْرَبُ إِلَى فِقْهِ اللُّغَةِ مَا حَقَّقَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ هُنَا قَالَ: (وَعَزَّرُوهُ) وَمَنَعُوهُ حَتَّى لَا يَقْوَى عَلَيْهِ عَدُوٌّ، وَأَصْلُ الْعَزْرِ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ التَّعْزِيرُ لِلضَّرْبِ دُونَ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ عَنْ مُعَاوَدَةِ الْقَبِيحِ أَلَا تَرَى إِلَى تَسْمِيَتِهِ الْحَدَّ، وَالْحَدُّ هُوَ الْمَنْعُ اهـ. جَاءَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ - بَعْدَ نَقْلِ الْأَقْوَالِ وَجَعَلَهُ مِنْ قَبَيلِ الْأَضْدَادَ. وَالْعَزْرُ النَّصْرُ بِالسَّيْفِ. وَعَزَّرُوهُ عَزْرًا، وَعَزَّرَهُ (تَعْزِيرًا) أَعَانَهُ وَقَوَّاهُ وَنَصَرَهُ، قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَقَالَ - تَعَالَى -: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ (٥: ١٢) جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ:
لِتَنْصُرُوهُ بِالسَّيْفِ، وَمَنْ نَصَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسَّيْفِ فَقَدْ نَصَرَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَعَزَّرْتُمُوهُمْ: عَظَّمْتُمُوهُمْ، وَقِيلَ: نَصَرْتُمُوهُمْ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَاللهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ - وَذَلِكَ أَنَّ الْعَزْرَ فِي اللُّغَةِ الرَّدُّ وَالْمَنْعُ، وَتَأْوِيلُ عَزَّرْتُ فُلَانًا؛ أَيْ: أَدَّبْتُهُ، إِنَّمَا تَأْوِيلُهُ فَعَلْتُ بِهِ مَا يَرْدَعُهُ عَنِ الْقَبِيحِ، كَمَا إِذَا نَكَّلْتُ بِهِ؛ تَأْوِيلُهُ: فَعَلْتُ بِهِ مَا يَجِبُ أَنْ يُنَكَّلَ مَعَهُ عَنِ الْمُعَاوَدَةِ، فَتَأْوِيلُ عَزَّرْتُمُوهُمْ نَصَرْتُمُوهُمْ بِأَنْ تَرُدُّوا عَنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ، وَلَوْ كَانَ التَّعْزِيرُ هُوَ التَّوْقِيرُ لَكَانَ الْأَجْوَدُ فِي اللُّغَةِ الِاسْتِغْنَاءَ بِهِ، وَالنُّصْرَةُ إِذَا وَجَبَتْ فَالتَّعْظِيمُ دَاخِلٌ فِيهَا؛ لِأَنَّ نُصْرَةَ الْأَنْبِيَاءِ هِيَ الْمُدَافَعَةُ عَنْهُمْ أَوِ الذَّبُّ عَنْ دِينِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ وَتَوْقِيرِهِمِ، انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا - أَيْ: يُؤْمِنُونَ - بِالرَّسُولِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ عِنْدَ مَبْعَثِهِ؛ أَيْ: مِنْ قَوْمِ مُوسَى، وَمِنْ كُلِّ قَوْمٍ - فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ مِنْهُمْ؛ بَلْ أَطْلَقَ - وَيُعَزِّرُونَهُ بِأَنْ يَمْنَعُوهُ وَيَحْمُوهُ مِنْ كُلِّ مَنْ يُعَادِيهِ مَعَ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، لَا كَمَا يَحْمُونَ بَعْضَ مُلُوكِهِمْ مَعَ الْكُرْهِ وَالِاشْمِئْزَازِ وَنَصَرُوهُ بِاللِّسَانِ وَالسِّنَانِ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الْأَعْظَمَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَ رِسَالَتِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ؛ أَيِ الْفَائِزُونَ بِالرَّحْمَةِ الْعُظْمَى وَالرِّضْوَانِ، دُونَ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَمِنْهُمُ الْفَائِزُونَ بِدُونِ مَا يَفُوزُ بِهِ هَؤُلَاءِ، كَأَتْبَاعِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُمُ الْخَائِبُونَ الْمَخْذُولُونَ؛ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ.
(فَصْلٌ فِي بَيَانِ بِشَارَاتِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا) بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ لَنَا ذِكْرُ بِشَارَاتِ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، بَعْضُهَا بِالْإِجْمَالِ، وَبَعْضُهَا بِشَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ، وَفِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ فَهَارِسِهِمَا، وَنُرِيدُ هُنَا أَنْ نُفَصِّلَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا كَافِيًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَكَانُ الْمُنَاسِبُ لَهُ أَتَمَّ الْمُنَاسَبَةِ، فَنَقُولُ:
كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَتَنَاقَلُونَ خَبَرَ بَعْثَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَذْكُرُونَ الْبِشَارَاتِ بِهِ مَنْ كُتُبِهِمْ، حَتَّى إِذَا مَا بَعَثَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ، وَكَانَ عُلَمَاؤُهُمْ يُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ عُلَمَاءِ
الْيَهُودِ، وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى، وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ -، وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذِهِ كَثِيرَةٌ، وَمِنْ أَعْجَبِهَا قِصَّةُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَأَمَّا الَّذِينَ أَبَوْا وَاسْتَكْبَرُوا فَكَانُوا يَكْتُمُونَ الْبِشَارَاتِ بِهِ فِي كُتُبِهِمْ. وَيُؤَوِّلُونَ مَا بَقِيَ مِنْهَا لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ، وَيَكْتُمُونَهُ عَمَّنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَرْبَى الْمُتَأَخِّرُونَ وَلَا سِيَّمَا الْإِفْرِنْجَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْمُكَابَرَةِ وَالتَّأْوِيلِ وَالتَّضْلِيلِ؛ لِذَلِكَ وَضَّحَ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ الْهِنْدِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِهِ (إِظْهَارِ الْحَقِّ) بِأُمُورٍ جَعَلَهَا مُقَدِّمَاتٍ لِبِشَارَاتِ تِلْكَ الْكُتُبِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَيْنَا أَنْ نَقْتَبِسَهَا بِنَصِّهَا. قَالَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - فِي سِيَاقِ مَسَالِكِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا نَصُّهُ: (الْمَسْلَكُ السَّادِسُ)
أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ عَنْ نُبُوَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَلَمَّا كَانَ الْقِسِّيسُونَ يُغَلِّطُونَ الْعَوَامَّ فِي هَذَا الْبَابِ تَغْلِيطًا عَظِيمًا، اسْتَحْسَنْتُ أَنْ أُقَدِّمَ عَلَى نَقْلِ تِلْكَ الْأَخْبَارِ أُمُورًا ثَمَانِيَةً تُفِيدُ النَّاظِرَ بَصِيرَةً.
الْأَمْرُ الْأَوَّلُ
إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْإِسْرَائِيلِيَّةَ مِثْلَ: أَشْعِيَا وَأَرْمِيَا وَدَانْيَالَ وَحِزْقِيَالَ وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَخْبَرُوا عَنِ الْحَوَادِثِ الْآتِيَةِ، كَحَادِثَةِ بُخْتُ نَصَّرَ، وَقُورَشَ وَالْإِسْكَنْدَرِ وَخُلَفَائِهِ. وَحَوَادِثِ أَرْضِ أَدُومَ وَمِصْرَ وَنِينَوَى وَبَابِلَ، وَيَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَلَّا يُخْبِرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ خُرُوجِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي كَانَ وَقْتَ ظُهُورِهِ كَأَصْغَرِ الْبُقُولِ، ثُمَّ صَارَ شَجَرَةً عَظِيمَةً تَنْأَوِي طُيُورُ السَّمَاءِ فِي أَغْصَانِهَا، فَكَسَرَ الْجَبَابِرَةَ وَالْأَكَاسِرَةَ، وَبَلَغَ دِينُهُ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَغَلَبَ الْأَدْيَانَ وَامْتَدَّ دَهْرًا بِحَيْثُ مَضَى عَلَى ظُهُورِهِ مُدَّةَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ إِلَى هَذَا الْحِينِ، وَيَمْتَدُّ إِنْ
شَاءَ اللهُ إِلَى آخِرِ بَقَاءِ الدُّنْيَا. وَظَهَرَ فِي أُمَّتِهِ أُلُوفٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَالْحُكَمَاءِ الْمُتْقِنِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ ذَوِي الْكَرَامَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ، وَالسَّلَاطِينِ الْعِظَامِ. وَهَذِهِ الْحَادِثَةُ كَانَتْ أَعْظَمُ الْحَوَادِثِ وَمَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ حَادِثَةِ أَرْضِ أَدُومَ وَنِينَوَى وَغَيْرِهِمَا، فَكَيْفَ يُجَوِّزُ الْعَقْلُ السَّلِيمُ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنِ الْحَوَادِثِ الضَّعِيفَةِ وَتَرَكُوا الْأَخْبَارَ عَنْ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْعَظِيمَةِ! ؟
الْأَمْرُ الثَّانِي
أَنَّ النَّبِيَّ الْمُقَدَّمَ إِذَا أَخْبَرَ عَنِ النَّبِيِّ الْمُتَأَخِّرِ لَا يَشْتَرِطُ فِي إِخْبَارِهِ أَنْ يُخْبِرَ بِالتَّفْصِيلِ التَّامِّ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْقَبِيلَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فِي السَّنَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فِي الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ، وَتَكُونُ صِفَتُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ يَكُونُ هَذَا الْإِخْبَارُ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ مُجْمَلًا عِنْدَ الْعَوَامِّ، وَأَمَّا عِنْدَ الْخَوَاصِّ فَقَدْ يَصِيرُ جَلِيًّا بِوَاسِطَةِ الْقَرَائِنِ، وَقَدْ يَبْقَى خَفِيًّا عَلَيْهِمْ أَيْضًا لَا يَعْرِفُونَ مِصْدَاقَهُ إِلَّا بَعْدَ ادِّعَاءِ النَّبِيِّ اللَّاحِقِ أَنَّ النَّبِيَّ الْمُتَقَدَّمَ أَخْبَرَ عَنِّي، وَظُهُورُ مُصَدِّقِ ادِّعَائِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَعَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَبَعْدَ الِادِّعَاءِ وَظُهُورِ صِدْقِهِ يَصِيرُ جَلِيًّا عِنْدَهُمْ بِلَا رَيْبٍ؛ وَلِذَلِكَ يُعَاتَبُونَ كَمَا عَاتَبَ الْمَسِيحُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عُلَمَاءَ الْيَهُودِ بِقَوْلِهِ: (٥٢ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ لِأَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ مِفْتَاحَ الْمَعْرِفَةِ، مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ، وَالدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ) كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْبَابِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا، وَعَلَى مَذَاقِ الْمَسِيحِيِّينَ قَدْ يَبْقَى خَفِيًّا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنِ الْعُلَمَاءِ، بَلْ قَدْ يَبْقَى خَفِيًّا عَلَى النَّبِيِّ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى زَعْمِهِمْ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا ١٩ (وَهَذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا حِينَ أَرْسَلَ الْيَهُودُ مِنْ أُورْشَلِيمَ كَهَنَةً وَلَاوِيِّينَ، لِيَسْأَلُوهُ: مَنْ أَنْتَ؟ ٢٠ (فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ وَأَقَرَّ إِنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحُ) ٢١ (فَسَأَلُوهُ: إِذًا مَاذَا أَنْتَ إِيلِيَا؟ فَقَالَ: أَنَا لَسْتُ إِيلِيَا، فَسَأَلُوهُ: أَنْتَ النَّبِيُّ؟) فَأَجَابَ: لَا) ٢٢ فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ لِنُعْطِيَ جَوَابًا لِلَّذِينِ أَرْسَلُونَا مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟) ٢٣ (قَالَ أَنَا صَوْتٌ صَارِخٌ فِي الْبَرِّيَّةِ قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ، كَمَا قَالَ أَشْعِيَا النَّبِيُّ) ٢٤ (وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ مِنَ الْفِرِيسِيِّينَ) ٢٥ (فَسَأَلُوهُ وَقَالُوا لَهُ: فَمَا بَالُكَ تُعَمَّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ وَلَا إِيلِيَا وَلَا النَّبِيَّ؟
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي لَفْظِ النَّبِيِّ الْوَاقِعِ فِي الْآيَةِ ٢١، ٢٥ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ النَّبِيُّ الْمَعْهُودُ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْبَابِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْعُلَمَاءُ الْمَسِيحِيَّةُ، فَالْكَهَنَةُ وَالْلَاوِيُّونَ كَانُوا مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَوَاقِفِينَ عَلَى كُتُبِهِمْ، وَعَرَفُوا أَيْضًا أَنَّ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَبِيٌّ لَكِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَنَّهُ الْمَسِيحُ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ إِيلِيَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوِ النَّبِيُّ الْمَعْهُودُ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ عَلَامَاتِ هَؤُلَاءِ
الْأَنْبِيَاءِ الثَّلَاثَةِ لَمْ تَكُنْ مُصَرِّحَةً فِي كُتُبِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى الِاشْتِبَاهُ لِلْخَوَاصِّ فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ فَلِذَلِكَ سَأَلُوا أَوَّلًا: أَنْتَ الْمَسِيحُ؟ فَبَعْدَمَا أَنْكَرَ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ كَوْنِهِ مَسِيحًا، سَأَلُوهُ: أَنْتَ إِيلِيَا؟ فَبَعْدَمَا أَنْكَرَ عَنْ كَوْنِهِ إِيلِيَا أَيْضًا سَأَلُوهُ: أَنْتَ النَّبِيُّ؛ أَيِ: (الْمَعْهُودُ) وَلَوْ كَانَتِ الْعَلَامَاتُ مُصَرَّحَةً لَمَا كَانَ لِلشَّكِّ مَحَلٌّ، بَلْ ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَعْرِفْ نَفْسَهُ أَنَّهُ إِيلِيَا حَتَّى أَنْكَرَ فَقَالَ: لَسْتُ أَنَا، وَقَدْ شَهِدَ عِيسَى أَنَّهُ إِيلِيَا فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى قَوْلُ (؟) عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَقِّ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَكَذَا ١٤ (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا فَهَذَا هُوَ إِيلِيَا الْمُزْمَعُ أَنْ يَأْتِيَ) وَفِي الْبَابِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا ١٠ (وَسَأَلَهُ تَلَامِيذُهُ قَائِلِينَ فَمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: إِنَّ إِيلِيَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلًا) ١١ (فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ إِيلِيَا يَأْتِي أَوَّلًا وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ) ١٢ (وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَا قَدْ جَاءَ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، بَلْ عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا، كَذَلِكَ ابْنُ الْإِنْسَانِ أَيْضًا سَوْفَ يَتَأَلَّمُ مِنْهُمْ) ١٣ (حِينَئِذٍ فَهِمَ التَّلَامِيذُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنْ يُوحَنَّا الْمَعْمِدَانِ) وَظَهَرَ مِنَ الْعِبَارَةِ الْأَخِيرَةِ أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ لَمْ يُعَرِّفُوهُ بِأَنَّهُ إِيلِيَا، وَفَعَلُوا بِهِ مَا فَعَلُوا، وَأَنَّ الْحَوَارِيِّينَ أَيْضًا لَمْ يَعْرِفُوهُ بِأَنَّهُ إِيلِيَا، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ فِي زَعْمِ الْمَسِيحِيِّينَ، وَأَعْظَمُ رُتْبَةٍ مِنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَكَانُوا اعْتَمَدُوا مِنْ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَرَأَوْهُ مِرَارًا، وَكَانَ مَجِيئُهُ ضَرُورِيًّا قَبْلَ إِلَهِهِمْ وَمَسِيحِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ ٣٣ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا قَوْلُ يَحْيَى هَكَذَا (وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لِأُعَمَّدَ بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلًا وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمَّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ) وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ) عَلَى زَعْمِ الْقِسِّيسِينَ أَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ مَعْرِفَةً جَيِّدَةً بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ إِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً مَا لَمْ يَنْزِلِ الرُّوحُ الْقُدُسُ، لَعَلَّ كَوْنَ وِلَادَةِ الْمَسِيحِ مِنَ الْعَذْرَاءِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمَسِيحِ، وَإِلَّا فَكَيْفَ
يَصِحُّ هَذَا لَكِنِّي أَقْطَعُ النَّظَرُ عَنْ هَذَا وَأَقُولُ: إِنَّ يَحْيَى أَشْرَفُ الْأَنْبِيَاءِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ بِشَهَادَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَإِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَهُهُ وَرَبُّهُ عَلَى زَعْمِ الْمَسِيحِيِّينَ، وَكَانَ مَجِيئُهُ ضَرُورِيًّا قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَكَانَ كَوْنُهُ إِيلِيَا يَقِينِيًّا، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ هَذَا النَّبِيُّ الْأَشْرَفُ نَفْسَهُ إِلَى آخِرِ الْعُمْرِ، وَلَمْ يَعْرِفْ إِلَهَهُ وَرَبَّهُ إِلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَذَا لَمْ يَعْرِفِ الْحَوَارِيُّونَ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ مُدَّةَ حَيَاةِ يَحْيَى أَنَّهُ إِيلِيَا، فَمَاذَا رَتَّبَهُ الْعُلَمَاءُ وَالْعَوَامُّ عِنْدَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ النَّبِيِّ اللَّاحِقِ بِخَبَرِ النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ عَنْهُ وَتَرَدُّدُهُمْ فِيهِ؟ وقيافا رَئِيسَ الْكَهَنَةِ كَانَ نَبِيًّا عَلَى شَهَادَةِ يُوحَنَّا، كَمَا هُوَ - مُصَرَّحٌ
بِهِ فِي الْآيَةِ الْحَادِيَةِ وَالْخَمْسِينَ مِنَ الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ، وَهُوَ أَفْتَى بِقَتْلِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكُفْرِهِ وَأَهَانَهُ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَلَوْ كَانَتْ عَلَامَاتُ الْمَسِيحِ فِي كُتُبِهِمْ مُصَرَّحَةً بِحَيْثُ لَا يَبْقَى الِاشْتِبَاهُ (فِيهَا) عَلَى أَحَدٍ، مَا كَانَ مَجَالٌ لِهَذَا النَّبِيِّ الْمُفْتِي بِقَتْلِ إِلَهَهُ، وَبِكُفْرِهِ أَنْ يُفْتِيَ بِقَتْلِهِ وَكُفْرِهِ.
وَنَقَلَ مَتَّى وَلُوقَا فِي الْبَابِ الثَّالِثِ، وَمُرْقُسُ وَيُوحَنَّا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ أَنَاجِيلِهِمْ خَبَرَ أَشْعِيَا فِي حَقِّ يَحْيَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَأَقَرَّ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ فِي حَقِّهِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ يُوحَنَّا، وَهَذَا الْخَبَرُ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْبَابِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ كِتَابِ أَشْعِيَا هَكَذَا (صَوَّتَّ الْمُنَادِي فِي الْبَرِّيَّةِ سَهِّلُوا طَرِيقَ الرَّبِّ أَصْلِحُوا فِي الْبَوَادِي سَبِيلًا لِإِلَهِنَا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَالَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِيَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا مِنْ صِفَاتِهِ، وَلَا مِنْ زَمَانِ خُرُوجِهِ وَلَا مَكَانِ خُرُوجِهِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى الِاشْتِبَاهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ ادِّعَاءُ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ فِي حَقِّهِ، وَكَذَا ادِّعَاءُ مُؤَلِّفِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ لَمَا ظَهَرَ هَذَا لِلْعُلَمَاءِ الْمَسِيحِيَّةِ وَخَوَاصَّهُمْ فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ؛ لِأَنَّ وَصْفَ النِّدَاءِ فِي الْبَرِّيَّةِ يَعُمُّ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِ أَشْعِيَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بَلْ يَصْدُقُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُنَادِي مِثْلَ نِدَاءِ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: تُوبُوا لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاءِ، وَسَيَظْهَرُ لَكَ فِي (الْأَمْرِ السَّادِسِ) حَالُ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا الْإِنْجِيلِيُّونَ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَلَا نَدَّعِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ أَخْبَرُوا عَنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِخْبَارُ كُلٍّ مِنْهُمْ بِصِفَتِهِ مُفَصَّلًا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِ مَجَالُ التَّأْوِيلِ لِلْمُعَانِدِ.
قَالَ الْإِمَامُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي ذَيْلِ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢: ٤٢) : وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: (بِالْبَاطِلِ) أَنَّهَا بَاءُ الِاسْتِعَانَةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِكَ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ، بِسَبَبِ الشُّبَهَاتِ الَّتِي تُورِدُونَهَا عَلَى السَّامِعِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ نُصُوصًا خَفِيَّةً تَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهَا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يُجَادِلُونَ فِيهَا، وَيُشَوِّشُونَ وَجْهَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُتَأَمِّلِينَ فِيهَا بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الشُّبَهَاتِ انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُ عَبْدُ الْحَكِيمِ السَّيَالَكُوتِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْبَيْضَاوِيِّ: هَذَا فَصْلٌ يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ شَرْحٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَصَوَّرَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أَتَى بِلَفْظِةٍ مُعْرَضَةٍ، وَإِشَارَةٍ مُدْرَجَةٍ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ إِلَهِيَّةٍ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَا انْفَكَّ كُتَّابٌ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ تَضَمُّنِ ذِكْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ بِإِشَارَاتٍ، وَلَوْ كَانَ مُنْجَلِيًّا لِلْعَوَامِّ لَمَّا عُوتِبَ عُلَمَاؤُهُمْ فِي كِتْمَانِهِ، ثُمَّ ازْدَادَ ذَلِكَ غُمُوضًا بِنَقْلِهِ مِنْ لِسَانٍ إِلَى لِسَانٍ مِنَ الْعِبْرَانِيِّ إِلَى السُّرْيَانِيِّ، وَمِنَ السُّرْيَانِيِّ إِلَى الْعَرَبِيِّ. وَقَدْ ذَكَرْتُ مُحَصِّلَةَ أَلْفَاظٍ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
إِذَا اعْتَبَرْتَهَا وَجَدْتَهَا دَالَّةً عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بِتَعْرِيضٍ هُوَ عِنْدَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ جَلِيٌّ، وَعِنْدَ الْعَامَّةِ خَفِيٌّ. انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ.
(الْأَمْرُ الثَّالِثُ)
ادِّعَاءُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ نَبِيًّا آخَرَ غَيْرَ الْمَسِيحِ وَإِيلِيَا ادِّعَاءٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، بَلْ كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِغَيْرِهِمَا أَيْضًا، لِمَا عَلِمْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّانِي أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ الْمُعَاصِرِينَ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَأَلُوا يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوَّلًا: أَنْتَ الْمَسِيحُ؟ وَلَمَّا أَنْكَرَ سَأَلُوهُ: أَنْتَ إِيلِيَا؟ وَلِمَا أَنْكَرَ سَأَلُوهُ: أَنْتَ النَّبِيُّ؟ أَيِ النَّبِيُّ الْمَعْهُودُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ مُوسَى، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ كَانَ مُنْتَظَرًا مِثْلَ الْمَسِيحِ وَإِيلِيَا، وَكَانَ مَشْهُورًا بِحَيْثُ مَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى ذِكْرِ الِاسْمِ بَلِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ كَانَتْ
كَافِيَةً، وَفِي الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَكَذَا ٤٠ (فَكَثِيرُونَ مِنَ الْجَمْعِ لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الْكَلَامَ قَالُوا: هَذَا بِالْحَقِيقَةِ هُوَ النَّبِيُّ) ٤١ (وَآخَرُونَ قَالُوا: هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ) وَظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ الْمَعْهُودَ عِنْدَهُمْ كَانَ غَيْرَ الْمَسِيحِ، وَلِذَلِكَ قَابَلُوهُ بِالْمَسِيحِ.
(الْأَمْرُ الرَّابِعُ) ادِّعَاءُ أَنَّ الْمَسِيحَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ بَاطِلٌ، لِمَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِلنَّبِيِّ الْمَعْهُودِ الْآخَرِ الَّذِي يَكُونُ غَيْرَ الْمَسِيحِ وَإِيلِيَا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ بِالْبُرْهَانِ مَجِيئُهُ قَبْلَ الْمَسِيحِ فَهُوَ بَعْدُهُ؛ وَلِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِنُبُوَّةِ الْحَوَارِيِّينَ وَبُولَسَ، بَلْ بِنُبُوَّةِ غَيْرِهِمْ أَيْضًا، وَفِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ هَكَذَا ٢٧ (وَفِي تِلْكَ الْأَيَّامِ انْحَدَرَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ أُورْشَلِيمَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ) ٢٨ (وَقَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ اسْمُهُ أَغَابُوسَ وَأَشَارَ بِالرُّوحِ أَنَّ جُوعًا عَظِيمًا كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَصِيرَ عَلَى جَمِيعِ الْمَسْكُونَةِ الَّذِي صَارَ فِي أَيَّامِ كَلَوِدْيُوسَ قَيْصَرَ) فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ عَلَى تَصْرِيحِ إِنْجِيلِهِمْ. وَأَخْبَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ اسْمُهُ أَغَابُوسُ عَنْ وُقُوعِ الْجَدْبِ الْعَظِيمِ، وَفِي الْبَابِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ هَكَذَا ١٠ (وَبَيْنَمَا نَحْنُ مُقِيمُونَ أَيَّامًا كَثِيرَةً انْحَدَرَ مِنَ الْيَهُودِ نَبِيٌّ اسْمُهُ أَغَابُوسُ ١١) فَجَاءَ إِلَيْنَا وَأَخَذَ مِنْطَقَةَ بُولَسَ وَرَبَطَ يَدَيْ نَفْسَهُ وَرِجْلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا يَقُولُهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ الرَّجُلُ الَّذِي لَهُ هَذِهِ الْمِنْطَقَةُ. هَكَذَا سَيَرْبُطُهُ الْيَهُودُ فِي أُورْشَلِيمَ وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى أَيْدِي الْأُمَمِ) وَفِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَيْضًا تَصْرِيحٌ بِكَوْنِ أَغَابُوسَ نَبِيًّا، وَقَدْ يَتَمَسَّكُونَ لِإِثْبَاتِ هَذَا الِادِّعَاءِ بِقَوْلِ الْمَسِيحِ الْمَنْقُولِ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (احْتَرِزُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثَبَاتِ الْحُمْلَانِ وَلَكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ) وَالتَّمَسُّكُ بِهِ عَجِيبٌ؛ لِأَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَرَ بِالِاحْتِرَازِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ لَا الْأَنْبِيَاءِ الصَّدَقَةِ أَيْضًا؛ وَلِذَلِكَ
قَيَّدَ بِالْكَذَبَةِ. نَعَمْ، لَوْ قَالَ: احْتَرِزُوا مِنْ كُلِّ نَبِيٍّ يَجِيءُ بَعْدِي، لَكَانَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ وَجْهٌ لِلتَّمَسُّكِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبَ التَّأْوِيلِ عِنْدَهُمْ لِثُبُوتِ نُبُوَّةِ الْأَشْخَاصِ الْمَذْكُورِينَ، وَقَدْ ظَهَرَ الْأَنْبِيَاءُ الْكَذَبَةُ الْكَثِيرُونَ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى بَعْدَ صُعُودِهِ، كَمَا يَظْهَرُ مِنَ الرَّسَائِلِ
الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنَ الرِّسَالَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَهْلِ فورنيثوس هَكَذَا ١٢ (وَلَكِنْ مَا أَفْعَلُهُ سَأَفْعَلُهُ لِأَقْطَعَ فُرْصَةَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ فُرْصَةً كَيْ يُوجَدُوا كَمَا نَحْنُ أَيْضًا فِيمَا يَفْتَخِرُونَ بِهِ) ١٣ (لِأَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ رُسُلٌ كَذَبَةٌ فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ، مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ الْمَسِيحِ) فَمُقَدِّسُهُمْ يُنَادِي بِأَعْلَى نِدَاءٍ أَنَّ الرُّسُلَ الْكَذَبَةَ الْغَدَّارِينَ ظَهَرُوا فِي عَهْدِهِ وَقَدْ تَشَبَّهُوا بِرُسُلِ الْمَسِيحِ.
وَقَالَ آدمُ كلارك الْمُفَسِّرُ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ (هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصُ كَانُوا يَدَّعُونَ كَذِبًا أَنَّهُمْ رُسُلُ الْمَسِيحِ، وَمَا كَانُوا رُسُلَ الْمَسِيحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَانُوا يَعِظُونَ وَيَجْتَهِدُونَ لَكِنْ مَقْصُودَهُمْ مَا كَانَ إِلَّا جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ) وَفِي الْبَابِ الرَّابِعِ مِنَ الرِّسَالَةِ الْأُولَى لِيُوحَنَّا هَكَذَا (أَيُّهَا الْأَحْبَابُ لَا تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ بَلِ امْتَحِنُوا الْأَرْوَاحَ هَلْ هِيَ مِنَ اللهِ؟ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْكَذَبَةَ كَثِيرُونَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى الْعَالِمِ) فَظَهَرَ مِنَ الْعِبَارَتَيْنِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْكَذَبَةَ قَدْ ظَهَرُوا فِي عَهْدِ الْحَوَارِيِّينَ. وَفِي الْبَابِ الثَّامِنِ مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ هَكَذَا ٩ (وَكَانَ قُبُلًا فِي الْمَدِينَةِ رَجُلٌ اسْمُهُ سِيمُونُ يَسْتَعْمِلُ السِّحْرَ وَيُدْهِشُ شَعْبَ السَّامِرَةِ قَائِلًا إِنَّهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ) ١٠ (وَكَانَ الْجَمِيعُ يَتَّبِعُونَهُ مِنَ الصَّغِيرِ إِلَى الْكَبِيرِ قَائِلِينَ: هَذَا هُوَ قُوَّةُ اللهِ الْعَظِيمَةِ) وَفِي الْبَابِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ هَكَذَا (وَلَمَّا اجْتَازَا الْجَزِيرَةَ إِلَى بَاقُوسَ وَجَدَا رَجُلًا سَاحِرًا نَبِيًّا كَذَّابًا يَهُودِيًّا اسْمُهُ باريشوع) وَكَذَا سَيَظْهَرُ الدَّجَّالُونَ الْكَذَّابُونَ يَدَّعِي كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ الْمَسِيحُ، كَمَا أَخْبَرَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (وَقَالَ: لَا يُضِلُّكُمْ أَحَدٌ فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ الْمَسِيحُ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ) كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى. فَمَقْصُودُ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - التَّحْذِيرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ وَالْمُسَحَاءِ الْكَذَبَةِ لَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الصَّادِقِينَ أَيْضًا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ (مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا) وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الصَّادِقِينَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ ثِمَارُهُ عَلَى مَا عَرَفْتُ فِي الْمَسَالِكِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا اعْتِبَارَ لِمَطَاعِنِ الْمُنْكِرِينَ كَمَا سَتَعْرِفُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي؛ وَلِأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْيَهُودَ يُنْكِرُونَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَيُكَذِّبُونَهُ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ رَجُلٌ أَشَرُّ مِنْهُ مِنِ ابْتِدَاءِ الْعَالَمِ إِلَى
زَمَانِ خُرُوجِهِ، وَكَذَا أُلُوفٌ مِنَ الْحُكَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَبْنَاءِ صِنْفِ الْقِسِّيسِينَ وَكَانُوا مَسِيحِيِّينَ ثُمَّ خَرَجُوا عَنْ هَذِهِ الْمِلَّةِ لِاسْتِقْبَاحِهِمْ إِيَّاهَا يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَبِمِلَّتِهِ وَأَلَّفُوا رَسَائِلَ كَثِيرَةً لِإِثْبَاتِ آرَائِهِمْ وَاشْتَهَرَتْ هَذِهِ الرَّسَائِلُ فِي أَكْنَافِ الْعَالَمِ وَيَزِيدُ مُتَّبِعُوهُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي دِيَارِ أُورُبَّا، فَكَمَا أَنَّ إِنْكَارَ الْيَهُودِ هَؤُلَاءِ الْحُكَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا، فَكَذَا إِنْكَارُ أَهْلِ التَّثْلِيثِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا.
(الْأَمْرُ الْخَامِسُ) الْإِخْبَارَاتُ الَّتِي نَقَلَهَا الْمَسِيحِيُّونَ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا تَصْدُقُ عَلَيْهِ عَلَى تَفَاسِيرِ الْيَهُودِ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ هُمْ يُنْكِرُونَهُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَالْعُلَمَاءُ الْمَسِيحِيَّةُ لَا يَلْتَفِتُونَ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى تَفَاسِيرِهِمْ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ، وَيُفَسِّرُونَهَا وَيُؤَوِّلُونَهَا بِحَيْثُ تَصْدُقُ فِي زَعْمِهِمْ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (وَنَقَلَ هُنَا عِبَارَةً عَنْ مِيزَانِ الْحَقِّ بِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ قَالَ) : كَمَا أَنَّ تَأْوِيلَاتِ الْيَهُودِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ مَرْدُودَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَغَيْرُ لَائِقَةٍ عِنْدَ الْمَسِيحِيِّينَ، كَذَلِكَ تَأْوِيلَاتُ الْمَسِيحِيِّينَ فِي الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي هِيَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْدُودَةٌ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَنَا، وَسَتَرَى أَنَّ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي نَنْقُلُهَا فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَظْهَرُ صِدْقًا مِنَ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا الْإِنْجِيلِيُّونَ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلَا بَأْسَ عَلَيْنَا إِنْ لَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى تَأْوِيلَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْيَهُودَ ادَّعَوْا فِي حَقِّ بَعْضِ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي هِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، أَوَلَيْسَتْ فِي حَقِّ أَحَدٍ، وَالْمَسِيحِيُّونَ يَدَّعُونَ أَنَّهَا فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَا يُبَالُونَ بِمُخَالَفَتِهِمْ، فَكَذَا نَحْنُ لَا نُبَالِي بِمُخَالَفَةِ الْمَسِيحِيِّينَ فِي حَقِّ بَعْضِ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي هِيَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ قَالُوا إِنَّهَا فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَسَتَرَى أَيْضًا أَنَّ صِدْقَهَا فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْيَقُ مِنْ صِدْقِهَا فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَادِّعَاؤُنَا أَحَقُّ مِنِ ادِّعَائِهِمْ.
(الْأَمْرُ السَّادِسُ)
مُؤَلِّفُو الْعَهْدِ الْجَدِيدِ بِاعْتِقَادِ الْمَسِيحِيِّينَ ذَوُو إِلْهَامٍ، وَقَدْ نَقَلُوا الْإِخْبَارَاتِ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَيَكُونُ هَذَا النَّقْلُ عَلَى زَعْمِهِمْ بِالْإِلْهَامِ، فَأَذْكُرُ نُبَذًا مِنْهَا بِطَرِيقِ الْأُنْمُوذَجِ؛ لِيَقِيسَ الْمُخَاطَبُ حَالَ هَذِهِ الْإِخْبَارَاتِ بِالْإِخْبَارَاتِ الَّتِي أَنْقُلُهَا فِي هَذَا الْمَسْلَكِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ سَلَكَ أَحَدٌ مِنَ الْقِسِّيسِينَ مَسْلَكَ الِاعْتِسَافِ، وَتَصَدَّى لِتَأْوِيلِ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي أَنْقُلُهَا فِي هَذَا الْمَسْلَكِ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَجِّهَ أَوَّلًا الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا مُؤَلِّفُو الْعَهْدِ الْجَدِيدِ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِيَظْهَرَ لِلْمُنْصِفِ اللَّبِيبِ حَالَ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا الْجَانِبَانِ، وَيُقَابِلُهُمَا بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَإِنْ غَمُضَ النَّظَرُ فِي تَوْجِيهِ الْإِخْبَارَاتِ الْعِيسَوَيِّةِ الَّتِي نَقَلَهَا الْمُؤَلِّفُونَ الْمَذْكُورُونَ، وَأَوَّلُ الْإِخْبَارَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّتِي أَنْقُلُهَا فِي هَذَا الْمَسْلَكِ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى عَجْزِهِ وَتَعَصُّبِهِ؛ لِأَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّانِي وَالْخَامِسِ أَنَّ
الْمُعَانِدَ لَهُ مَجَالٌ وَاسِعٌ لِلتَّأْوِيلِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْإِخْبَارَاتِ، وَإِنَّمَا اكْتَفَيْتُ عَلَى نُبُذٍ مِمَّا نَقَلَهُ مُؤَلِّفُو الْعَهْدِ الْجَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْبَعْضَ مِنْهَا غَلَطٌ يَقِينًا، وَالْبَعْضَ مِنْهَا مُحَرَّفٌ، وَالْبَعْضَ مِنْهَا لَا يَصْدُقُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَّا بِالِادِّعَاءِ الْبَحْتِ وَالتَّحَكُّمِ الصَّرْفِ، ظَهَرَ أَنَّ حَالَ الْإِخْبَارَاتِ الْأُخَرِ الَّتِي نَقَلَهَا الْمَسِيحِيُّونَ الَّذِينَ لَيْسُوا ذَوِي إِلْهَامٍ وَوَحْيٍ يَكُونُ أَسْوَأَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى نَقْلِهَا.
(الْخَبَرُ الْأَوَّلُ) مَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى؟ وَقَدْ عَرَفْتَ فِي بَيَانِ الْغَلَطِ الْخَمْسِينَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ غَلَطٌ عَلَى أَنَّ كَوْنَ
مَرْيَمَ عَذْرَاءَ
وَقْتَ الْحَبْلِ غَيْرَ مُسَلَّمٍ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالْمُنْكِرِينَ، وَلَا يَتِمُّ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ وِلَادَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ فِي نِكَاحِ يُوسُفِ النَّجَّارِ عَلَى تَصْرِيحِ الْإِنْجِيلِ، وَالْيَهُودُ الْمُعَاصِرُونَ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُونَ: إِنَّهُ وَلَدُ يُوسُفِ النَّجَّارِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْآيَةِ ٥٥ مِنَ الْبَابِ ١٣ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَالْآيَةُ ٤٥ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَالْآيَةُ ٤٢ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، وَإِلَى الْآنِ يَقُولُونَ هَكَذَا، بَلْ أَشْنَعَ مِنْهُ. وَالْعَلَامَةُ الْأُخْرَى الْمُخْتَصَّةُ بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ.
(الْخَبَرُ الثَّانِي) مَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى؟ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنْ كِتَابِ مِيخَا، وَلَا تُطَابِقُ عِبَارَةُ مَتَّى عِبَارَةَ مِيخَا، فَإِحْدَاهُمَا مُحَرَّفَةٌ، وَقَدْ عَرَفْتَ فِي الشَّاهِدِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمَقْصِدِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي أَنَّ مُحَقِّقِيهِمُ اخْتَارُوا تَحْرِيفَ عِبَارَةِ مِيخَا؛ لَكِنِ ادَّعَوْا أَنَّ هَذَا لِأَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْإِنْجِيلِ فَقَطْ وَ (هُوَ) عِنْدَ الْمُخَالِفِ بَاطِلٌ.
(الْخَبَرُ الثَّالِثُ) مَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الْمَذْكُورِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى؟
(الْخَبَرُ الرَّابِعُ) مَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي الْآيَةِ ١٧، ١٨ مِنَ الْبَابِ الْمَذْكُورِ؟ (١، ٢)
(الْخَبَرُ الْخَامِسُ) مَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ الْمَذْكُورِ؟ وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الثَّلَاثَةُ غَلَطٌ، كَمَا عَرَفْتَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ.
(الْخَبَرُ السَّادِسُ) الْآيَةُ التَّاسِعَةُ مِنَ الْبَابِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَقَدْ عَرَفْتَ فِي الشَّاهِدِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمَقْصِدِ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الثَّانِي أَنَّهُ غَلَطٌ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَالَ يُوجَدُ فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ كِتَابِ زَكَرِيَّا، وَلَا مُنَاسِبَةَ لَهُ بِالْقِصَّةِ الَّتِي نَقَلَهَا مَتَّى؛ لِأَنَّ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ مَا ذَكَرَ اسْمَيْ عَصَوَيْنِ وَرَعْيِ قَطِيعٍ (فَإِنَّهُ) يَقُولُ هَكَذَا - تَرْجَمَةٌ عَرَبِيَّةٌ سَنَةَ ١٨٤٤ - (١٢ وَقُلْتُ لَهُمْ، إِنْ حَسُنَ فِي أَعْيُنِكُمْ فَهَاتُوا أَجْرِي وَإِلَّا فَكُفُّوا، فَوَزَنُوا أَجْرِي ثَلَاثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ) ١٣ (وَقَالَ لِيَ الرَّبُّ أَلْقِهَا إِلَى صُنَّاعِ التَّمَاثِيلِ ثَمَنًا كَرِيمًا ثَمِّنُونِي بِهِ، فَأَخَذْتُ الثَّلَاثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ
أَلْقَيْتُهَا فِي بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى صُنَّاعِ التَّمَاثِيلِ) فَظَاهِرُ كَلَامِ زَكَرِيَّا أَنَّهُ بَيَانُ حَالٍ لَا إِخْبَارٌ عَنِ الْحَادِثَةِ الْآتِيَةِ، وَأَنْ يَكُونَ آخِذُ الدَّرَاهِمِ مِنَ الصَّالِحِينَ مِثْلَ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لَا مِنَ الْكَافِرِينَ مِثْلَ يَهُوذَا.
(الْخَبَرُ السَّابِعُ) مَا نَقَلَهُ بُولِسُ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنَ الرِّسَالَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ حَالَهُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ أَنَّهُ غَلَطٌ لَا يَصْدُقُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
(وَالْخَبَرُ الثَّامِنُ) الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ مِنَ الْبَابِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ سَأَفْتَحُ بِأَمْثَالِ فَمِي وَأَنْطِقُ بَمَكْتُوبَاتٍ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ) وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الزَّبُورِ الثَّامِنِ وَالسَّبْعِينَ، لَكِنَّهُ ادِّعَاءٌ مَحْضٌ وَتَحَكُّمٌ بَحْتٌ؛ لِأَنَّ عِبَارَةَ هَذَا الزَّبُورِ هَكَذَا (٢ أَفْتَحُ بِالْأَمْثَالِ فَمِي وَأَنْطِقُ بِالَّذِي كَانَ قَدِيمًا ٣ كُلُّ مَا سَمِعْنَاهُ وَعَرَفْنَاهُ وَآبَاؤُنَا أَخْبَرُونَا ٤ وَلَمْ يُخْفُوهُ عَنْ أَوْلَادِهِمْ إِلَى الْجِيلِ الْآخَرِ إِذْ يُخْبِرُونَ بِتَسَابِيحِ الرَّبِّ وَقُوَّاتِهِ وَعَجَائِبِهِ الَّتِي صَنَعَ ٥ إِذْ أَقَامَ الشَّهَادَةَ فِي يَعْقُوبَ وَوَضَعَ النَّامُوسَ
فِي إِسْرَائِيلَ كُلَّ الَّذِي أَوْصَى آبَاؤُنَا لِيَعْرِفُوا بِهِ أَبْنَاءَهُمْ ٦ لِكَيْ مَا يَعْلَمُ الْجِيلُ الْآخَرُ بَيْنَهُمُ الْمَوْلُودِينَ ٧ فَيَقُومُونَ أَيْضًا وَيُخْبِرُونَ بِهِ أَبْنَاءَهُمْ ٨ لِكَيْ يَجْعَلُوا اتِّكَالَهُمْ عَلَى اللهِ، وَلَا يَنْسَوْا أَعْمَالَ اللهِ وَيَلْتَمِسُوا وَصَايَاهُ ٩ لِئَلَّا يَكُونُوا مِثْلَ آبَائِهِمُ الْجِيلِ الْأَعْرَجِ الْمُتَمَرِّدِ الَّذِي لَمْ يَسْتَقِمْ قَلْبُهُ وَلَا آمَنَتْ بِاللهِ رُوحُهُ).
وَهَذِهِ الْآيَاتُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُرِيدُ نَفْسَهُ، وَلِذَا عَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَيَرْوِي الْحَالَاتِ الَّتِي سَمِعَهَا مِنَ الْآبَاءِ لِيُبْلِّغَهَا إِلَى الْأَبْنَاءِ عَلَى حَسَبِ عَهْدِ اللهِ، لِتَبْقَى الرِّوَايَةُ مَحْفُوظَةً، وَبَيَّنَ مَنِ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ إِلَى الْخَامِسَةِ وَالسِّتِّينَ حَالَ إِنْعَامَاتِ اللهِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَشَرَارَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا لَحِقَهُمْ بِسَبَبِهَا، ثُمَّ قَالَ (٦٦ وَاسْتَيْقَظَ الرَّبُّ كَالنَّائِمِ مِثْلَ الْجَبَّارِ الْمُفِيقِ مِنَ الْخَمْرِ ٦٧ فَضَرَبَ أَعْدَاءَهُ فِي الْوَرَاءِ وَجَعَلَهُمْ عَارًا إِلَى الدَّهْرِ ٦٨ وَأَبْعَدَ مَحَلَّهُ يُوسُفَ
وَلَمْ يُخْبِرْ سِبْطَ أَفَرَامَ ٦٩ بَلِ اخْتَارَ سِبْطَ يَهُوذَا لِجَبَلِ صَهْيُونَ الَّذِي أَحَبَّ ٧٠ وَبَنَى مِثْلِ وَحِيدِ الْقَرْنِ قَدَّسَهُ وَأَسَّسَهُ فِي الْأَرْضِ إِلَى الْأَبَدِ ٧١ وَاخْتَارَ دَاوُدُ عَبْدَهُ وَأَخَذَهُ مِنْ مَرَاعِي الْغَنَمِ ٧٢ وَمِنْ خَلْفِ الْمُرْضِعَاتِ أَخَذَهُ لِيَرْعَى يَعْقُوبُ عَبْدَهُ وَإِسْرَائِيلُ مِيرَاثَهُ ٧٣ فَرَعَاهُمْ بِدَعَةً قَبْلَهُ وَيَفْهَمُ يَدَيْهِ أَهْدَاهُمْ).
وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْأَخِيرَةُ أَيْضًا دَالَّةٌ صَرَاحَةً عَلَى أَنَّهُ هَذَا الزَّبُورُ فِي حَقِّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلَا عَلَاقَةَ لِهَذَا بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
(الْخَبَرُ التَّاسِعُ) فِي الْبَابِ الرَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (١٤ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِأَشْعِيَا النَّبِيِّ الْقَائِلِ ١٥ أَرْضَ زَبْلُونَ وَأَرْضَ نِفْتَالِيمَ طَرِيقُ الْبَحْرِ عَبْرَ الْأُرْدُنِّ جَلِيلِ الْأُمَمِ ١٦ الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلَالِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ) وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْآيَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مِنَ الْبَابِ التَّاسِعِ مِنْ كِتَابِ أَشْعِيَا وَعِبَارَتِهِ هَكَذَا (١ - فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ اسْتَخَفَّتْ أَرْضُ زَبْلُونَ وَأَرْضَ نِفْتَالِي، وَفِي الْآخَرِ تَثَقَّلْتَ طَرِيقَ الْبَحْرِ عَبْرَ الْأُرْدُنِّ جَلِيلِ الْأُمَمِ ٢ الشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ رَأَى نُورًا عَظِيمًا السَّاكِنُونَ فِي بِلَادِ ظِلَالِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ) وَفَرَّقَ مَا بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ فَإِحْدَاهُمَا مُحَرَّفَةٌ، وَمَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذَا، لَا دَلَالَةَ لِكَلَامِ أَشْعِيَا عَلَى ظُهُورِ شَخْصٍ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ أَشْعِيَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُخْبِرُ أَنَّ حَالَ سُكَّانِ أَرْضِ زَبْلُونَ وَنَفْتَالِي كَانَ سَقِيمًا فِي سَالِفِ الزَّمَانِ ثُمَّ صَارَ حَسَنًا، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيَغُ الْمَاضِي أَعْنِي: اسْتَخَفَّتْ، وَتَثَقَّلَتْ، وَرَأَى وَأَشْرَقَ، وَإِنْ عَدَلْنَا عَنِ الظَّاهِرِ وَحَمَلْنَاهَا عَلَى الْمَجَازِ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ وَقُلْنَا: إِنَّ رُؤْيَةَ النُّورِ وَإِشْرَاقَهُ عَلَيْهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ مُرُورِ الصُّلَحَاءِ بِأَرْضِهِمْ، فَادِّعَاءُ أَنَّ مِصْدَاقَ هَذَا الْخَبَرِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَطْ تَحَكُّمٌ صِرْفٌ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ مَرَّ بِتِلْكَ الْأَرْضِ وَلَا سِيَّمَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوْلِيَاءَ أُمَّتِهِ أَيْضًا الَّذِينَ زَالَتْ ظُلْمَةُ الْكَفْرِ وَالتَّثْلِيثِ مِنْ هَذِهِ الدِّيَارِ بِسَبَبِهِمْ، وَظَهَرَ نُورُ التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ
الْمَسِيحِ كَمَا يَنْبَغِي. وَأَكْتَفِي خَوْفًا مِنَ التَّطْوِيلِ عَلَى (؟) هَذَا الْقَدْرِ. وَنَقَلْتُ الْأَخْبَارَ الْأُخَرَ أَيْضًا فِي (إِزَالَةِ الْأَوْهَامِ) وَغَيْرِهِ مِنْ مُؤَلِّفَاتِي وَبَيَّنْتُ وُجُوهَ ضَعْفِهَا.
(الْأَمْرُ السَّابِعُ)
إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ سَلَفًا وَخَلَفًا عَادَتُهُمْ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُمْ يُتَرْجِمُونَ غَالِبًا الْأَسْمَاءَ فِي تَرَاجِمِهِمْ، وَيُورِدُونَ بَدَلَهَا مَعَانِيهَا، وَهَذَا خَبْطٌ عَظِيمٌ وَمَنْشَأٌ لِلْفَسَادِ، وَأَنَّهُمْ يَزِيدُونَ تَارَةً شَيْئًا بِطَرِيقِ التَّفْسِيرِ فِي الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللهِ فِي زَعْمِهِمْ، وَلَا يُشِيرُونَ إِلَى الِامْتِيَازِ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ بِمَنْزِلَةِ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ عِنْدَهُمْ، وَمَنْ تَأْمَّلَ فِي تَرَاجِمِهِمُ الْمُتَدَاوَلَةِ بِأَلْسِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَجَدَ شَوَاهِدَ تِلْكَ الْأُمُورِ كَثِيرَةً، وَأَنَا أُورِدُ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْأُنْمُوذَجِ بَعْضًا مِنْهَا.
١ - فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٦٢٥ وَسَنَةَ ١٨٣١ هَكَذَا (لِذَلِكَ دَعَتِ اسْمُ تِلْكَ الْبِيرِ بِيرِ الْحَيِّ النَّاظِرْنِيِّ) فَتَرْجَمُوا اسْمَ الْبِئْرِ الَّذِي كَانَ فِي الْعِبْرَانِيِّ بِالْعَرَبِيِّ.
٢ - وَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ (هَكَذَا سَمَّى إِبْرَاهِيمُ اسْمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَكَانٌ يَرْحَمُ اللهُ زَائِرَهُ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٤٤ (دَعَا إِبْرَاهِيمُ اسْمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الرَّبَّ يَرَى) فَتَرْجَمَ الْمُتَرْجِمُ الْأَوَّلُ الِاسْمَ الْعِبْرَانِيِّ بِمَكَانٍ يَرْحَمُ اللهُ زَائِرَهُ) وَالْمُتَرْجِمُ الثَّانِي بِالرَّبِّ يَرَى.
٣ - وَفِي الْآيَةِ الْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٦٥٢ وَفِي سَنَةِ ١٨٤٤ هَكَذَا (فَكَتَمَ يَعْقُوبُ أَمْرَهُ عَنْ حَمْيِهِ) وَفِي تَرْجَمَةِ أُرْدُو (التَّرْجَمَةُ الْأُورْدِيِّةِ) الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٢٥ لَفْظُ لَابَانِ مَوْضِعُ حَمِيهِ، فَوَضَعَ مُتَرْجِمُو الْعَرَبِيَّةِ لَفْظَ الْحَمْيِ مَوْضِعَ الِاسْمِ.
٤ - وَفِي الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْبَابِ التَّاسِعِ وَالْأَرْبَعِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٦٢٥ وَسَنَةَ ١٨٤٤ (فَلَا يَزُولُ الْقَضِيبُ مِنْ يَهُوذَا وَالْمُدَبِّرُ
مِنْ فَخْذِهِ حَتَّى يَجِيءَ الَّذِي لَهُ الْكُلُّ وَإِيَّاهُ تَنْتِظَرُ الْأُمَمُ) فَقَوْلُهُ: (الَّذِي لَهُ الْكُلُّ) تَرْجَمَةُ لَفْظِ " شيلوه " وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ مُوَافَقَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ الْيُونَانِيَّةِ، وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ فَلَا يَزُولُ الْقَضِيبُ مِنْ يَهُوذَا وَالرَّسْمُ مِنْ تَحْتِ أَمْرِهِ إِلَى أَنْ يَجِيءَ الَّذِي هُوَ لَهُ، وَإِلَيْهِ يَجْتَمِعُ الشُّعُوبُ (وَهَذَا الْمُتَرْجِمُ تَرْجَمَ لَفْظَ شيلوه (بِالَّذِي هُوَ لَهُ) وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ مُوَافِقَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ السُّرْيَانِيَّةِ، وَتَرْجَمَ هَذَا اللَّفْظَ مُحَقِّقُهُمُ الْمَشْهُورُ ليكرك بِعَاقِبَتِهِ، وَفِي تَرْجَمَةِ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٢٥ وَقَعَ
لَفْظُ شيلَا، وَفِي التَّرْجَمَةِ اللَّاتِينِيَّةِ وَلتكيت (الَّذِي سَيُرْسِلُ) فَالْمُتَرْجِمُونَ تَرْجَمُوا لَفْظَ شيلوه بِمَا ظَهَرَ وَتَرَجَّحَ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا اللَّفْظُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ لِلشَّخْصِ الْمُبَشَّرِ بِهِ.
٥ - وَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٦٢٥ وَسَنَةَ ١٨٤٤ (فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: أهيه أشراهيه) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ (قَالَ لَهُ الْأَزَلِيَّ الَّذِي لَا يَزَالُ) فَلَفْظُ أهيه أشراهيه كَانَ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الذَّاتِ، فَتَرْجَمَهُ الْمُتَرْجِمُ الثَّانِي بِالْأَزَلِيِّ الَّذِي لَا يَزَالُ.
٦ - وَفِي الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٦٢٥ وَسَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (تَبْقَى فِي النَّهْرِ فَقَطْ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ هَكَذَا (تَبْقَى فِي النِّيلِ فَقَطْ).
٧ - وَفِي الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٦٢٥ وَسَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (فَابْتَنَى مُوسَى مَذْبَحًا وَدَعَا اسْمُهُ الرَّبُّ عَظَمَتِي) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ (وَبَنَى مَذْبَحًا وَسَمَّاهُ اللهُ عِلْمِي) وَتَرْجَمَةُ أُرْدُو مُوَافِقَةٌ لِهَذِهِ الْأَخِيرَةِ فَأَقُولُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الِاخْتِلَافِ إِنَّ الْمُتَرْجِمِينَ تَرْجَمُوا الِاسْمَ الْعِبْرَانِيَّ.
٨ - وَفِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ الثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي التَّرْجَمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ هَكَذَا (مِنْ مَيْعَةٍ فَائِقَةٍ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ (مِنَ الْمِسْكِ الْخَالِصِ) وَبَيْنَ الْمَيْعَةِ وَالْمِسْكِ فَرْقُ مَا فَسَّرُوا الِاسْمَ الْعِبْرَانِيَّ
بِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُمْ.
٩ - وَفِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْبَابِ الرَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ (أَيِ: التَّثْنِيَةِ) فِي التَّرْجَمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ هُنَاكَ (فَمَاتَ هُنَاكَ مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ (وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ هَكَذَا (فَمَاتَ هُنَاكَ مُوسَى رَسُولُ اللهِ) فَهَؤُلَاءِ الْمُتَرْجِمُونَ لَوْ بَدَّلُوا فِي الْبِشَارَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لَفْظَ رَسُولِ اللهِ بِلَفْظٍ آخَرَ فَلَا اسْتِبْعَادَ مِنْهُمْ.
١٠، ١١ تَرَكْنَا الشَّاهِدَيْنِ لِلِاخْتِصَارِ.
١٢ - وَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ وَسَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (فَإِنْ أَرَدْتُمْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ إِيلِيَا الْمُزْمَعُ أَنْ يَأْتِيَ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ (فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوهُ فَهَذَا هُوَ الْمُزْمَعُ بِالْإِتْيَانِ)
فَالْمُتَرْجِمُ الْأَخِيرُ بَدَّلَ لَفْظَ إِيلِيَا بِهَذَا، فَأَمْثَالَ هَؤُلَاءِ لَوْ بَدَّلُوا أَسْمَاءَ مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبِشَارَةِ فَلَا عَجَبَ.
١٣ - وَفِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ الْبَابِ الرَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ وَسَنَةَ ١٨٣١ وَسَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (لَمَّا عَلِمَ يَسُوعُ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ وَسَنَةَ ١٨٦٠ (لَمَّا عَلِمَ الرَّبُّ) فَبَدَّلَ الْمُتَرْجَمَانِ الْأَخِيرَانِ لَفْظَ يَسُوعَ - الَّذِي كَانَ عِلْمُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالرَّبِّ الَّذِي هُوَ مِنَ الْأَلْفَاظِ التَّعْظِيمِيَّةِ، فَلَوْ بَدَّلُوا اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَلْفَاظِ التَّحْقِيرِيَّةِ لِأَجْلِ عَادَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ فَلَا عَجَبَ.
وَهَذِهِ الشَّوَاهِدُ تَدُلُّ عَلَى تَرْجَمَةِ الْأَسْمَاءِ وَإِيرَادِ لَفْظٍ آخَرَ بَدَلَهَا: ١ - فِي الْبَابِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلًا: ايلِي ايلِي، لِمَاذَا شَبَقْتَنِي؟ أَيْ: إِلَهَيْ إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي) وَفِي الْبَابِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مُرْقُسَ هَكَذَا (وَفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلًا الْوي الْوي لِمَاذَا شَبَقْتَنِي، الَّذِي تَفْسِيرُهُ إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي)
فَلَفْظُ: أَيْ: إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكَتْنِي فِي إِنْجِيلِ مَتَّى، وَكَذَا لَفْظُ " الَّذِي تَفْسِيرُهُ إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكَتْنِي " فِي إِنْجِيلِ مُرْقُسَ، لَيْسَا مِنْ كَلَامِ الشَّخْصِ الْمَصْلُوبِ يَقِينًا، بَلْ أَلْحَقَا بِكَلَامِهِ.
٢ - فِي الْآيَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ إِنْجِيلِ مُرْقُسَ هَكَذَا (لَقُبُهَا بِبِوَانِ رِجْسِ أَيِ: ابْنِي الرَّعْدُ) فَلَفْظُ " أَيِ: ابْنِي الرَّعْدُ " لَيْسَ مِنْ كَلَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بَلْ هُوَ إِلْحَاقِيٌّ.
٣ - فِي الْآيَةِ الْحَادِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنْ إِنْجِيلِ مُرْقُسَ هَكَذَا (وَقَالَ لَهَا طليثا قومي، الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا صَبِّيَةَ لَكِ أَقُولُ قَوْمِي) فَهَذَا التَّفْسِيرُ إِلْحَاقِيٌّ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
٤ - فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ وَالثَّلَاثِينَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ مُرْقُسَ فِي التَّرْجَمَةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ (وَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَتَأَوَّهَ وَقَالَ: افثا يَعْنِي انْفَتَحَ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ (وَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَتَنَهَّدَ وَقَالَ: افاثا، الَّذِي هُوَ انْفَتَحَ، وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (وَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَتَنَهَّدَ وَقَالَ لَهُ: انْفَتَحَ الَّذِي هُوَ انْفَتَحَ، وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٦٠ هَكَذَا (وَرَفْع نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ لَهُ: افثا أَيِ: انْفَتَحَ) وَمِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ صِحَّةُ اللَّفْظِ الْعِبْرَانِيِّ أَهْوَ افثا أَوِ افاثا أَوِ انْفَتَحَ لِأَجَلِ
اخْتِلَافِ التَّرَاجِمِ الَّتِي مَنْشَأُ اخْتِلَافِهَا عَدَمُ صِحَّةِ أَلْفَاظِ أُصُولِهَا، لَكِنَّهُ يُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ لَفْظَ أَيِ: انْفَتَحَ أَوِ الَّذِي هُوَ انْفَتَحَ إِلْحَاقِيٌّ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الْمَسِيحِيَّةُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي نَقَلْتُهَا مِنَ الشَّاهِدِ الْأَوَّلِ إِلَى هَاهُنَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَتَكَلَّمُ بِاللِّسَانِ الْعِبْرَانِيِّ الَّذِي كَانَ لِسَانَ قَوْمِهِ، وَمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْيُونَانِيِّ، وَهُوَ قَرِيبُ الْقِيَاسِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ عِبْرَانِيًّا ابْنَ عِبْرَانِيَّةٍ نَشَأَ فِي قَوْمِهِ الْعِبْرَانِيِّينَ، فَنَقْلُ أَقْوَالِهِ فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ فِي الْيُونَانِيِّ نُقِلَ بِالْمَعْنَى، وَهَذَا أَمْرٌ آخَرُ زَائِدٌ عَلَى كَوْنِ أَقْوَالِهِ مَرْوِيَّةً بِرِوَايَةِ الْآحَادِ.
٥ - فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ وَالثَّلَاثِينَ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنِ انْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (فَقَالَا لَهُ: رَبِّي الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ) فَقَوْلُهُ: الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ - إِلْحَاقِيٌّ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِمَا.
٦ - فِي الْآيَةِ الْحَادِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ مِنَ الْبَابِ الْمَذْكُورِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ وَسَنَةَ ١٨٤٤ (قَدْ وَجَدْنَا مسيا الَّذِي تَأْوِيلُهُ الْمَسِيحُ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ (مَا مَسِيحُ رَاكَّةٌ تَرْجَمَةُ آنَ كرسطوس ميباشمد يا فتيم) وَتَرْجَمَةُ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٤ تُوَافِقُ الْفَارِسِيَّةُ، فَيُعْلَمُ مِنَ التَّرْجَمَتَيْنِ الْعَرَبِيَّتَيْنِ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي قَالَهُ أندراوس هومسيا وَأَنَّ الْمَسِيحَ تَرْجَمَتُهُ، وَمِنَ التَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ وَأُرْدُو (أَيِ: التَّرْجَمَةِ الْأُورْدِيَّةِ) أَنَّ لَفْظَ الْأَصْلِ هُوَ الْمَسِيحُ وكرسطوس تَرْجَمَتُهُ، وَيُعْلَمُ مِنْ تَرْجَمَةِ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٣٩ أَنَّ لَفْظَ الْأَصْلِ خرسته، وَأَنَّ الْمَسِيحَ تَرْجَمَتُهُ، فَلَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَيُّ لَفْظٍ كَانَ الْأَصْلَ؟ أَمسيا أَمِ الْمَسِيحُ أَمْ خرسته؟ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا وَاحِدًا لَكِنْ لَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ أندراوس هُوَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَقِينًا، وَإِذَا ذُكِرَ اللَّفْظُ وَالتَّفْسِيرُ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ لَفْظِ الْأَصْلِ أَوَّلًا، ثُمَّ مِنْ ذِكْرِ تَفْسِيرِهِ، لَكِنِّي أَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْ هَذَا وَأَقُولُ: إِنَّ التَّفْسِيرَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ أَيَّامًا كَانَ إِلْحَاقِيٌّ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ أندراوس.
٧ - فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا قَوْلُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَقِّ بُطْرُسَ الْحَوَارِيِّ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ هَكَذَا (أَنْتَ تُدْعَى بِبُطْرُسَ الَّذِي تَأْوِيلُهُ الصَّخْرَةُ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ (سَتُسَمَّى أَنْتَ بِالصَّفَا الْمُفَسِّرِ بِبُطْرُسَ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ
الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ (ترابكيفاس كه تَرْجَمَةُ: آن سنك است تداخوا هند كرد). أَمْطَرَ اللهُ حِجَارَةً عَلَى تَحْقِيقِهِمْ وَتَصْحِيحِهِمْ لَا يَتَمَيَّزُ الْمُفَسِّرُ مِنْ كَلَامِهِمْ عَنِ الْمُفَسَّرِ، لَكِنِّي أَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْ هَذَا وَأَقُولُ: إِنَّ التَّفْسِيرَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَلْ هُوَ إِلْحَاقِيٌّ، وَإِذَا كَانَ حَالُ تَرَاجِمِهِمْ وَحَالُ تَحْقِيقِهِمْ فِي لَقَبِ إِلَهِهِمْ وَلَقَبِ خَلِيفَتِهِ كَمَا عَلِمْتَ فَكَيْفَ نَرْجُو مِنْهُمْ صِحَّةَ بَقَاءِ لَفْظِ مُحَمَّدٍ أَوْ أَحْمَدَ أَوْ لَقَبٍ مِنْ أَلْقَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -!.
(ثُمَّ قَالَ بَعْدَ إِيرَادِ شَوَاهِدَ أُخْرَى مَا نَصُّهُ) : فَإِذَا كَانَتْ خَصْلَةُ أَهْلِ الدِّينِ وَالدِّيَانَةِ مَا عَرَفْتَ فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِ أَهْلِ الدِّيَانَةِ؟ بَلِ الْحَقُّ أَنِ التَّحْرِيفَ الْقَصْدِيَّ بِالتَّبْدِيلِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنْ خِصَالِهِمْ كُلِّهِمْ أَجْمَعِينَ، فَبَعْضُ الْأَخْبَارِ الَّتِي نَقَلَهَا الْعُلَمَاءُ الْأَسْلَافُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، مِثْلُ الْإِمَامِ الْقُرْطُبِيِّ وَغَيْرِهِ إِذَا لَمْ تَجِدْهَا مُوَافَقَةً فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ لِلتَّرَاجِمِ الْمَشْهُورَةِ الْآنَ فَسَبَبُهُ غَالِبًا هَذَا التَّغْيِيرُ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ نَقَلُوا عَنِ التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ رَائِجَةً فِي عَهْدِهِمْ، وَبَعْدَ زَمَانِهِمْ وَقَعَ الْإِصْلَاحُ فِي تِلْكَ التَّرْجَمَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ ذَاكَ السَّبَبُ اخْتِلَافُ التَّرَاجِمِ لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ؛ لِأَنَّنَا نَرَى أَنَّ هَذِهِ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ إِلَى الْآنِ فِي تَرَاجِمِهِمْ وَرَسَائِلِهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى مِيزَانِ الْحَقِّ إِلَخْ.
(الْأَمْرُ الثَّامِنُ)
إِنَّ بُولُسَ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ أَهْلِ التَّثْلِيثِ فِي رُتْبَةِ الْحَوَارِيِّينَ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا، وَلَا نَعُدُّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، بَلْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْكَذَّابِينَ وَمُعَلِّمِي الزُّورِ وَالرُّسُلِ الْخَدَّاعِينَ الَّذِينَ ظَهَرُوا بِالْكَثْرَةِ بَعْدَ عُرُوجِ الْمَسِيحِ كَمَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ الرَّابِعِ، وَهُوَ الَّذِي خَرَّبَ الدِّينَ الْمَسِيحِيَّ، وَأَبَاحَ كُلَّ مُحَرَّمٍ لِمُعْتَقِدِيهِ، وَكَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ مُؤْذِيًا لِلطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَسِيحِيِّينَ جَهْرًا، لَكِنَّهُ لَمَّا رَأَى هَذَا الْإِيذَاءَ الْجَهْرِيَّ لَا يَنْفَعُ نَفْعًا مُعْتَدًّا بِهِ؛ دَخَلَ عَلَى سَبِيلِ النِّفَاقِ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَادَّعَى رِسَالَةَ الْمَسِيحِ، وَأَظْهَرَ الزُّهْدَ الظَّاهِرِيَّ، فَفَعَلَ فِي هَذَا الْحِجَابِ مَا فَعَلَ، وَقَبِلَهُ أَهْلُ التَّثْلِيثِ لِأَجْلِ زُهْدِهِ الظَّاهِرِيِّ، وَلِأَجْلِ إِفْرَاغِ ذِمَّتِهِمْ مِنْ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا قَبِلَ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ مِنَ الْمَسِيحَيِّينَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي " منتش " الَّذِي كَانَ زَاهِدًا مُرْتَاضًا، وَادَّعَى أَنَّهُ هُوَ الْفَارْقَلِيطُ الْمَوْعُودُ بِهِ، فَقَبِلُوهُ لِأَجْلِ زُهْدِهِ وَرِيَاضَتِهِ كَمَا سَيَجِيءُ ذِكْرُهُ فِي الْبِشَارَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ، وَرَدَّهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ سَلَفًا وَخَلَفًا.
قَالَ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ فِي حَقِّ بُولُسَ هَذَا مُجِيبًا لِبَعْضِ الْقِسِّيسِينَ فِي بَحْثِ مَسْأَلَةِ الصَّوْمِ هَكَذَا: " قُلْنَا ذَلِكَ - أَيْ: بُولُسَ - هُوَ الَّذِي أَفْسَدَ عَلَيْكُمْ أَدْيَانَكُمْ، وَأَعْمَى بَصَائِرَكُمْ وَأَذْهَانَكُمْ، ذَلِكَ هُوَ الَّذِي غَيَّرَ دِينَ الْمَسِيحِ الصَّحِيحِ، الَّذِي لَمْ تَسْمَعُوا لَهُ بِخَبَرٍ، وَلَا وَقَفْتُمْ مِنْهُ عَلَى أَثَرٍ، هُوَ الَّذِي صَرَفَكُمْ عَنِ الْقِبْلَةِ، وَحَلَّلَ لَكُمْ كُلُّ مُحَرَّمٍ كَانَ فِي الْمِلَّةِ؛ وَلِذَلِكَ كَثُرَتْ أَحْكَامُهُ عِنْدَكُمْ وَتَدَاوَلْتُمُوهَا بَيْنَكُمْ " انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ (تَخْجِيلِ مَنْ حَرَّفَ الْإِنْجِيلَ) فِي الْبَابِ التَّاسِعِ مِنْ كِتَابِهِ فِي بَيَانِ فَضَائِحِ النَّصَارَى فِي حَقِّ بُولُسَ هَذَا هَكَذَا " وَقَدْ سَلَّهُمْ بُولُسُ هَذَا مِنَ الدِّينِ بِلَطِيفِ خِدَاعِهِ؛ إِذْ رَأَى عُقُولَهُمْ قَابِلَةٌ لِكُلِّ مَا يُلْقَى إِلَيْهَا، وَقَدْ طَمَسَ هَذَا الْخَبِيثُ رُسُومَ التَّوْرَاةِ " انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ، وَهَكَذَا أَقْوَالُ عُلَمَائِنَا الْآخَرِينَ. فَكَلَامُهُ عِنْدَمَا مَرْدُودٌ وَرَسَائِلُهُ الْمُنْضَمَّةُ بِالْعَهْدِ الْعَتِيقِ
كُلُّهَا وَاجِبَةُ الرَّدِّ، وَلَا نَشْتَرِي
قَوْلَهُ بِحَبَّةِ خَرْدَلٍ، فَلَا أَنْقُلُ عَنْ أَقْوَالِهِ فِي هَذَا الْمَسْلَكِ شَيْئًا وَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَيْنَا.
وَإِذْ قَدْ عَرَفْتَ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّمَانِيَةَ أَقُولُ: إِنَّ الْأَخْبَارَ الْوَاقِعَةَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوجَدُ كَثِيرَةً إِلَى الْآنِ أَيْضًا مَعَ وُقُوعِ التَّحْرِيفَاتِ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ، وَمَنْ عَرَفَ أَوَّلًا طَرِيقَ إِخْبَارِ النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ عَنِ النَّبِيِّ الْمُتَأَخِّرِ عَلَى مَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّانِي ثُمَّ نَظَرَ ثَانِيًا بِنَظَرِ الْإِنْصَافِ إِلَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَقَابَلَهَا بِالْأَخْبَارِ الَّتِي نَقَلَهَا الْإِنْجِيلِيُّونَ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَدْ عَرَفْتَ نُبَذًا مِنْهَا فِي الْأَمْرِ السَّادِسِ - جَزَمَ بِأَنَّ الْأَخْبَارَ الْمُحَمَّدِيَّةَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، وَأَنْقُلُ فِي هَذَا الْمَسْلَكِ عَنِ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَ عُلَمَاءِ بُرُوتُسْتَنْتْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ بِشَارَةً.
(الْبِشَارَةُ الْأُولَى)
فِي الْبَابِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ (التَّثْنِيَةِ) هَكَذَا (١٧ فَقَالَ الرَّبُّ لِي نَعَمْ جَمِيعُ مَا قَالُوا ١٨ وَسَوْفَ أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِثْلَكَ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِمْ، وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ وَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ آمُرُهُ بِهِ ١٩، وَمَنْ لَمْ يُطِعْ كَلَامَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي فَأَنَا أَكُونُ الْمُنْتَقِمَ مِنْ ذَلِكَ ٢٠ فَأَنَا النَّبِيُّ الَّذِي يَجْتَرِي بِالْكِبْرِيَاءِ، وَيَتَكَلَّمُ فِي اسْمِي مَا لَمْ آمُرْهُ بِأَنْ يَقُولَهُ أَمْ بِاسْمِ آلِهَةِ غَيْرِي فَلْيَقْتُلْ ٢١ فَإِنْ أَجَبْتَ وَقُلْتَ فِي قَلْبِكَ كَيْفَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أُمَيِّزَ الْكَلَامَ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّبُّ ٢٢ فَهَذِهِ تَكُونُ لَكَ آيَةً أَنَّ مَا قَالَهُ ذَلِكَ النَّبِيُّ فِي اسْمِ الرَّبِّ وَلَمْ يَحْدُثْ فَالرَّبُّ لَمْ يَكُنْ تَكَلَّمَ بِهِ بَلْ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَوَّرَهُ فِي تَعَظُّمِ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ لَا تَخْشَاهُ.
وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ لَيْسَتْ بِشَارَةً بِيُوشَعَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا يَزْعُمُ الْآنَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَلَا بِشَارَةً بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا زَعَمَ عُلَمَاءُ بُرُوتُسْتَنْتْ بَلْ هِيَ بِشَارَةٌ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَشَرَةِ أَوْجُهٍ.
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) قَدْ عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ أَنَّ الْيَهُودَ الْمُعَاصِرِينَ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانُوا يَنْتَظِرُونَ نَبِيًّا آخَرَ مُبَشَّرًا بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَانَ هَذَا الْمُبَشِّرُ بِهِ عِنْدَهُمْ غَيْرَ الْمَسِيحِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا الْمُبَشَّرُ بِهِ يُوشَعَ وَلَا عِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -.
(وَالْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ لَفْظُ مِثْلَكَ، وَيُوشَعُ وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ - لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَا مِثْلَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُمَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ مُوسَى كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ مِنَ الْبَابِ الرَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ (التَّثْنِيَةِ) وَهِيَ هَكَذَا (١٠ وَلَمْ يَقُمْ بَعْدَ ذَلِكَ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ مُوسَى الَّذِي عَرَفَهُ الرَّبُّ وَجْهًا لِوَجْهٍ) إِلَخْ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ يُوشَعَ وَبَيْنَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَاحِبُ كِتَابٍ وَشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى أَوَامِرَ وَنَوَاهِيَ وَيُوشَعُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِشَرِيعَتِهِ، وَكَذَا لَا تُوجَدُ الْمُمَاثَلَةُ التَّامَّةُ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ إِلَهًا وَرَبًّا - عَلَى زَعْمِ النَّصَارَى - وَمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ عَبْدًا لَهُ، وَأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى زَعْمِهِمْ - صَارَ مَلْعُونًا لِشَفَاعَةِ الْخَلْقِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بُولُسُ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ غَلَاطْيَةَ وَمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا صَارَ مَلْعُونًا لِشَفَاعَتِهِمْ، وَأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَخَلَ الْجَحِيمَ بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي عَقَائِدِ أَهْلِ التَّثْلِيثِ، وَمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا دَخَلَ الْجَحِيمَ، وَأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صُلِبَ عَلَى زَعْمِ النَّصَارَى لِيَكُونَ كَفَّارَةً لِأُمَّتِهِ وَمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا صَارَ كَفَّارَةً لِأُمَّتِهِ بِالصَّلْبِ، وَأَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ وَأَحْكَامِ الْغُسْلِ وَالطِّهَارَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ بِخِلَافِ شَرِيعَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهَا فَارِغَةٌ عَنْهَا عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ هَذَا الْإِنْجِيلُ الْمُتَدَاوَلُ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ رَئِيسًا مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ نَفَّاذًا لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ لَفْظُ " مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِمْ " وَلَا شْكَّ أَنَّ الْأَسْبَاطَ الِاثْنَيْ عَشَرَ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي ذَاكَ الْوَقْتِ مَعَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَاضِرِينَ عِنْدَهُ، فَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ كَوْنَ النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ " مِنْهُمْ " لَقَالَ مِنْهُمْ لَا " مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِمْ " لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ الْحَقِيقِيَّ لِهَذَا اللَّفْظِ أَلَّا يَكُونَ الْمُبَشَّرُ بِهِ لَهُ عَلَاقَةُ الصُّلْبِيَّةِ وَالْبَطْنِيَّةِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا جَاءَ لَفْظُ الْإِخْوَةِ بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقِيِّ فِي وَعْدِ اللهِ لِهَاجَرَ فِي حَقِّ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَعِبَارَتُهَا فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (وَقِبْلَةُ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ بِنَصْبِ الْمَضَارِبِ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ هَكَذَا
(بِحَضْرَةِ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ) وَجَاءَ بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ أَيْضًا فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي حَقِّ إِسْمَاعِيلَ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (مُنْتَهَى إِخْوَتِهِ جَمِيعِهِمْ سَكَنٌ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطُبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١١ هَكَذَا (أَقَامَ بِحَضْرَةِ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ) وَالْمُرَادُ بِالْإِخْوَةِ هَاهُنَا بَنُو عِيسُو وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ هَكَذَا: (ثُمَّ أَرْسَلَ مُوسَى رُسُلًا مِنْ قَادِسَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ قَائِلًا: هَكَذَا يَقُولُ أَخُوكَ إِسْرَائِيلُ إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ كُلَّ الْبَلَاءِ الَّذِي أَصَابَنَا) وَفِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ سِفْرِ (التَّثْنِيَةِ) هَكَذَا (٣ وَقَالَ لِيَ الرَّبُّ ٤ ثُمَّ أَوْصِ الشَّعْبَ إِنَّكُمْ سَتَجُوزُونَ فِي تُخُومِ إِخْوَتِكُمْ بَنِي عِيسو الَّذِينَ فِي سَاعِيرَ وَسَيَخْشَوْنَكُمْ ٥ فَلَمَّا جُزْنَا إِخْوَتَنَا بَنِي عِيسُو الَّذِينَ يَسْكُنُونَ سَاعِيرَ إِلَخْ) وَالْمُرَادُ بِإِخْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَنُو عِيسُو، وَلَا شْكَّ أَنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ إِخْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَعْضٍ مِنْهُمْ كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنَ التَّوْرَاةِ اسْتِعْمَالٌ مَجَازِيٌّ، وَلَا تُتْرَكُ الْحَقِيقَةُ وَلَا يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مَانِعٌ قَوِيٌّ، وَيُوشَعُ وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - كَانَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ فَلَا تَصْدُقْ هَذِهِ الْبِشَارَةُ عَلَيْهِمَا.
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ) أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ لَفْظُ " سَوْفَ أُقِيمُ " وَيُوشَعُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَاخِلًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَكَيْفَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظُ!.
(الْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ لَفْظُ: " أَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ " وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّبِيَّ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَإِلَى أَنَّهُ يَكُونُ أُمِّيًّا حَافِظًا لِلْكَلَامِ، وَهَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَى يُوشَعُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِانْتِفَاءِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ فِيهِ.
(الْوَجْهُ السَّادِسُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ: وَمَنْ لَمْ يُطِعْ كَلَامَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ فَأَنَا أَكُونُ الْمُنْتَقِمَ مِنْهُ، فَهَذَا الْأَمْرُ لَمَّا ذُكِرَ لِتَعْظِيمِ هَذَا النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْتَازَ ذَلِكَ الْمُبَشَّرُ بِهِ بِهَذَا الْأَمْرِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالِانْتِقَامِ مِنَ الْمُنْكِرِ الْعَذَابُ الْأُخْرَوِيُّ الْكَائِنُ فِي جَهَنَّمَ، أَوِ الْمِحَنُ وَالْعُقُوبَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ الَّتِي تَلْحَقُ الْمُنْكِرِينَ مِنَ الْغَيْبِ؛ لِأَنَّ هَذَا الِانْتِقَامَ لَا يَخْتَصُّ بِإِنْكَارِ
نَبِيٍّ دُونَ نَبِيٍّ، بَلْ يَعُمُّ الْجَمِيعَ، فَحِينَئِذٍ يُرَادُ بِالِانْتِقَامِ الِانْتِقَامُ التَّشْرِيعِيُّ، فَظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ يَكُونُ مَأْمُورًا مِنْ جَانِبِ اللهِ بِالِانْتِقَامِ مِنْ مُنْكِرِهِ، فَلَا يَصْدُقُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ شَرِيعَتَهُ خَالِيَةٌ عَنْ أَحْكَامِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ وَالْجِهَادِ.
(الْوَجْهُ السَّابِعُ) فِي الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (١٩ فَتُوبُوا وَارْجِعُوا كَيْ تُمْحَى خَطَايَاكُمْ ٢٠ حَتَّى إِذَا تَأَتِي أَزْمِنَةُ الرَّاحَةِ مِنْ قُدَّامِ وَجْهِ الرَّبِّ وَيُرْسِلُ الْمُنَادَى بِهِ لَكُمْ وَهُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ ٢١ الَّذِي إِيَّاهُ يَنْبَغِي لِلسَّمَاءِ أَنْ تَقْبَلَهُ السَّمَاءُ إِلَى الزَّمَانِ الَّذِي يَسْتَرِدُّ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ ٢٢ إِنَّ مُوسَى قَالَ: إِنَّ الرَّبَّ إِلَهَكُمْ يُقِيمُ لَكُمْ نَبِيًّا مِنْ إِخْوَتِكُمْ مِثْلِي لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كُلِّ مَا يُكَلِّمُكُمْ بِهِ ٢٣ وَيَكُونُ كُلُّ نَفْسٍ لَا تَسْمَعُ ذَلِكَ النَّبِيَّ تَهْلَكُ مِنَ الشَّعْبِ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ...
(حَذَفْنَا النَّصَّ الْفَارِسِيَّ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِمَا يَذْكُرُهُ مِنْ مَضْمُونِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ) :
فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ سِيَّمَا بِحَسَبِ التَّرَاجِمِ الْفَارِسِيَّةِ تَدُلُّ صَرَاحَةً عَلَى أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ غَيْرَ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَنَّ الْمَسِيحَ لَا بُدَّ أَنْ تَقْبَلَهُ السَّمَاءُ إِلَى زَمَانِ ظُهُورِ هَذَا النَّبِيِّ، وَمَنْ تَرَكَ التَّعَصُّبَ الْبَاطِلَ مِنَ الْمَسِيحِيِّينَ - وَتَأَمَّلَ فِي عِبَارَةِ بُطْرُسَ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَنْ بُطْرُسَ يَكْفِي لِإِبْطَالِ ادِّعَاءِ عُلَمَاءِ بُرُوتُسْتَنْتْ أَنَّ هَذِهِ الْبِشَارَةَ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وَهَذِهِ الْوُجُوهُ السَّبْعَةُ الَّتِي ذَكَرْتُهَا تَصْدُقُ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْمَلَ صِدْقٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَيُمَاثِلُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ (١) كَوْنُهُ عَبْدَ اللهِ وَرَسُولَهُ. (٢) كَوْنُهُ ذَا وَالِدَيْنِ (٣) كَوْنُهُ ذَا نِكَاحٍ وَأَوْلَادٍ (٤) كَوْنُ شَرِيعَتِهِ مُشْتَمِلَةً عَلَى السِّيَاسَاتِ الْمَدَنِيَّةِ. (٥) كَوْنُهُ مَأْمُورًا بِالْجِهَادِ (٦) اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ وَقْتَ الْعِبَادَةِ فِي شَرِيعَتِهِ. (٧) وُجُوبُ الْغُسْلِ لِلْجُنُبِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فِي شَرِيعَتِهِ (٨) اشْتِرَاطُ طَهَارَةِ الثَّوْبِ مِنْ
الْبَوْلِ وَالْبُرَازِ فِيهَا. (٩) حُرْمَةُ غَيْرِ الْمَذْبُوحِ وَقَرَابِينِ الْأَوْثَانِ فِيهَا. (١٠) وَكَوْنُ شَرِيعَتِهِ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالرِّيَاضَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ. (١١) أَمْرُهُ بِحَدِّ الزِّنَا. (١٢) تَعْيِينُ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ وَالْقِصَاصِ (١٣) كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى تَنْفِيذِهَا. (١٤) تَحْرِيمُ الزِّنَا. (١٥) أَمْرُهُ بِإِنْكَارِ مَنْ
يَدْعُو إِلَى غَيْرِ اللهِ (١٦) أَمْرُهُ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ (١٧) أَمْرُهُ الْأُمَّةَ بِأَنْ يَقُولُوا لَهُ عَبْدَ اللهِ وَرَسُولَهُ، لَا ابْنَ اللهِ أَوِ اللهَ، وَالْعِيَاذُ بِاللهِ (١٨) مَوْتُهُ عَلَى الْفِرَاشِ. (١٩) كَوْنُهُ مَدْفُونًا كَمُوسَى (٢٠) عَدَمُ كَوْنِهِ مَلْعُونًا لِأَجْلِ أُمَّتِهِ.
وَهَكَذَا أُمُورٌ أُخَرُ تَظْهَرُ إِذَا تُؤَمِّلَ فِي شَرِيعَتِهِمَا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي كَلَامِهِ الْمَجِيدِ إِنَّا أَرْسَلَنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (٧٣: ١٥) وَكَانَ مِنْ إِخْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَكَانَ أُمِّيًّا جَعَلَ كَلَامَ اللهِ فِي فَمِهِ، وَكَانَ يَنْطِقُ بِالْوَحْيِ كَمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٥٣: ٣، ٤) وَكَانَ مَأْمُورًا بِالْجِهَادِ، وَقَدِ انْتَقَمَ اللهُ لِأَجْلِهِ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَالْأَكَاسِرَةِ وَالْقَيَاصِرَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَظَهَرَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَسِيحِ مِنَ السَّمَاءِ، وَكَانَ لِلسَّمَاءِ أَنْ تَقْبَلَ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى ظُهُورِهِ لِيَرُدَّ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى أَصْلِهِ، وَيَمْحَقَ الشِّرْكَ وَالتَّثْلِيثَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَلَا يَرْتَابُ أَحَدٌ مِنْ كَثْرَةِ أَهْلِ التَّثْلِيثِ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّ هَذَا الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ قَدْ أَخْبَرَنَا عَلَى أَتَمِّ تَفْصِيلٍ وَأَكْمَلِ وَجْهٍ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى رَيْبٌ مَا بِكَثْرَتِهِمْ وَقْتَ قُرْبِ ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَهَذَا الْوَقْتُ قَرِيبٌ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَسَيَظْهَرُ الْإِمَامُ وَيَظْهَرُ الْحَقُّ عَنْ قَرِيبٍ، وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، جَعَلْنَا اللهُ مِنْ أَنْصَارِهِ وَخُدَّامِهِ آمِينَ.
(الْوَجْهُ الثَّامِنُ) أَنَّهُ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى اللهِ مَا لَمْ يَأْمُرْهُ يُقْتَلُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا حَقًّا لَكَانَ قُتِلَ، وَقَدْ قَالَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أَيْضًا: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٦٩: ٤٤ - ٤٦) وَمَا قُتِلَ، بَلْ قَالَ اللهُ فِي حَقِّهِ: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (٥: ٦٧) وَأَوْفَى وَعْدَهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى لَقِيَ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قُتِلَ وَصُلِبَ عَلَى زَعْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْبِشَارَةُ فِي حَقِّهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا كَاذِبًا كَمَا يَزْعُمُهُ الْيَهُودُ، وَالْعِيَاذُ بِاللهِ.
(الْوَجْهُ التَّاسِعُ) أَنَّ اللهَ بَيَّنَ عَلَامَةَ النَّبِيِّ الْكَاذِبِ (وَهِيَ) أَنَّ أَخْبَارَهُ عَنِ الْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلِ لَا تَخْرُجُ صَادِقَةً، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ عَنِ الْأُمُورِ الْكَثِيرَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ كَمَا عَلِمْتَ
فِي الْمَسْلَكِ الْأَوَّلِ، وَظَهَرَ صِدْقَهُ فِيهَا فَيَكُونُ نَبِيًّا صَادِقًا لَا كَاذِبًا.
(الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ سَلَّمُوا كَوْنَهُ مُبَشَّرًا بِهِ فِي التَّوْرَاةِ لَكِنَّ بَعْضَهُمْ أَسْلَمَ، وَبَعْضُهُمْ بَقِيَ فِي الْكُفْرِ - كَمَا أَنَّ قيافا وَكَانَ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ وَنَبِيًّا عَلَى زَعْمِ يُوحَنَّا عَرَفَ أَنَّ عِيسَى هُوَ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بَلْ أَفْتَى بِكُفْرِهِ وَقَتْلِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ يُوحَنَّا فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ - كَمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ مُخَيْرِيقٍ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصِفَتِهِ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ إِلْفَةُ دِينِهِ فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ (غَزْوَةِ) أُحُدٍ، وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَاللهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّ نَصْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَقٌّ. قَالُوا: فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ؟ قَالَ: لَا سَبْتَ ثُمَّ أَخَذَ سِلَاحَهُ وَخَرَجَ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُحُدٍ، وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَعَهِدَ إِلَى مَنْ وَرَائَهُ مِنْ قَوْمِهِ: إِنْ قُتِلْتُ هَذَا الْيَوْمَ فَمَالِي لِمُحَمَّدٍ يَصْنَعُ فِيهِ مَا أَرَاهُ اللهُ - تَعَالَى -، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " مُخَيْرِيقٍ خَيْرُ يَهُودَ " وَقَبَضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْوَالَهُ، فَعَامَّةُ صَدَقَاتِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: " أَتَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْتَ الْمَدَارِسِ فَقَالَ: أَخْرِجُوا إِلَيَّ أَعْلَمَكُمْ، فَقَالُوا: عَبْدُ اللهِ بْنُ صُورِيَا فَخَلَا بِهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَاشَدَهُ بِدِينِهِ وَبِمَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَأَطْعَمَهُمْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَظَلَّلَهُمْ مِنَ الْغَمَامِ: أَتَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: اللهُمَّ نَعَمْ، وَأَنَّ الْيَهُودَ يَعْرِفُونَ مَا أَعْرِفُ، وَأَنَّ صِفَتَكَ وَنَعْتَكَ لَمُبَيَّنٌ فِي التَّوْرَاةِ وَلَكِنْ حَسَدُوكَ. قَالَ: " فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْتَ "؟ قَالَ: أَكْرَهُ خِلَافَ قَوْمِي، عَسَى أَنْ
يَتَّبِعُوكَ وَيُسْلِمُوا فَأُسْلِمُ - وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - " لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَنَزَلَ قُبَاءَ غَدَا عَلَيْهِ أَبِي حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَعَمِّي أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ مُغَلِّسَيْنِ فَلَمْ يَرْجِعَا حَتَّى كَانَ غُرُوبُ الشَّمْسِ، فَأَتَيَا كَالَّيْنِ كَسْلَانَيْنِ سَاقِطَيْنِ يَمْشِيَانِ الْهَوِينَا فَهَشَشْتُ إِلَيْهِمَا فَمَا الْتَفَتَ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمَا مَعَ مَا بِهِمَا مِنَ الْهَمِّ، فَسَمِعْتُ عَمِّي أَبَا يَاسِرٍ يَقُولُ لِأَبِي: أَهْوَ هُوَ؟ (أَيِ: الْمُبَشَّرِ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ) قَالَ: نَعَمْ وَاللهِ، قَالَ: أَتُثْبِتُهُ وَتَعْرِفُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا فِي نَفْسِكَ مِنْهُ؟ قَالَ: عَدَاوَتُهُ وَاللهِ مَا بَقِيتُ أَبَدًا " - فَتِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٍ.
(فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أُخُوَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَنْحَصِرُ فِي بَنِي إِسْمَاعِيلَ لِأَنَّ بَنِي عِيسُو وَبَنِي أَبْنَاءِ قَطُورَا زَوْجَةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - مِنْ إِخْوَتِهِمْ أَيْضًا (قُلْتُ) : نَعَمْ هَؤُلَاءِ أَيْضًا مِنْ إِخْوَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَظْهَرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَمْ يَكُنْ وَعْدُ اللهِ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا بِخِلَافِ بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّهُمْ كَانَ وَعْدُ اللهِ فِي حَقِّهِمْ لِإِبْرَاهِيمَ وَلِهَاجَرَ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِصْدَاقُ هَذَا الْخَبَرِ بَنِي عِيسُو عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى دُعَاءِ إِسْحَاقَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ.
وَلِعُلَمَاءِ بُرُوتُسْتَنْتْ اعْتِرَاضَانِ نَقَلَهُمَا صَاحِبُ الْمِيزَانِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِحَلِّ الْإِشْكَالِ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْسَارِ. (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْآيَةِ ١٥ مِنَ الْبَابِ ١٨ مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ (التَّثْنِيَةِ) هَكَذَا (فَإِنَّ الرَّبَّ إِلَهَكَ يُقِيمُ مِنْ بَيْنِكَ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِكَ) إِلَخْ. فَلَفْظُ " مِنْ بَيْنِكَ " يَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ يَكُونُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ. (وَالثَّانِي) أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَسَبَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ فِي الْآيَةِ ٤٦ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا (أَنَّ مُوسَى كَتَبَ فِي حَقِّي).
(أَقُولُ) : آيَةُ التَّثْنِيَةِ عَلَى وَفْقِ التَّرَاجِمِ الْفَارِسِيَّةِ وَتَرَاجِمِ أُرْدُو هَكَذَا (فَإِنَّ الرَّبَّ إِلَهَكَ يُقِيمُ مِنْ بَيْنِكَ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِكَ نَبِيًّا مِثْلِي فَاسْمَعْ مِنْهُ) وَالْقِسِّيسُ أَيْضًا نَقَلَهَا هَكَذَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ لَا يُنَافِي مَقْصُودَنَا؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبِهَا تَكَامَلَ أَمْرُهُ قَدْ كَانَ حَوْلَهُ بِلَادُ الْيَهُودِ كَخَيْبَرَ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَالنَّضِيرِ وَغَيْرِهِمْ فَقَدْ قَامَ مِنْ بَيْنِهِمْ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ إِخْوَتِهِمْ فَقَدْ قَامَ مِنْ بَيْنِهِمْ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ
" مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِكَ " بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ " مِنْ بَيْنِكَ " بَدَلُ اشْتِمَالٍ عَلَى رَأْيِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَمُتَّبِعِيهِ الْقَائِلِينَ بِكِفَايَةِ عَلَاقَةِ الْمُلَابَسَةِ غَيْرِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ فِي تَحَقُّقِ هَذَا الْبَدَلِ، نَحْوَ جَاءَنِي زَيْدٌ أَخُوهُ، وَجَاءَنِي زَيْدٌ غُلَامُهُ، وَبَدْلُ إِضْرَابٍ عَلَى رَأْيِ ابْنِ مَالِكٍ، وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا أَعَادَ هَذَا الْوَعْدَ مِنْ كَلَامِ اللهِ فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ لَفْظُ " مِنْ بَيْنِكَ "، وَنَقَلَ بُطْرُسُ الْحَوَارِيُّ أَيْضًا هَذَا الْقَوْلَ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ كَمَا عَلِمْتَ فِي الْوَجْهِ السَّابِعِ، وَكَذَا نَقَلَهُ استفانوس أَيْضًا وَلَمْ يُوجَدْ فِي نَقْلِهِ أَيْضًا هَذَا اللَّفْظُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ وَعِبَارَتِهِ هَكَذَا: (هَذَا هُوَ مُوسَى الَّذِي قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيًّا مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ لَهُ تَسْمَعُونَ) فَسُقُوطُهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ فَاحْتِمَالُ الْبَدَلِ قَوِيٌّ جِدًّا.
وَقَالَ صَاحِبُ الِاسْتِفْسَارِ: إِنَّ لَفْظَ مِنْ بَيْنِكَ إِلْحَاقِيٌّ زِيدَ تَحْرِيفًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: (الْأَوَّلُ) أَنَّ الْمُخَاطِبِينَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ كَانُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّهُمْ لَا الْبَعْضَ، فَقَوْلُهُ: مِنْ بَيْنِكَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْقَوْمِ، فَصَارَ لَفْظٌ مِنْ إِخْوَتِكَ لَغْوًا مَحْضًا لَا مَعْنَى لَهُ، لَكِنَّ لَفْظَ مِنْ إِخْوَتِكَ جَاءَ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ أَيْضًا، فَيَكُونُ صَحِيحًا، وَلَفْظُ مِنْ بَيْنِكَ إِلْحَاقِيًّا زِيدَ تَحْرِيفًا (الثَّانِي) أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا نَقَلَ كَلَامَ اللهِ لِإِثْبَاتِ قَوْلِهِ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَ مُوسَى مُخَالِفًا لِمَا قَالَهُ اللهُ - (وَالثَّالِثُ) أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ كُلَّمَا نَقَلُوا هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ لَفْظُ " مِنْ بَيْنِكَ ". وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْمُحَرِّفَ إِذَا حَرَّفَ فَلَمْ يُحَرِّفِ الْكَلَامَ كُلَّهُ؟ (قُلْتُ) :
نَحْنُ نَرَى فِي مَحَاكِمِ الْعَدَالَةِ دَائِمًا أَنَّ الْقَبَالَجَاتِ الْمُحَرَّفَةَ يَثْبُتُ تَحْرِيفُ الْأَلْفَاظِ الْمُحَرَّفَةِ فِيهَا مِنْ مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْهَا غَالِبًا، وَإِنَّ شُهُودَ الزُّورِ يُؤْخَذُ بِبَعْضِ بَيَانَاتِهِمْ، فَالْوَجْهُ الْوَجِيهُ عَلَى أَنَّ عَادَةَ اللهِ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ، وَبِأَنَّهُ يُظْهِرُ خِيَانَةَ خَائِنِ الدِّينِ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ، فَبِمُقْتَضَى هَذِهِ الْعَادَةِ يَصْدُرُ عَنِ الْخَائِنِ شَيْءٌ مَا تَظْهَرُ بِهِ خِيَانَتُهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا تُوجَدُ مِلَّةٌ يَكُونُ أَهْلُهَا كُلُّهُمْ خَائِنِينَ. فَالْخَائِنُونَ الَّذِينَ حَرَّفُوا كُتُبَ الْعَهْدَيْنِ كَانَ لَهُمْ لُحَّاظٌ مَا مِنْ جَانِبِ بَعْضِ الْمُتَدَيِّنِينَ فَلِذَلِكَ مَا بَدَّلُوا الْكُلَّ. انْتَهَى.
أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ السَّابِعِ. وَأَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الثَّانِي: إِنَّ آيَةَ الْإِنْجِيلِ هَكَذَا (لِأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي لِأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي) وَلَيْسَ فِيهَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَتَبَ فِي حَقِّهِ فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ بَلِ الْمَفْهُومِ مِنْهُ أَنَّ مُوسَى كَتَبَ فِي حَقِّهِ (مُطْلَقًا) وَهَذَا يَصْدُقُ إِذَا وُجِدَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، إِشَارَةً إِلَيْهِ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ هَذَا الْأَمْرَ كَمَا سَتَعْرِفُ فِي ذَيْلِ بَيَانِ الْبِشَارَةِ الثَّالِثَةِ، لَكِنَّنَا نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِشَارَةً إِلَى هَذِهِ الْبِشَارَةِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي عَرَفْتَهَا، وَقَدِ ادَّعَى هَذَا الْمُعْتَرِضُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي مِنَ الْمِيزَانِ أَنَّ الْآيَةَ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ، فَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِتَصْحِيحِ قَوْلِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، نَعَمْ لَوْ قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إِنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا أَشَارَ فِي أَسْفَارِهِ الْخَمْسَةِ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا إِلَى لَكَانَ لِهَذَا التَّوَهُّمِ مَجَالٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ.
(الْبِشَارَةُ الثَّانِيَةُ)
الْآيَةُ ٢١ مِنَ الْبَابِ ٣٢ مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ (التَّثْنِيَةِ) هَكَذَا (هُمْ أَغَارُونِي بِغَيْرِ إِلَهٍ وَأَغْضَبُونِي بِمَعْبُودَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَأَنَا أَيْضًا أُغَيِّرُهُمْ بِغَيْرِ شَعْبٍ وَبِشَعْبٍ جَاهِلٍ أُغْضِبُهُمْ) وَالْمُرَادُ بِشَعْبٍ جَاهِلٍ الْعَرَبُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَمَا كَانَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَا مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا مِنَ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ سِوَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَكَانُوا مُحَقَّرَينَ عِنْدَ الْيَهُودِ لِكَوْنِهِمْ مِنْ هَاجَرَ الْجَارِيَةِ، فَمَقْصُودُ الْآيَةِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَغَارُونِي بِعِبَادَةِ الْمَعْبُودَاتِ الْبَاطِلَةِ فَأُغَيِّرُهُمْ بِاصْطِفَاءِ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَهُمْ مُحَقَّرُونَ وَجَاهِلُونَ، فَأَوْفَى بِمَا وَعَدَ، فَبَعَثَ مِنَ الْعَرَبِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَدَاهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، كَمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٦٢: ٢) وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّعْبِ الْجَاهِلِ الْيُونَانِيِّينَ
كَمَا يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِ مُقَدِّسِهِمْ بُولُسَ فِي الْبَابِ الْعَاشِرِ مِنَ الرِّسَالَةِ الرُّومِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْيُونَانِيِّينَ قَبْلَ ظُهُورِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَزْيَدَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ كَانُوا فَائِقِينَ عَلَى أَهْلِ الْعَالَمِ كُلِّهِمْ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ، وَكَانَ مِنْهُمْ جَمِيعُ
الْحُكَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ مِثْلَ سُقْرَاطَ وَبِقِرَاطَ وَفَيثَاغُورْسَ وَأَفْلَاطُونَ وَأَرَسْطَاطَالِيسَ وَأَرْشَمِيدِسَ وَبِلِينَاسَ وَأَقْلِيدِسَ وَجَالِينُوسَ وَغَيْرِهِمِ الَّذِينَ كَانُوا أَئِمَّةَ الْإِلَهِيَّاتِ وَالرِّيَاضِيَّاتِ وَالطَّبِيعِيَّاتِ وَفُرُوعِهَا قَبْلَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَكَانَ الْيُونَانِيُّونَ فِي عَهْدِهِ عَلَى غَايَةِ دَرَجَةِ الْكَمَالِ فِي فُنُونِهِمْ، وَكَانُوا وَاقِفِينَ عَلَى أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَقَصَصِهَا، وَعَلَى سَائِرِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ أَيْضًا بِوَاسِطَةِ تَرْجَمَةِ سبتوجنت الَّتِي ظَهَرَتْ بِاللِّسَانِ الْيُونَانِيِّ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِمِقْدَارِ مِائَتَيْنِ وَسِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، لَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا مُعْتَقِدِينَ لِلْمِلَّةِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَكَانُوا مُتَفَحِّصِينَ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْحِكَمِيَّةِ الْجَدِيدَةِ كَمَا قَالَ مُقَدِّسُهُمْ هَذَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنَ الرِّسَالَةِ الْأُولَى إِلَى أَهْلِ قورنيثوس هَكَذَا: (٢٢ لِأَنَّ الْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً وَالْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً ٢٣ وَلَكِنَّنَا نَحْنُ نُكَرِّزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا لِلْيَهُودِ عَثْرَةً وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً) فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّعْبِ الْجَاهِلِ الْيُونَانِيِّينَ، فَكَلَامُ مُقَدِّسِهِمْ فِي الرِّسَالَةِ الرُّومِيَّةِ إِمَّا مُؤَوَّلٌ أَوْ مَرْدُودٌ - وَقَدْ عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّامِنِ أَنَّ قَوْلَهُ سَاقِطٌ عَنِ الِاعْتِبَارِ عِنْدَنَا.
(الْبِشَارَةُ الثَّالِثَةُ)
فِي الْبَابِ الثَّالِثِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (٢ وَقَالَ: جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سَيْنَاءَ وَأَشْرَقَ لَنَا مِنْ سَاعِيرَ، وَاسْتَعْلَنَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ وَمَعَهُ أُلُوفُ الْأَطْهَارِ فِي يَمِينِهِ سَنَةً مِنْ نَارٍ، فَمَجِيئُهُ مِنْ سَيْنَاءَ إِعْطَاؤُهُ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِشْرَاقُهُ مِنْ سَاعِيرَ إِعْطَاؤُهُ الْإِنْجِيلَ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) وَاسْتِعْلَانُهُ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ إِنْزَالُهُ الْقُرْآنَ؛ لِأَنَّ فَارَانَ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ مَكَّةَ، فَقَدْ جَاءَ فِي بَيَانِ حَالِ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ (٢١: ٢٠ وَكَانَ اللهُ مَعَهُ وَنَمَا وَسَكَنَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَصَارَ شَابًّا يَرْمِي بِالسِّهَامِ ٢١ وَسَكَنَ بَرِّيَّةَ فَارَانَ وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ امْرَأَةً مِنْ أَرْضِ مِصْرَ) وَلَا شَكَّ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
كَانَتْ سُكْنَاهُ بِمَكَّةَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَنَّ النَّارَ لَمَّا ظَهَرَتْ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ظَهَرَتْ مِنْ سَاعِيرَ وَمِنْ فَارَانَ أَيْضًا، فَانْتَشَرَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّ اللهَ لَوْ خَلَقَ نَارًا فِي مَوْضِعٍ لَا يُقَالُ جَاءَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِلَّا إِذَا اتَّبَعَ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ وَحْيٌّ نَزَلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ
أَوْ عُقُوبَةٌ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ الْوَحْيَ اتَّبَعَ تِلْكَ (النَّارَ الَّتِي رَآهَا مُوسَى) فِي طُورِ سَيْنَاءَ. فَكَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي سَاعِيرَ وَفَارَانَ.
(الْبِشَارَةُ الرَّابِعَةُ)
فِي الْآيَةِ الْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ وَعَدَ اللهُ فِي حَقِّ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (وَعَلَى إِسْمَاعِيلَ أَسْتَجِيبُ لَكَ، هُوذَا أُبَارِكُهُ وَأُكَبِّرُهُ وَأُكَثِّرُهُ جِدًّا فَسَيَلِدُ اثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا وَأَجْعَلُهُ لِشَعْبٍ كَبِيرٍ) قَوْلُهُ: " أَجْعَلُهُ لِشَعْبٍ كَبِيرٍ " يُشِيرُ إِلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ مَنْ كَانَ لِشَعْبٍ كَبِيرٍ غَيْرَهُ، وَقَدْ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - حَاكِيًا دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي كَلَامِهِ الْمَجِيدِ أَيْضًا رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢: ١٢٩).
وَقَالَ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِهِ: وَقَدْ تَفَطَّنَ بَعْضُ النُّبَهَاءِ مِمَّنْ نَشَأَ عَلَى لِسَانِ الْيَهُودِ، وَقَرَأَ بَعْضَ كُتُبِهِمْ فَقَالَ: يَخْرُجُ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ عِبَارَةِ التَّوْرَاةِ فِي مَوْضِعَيْنِ اسْمُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَدَدِ عَلَى مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْيَهُودُ فِيمَا بَيْنَهُمْ: (الْأَوَّلُ) قَوْلُهُ جِدًّا جِدًّا بِتِلْكَ اللُّغَةِ " بِمَا دماد " وَعَدَدِ هَذِهِ الْحُرُوفِ اثْنَانِ وَتِسْعُونَ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ اثْنَانِ وَالْمِيمَ أَرْبَعُونَ وَالْأَلِفَ وَاحِدٌ وَالدَّالَ أَرْبَعَةٌ وَالْمِيمَ الثَّانِيَةَ أَرْبَعُونَ وَالْأَلِفَ وَاحِدٌ وَالدَّالَ أَرْبَعَةٌ، وَكَذَلِكَ الْمِيمُ مِنْ مُحَمَّدٍ أَرْبَعُونَ وَالْحَاءُ ثَمَانِيَةٌ وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ وَالدَّالُ أَرْبَعَةٌ.
(وَالثَّانِي) قَوْلُهُ " لِشَعْبٍ كَبِيرٍ " بِتِلْكَ اللُّغَةِ " لغوي غدول " فَاللَّامُ عِنْدَهُمْ ثَلَاثُونَ وَالْغَيْنُ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ فِي مَقَامِ الْجِيمِ - إِذْ لَيْسَ فِي لُغَتِهِمْ جِيمٌ وَلَا صَادٌ - وَالْوَاوُ
سِتَّةٌ وَالْيَاءُ عَشَرَةٌ وَالْغَيْنُ أَيْضًا ثَلَاثَةٌ وَالدَّالُ أَرْبَعَةٌ وَالْوَاوُ سِتَّةٌ وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ فَمَجْمُوعُ هَذِهِ أَيْضًا اثْنَانِ وَتِسْعُونَ، انْتَهَى كَلَامُهُ بِتَلْخِيصٍ مَا.
وَعَبْدُ السَّلَامِ كَانَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي عَهْدِ السُّلْطَانِ الْمَرْحُومِ بَايَزِيدَ خَانَ، وَصَنَّفَ رِسَالَةً صَغِيرَةً سَمَّاهَا بِالرِّسَالَةِ الْهَادِيَةِ فَقَالَ فِيهَا: " إِنَّ أَكْثَرَ أَدِلَّةِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِحَرْفِ الْجُمَلِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ حَرْفُ أَبْجَدٍ، فَإِنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ حِينَ بَنَى سُلَيْمَانُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَيْتَ الْمَقْدِسِ اجْتَمَعُوا وَقَالُوا: يَبْقَى هَذَا الْبِنَاءُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ الْخَرَابُ؛ لِأَنَّهُمْ حَسِبُوا لَفْظَةَ " بزأت " ثُمَّ قَالَ: وَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ بِأَنَّ الْبَاءَ فِي بمادماد لَيْسَتْ
نَفْسَ الْكَلِمَةِ بَلْ هِيَ أَدَاةٌ وَحَرْفٌ جِيءَ بِهِ لِلصِّلَةِ فَلَوْ أُخْرِجَ مِنْهُ لَاحْتَاجَ اسْمُ مُحَمَّدٍ إِلَى بَاءٍ ثَانِيَةٍ وَيُقَالُ: بيماد ماد (قُلْنَا) : مِنَ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِذَا اجْتَمَعَ الْبَاءَانِ (إِحْدَاهُمَا أَدَاةٌ) (وَالْأُخْرَى) مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ تُحْذَفُ الْأَدَاةُ، وَتَبْقَى الَّتِي هِيَ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، وَهَذَا شَائِعٌ عِنْدَهُمْ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ مَعْدُودَةٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهَا " انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ.
أَقُولُ: قَدْ صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مادماد كَمَا فِي شِفَاءِ الْقَاضِي عِيَاضٍ.
(الْبِشَارَةُ الْخَامِسَةُ)
جَاءَ فِي تَرْجَمَاتٍ سَنَةِ ١٧٢٢ وَسَنَةِ ١٨٣١ وَسَنَةِ ١٨٤٤ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ (٤٩: ١٠ فَلَا يَزُولُ الْقَضِيبُ مِنْ يَهُوذَا. وَالْمُدَبِّرُ مِنْ فَخْذِهِ حَتَّى يَجِيءَ الَّذِي لَهُ الْكُلُّ وَإِيَّاهُ تَنْتَظِرُ الْأُمَمُ) وَفِي تَرْجَمَةِ سَنَةِ ١٨١١ (فَلَا يَزُولُ الْقَضِيبُ مِنْ يَهُوذَا وَالرَّاسِمِ مِنْ تَحْتِ أَمْرِهِ إِلَى أَنْ يَجِيءَ الَّذِي هُوَ لَهُ وَإِلَيْهِ تَجْتَمِعُ الشُّعُوبُ) وَلَفْظُ الَّذِي لَهُ الْكُلُّ أَوِ الَّذِي هُوَ لَهُ تَرْجَمَةُ لَفْظِ " شيلوه " وَفِي تَرْجَمَةِ هَذَا اللَّفْظِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَمَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ السَّابِعِ أَيْضًا. وَقَالَ عَبْدُ السَّلَامِ فِي الرِّسَالَةِ الْهَادِيَةِ هَكَذَا (لَا يَزُولُ الْحَاكِمُ مِنْ يَهُوذَا وَلَا رَاسِمٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَجِيءَ الَّذِي لَهُ وَإِلَيْهِ تَجْتَمِعُ الشُّعُوبُ) وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مَجِيءِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ تَمَامِ حُكْمِ مُوسَى وَعِيسَى؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَاكِمِ هُوَ مُوسَى؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ يَعْقُوبَ مَا جَاءَ صَاحِبُ شَرِيعَةٍ إِلَى زَمَانِ مُوسَى إِلَّا مُوسَى، وَالْمُرَادُ مِنَ الرَّاسِمِ هُوَ عِيسَى؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مُوسَى إِلَى زَمَانِ عِيسَى مَا جَاءَ صَاحِبُ شَرِيعَةٍ إِلَّا عِيسَى،
وَبَعْدَهُمَا مَا جَاءَ صَاحِبُ شَرِيعَةٍ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ فِي آخِرِ الْأَيَّامِ، هُوَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بَعْدَ مُضِيِّ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَالرَّاسِمِ مَا جَاءَ إِلَّا سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: حَتَّى يَجِيءَ الَّذِي لَهُ - أَيِ: الْحُكْمُ - بِدَلَالَةِ مَسَاقِ الْآيَةِ وَسِيَاقِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَإِلَيْهِ تَجْتَمِعُ الشُّعُوبُ) فَهِيَ عَلَامَةٌ صَرِيحَةٌ وَدَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا هُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّهُ مَا اجْتَمَعَ الشُّعُوبُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الزَّبُورُ؛ لِأَنَّهُ لَا أَحْكَامَ فِيهِ، وَدَاوُدُ النَّبِيُّ تَابِعٌ لِمُوسَى، وَالْمُرَادُ مِنْ خَبَرِ يَعْقُوبَ هُوَ صَاحِبُ " الْأَحْكَامِ " انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ.
أَقُولُ: إِنَّمَا أَرَادَ مِنَ الْحَاكِمِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ شَرِيعَتَهُ جَبْرِيَّةٌ انْتِقَامِيَّةٌ وَمِنَ الرَّاسِمِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ شَرِيعَتَهُ لَيْسَتْ بِجَبْرِيَّةٍ وَلَا انْتِقَامِيَّةٍ، وَإِنْ أُرِيدَ مِنَ الْقَضِيبِ السَّلْطَنَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ، وَمِنَ الْمُدَبِّرِ الْحَاكِمُ الدُّنْيَوِيُّ - كَمَا يُفْهَمُ مِنْ رَسَائِلِ الْقِسِّيسِينَ مِنْ فِرْقَةِ بُرُوتُسْتَنْتْ، وَمِنْ بَعْضِ تَرَاجِمِهِمْ - فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بشيلوه مَسِيحُ الْيَهُودِ كَمَا هُوَ مَزْعُومُهُمْ، وَلَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا هُوَ مَزْعُومُ النَّصَارَى. (أَمَّا الْأَوَّلُ) فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ السَّلْطَنَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ
وَالْحَاكِمَ الدُّنْيَوِيَّ زَالَا مِنْ آلِ يَهُوذَا مِنْ مُدَّةٍ هِيَ أَزْيَدُ مَنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ مِنْ عَهْدِ بُخْتُنَصَّرَ، وَلَمْ يُسْمَعْ إِلَى الْآنِ حَسِيسُ مَسِيحِ الْيَهُودِ (وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُمَا زَالَا مِنْ آلِ يَهُوذَا أَيْضًا قَبْلَ ظُهُورِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمِقْدَارِ سِتِّمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ عَهْدِ بُخْتُنَصَّرَ، وَهُوَ أَجْلَى بَنِي يَهُوذَا إِلَى بَابِلَ وَكَانُوا فِي الْجَلَاءِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً لَا سَبْعِينَ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ عُلَمَاءِ بُرُوتُسْتَنْتْ تَغْلِيظًا لِلْعَوَامِ - كَمَا عَرَفْتَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ انتيوكس مَا وَقَعَ فَإِنَّهُ عَزَلَ أَنْيَاسَ حِبْرَ الْيَهُودِ وَبَاعَ مَنْصِبَهُ لِأَخِيهِ يَاسُونَ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ وَزْنَةَ ذَهَبٍ يُقَدِّمُهَا لَهُ خَرَاجًا كُلَّ سَنَةٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَبَاعَ ذَلِكَ لِأَخِيهِ مِينْالَاوِسَ بِسِتِّمِائَةٍ وَسِتِّينَ وَزْنَةً، ثُمَّ شَاعَ خَبَرُ مَوْتِهِ فَطَلَبَ يَاسُونَ أَنْ يَسْتَرِدَّ لِنَفْسِهِ الْكَهَنُوتَ، وَدَخَلَ أُورْشَلِيمَ بِأُلُوفٍ مِنَ الْجُنُودِ فَقَتَلَ كُلَّ مَنْ كَانَ يَظُنُّهُ عَدُوًّا لَهُ - وَهَذَا الْخَبَرُ كَانَ كَاذِبًا - فَهَجَمَ أنتيوكس عَلَى أُورْشَلِيمَ وَامْتَلَكَهَا ثَانِيَةً فِي سَنَةِ ١٧٠ قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَبَاعَ مِثْلَ ذَلِكَ عَبِيدًا وَفِي الْفَصْلِ الْعِشْرِينَ مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ مُرْشِدِ الطَّالِبِينَ فِي بَيَانِ الْجَدْوَلِ التَّارِيخِيِّ فِي الصَّفْحَةِ ٤٨١ مِنَ النُّسْخَةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٥٢ مِنَ الْمِيلَادِ
(إِنَّهُ نَهَبَ أُورْشَلِيمَ وَقَتَلَ ثَمَانِينَ أَلْفًا) اهـ، وَسَلَبَ مَا كَانَ فِي الْهَيْكَلِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ قِيمَتُهَا ثَمَانِمِائَةِ وَزْنَةِ ذَهَبٍ، وَقَرَّبَ خِنْزِيرَةً وَقُودًا عَلَى الْمَذْبَحِ لِلْإِهَانَةِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى إِنْطَاكِيَّةَ وَأَقَامَ فَيَلْبِسُ أَحَدُ الْأَرَاذِلِ حَاكِمًا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ - وَفِي رِحْلَتِهِ الرَّابِعَةِ إِلَى مِصْرَ أَرْسَلَ أَبُولُوينُوسَ بِعِشْرِينَ أَلْفًا مِنْ جُنُودِهِ وَأَمْرَهُمْ أَنْ يُخَرِّبُوا أُورْشَلِيمَ، وَيَقْتُلُوا كُلَّ مَنْ فِيهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَيَسُبُّوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فَانْطَلَقُوا إِلَى هُنَاكَ، وَبَيْنَمَا كَانَ النَّاسُ فِي الْمَدِينَةِ مُجْتَمِعِينَ لِلصَّلَاةِ يَوْمَ السَّبْتِ هَجَمُوا عَلَيْهِمْ عَلَى غَفْلَةٍ فَقَتَلُوا الْكُلَّ إِلَّا مَنْ أَفْلَتَ إِلَى الْجِبَالِ أَوِ اخْتَفَى فِي الْمُغَاوِرِ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَ الْمَدِينَةِ وَأَحْرَقُوهَا وَهَدَمُوا أَسْوَارَهَا وَخَرَّبُوا مَنَازِلَهَا، ثُمَّ ابْتَنَوْا لَهُمْ مَنْ بَسَائِطِ ذَلِكَ الْهَدْمِ قَلْعَةً حَصِينَةً عَلَى جَبَلِ أَكْرَا، وَكَانَتِ الْعَسَاكِرُ تَشْرُفُ مِنْهَا عَلَى جَمِيعِ نَوَاحِي الْهَيْكَلِ، وَمَنْ دَنَا مِنْهُمْ يَقْتُلُونَهُ ثُمَّ أَرْسَلَ أَنْتِيُوكسُ أَثَانِيُوسَ لِيُعَلِّمَ الْيَهُودَ طُقُوسَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الْيُونَانِيَّةِ، وَيَقْتُلَ كُلَّ مَنْ لَا يَتَمَثَّلُ ذَلِكَ الْأَمْرَ، فَجَاءَ أَثَانِيُوسُ إِلَى أُورْشَلِيمَ، وَسَاعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْيَهُودِ الْكَافِرِينَ، وَأَبْطَلَ الذَّبِيحَةَ الْيَوْمِيَّةِ، وَنَسَخَ كُلَّ طَاعَةٍ لِلدِّينِ الْيَهُودِيِّ عُمُومًا وَخُصُوصًا، وَأَحْرَقَ كُلَّ مَا وَجَدَهُ مِنْ نُسْخِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ بِالْفَحْصِ التَّامِّ وَكَرَّسَ الْهَيْكَلَ لِلْمُشْتَرِي، وَنَصَبَ صُورَةَ ذَلِكَ عَلَى مَذْبَحِ الْيَهُودِ، وَأَهْلَكَ كُلَّ مَنْ وَجَدَهُ مُخَالِفًا أَمْرَ أَنْتِيُوكسَ، وَنَجَا مَتَاثَيَاسُ الْكَاهِنُ مَعَ أَبْنَائِهِ الْخَمْسَةِ فِي هَذِهِ الدَّاهِيَةِ، وَفَرُّوا إِلَى وَطَنِهِمْ مُودِينَ فِي سِبْطِ دَانٍ، فَانْتَقَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ انْتِقَامًا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ - عَلَى اسْتِطَاعَتِهِ - كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي التَّوَارِيخِ، فَكَيْفَ يَصْدُقُ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟
وَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِبَقَاءِ السَّلْطَنَةِ وَالْحُكُومَةِ امْتِيَازُ الْقَوْمِ كَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمِ الْآنَ
(قُلْنَا) : هَذَا الْأَمْرُ كَانَ بَاقِيًا إِلَى ظُهُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانُوا فِي أَقْطَارِ الْعَرَبَ ذَوِي حُصُونٍ وَأَمْلَاكٍ غَيْرَ مُطِيعِينَ لِأَحَدٍ، مِثْلَ يَهُودِ خَيْبَرَ وَغَيْرِهِمْ كَمَا تَشْهَدُ بِهِ التَّوَارِيخُ، وَبَعْدَ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَصَارُوا فِي كُلِّ إِقْلِيمٍ مُطِيعِينَ لِلْغَيْرِ - فَالْأَلْيَقُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بشيلوه النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مَسِيحَ الْيَهُودِ وَلَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
الْبِشَارَةُ السَّادِسَةُ
الزَّبُورُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ هَكَذَا (١ - فَاضَ قَلْبِي كَلِمَةً صَالِحَةً أَنَا أَقُولُ أَعْمَالِي لِلْمَلِكِ ٢ لِسَانِي قَلَمُ كَاتِبٍ سَرِيعُ الْكِتَابَةِ ٣ بَهِيٌّ فِي الْحُسْنِ أَفْضَلُ مِنْ بَنِي الْبَشَرِ ٤ انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ لِذَلِكَ بَارَكَكَ اللهُ إِلَى الدَّهْرِ ٤ تَقَلَّدْ سَيْفَكَ عَلَى فَخِذِكَ أَيُّهَا الْقَوِيُّ بِحُسْنِكَ وَجَمَالِكَ ٥ اسْتَلَّهُ وَانْجَحْ وَامْلُكْ مِنْ أَجْلِ الْحَقِّ وَالدَّعَةِ وَالصِّدْقِ وَتَهْدِيكَ بِالْعَجَبِ يَمِينُكَ ٦ نَبْلُكَ مَسْنُونَةٌ أَيُّهَا الْقَوِيُّ فِي قَلْبِ أَعْدَاءِ الْمَلِكِ، الشُّعُوبُ تَحْتَكَ يَسْقُطُونَ ٧ كُرْسِيُّكَ يَا اللهُ إِلَى دَهْرِ الدَّاهِرِينَ، عَصَا الِاسْتِقَامَةِ عَصَا مُلْكِكَ ٨ أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الْإِثْمَ لِذَلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلَهُكَ بِدُهْنِ الْفَرَحِ أَفْضَلَ مِنْ أَصْحَابِكَ ٩ الْمُرُّ وَالْمَيْعَةُ وَالسَّلِيخَةُ مِنْ ثِيَابِكَ، مِنْ مَنَازِلِكَ الشَّرِيفَةِ الْعَاجِ الَّتِي أَبْهَجَتْكَ ١٠ بَنَاتُ الْمُلُوكِ فِي كَرَامَتِكَ، قَامَتِ الْمَلِكَةُ مِنْ عَنْ يَمِينِكَ مُشْتَمِلَةً بِثَوْبٍ مُذَهَّبٍ مُوَشَّى ١١ اسْمَعِي يَا بِنْتُ وَانْظُرِي وَأَنْصِتِي بِأُذُنَيْكِ وَانْسَيْ شَعْبَكِ وَبِنْتَ أَبِيكِ ١٢ فَيَشْتَهِي الْمَلِكُ حُسْنَكِ لِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ إِلَهُكِ وَلَهُ تَسْجُدِينَ ١٣ بَنَاتُ صُورٍ يَأْتِينَكَ بِالْهَدَايَا، لِوَجْهِكَ يُصَلِّي كُلُّ أَغْنِيَاءِ الشَّعْبِ ١٤ كُلُّ مَجْدِ ابْنَةِ الْمَلِكِ مِنْ دَاخِلِ مُشْتَمِلَةٍ بِلِبَاسِ الذَّهَبِ الْمُوَشَّى ١٥ يَبْلُغْنَ إِلَى الْمَلِكِ عَذَارَى فِي أَثَرِهَا قَرِيبَاتُهَا إِلَيْكَ يَقْدُمْنَ ١٦ يَبْلُغْنَ بِفَرَحٍ وَابْتِهَاجٍ يَدْخُلْنَ إِلَى هَيْكَلِ الْمَلِكِ ١٧ وَيَكُونُ بَنُوكَ عِوَضًا مِنْ آبَائِكَ وَتُقِيمُهُمْ رُؤَسَاءَ عَلَى سَائِرِ الْأَرْضِ ١٨ سَأَذْكُرُ اسْمَكَ فِي كُلِّ جِيلٍ وَجِيلٍ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَعْتَرِفُ لَكَ الشُّعُوبُ إِلَى الدَّهْرِ وَإِلَى دَهْرِ الدَّاهِرِينَ).
مِنَ الْمُسَلَّمِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُبَشِّرُ فِي هَذَا الزَّبُورِ بِنَبِيٍّ يَكُونُ ظُهُورُهُ بَعْدَ زَمَانِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ إِلَى هَذَا الْحِينِ عِنْدَ الْيَهُودِ نَبِيٌّ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الزَّبُورِ، وَيَدَّعِي عُلَمَاءُ بُرُوتُسْتَنْتْ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَيَدَّعِي أَهْلُ الْإِسْلَامِ سَلَفًا وَخَلَفًا أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَأَقُولُ: إِنَّهُ ذُكِرَ فِي هَذَا الزَّبُورِ مِنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ:
١ - كَوْنُهُ حَسَنًا ٢ - كَوْنُهُ أَفْضَلَ الْبَشَرِ ٣ - كَوْنُ النِّعْمَةِ مُنْسَكِبَةً عَلَى شَفَتَيْهِ ٤ - كَوْنُهُ مُبَارَكًا إِلَى (آخَرِ) الدَّهْرِ ٥ - كَوْنُهُ مُتَقَلِّدًا بِالسَّيْفِ ٦ - كَوْنُهُ قَوِيًّا ٧ - كَوْنُهُ ذَا حَقٍّ وَدَعَةٍ وَصِدْقٍ ٨ - كَوْنُ هِدَايَةِ يَمِينِهِ بِالْعَجَبِ ٩ - كَوْنُ نَبْلِهِ مَسْنُونَةً ١٠ - سُقُوطُ الشَّعْبِ تَحْتَهُ ١١ -
كَوْنُهُ مُحِبًّا لِلْبِرِّ وَمُبْغِضًا لِلْإِثْمِ ١٢ - خِدْمَةُ بَنَاتِ الْمُلُوكِ إِيَّاهُ ١٣ - إِتْيَانُ الْهَدَايَا إِلَيْهِ ١٤ - انْقِيَادُ كُلِّ أَغْنِيَاءِ الشَّعْبِ لَهُ ١٥ - كَوْنُ أَبْنَائِهِ رُؤَسَاءَ الْأَرْضِ بَدَلَ آبَائِهِمْ ١٦ - كَوْنُ اسْمِهِ مَذْكُورًا جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ ١٧ - مَدْحُ الشُّعُوبِ إِيَّاهُ إِلَى دَهْرِ الدَّاهِرِينَ.
وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا تُوجَدُ فِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: " مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ، وَإِذَا ضَحِكَ يَتَلَأْلَأُ فِي الْجِدَارِ " وَعَنْ أُمِّ مَعْبَدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ فِي بَعْضِ مَا وَصَفَتْهُ بِهِ " أَجْمَلُ النَّاسِ مِنْ بَعِيدٍ، وَأَحْلَاهُمْ وَأَحْسَنُهُمْ مِنْ قَرِيبٍ ".
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَالَ فِي كَلَامِهِ الْمُحْكَمِ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ (٢: ٢٥٣) الْآيَةَ. وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ (٢: ٢٥٣) مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَيْ رَفْعَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَقَدْ أَشْبَعَ الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْإِمَامُ الْهُمَامُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ أَيْ لَا أَقُولُ ذَلِكَ فَخْرًا لِنَفْسِي بَلْ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ رَبِّي.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الْبَيَانِ حَتَّى أَقَرَّ بِفَصَاحَتِهِ الْمُوَافِقُ وَالْمُخَالِفُ، وَقَالَ الرُّوَاةُ فِي وَصْفِ كَلَامِهِ: إِنَّهُ كَانَ أَصْدَقَ النَّاسِ لَهْجَةً، فَكَانَ مِنَ الْفَصَاحَةِ بِالْمَحَلِّ الْأَفْضَلِ وَالْمَوْضِعِ الْأَكْمَلِ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَلِأَنَّ اللهَ قَالَ: إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ (٣٣: ٥٦) وَأُلُوفُ أُلُوفٍ مِنَ النَّاسِ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ (وَغَيْرِهَا).
وَأَمَّا الْخَامِسُ: فَظَاهِرٌ، وَقَدْ قَالَ هُوَ بِنَفْسِهِ " أَنَا رَسُولُ اللهِ بِالسَّيْفِ ".
وَأَمَّا السَّادِسُ: فَكَانَتْ قُوَّتُهُ الْجُسْمَانِيَّةُ عَلَى الْكَمَالِ كَمَا ثَبَتَ أَنَّ رُكَانَةَ خَلَا بِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ شِعَابِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ فَقَالَ: " يَا رُكَانَةُ
أَلَّا تَتَّقِي اللهَ وَتَقْبَلُ مَا أَدْعُوكَ إِلَيْهِ "؟ فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ وَاللهِ مَا تَقُولُ حَقًّا لَاتَّبَعْتُكَ. فَقَالَ: " أَرَأَيْتَ إِنْ صَرَعْتُكَ أَتَعْلَمُ أَنَّ مَا أَقُولُ حَقٌّ؟ قَالَ! نَعَمْ. فَلَمَّا بَطَشَ بِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَضَجْعَهُ لَا يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ عُدْ. فَصَرَعَهُ أَيْضًا فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ ذَا لِعَجَبٌ! فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ إِنْ شِئْتَ أُرِيكَهُ إِنِ اتَّقَيْتَ اللهَ وَتَبِعْتَ أَمْرِي " قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: " أَدْعُو لَك هَذِهِ الشَّجَرَةَ " فَدَعَاهَا فَأَقْبَلَتْ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا: " ارْجِعِي مَكَانَكِ " فَرَجَعَ رُكَانَةُ إِلَى قَوْمِهِ
فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ مَا رَأَيْتُ أَسْحَرَ مِنْهُ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِمَا رَأَى. وَرُكَانَةُ هَذَا كَانَ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ وَالْمُصَارِعِينَ الْمَشْهُورِينَ.
وَأَمَّا شَجَاعَتُهُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: مَا رَأَيْتُ أَشْجَعَ وَلَا أَنْجَدَ وَلَا أَجْوَدَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ عَلَيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: " وَإِنَّا كُنَّا إِذَا حَمِيَ الْبَأْسُ وَاحْمَرَّتِ الْحَدَقُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا يَكُونُ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدْوِ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا ".
وَأَمَّا السَّابِعُ: فَلِأَنَّ الْأَمَانَةَ وَالصِّدْقَ مِنَ الصِّفَاتِ الْجِبِلِّيَّةِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لِقُرَيْشٍ: " قَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا حَدَثًا، أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ وَأَصْدَقَكُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ فِي صُدْغَيْهِ الشَّيْبَ وَجَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ قُلْتُمْ إِنَّهُ سَاحِرٌ، لَا وَاللهِ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ " وَسَأَلَ هِرَقْلُ عَنْ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا سُفْيَانَ فَقَالَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ: لَا.
وَأَمَّا الثَّامِنُ: فَلِأَنَّهُ رَمَى يَوْمَ بَدْرِ، وَكَذَا يَوْمَ حُنَيْنٍ وُجُوهَ الْكَفَّارِ بِقَبْضَةِ
تُرَابٍ فَلَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إِلَّا شُغِلَ بِعَيْنِهِ، فَانْهَزَمُوا وَتَمَكَّنَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا فَأَمْثَالُ هَذِهِ مِنْ عَجِيبِ هِدَايَةِ يَمِينِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَأَمَّا التَّاسِعُ: فَلِأَنَّ كَوْنَ أَوْلَادِ إِسْمَاعِيلَ أَصْحَابَ النَّبْلِ فِي سَالِفِ الزَّمَانِ، غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الْبَيَانِ، وَكَانَ هَذَا الْأَمْرُ مَرْغُوبًا لَهُ، وَكَانَ يَقُولُ " سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمُ الرُّومُ وَيَكْفِيكُمُ اللهُ، فَلَا يَعْجَزْ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ " وَيَقُولَ: " ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا " وَيَقُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا ".
وَأَمَّا الْعَاشِرُ: فَلِأَنَّ النَّاسَ دَخَلُوا أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا فِي دِينِ اللهِ فِي مُدَّةِ حَيَّاتِهِ.
وَأَمَّا الْحَادِيَ عَشَرَ: فَمَشْهُورٌ يَعْتَرِفُ بِهِ الْمُعَانِدُونَ أَيْضًا كَمَا عَرَفْتَ فِي الْمَسْلَكِ الثَّانِي.
وَأَمَّا الثَّانِيَ عَشَرَ: فَقَدْ صَارَتْ بَنَاتُ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ خَادِمَةً لِلْمُسْلِمِينَ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى، وَمِنْهَا شَهْرَيَارُ بِنْتُ يَزْدِجِرْدَ كِسْرَى فَارِسَ كَانَتْ تَحْتَ الْإِمَامِ الْهُمَامِ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -:
وَأَمَّا الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ: فَلِأَنَّ النَّجَاشِيَّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ وَمُنْذِرَ بْنَ سَاوِي مَلِكَ الْبَحْرِينِ وَمَلِكَ عَمَّانَ انْقَادُوا وَأَسْلَمُوا، وَهِرَقْلَ قَيْصَرَ الرُّومِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ، وَالْمُقَوْقِسَ مِلَكَ الْقِبْطِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ ثَلَاثَ جَوَارٍ وَغُلَامًا أَسْوَدَ وَبَغْلَةً شَهْبَاءَ وَحِمَارًا أَشْهَبَ وَفَرَسًا وَثِيَابًا وَغَيْرَهَا.
وَأَمَّا الْخَامِسَ عَشَرَ: فَقَدْ وَصَلَ مِنْ أَبْنَاءِ الْإِمَامِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - إِلَى الْخِلَافَةِ وَأُلُوفٌ فِي أَقَالِيمَ مُخْتَلِفَةٍ مِنَ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ وَالشَّامِ وَفَارِسَ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهَا وَفَازُوا بِالسَّلْطَنَةِ وَالْإِمَارَةِ الْعَالِيَةِ، وَإِلَى الْآنَ أَيْضًا فِي دِيَارِ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَفِي غَيْرِهِمَا تُوجَدُ الْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ مَنْ نَسْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَيَظْهَرُ إِنْ شَاءَ اللهُ الْمَهْدِيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَنْ نَسْلِهِ وَيَكُونُ خَلِيفَةَ اللهِ فِي الْأَرْضِ وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فِي عَهْدِهِ الشَّرِيفِ.
وَأَمَّا السَّادِسَ عَشَرَ وَالسَّابِعَ عَشَرَ: فَلِأَنَّهُ يُنَادِي أُلُوفَ أُلُوفٍ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ فِي الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فِي أَقَالِيمَ مُخْتَلِفَةٍ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ الْمَحْصُورِينَ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَالْقُرَّاءُ يَحْفَظُونَ مَنْشُورَهُ، وَالْمُفَسِّرُونَ يُفَسِّرُونَ مَعَانِيَ فُرْقَانِهِ، وَالْوُعَّاظُ
يُبَلِّغُونَ وَعْظَهُ، وَالْعُلَمَاءُ وَالسَّلَاطِينُ يَصِلُونَ إِلَى خِدْمَتِهِ، وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، وَيَمْسَحُونَ وُجُوهَهُمْ بِتُرَابِ رَوْضَتِهِ وَيَرْجُونَ شَفَاعَتَهُ.
وَلَا يَصْدُقُ هَذَا الْخَبَرُ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا يَدَّعِيهِ عُلَمَاءُ بُرُوتُسْتَنْتْ ادِّعَاءً بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُمْ يُشِيرُونَ إِلَى الْخَبَرِ الْمُنْدَرِجِ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ وَالْخَمْسِينَ مِنْ كِتَابِ أَشْعِيَا فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَذَا نَصُّهُ: لَيْسَ لَهُ مَنْظَرٌ وَجَمَالٌ، وَرَأَيْنَاهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْظَرٌ وَاشْتَهَيْنَاهُ مُهَانًا، وَآخِرُ الرِّجَالِ رَجُلُ الْأَوْجَاعِ مُخْتَبَرًا بِالْأَمْرَاضِ، وَكَانَ مَكْتُومًا وَجْهُهُ، وَمَزْدُولًا وَلَمْ نَحْسَبْهُ وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ كَأَبْرَصَ، وَمَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَخْضُوعًا، وَالرَّبُّ شَاءَ أَنْ يَسْحَقَهُ.
وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ ضِدُّ الْأَوْصَافِ الَّتِي فِي الزَّبُورِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ حَسَنًا، وَلَا كَوْنُهُ قَوِيًّا، وَكَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُتَقَلِّدًا بِالسَّيْفِ، وَلَا كَوْنُ نَبْلِهِ مَسْنُونَةً، وَلَا انْقِيَادُ الْأَغْنِيَاءِ لَهُ، وَلَا إِرْسَالُهُمْ إِلَيْهِ الْهَدَايَا، بَلْ هُمْ عَلَى زَعْمِ النَّصَارَى أَخَذُوهُ وَأَهَانُوهُ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ وَضَرَبُوهُ بِالسِّيَاطِ ثُمَّ صَلَبُوهُ، وَمَا كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَا ابْنٌ، فَلَا يَصْدُقُ دُخُولُ بَنَاتِ الْمُلُوكِ فِي بَيْتِهِ، وَلَا كَوْنُ أَبْنَائِهِ بَدَلَ آبَائِهِ رُؤَسَاءَ الْأَرْضِ.
(فَائِدَةٌ) تَرْجَمَةُ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ الَّتِي نَقَلْتُهَا مُطَابِقَةً لِلتَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ لِلزَّبُورِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدِي، وَلِتَرَاجِمِ أُرْدُو لِلزَّبُورِ، وَمُوَافِقَةً لِنَقْلِ مُقَدِّسِهِمْ بُولِسَ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ رِسَالَتِهِ الْعِبْرَانِيَّةِ هَكَذَا تَرْجَمَةً عَرَبِيَّةً سَنَةَ ١٨٢١ وَسَنَةَ ١٨٣١ وَسَنَةَ ١٨٤٤ (أَحْبَبْتَ الْبِرَّ، وَأَبْغَضْتَ الْإِثْمَ؛ لِذَلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلَهُكَ بِدُهْنِ الْفَرَحِ أَفْضَلَ مِنْ أَصْحَابِكَ) وَالتَّرَاجِمُ الْفَارِسِيَّةُ الْمَطْبُوعَةُ سَنَةَ ١٨١٦ وَسَنَةَ ١٨٢٨ وَسَنَةَ ١٨٤١ وَتَرَاجِمُ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةُ سَنَةُ ١٨٣٩ وَسَنَةَ ١٨٤٠ وَسَنَةَ ١٨٤١ مُطَابِقَةٌ لِلتَّرَاجِمِ الْعَرَبِيَّةِ، فَالتَّرْجَمَةُ الَّتِي تَكُونُ مُخَالِفَةً لِمَا نَقَلْتُ تَكُونُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ، وَيَكْفِي لِرَدِّهَا إِلْزَامًا كَلَامُ مُقَدِّسِهِمْ، وَقَدْ عَرَفْتَ فِي مُقَدِّمَةِ الْبَابِ الرَّابِعِ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْإِلَهِ وَالرَّبِّ وَأَمْثَالِهِمَا جَاءَ عَلَى الْعَوَامِّ فَضْلًا عَلَى الْخَوَاصِّ، وَالْآيَةُ السَّادِسَةُ مِنَ الزَّبُورِ الثَّانِي وَالثَّمَانِينَ هَكَذَا (أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو الْعُلَى كُلُّكُمْ) فَلَا يَرِدُ
مَا قَالَ صَاحِبُ مِفْتَاحِ الْأَسْرَارِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ هَكَذَا (أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الشَّرَّ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَا اللهُ مَسِيحُ إِلَهِكَ بِدُهْنِ الْبَهْجَةِ أَفْضَلُ مِنْ رُفَقَائِكَ) وَلَا يُقَالُ لِشَخْصٍ غَيْرِ الْمَسِيحِ يَا اللهُ مَسِيحُ إِلَهِكَ إِلَخْ. لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَوَّلًا صِحَّةَ تَرْجَمَتِهِ لِكَوْنِهَا مُخَالِفَةً لِكَلَامِ مُقَدِّسِهِمْ. (وَثَانِيًا) لَوْ قَطَعْنَا النَّظَرَ عَنْ عَدَمِ صِحَّتِهَا أَقُولُ: ادِّعَاؤُهُ صَرِيحُ الْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ اللهِ هَاهُنَا بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لَا الْحَقِيقِيِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَهِكَ؛ لِأَنَّ الْإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ لَا إِلَهَ لَهُ، فَإِذَا كَانَ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ يَصْدُقُ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يَصْدُقُ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
(قَدْ حَذَفْنَا هُنَا ٦ بِشَارَاتٍ مِنْ ٧ - ١٢ لِلِاخْتِصَارِ)
(الْبِشَارَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ)
فِي الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا: (١ وَفِي تِلْكَ الْأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعَمَّدَانُ يُكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِ ٢ قَائِلًا: تُوبُوا لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ، وَفِي الْبَابِ الرَّابِعِ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا: (١٢ وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أَسْلَمَ انْصَرَفَ إِلَى الْجَلِيلِ... ١٧ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَنِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُكْرِزُ وَيَقُولُ: تُوبُوا لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ.. ٢٣ وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ وَيُكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ) إِلَخْ. وَفِي الْبَابِ السَّادِسِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى فِي بَيَانِ الصَّلَاةِ الَّتِي عَلَّمَهَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَلَامِيذَهُ هَكَذَا (١٠ - لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ) وَلَمَّا أَرْسَلَ الْحَوَارِيِّينَ إِلَى الْبِلَادِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ لِلدَّعْوَةِ وَالْوَعْظِ، وَصَّاهُمْ بِوَصَايَا مِنْهَا هَذِهِ الْوَصِيَّةُ أَيْضًا (وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ) كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْبَابِ الْعَاشِرِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَوَقَعَ فِي الْبَابِ التَّاسِعِ
مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا هَكَذَا (١ وَدَعَا تَلَامِيذَهُ الْاثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ قُوَّةً وَسُلْطَانًا عَلَى جَمِيعِ الشَّيَاطِينِ وَشِفَاءِ أَمْرَاضٍ ٢ وَأَرْسَلَهُمْ لِيُكْرِزُوا بِمَلَكُوتِ اللهِ وَيَشْفُوا الْمَرْضَى) وَفِي الْبَابِ الْعَاشِرِ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا هَكَذَا (١ وَبَعْدَ ذَلِكَ عَيَّنَ الرَّبُّ سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضًا وَأَرْسَلَهُمْ) إِلَخْ. (فَقَالَ لَهُمْ) إِلَخْ. (٨ وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ
لَكُمْ (٩) وَاشْفُوا الْمَرْضَى الَّذِينَ فِيهَا وَقُولُوا لَهُمْ: قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ (١٠) وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ فَاخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا (١١) حَتَّى الْغُبَارُ الَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ، وَلَكِنِ اعْلَمُوا هَذَا أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ) - فَظَهَرَ أَنَّ كُلًّا مِنْ يَحْيَى وَعِيسَى وَالْحَوَارِيِّينَ وَالتَّلَامِيذِ السَّبْعِينَ بَشَّرَ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وَبَشَّرَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي بَشَّرَ بِهَا يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَلَكُوتَ كَمَا لَمْ يَظْهَرْ فِي عَهْدِ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَكَذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي عَهْدِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَا فِي عَهْدِ الْحَوَارِيِّينَ وَالسَّبْعِينَ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمْ مُبَشِّرٌ بِهِ، وَمُخْبَرٌ عَنْ فَضْلِهِ وَمُتَرَجٍّ لِمَجِيئِهِ، فَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ طَرِيقَةَ النَّجَاةِ الَّتِي ظَهَرَتْ بِشَرِيعَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِلَّا لَمَّا قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْحَوَارِيُّونَ وَالسَّبْعُونَ: إِنَّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قَدِ اقْتَرَبَ، وَلَمَّا عَلَّمَ التَّلَامِيذَ أَنْ يَقُولُوا فِي الصَّلَاةِ وَلْيَأْتِ مَلَكُوتُكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ قَدْ ظَهَرَتْ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَؤُلَاءِ كَانُوا يُبَشِّرُونَ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْجَلِيلَةِ، وَلَفْظُ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَلَكُوتَ يَكُونُ فِي صُورَةِ السَّلْطَنَةِ لَا فِي صُورَةِ الْمَسْكَنَةِ، وَأَنَّ الْمُحَارَبَةَ وَالْجِدَالَ فِيهِ مَعَ الْمُخَالِفِينَ يَكُونَانِ لِأَجْلِهِ، وَأَنَّ مَبْنَى قَوَانِينِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كِتَابًا سَمَاوِيًّا، وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ يَصْدُقُ عَلَى الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ.
وَقَوْلُ عُلَمَاءِ الْمَسِيحِيَّةِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمَلَكُوتِ شُيُوعُ الْمِلَّةِ الْمَسِيحِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ، وَإِحَاطَتُهَا بِكُلِّ الدُّنْيَا بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَتَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَيَرُدُّهُ التَّمْثِيلَاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْبَابِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى مَثَلًا قَالَ: (٢٤ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَانًا زَرَعَ زَرْعًا جَيِّدًا فِي حَقْلِهِ...) ثُمَّ قَالَ: (٣١ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ...) ثُمَّ قَالَ: (٣٣ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلَاثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ) فَشَبَّهَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ بِإِنْسَانٍ زَارِعٍ لَا بِنُمُوِّ الزِّرَاعَةِ وَحَصَادِهَا، وَكَذَلِكَ شَبَّهَهُ بِحَبَّةِ خَرْدَلٍ لَا بِصَيْرُورَتِهَا شَجَرَةً
عَظِيمَةً وَشَبَّهَهُ بِخَمِيرَةٍ لَا بِاخْتِمَارِ جَمِيعِ الدَّقِيقِ. وَكَذَا يَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ بَيَانِ التَّمْثِيلِ الْمَنْقُولِ فِي الْبَيَانِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (٤٣ لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لِأُمَّةٍ
تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ) فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ طَرِيقَةُ النَّجَاةِ نَفْسُهَا لَا شُيُوعُهَا فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ وَإِحَاطَتُهَا بِكُلِّ الْعَالَمِ، وَإِلَّا لَا مَعْنَى لِنَزْعِ الشُّيُوعِ وَالْإِحَاطَةِ مِنْ قَوْمٍ وَإِعْطَائِهَا لِقَوْمٍ آخَرِينَ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمَلَكُوتِ هِيَ الْمَمْلَكَةُ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا دَانْيَالُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِهِ، فَمِصْدَاقُ هَذَا الْمَلَكُوتِ وَتِلْكَ الْمَمْلَكَةِ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللهُ أَعْلَمُ وَعِلْمُهُ أَتَمُّ.
(الْبِشَارَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ)
فِي الْبَابِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (٣١ قَدَّمَ لَهُمْ مَثَلًا آخَرَ قَائِلًا يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ (٣٢) وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُذُورِ، وَلَكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ الْبُقُولِ، وَتَصِيرُ شَجَرَةً حَتَّى إِنَّ طُيُورَ السَّمَاءِ تَأْتِي وَتَأْوِي فِي أَغْصَانِهَا) فَمَلَكُوتُ السَّمَاءِ طَرِيقَةُ النَّجَاةِ، الَّتِي ظَهَرَتْ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ؛ لِأَنَّهُ نَشَأَ فِي قَوْمٍ كَانُوا حُقَرَاءَ عِنْدَ الْعَالَمِ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي غَالِبًا وَغَيْرَ وَاقِفِينَ عَلَى الْعُلُومِ وَالصِّنَاعَاتِ، مَحْرُومِينَ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَالتَّكَلُّفَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَاسِيَّمَا عِنْدَ الْيَهُودِ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَوْلَادِ هَاجَرَ فَبَعَثَ اللهُ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَتْ شَرِيعَتُهُ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ بِمَنْزِلَةِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، أَصْغَرُ الشَّرَائِعِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، لِكَوْنِهَا لِعُمُومِهَا نَمَتْ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ، وَصَارَتْ أَكْبَرَهَا، وَأَحَاطَتْ شَرْقًا وَغَرْبًا، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ لَمَّ يَكُونُوا مُطِيعِينَ لِشَرِيعَةٍ مِنَ الشَّرَائِعِ تَشَبَّثُوا بِذَيْلِ شَرِيعَتِهِ.
(الْبِشَارَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ)
فِي الْبَابِ الْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا: (١ فَإِنَّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلًا رَبَّ بَيْتٍ خَرَجَ مَعَ الصُّبْحِ لِيَسْتَأْجِرَ فَعَلَةً لِكَرْمِهِ ٢ فَاتَّفَقَ مَعَ الْعَمَلَةِ
عَلَى دِينَارٍ فِي الْيَوْمِ، وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ ٣ ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ وَرَأَى آخَرِينَ قِيَامًا فِي السُّوقِ بِطَّالِينَ ٤ فَقَالَ لَهُمْ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى الْكَرْمِ فَأُعْطِيكُمْ مَا يَحِقُّ لَكُمْ فَمَضَوْا ٥ وَخَرَجَ أَيْضًا نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ وَالتَّاسِعَةِ وَفَعَلَ كَذَلِكَ ٦ ثُمَّ نَحْوَ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ خَرَجَ وَوَجَدَ آخَرِينَ قِيَامًا بَطَّالِينَ فَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا وَقَفْتُمْ هَاهُنَا كُلَّ النَّهَارِ بَطَّالِينَ ٧ قَالُوا لَهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْنَا أَحَدٌ. قَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى الْكَرْمِ فَتَأْخُذُوا مَا يَحِقُّ لَكُمْ ٨ فَلِمَا كَانَ الْمَسَاءُ قَالَ صَاحِبُ الْكَرْمِ لِوَكِيلِهِ: ادْعُ الْفَعَلَةَ وَاعْطِهِمُ الْأُجْرَةَ مُبْتَدِيًا مِنَ الْآخَرِينَ إِلَى الْأَوَّلِينَ ٩ فَجَاءَ أَصْحَابُ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَأَخَذُوا دِينَارًا دِينَارًا ١٠ فَلَمَّا جَاءَ الْأَوَّلُونَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَكْثَرَ فَأَخَذُوا هُمْ أَيْضًا دِينَارًا دِينَارًا ١١ وَفِيمَا هُمْ يَأْخُذُونَ تَذَمَّرُوا عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ ١٢ قَائِلِينَ: هَؤُلَاءِ الْآخَرُونَ عَمِلُوا سَاعَةً وَقَدْ سَاوَيْتَهُمْ بِنَا نَحْنُ الَّذِينَ احْتَمَلْنَا ثِقَلَ النَّهَارِ وَالْحَرَّ ١٣ فَأَجَابَ
وَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَا صَاحِبُ مَا ظَلَمْتُكَ أَمَّا اتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟ ١٤ فَخْذِ الَّذِي لَكَ، وَاذْهَبْ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنَّ أُعْطِيَ هَذَا الْأَخِيرَ مِثْلَكَ ١٥ أَوَمَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَالِي أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ؛ لِأَنِّي أَنَا صَالِحٌ ١٦ هَكَذَا يَكُونُ الْآخَرُونَ أَوَّلِينَ، وَالْأَوَّلُونَ آخَرِينَ؛ لِأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ) اهـ. فَالْآخِرُونَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهُمْ يُقَدَّمُونَ فِي الْأَجْرِ وَهُمُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ وَقَالَ: إِنَّ الْجَنَّةَ حُرِّمَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ حَتَّى أَدْخُلَهَا، وَحُرِّمَتْ عَلَى الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتِي
(الْبِشَارَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ)
فِي الْبَابِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (٣٣ اسْمَعُوا مَثَلًا آخَرَ كَانَ إِنْسَانٌ رَبُّ بَيْتٍ غَرَسَ كَرْمًا وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ وَحَفَرَ فِيهِ مَعْصَرَةً وَبَنَى بُرْجًا وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ ٣٤ وَلَمَّا قَرُبَ وَقْتُ الْإِثْمَارِ أَرْسَلَ عَبِيدَهُ إِلَى الْكَرَّامِينَ وَسَافَرَ لِيَأْخُذَ أَثْمَارَهُ ٣٥ فَأَخَذَ الْكَرَّامُونَ عَبِيدَهُ وَجَلَدُوا بَعْضًا وَقَتَلُوا بَعْضًا وَرَجَمُوا بَعْضًا ٣٦ ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضًا عَبِيدًا آخَرِينَ أَكْثَرَ مِنَ الْأَوَّلِينَ فَفَعَلُوا بِهِمْ كَذَلِكَ ٣٧ فَأَخِيرًا أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَهُ قَائِلًا: يَهَابُونَ ابْنِي ٣٨ وَأَمَّا الْكَرَّامُونَ فَلَمَّا رَأَوُا الْابْنَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هَذَا هُوَ الْوَارِثُ هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ ٣٩ فَأَخَذُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ ٤٠ فَمَتَى جَاءَ صَاحِبُ الْكَرْمِ مَاذَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْكَرَّامِينَ؟ ٤١ قَالُوا لَهُ أُولَئِكَ الْأَرْدِيَاءُ يُهْلِكُهُمْ هَلَاكًا رَدِيًّا وَيُسَلِّمُ الْكَرْمَ إِلَى كَرَّامِينَ آخَرِينَ يُعْطُونَهُ الْأَثْمَارَ فِي أَوْقَاتِهَا ٤٢ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ فِي الْكُتُبِ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاءُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ؟ كَانَ هَذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا ٤٣ لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لِأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ ٤٤ وَمَنْ سَقَطَ عَلَى هَذَا الْحَجْرِ يَتَرَضَّضُ وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ ٤٥ وَلَمَّا سَمِعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفِرِيسِيُّونَ أَمْثَالَهُ عَرَفُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِمْ.
أَقُولُ: إِنَّ " رَبُّ بَيْتٍ " كِنَايَةٌ عَنِ اللهِ، وَالْكَرْمَ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّرِيعَةِ، وَإِحَاطَتَهُ بِسِيَاجٍ، وَحَفْرَ الْمَعْصَرَةِ فِيهِ، وَبَنَّاءَ الْبُرْجِ كِنَايَاتٌ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.
وَإِنَّ الْكَرَّامِينَ الطَّاغِينَ كِنَايَةٌ عَنِ الْيَهُودِ، كَمَا فَهِمَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفِرِيسِيُّونَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَالْعَبِيدَ الْمُرْسَلِينَ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَالِابْنَ كِنَايَةٌ عَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَدْ عَرَفْتَ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَتَلَهُ الْيَهُودُ أَيْضًا فِي زَعْمِهِمْ، وَالْحَجْرَ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاءُونَ كِنَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْأُمَّةُ الَّتِي تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ كِنَايَةٌ عَنْ أُمَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا هُوَ الْحَجْرُ الَّذِي كُلُّ مَنْ سَقَطَ عَلَيْهِ تَرَضَّضَ، وَكُلُّ مَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ سَحَقَهُ.
وَمَا ادَّعَاهُ عُلَمَاءُ الْمَسِيحِيَّةِ بِزَعْمِهِمْ: أَنَّ هَذَا الْحَجَرَ عِبَارَةٌ عَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِوُجُوهٍ: (الْأَوَّلُ) أَنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ فِي الزَّبُورِ الْمِائَةِ وَالثَّامِنَ عَشَرَ هَكَذَا ٢٢ الْحَجَرُ الَّذِي رَذَلَهُ الْبَنَّاءُونَ هُوَ صَارَ لِلزَّاوِيَةِ ٢٣ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَتْ هَذِهِ وَهِيَ عَجِيبَةٌ فِي أَعْيُنِنَا) فَلَوْ كَانَ هَذَا الْحَجَرُ عِبَارَةً عَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ آلِ يَهُوذَا مِنْ آلِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَأَيُّ عَجَبٍ فِي أَعْيُنِ الْيَهُودِ عُمُومًا لِكَوْنِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَأْسَ الزَّاوِيَةِ وَلَاسِيَّمَا فِي عَيْنِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، خُصُوصًا لِأَنَّ مَزْعُومَ الْمَسِيحِيِّينَ أَنَّ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُعَظِّمُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي مَزَامِيرِهِ تَعْظِيمًا بَلِيغًا، وَيَعْتَقِدُ الْأُلُوهِيَّةَ فِي حَقِّهِ، بِخِلَافِ آلِ إِسْمَاعِيلَ؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُحَقِّرُونَ أَوْلَادَ إِسْمَاعِيلَ غَايَةَ التَّحْقِيرِ فَكَانَ كَوْنُ أَحَدٍ مِنْهُمْ رَأْسًا لِلزَّاوِيَةِ عَجِيبًا فِي أَعْيُنِهِمْ.
(وَالثَّانِي) أَنَّهُ وَقَعَ فِي وَصْفِ هَذَا الْحَجْرِ " كُلُّ مَنْ سَقَطَ عَلَى هَذَا الْحَجَرِ تَرَضَّضَ وَكُلُّ مَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ سَحَقَهُ " وَلَا يَصْدُقُ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَنَّهُ قَالَ: (وَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ كَلَامِي وَلَمْ يُؤْمِنْ فَأَنَا لَا أُدِينُهُ، لِأَنِّي لَمْ آتِ لِأُدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِأُخَلِّصَ الْعَالَمَ) كَمَا هُوَ فِي الْبَابِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا. وَصِدْقُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِتَنْبِيهِ الْفُجَّارِ الْأَشْرَارِ فَإِنْ سَقَطُوا عَلَيْهِ تَرَضَّضُوا، وَإِنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِمْ سَحَقَهُمْ.
(الثَّالِثُ) قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ قَصْرٍ أُحْسِنَ بُنْيَانُهُ وَتُرِكَ مِنْهُ مَوْضِعُ لَبِنَةٍ فَطَافَ بِهَا النُّظَّارُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ حُسْنِ بُنْيَانِهِ إِلَّا مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ، خُتِمَ بِي الْبُنْيَانُ وَخُتِمَ بِي الرُّسُلُ " وَلَمَّا ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ بِالْأَدِلَّةِ الْأُخْرَى، كَمَا ذَكَرْتُ نُبَذًا مِنْهَا فِي الْمَسَالِكِ السَّابِقَةِ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ أَسْتَدِلَّ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ بِقَوْلِهِ أَيْضًا.
(وَالرَّابِع) أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ كَلَامِ الْمَسِيحِ أَنَّ هَذَا الْحَجَرَ غَيْرُ الِابْنِ
(الْبِشَارَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ)
فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ هَكَذَا (٢٦ وَمِنْ يَغْلِبْ وَيَحْفَظْ أَعْمَالِي إِلَى النِّهَايَةِ فَسَأُعْطِيهِ سُلْطَانًا عَلَى الْأُمَمِ ٢٧ فَيَرْعَاهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ كَمَا تُكْسَرُ آنِيَةٌ مِنْ خَزَفٍ كَمَا أُخِذَتْ أَيْضًا مِنْ عِنْدِ أَبِي ٢٨ وَأُعْطِيهِ كَوْكَبَ الصُّبْحِ ٢٩ مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُ الرُّوحُ بِالْكَنَايِسِ فَهَذَا الْغَالِبُ الَّذِي أُعْطِيَ سُلْطَانًا عَلَى الْأُمَمِ وَيَرْعَاهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا قَالَ اللهُ فِي حَقِّهِ: وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٤٨: ٣) وَقَدْ سَمَّاهُ سَطِيحٌ الْكَاهِنُ صَاحِبَ الْهِرَاوَةِ - رُوِيَ أَنَّهُ لَيْلَةَ وِلَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْشَقَّ إِيوَانُ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ، وَسَقَطَ مِنْهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً - وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسَ، وَلَمْ تَخْمَدْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ عَامٍ، وَغَارَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ بِحَيْثُ صَارَتْ يَابِسَةً: وَرَأَى الْمُوبَذَانُ فِي نَوْمِهِ أَنَّ إِبِلًا صِعَابًا تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا فَقَطَعَتْ دِجْلَةَ، وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا، فَخَافَ كِسْرَى مِنْ حُدُوثِ هَذِهِ الْأُمُورِ، أَرْسَلَ عَبْدَ الْمَسِيحِ إِلَى سَطِيحٍ الْكَاهِنِ الَّذِي كَانَ فِي الشَّامِ، وَلَمَّا وَصَلَ عَبْدُ الْمَسِيحِ إِلَيْهِ وَجَدَهُ فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ عِنْدَهُ فَأَجَابَ سَطِيحٌ: إِذَا كَثُرَتِ التِّلَاوَةُ، وَظَهَرَ صَاحِبُ الْهِرَاوَةِ، وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ، وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسَ، فَلَيْسَتْ بَابِلُ لِلْفُرْسِ مَقَامًا، وَلَا الشَّامُ لِسَطِيحٍ مَنَامًا، يُمَلِّكُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ وَمَلِكَاتٌ، عَلَى عَدَدِ الشُّرُفَاتِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ اهـ. ثُمَّ مَاتَ سَطِيحٌ مِنْ سَاعَتِهِ، وَرَجَعَ عَبْدُ الْمَسِيحِ فَأَخْبَرَ أَنُوشِرْوَانَ بِمَا قَالَ سَطِيحٌ، قَالَ كِسْرَى: إِلَى أَنْ يَمْلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَلِكًا كَانَتْ أُمُورٌ وَأُمُورٌ، فَمَلَكَ مِنْهُمْ عَشْرَةٌ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ، وَمَلَكَ الْبَاقُونَ إِلَى خِلَافَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَهَلَكَ آخِرُهُمْ يَزْدِجِرْدُ فِي خِلَافَتِهِ، وَالْهِرَاوَةُ بِكَسْرِ الْهَاءِ الْعَصَا: الضَّخْمَةُ، وَكَوْكَبُ الصُّبْحِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُرْآنِ، قَالَ اللهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (٤: ١٧٤) وَقَالَ فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ: فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا (٦٤: ٨).
قَالَ صَاحِبُ صَوْلَةِ الضَّيْغَمِ بَعْدَ نَقْلِ هَذِهِ الْبِشَارَةِ: قُلْتُ لِلْقِسِّيسِينَ ويت وَوِلْيَم عِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ: إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَضِيبِ مِنْ حَدِيدٍ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَاضْطَرَبَا بِسَمَاعِ هَذَا الْأَمْرِ وَقَالَا: إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَكَمَ بِهَذَا لِكَنِيسَةِ ثِيَاتِيرَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظُهُورُ مِثْلِ هَذَا الشَّخْصِ هُنَاكَ، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَاحَ هُنَاكَ، قُلْتُ: هَذِهِ الْكَنِيسَةُ فِي أَيَّةِ نَاحِيَةٍ كَانَتْ؟ فَرَجَعَا إِلَى كُتُبِ اللُّغَةِ وَقَالَا: كَانَتْ فِي أَرْضِ الرُّومِ قَرِيبَةً فِي اسْتَانْبُولَ، قُلْتْ: رَاحَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خِلَافَةِ الْفَارُوقِ الْأَعْظَمِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - إِلَى هَذِهِ الْبِلَادِ وَفَتَحُوهَا، وَبَعْدَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا مُتَسَلِّطِينَ عَلَيْهَا فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، ثُمَّ تَسَلَّطَ عَلَيْهَا سَلَاطِينُ آلِ عُثْمَانَ أَدَامَ اللهُ سَلْطَنَتَهُمْ مِنْ مُدَّةٍ مَدِيدَةٍ، وَهُمْ مُتَسَلِّطُونَ إِلَى هَذَا الْحِينِ. فَهَذَا الْخَبَرُ صَرِيحٌ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى كَلَامُهُ.
قُلْتُ: إِنَّ الْفَاضِلَ عَبَّاسَ عَلِيَّ الْجَاجَمَوِيَّ الْهِنْدِيَّ صَنَّفَ أَوَّلًا كِتَابًا كَبِيرًا فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ التَّثْلِيثِ سَمَّاهُ (صَوْلَةُ الضَّيْغَمِ عَلَى أَعْدَاءِ ابْنِ مَرْيَمَ) ثُمَّ نَاظَرَ هُوَ رَحِمَهُ اللهُ ويت ووليم الْقِسِّيسَيْنِ فِي بَلَدٍ كَانْفُورَ مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ وَأَلْزَمَهُمَا، ثُمَّ اخْتَصَرَ كِتَابَهُ وَسَمَّى الْمُخْتَصَرَ (خُلَاصَةَ صَوْلَةِ الضَّيْغَمِ) وَمُنَاظَرَتُهُ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ أُنَاظِرَ مِيزَانَ الْحَقِّ فِي أَكْبَرَ آبَادْ بِمِقْدَارِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
(الْبِشَارَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ)
هَذِهِ الْبِشَارَةُ وَاقِعَةٌ فِي آخِرِ أَبْوَابِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا وَأَنَا أَنْقُلُهَا عَنِ التَّرَاجِمِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٢١ وَسَنَةَ ١٨٣١ وَسَنَةَ ١٨٤٤ فِي بَلْدَةِ لَنْدَنَ فَأَقُولُ: فِي الْبَابِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (١٥ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ ١٦ وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ فَيُعْطِيكُمْ فَارْقَلِيطَ آخَرَ لِيُثْبِتَ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ ١٧ رُوحَ الْحَقِّ الَّذِي لَنْ يُطِيقَ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ عِنْدَكُمْ وَهُوَ ثَابِتٌ فِيكُمْ ٢٦ وَالْفَارَقْلِيطُ رُوحُ الْقُدُسِ الَّذِي يُرْسِلُهُ الْآبُ بِاسْمِي هُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ يُذَكِّرُكُمْ كُلَّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ ٣٠ وَالْآنَ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى إِذَا كَانَ تُؤْمِنُونَ (وَفِي الْبَابِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (٢٦ فَأَمَّا إِذَا جَاءَ الْفَارَقْلِيطُ الَّذِي أُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الْأَبِ رُوحِ الْحَقِّ الَّذِي مِنَ الْأَبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِأَجْلِي ٢٧ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ لِأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ) وَفِي الْبَابِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (٧ لَكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ أَنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ
أَنْطَلِقَ لِأَنِّي إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لَمْ يَأْتِكُمُ الْفَارَقْلِيطُ، فَأَمَّا إِنِ انْطَلَقْتُ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ ٨ فَإِذَا جَاءَ ذَاكَ يُوَبِّخُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى حُكْمٍ (٩ أَمَّا عَلَى الْخَطِيَّةِ فَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِي ١٠ وَأَمَّا عَلَى الْبَرِّ، فَلِأَنِّي مُنْطَلِقٌ إِلَى الْأَبِ، وَلَسْتُمْ تَرَوْنَنِي بَعْدُ ١١ وَأَمَّا عَلَى الْحُكْمِ فَأَنْ أَكُونَ (رَئِيسَ) هَذَا الْعَالَمِ قَدْ دين ١٢ وَإِنَّ لِي كَلَامًا كَثِيرًا أَقُولُهُ لَكُمْ، وَلَكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُطِيقُونَ حَمْلَهُ الْآنَ ١٣ وَإِذَا جَاءَ رُوحُ الْحَقِّ ذَاكَ فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ جَمِيعَ الْحَقِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَنْطِقُ مَنْ عِنْدِهِ بَلْ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ وَيُخْبِرُكُمْ بِمَا سَيَأْتِي ١٤ وَهُوَ يُمَجِّدُنِي لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا هُوَ لِي وَيُخْبِرُكُمْ ١٥ جَمِيعَ مَا هُوَ لِلْأَبِ فَهُوَ لِي فَمِنْ أَجْلِ هَذَا قُلْتُ إِنَّ مِمَّا هُوَ لِي يَأْخُذُ وَيُخْبِرُكُمْ).
وَأَنَا أُقَدِّمُ قَبْلَ بَيَانِ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ أَمْرَيْنِ: (الْأَمْرُ الْأَوَّلُ) أَنَّك قَدْ عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ السَّابِعِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ سَلَفًا وَخَلَفًا عَادَتُهُمْ أَنْ يُتَرْجِمُوا غَالِبًا الْأَسْمَاءَ (أَيِ الْأَعْلَامَ)، وَأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَتَكَلَّمُ بِاللِّسَانِ الْعِبْرَانِيِّ لَا بِالْيُونَانِيِّ، فَإِذًا لَا يَبْقَى شَكٌّ فِي أَنَّ الْإِنْجِيلَ الرَّابِعَ تَرْجَمَ اسْمَ الْمُبَشَّرِ بِهِ بِالْيُونَانِيِّ بِحَسْبِ عَادَتِهِمْ ثُمَّ مُتَرْجِمُو الْعَرَبِيَّةِ عَرَّبُوا اللَّفْظَ بِفَارَقْلِيطَ، وَقَدْ وَصَلَتْ إِلَيَّ رِسَالَةٌ صَغِيرَةٌ بِلِسَانِ
أُرْدُو " مِنْ رَسَائِلِ الْقِسِّيسِينَ فِي سَنَةِ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَثَمَانِيَةٍ وَسِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَكَانَتْ هَذِهِ الرَّسَائِلُ طُبِعَتْ فِي " كَلَكَتَّهْ " وَكَانَتْ فِي تَحْقِيقِ لَفْظِ (فَارْقَلِيطَ) وَادَّعَى مُؤَلِّفُهَا أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ يُنَبِّهَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى سَبَبِ وُقُوعِهِمْ فِي الْغَلَطِ مِنْ لَفْظِ فَارَقْلِيطَ، وَكَانَ مُلَخَّصُ كَلَامِهِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُعَرَّبٌ مِنَ اللَّفْظِ الْيُونَانِيِّ " فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْيُونَانِيَّ الْأَصْلِ بَارَاكَلِي طُوسَ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمُعَزِّي وَالْمُعِينُ وَالْوَكِيلِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ اللَّفْظَ الْأَصْلَ بِيرَكْلُوطُوَس يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَى مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ، فَمَنِ اسْتَدَلَّ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ فَهِمَ أَنَّ اللَّفْظَ الْأَصْلُ بِيرَكْلُوطُوس وَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ فَادَّعَى أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَخْبَرَ بِمُحَمَّدٍ أَوْ أَحْمَدَ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ بار كلي طوس " انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِهِ.
(يَقُولُ مُحَمَّدْ رَشِيدْ مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ) : إِنَّنِي أُوَضِّحُ هُنَا مَا كَتَبَهُ الشَّيْخُ
رَحْمَةُ اللهِ بِكَلِمَةٍ لِلدُّكْتُورِ مُحَمَّدْ تَوْفِيقْ صِدْقِي أَوْرَدَهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ فِي كِتَابِهِ (دِينُ اللهِ فِي كُتُبِ أَنْبِيَائِهِ) قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: هَذَا اللَّفْظُ (الْفَارَقْلِيطُ) يُونَانِيٌّ وَيُكْتَبُ بِالْإِنْكِلِيزِيَّةِ هَكَذَا (paraclete) بَارَقْلِيطُ أَيِ (الْمُعَزِّي) وَيَتَضَمَّنُ أَيْضًا مَعْنَى (الْمُحَاجِّ) كَمَا قَالَ بوست فِي قَامُوسِهِ، وَهَاكَ لَفْظًا آخَرَ يُكْتَبُ هَكَذَا (periclite) وَمَعْنَاهُ رَفِيعُ الْمَقَامِ. سَامٍ. جَلِيلٌ. مَجِيدٌ. شَهِيرٌ. وَهِيَ كُلُّهَا مَعَانٍ تُقَرِّبُ مِنْ مَعْنَى مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَمَحْمُودٍ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَسِيحَ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْعِبْرِيَّةِ فَلَا نَدْرِي مَاذَا كَانَ اللَّفْظُ الَّذِي نَطَقَ بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ وَلَا نَدْرِي إِنْ كَانَتْ تَرْجَمَةُ مُؤَلِّفِ هَذَا الْإِنْجِيلِ لَهُ بِلَفْظِ (paraclete) صَحِيحَةً أَوْ خَطَأً؟ وَلَا نَدْرِي إِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ (paraclete) هُوَ الَّذِي تُرْجِمَ بِهِ مِنْ قَبْلُ أَمْ لَا؟ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَلْفَاظِ وَالْعِبَارَاتِ وَقَعَ فِيهَا التَّحْرِيفُ مِنَ الْكُتَّابِ سَهْوًا أَوْ قَصْدًا، كَمَا اعْتَرَفُوا بِهِ فِي جَمِيعِ كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ (رَاجِعِ الْفَصْلَ الثَّالِثَ) فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ الْأَصْلِيُّ (periclite) بِيرقليطَ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ تَحَرَّفَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا إِلَى (paraclete) بَارَقْلِيطَ حَتَّى يُبْعِدُوهُ عَنْ مَعْنَى اسْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِمَّا يُسَهِّلُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ تَشَابُهُ أَحْرُفِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي اللُّغَةِ الْيُونَانِيَّةِ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَسَوَاءٌ كَانَ هُوَ (paraclete) بَارَقْلِيطَ أَوْ (periclite) بِيرِقْلِيطَ، فَمَعْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا يَنْطَبِقُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مُعَزٍّ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ الْكَافِرِينَ، وَعَلَى وُجُودِ الشَّرِّ فِي هَذَا الْعَالِمِ بِإِيضَاحِ أَنَّ هَذِهِ هِيَ إِرَادَةُ اللهِ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا هُوَ، وَمُعَزٍّ أَيْضًا لِلْمُصَابِينَ وَالْمَرْضَى وَالْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِعَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحَاجُّ الْكُفَّارَ وَالْمُشْرِكِينَ وَغَيْرَهُمْ.
(إِذَا كَانَ مَعْنَاهَا الْمُحَاجُّ الْمُجَادِلُ كَمَا قَالَ بوست) وَهُوَ شَهِيرٌ سَامٍ جَلِيلٌ مَجِيدٌ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ الْأَصْلِيُّ (بِيرِقْلِيطُ) وَالْعِبَارَاتُ الْوَارِدَةُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ صَاحِبُ كِتَابِ إِظْهَارِ الْحَقِّ وَمُؤَلِّفُ كِتَابِ (فَتْحِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ فِي بَشَائِرِ دِينِ الْإِسْلَامِ) وَكَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي
صَفْحَةِ ٨٢ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ اهـ. وَنَعُودُ إِلَى سِيَاقِ صَاحِبِ إِظْهَارِ الْحَقِّ الشَّيْخِ رَحْمَةِ اللهِ، قَالَ رَحِمَهُ اللهُ.
وَأَقُولُ: إِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ يَسِيرٌ جِدًّا، وَإِنَّ الْحُرُوفَ الْيُونَانِيَّةَ كَانَتْ مُتَشَابِهَةً، فَتَبَدُّلُ بيركلوطوس بباراكلي طوس فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنَ الْكَاتِبِ قَرِيبُ الْقِيَاسِ، ثُمَّ رَجَّحَ أَهْلُ التَّثْلِيثِ الْمُنْكِرِينَ هَذِهِ النُّسْخَةَ عَلَى النُّسَخِ الْأُخَرِ، وَمَنْ تَأْمَّلَ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَالْأَمْرَ السَّابِعَ مِنْ هَذَا الْمَسْلَكِ السَّادِسِ بِنَظَرِ الْإِنْصَافِ اعْتَقَدَ يَقِينًا بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ مَنْ أَهْلِ الدِّيَانَةِ مِنْ أَهْلِ التَّثْلِيثِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ.
(وَالْأَمْرُ الثَّانِي) أَنَّ الْبَعْضَ ادَّعَوْا قَبْلَ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ مَصَادِيقُ لَفْظِ فَارَقْلِيطَ، مَثَلًا منتنس الْمَسِيحِيُّ الَّذِي كَانَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي مِنَ الْمِيلَادِ، وَكَانَ مُرْتَاضًا شَدِيدَ الِارْتِيَاضِ وَأَتْقَى أَهْلِ عَهْدِهِ: ادَّعَى فِي قُرْبِ سَنَةِ ١٧٧ مِنَ الْمِيلَادِ فِي آسْيَا الصُّغْرَى الرِّسَالَةَ، وَقَالَ: إِنِّي الْفَارَقْلِيطُ الَّذِي وَعَدَ بِمَجِيئِهِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَتَبِعَهُ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ، وَذَكَرَ وِلْيَمْ مَيُورْ حَالَهُ وَحَالَ مُتَّبِعِيهِ فِي الْقَسَمِ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ تَارِيخِهِ بِلِسَانِ أُرْدُو الْمَطْبُوعِ سَنَةَ ١٨٤٨ مِنَ الْمِيلَادِ هَكَذَا: إِنَّ الْبَعْضَ قَالُوا إِنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ الْفَارَقْلِيطُ يَعْنِي الْمُعَزِّي رُوحُ الْقُدُسِ، وَهُوَ كَانَ أَتْقَى (؟) وَمُرْتَاضًا شَدِيدًا (؟) وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَبِلَهُ النَّاسُ قَبُولًا زَائِدًا، انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَعُلِمَ أَنَّ انْتِظَارَ الْفَارَقْلِيطِ كَانَ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى الْمَسِيحِيَّةِ أَيْضًا وَلِذَلِكَ كَانَ النَّاسُ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مَصَادِيقُهُ، وَكَانَ الْمَسِيحِيُّونَ يَقْبَلُونَ دَعَاوِيَهُمْ. وَقَالَ صَاحِبُ لُبِّ التَّوَارِيخِ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالْمَسِيحِيِّينَ مِنْ مُعَاصِرِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِنَبِيٍّ، فَحَصَلَ لِمُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ نَفْعٌ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ هُوَ ذَاكَ الْمُنْتَظَرُ، انْتَهَى مُلَخَّصُ كَلَامِهِ. فَيُعْلَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَيْضًا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِخُرُوجِ نَبِيٍّ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ النَّجَاشِيَّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ كِتَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ أَنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي يَنْتَظِرُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَكَتَبَ الْجَوَابَ وَكَتَبَ فِي الْجَوَابِ: أَشْهَدُ أَنَّكَ
رَسُولُ اللهِ صَادِقًا وَمُصَدِّقًا، وَقَدْ بَايَعْتُكَ وَبَايَعْتُ ابْنَ عَمِّكَ - أَيْ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - وَأَسْلَمْتُ عَلَى يَدَيْهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اهـ. وَهَذَا النَّجَاشِيُّ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ نَصْرَانِيًّا.
وَكَتَبَ الْمُقَوْقِسُ مِلْكُ الْقِبْطِ فِي جَوَابِ كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا: (إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ مِنَ الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ، وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ فِيهِ وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ نَبِيًّا قَدْ بَقِيَ، وَقَدْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِالشَّامِ، وَقَدْ أَكْرَمْتُ رَسُولَكَ، اهـ. وَالْمُقَوْقِسُ هَذَا وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ لَكِنَّهُ أَقَرَّ فِي كِتَابِهِ: أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ نَبِيًّا قَدْ بَقِيَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَهَذَانِ الْمَلِكَانِ مَا كَانَا يَخَافَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَجْلِ شَوْكَتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
وَجَاءَ الْجَارُودُ بْنُ الْعَلَاءِ فِي قَوْمِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ جِئْتَ بِالْحَقِّ، وَنَطَقْتَ الصِّدْقَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَقَدْ وَجَدْتُ وَصْفَكَ فِي الْإِنْجِيلِ، وَبَشَّرَ بِكَ ابْنُ الْبَتُولِ، فَطُولُ التَّحِيَّةِ لَكَ، وَالشُّكْرُ لِمَنْ أَكْرَمَكَ، لَا أَثَرَ بَعْدَ عَيْنٍ، وَلَا شَكَّ بَعْدَ يَقِينٍ، مُدَّ يَدَكَ فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّكَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ثُمَّ آمَنَ قَوْمُهُ، وَهَذَا الْجَارُودُ كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَدْ بَشَّرَ بِهِ ابْنُ الْبَتُولِ أَيْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَسِيحِيِّينَ أَيْضًا كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِخُرُوجِ نَبِيٍّ بَشَّرَ بِهِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَأَقُولُ: إِنَّ اللَّفْظَ الْعِبْرَانِيَّ الَّذِي قَالَهُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَفْقُودٌ، وَاللَّفْظُ الْيُونَانِيُّ الْمَوْجُودُ تَرْجَمَةٌ لَكِنِّي أَتْرُكُ الْبَحْثَ عَنِ الْأَصْلِ، وَأَتَكَلَّمُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الْيُونَانِيِّ فَأَقُولُ: إِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْيُونَانِيُّ الْأَصْلِ بيركلوطوس، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ وَتَكُونُ بِشَارَةُ الْمَسِيحِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَفْظٍ هُوَ قَرِيبٌ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَرِيبَ الْقِيَاسِ بِالنَّظَرِ إِلَى عَادَاتِهِمْ لَكِنِّي أَتْرُكُ هَذَا الِاحْتِمَالَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ عَلَيْهِ إِلْزَامًا، وَأَقُولُ: إِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْيُونَانِيُّ الْأَصْلِ باراكلي طوس كَمَا يَدَّعُونَ فَهَذَا لَا يُنَافِي الِاسْتِدْلَالَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمُعَزِّي وَالْمُعِينُ وَالْوَكِيلُ عَلَى مَا بَيْنَ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ أَوِ الشَّافِعِ كَمَا يُوجَدُ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا تَصْدُقُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَأَنَا أُبَيِّنُ الْآنَ أَنَّ الْمُرَادَ بالْفَارَقْلِيطِ النَّبِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ أَعْنِي مُحَمَّدًا - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا الرُّوحُ النَّازِلُ عَلَى تَلَامِيذِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمَ الدَّارِ الَّذِي جَاءَ ذِكْرُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ، وَأَذْكُرُ ثَانِيًا شُبَهَاتِ عُلَمَاءِ الْمَسِيحِيَّةِ، وَأُجِيبُ عَنْهَا فَأَقُولُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: (١) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ أَوَّلًا (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ) ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْفَارَقْلِيطِ. فَمَقْصُودُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَعْتَقِدَ السَّامِعُونَ بِأَنَّ مَا يُلْقَى عَلَيْهِمْ بَعْدُ ضَرُورِيٌّ وَاجِبُ الرِّعَايَةِ، فَلَوْ كَانَ الْفَارَقْلِيطِ عِبَارَةً عَنِ الرُّوحِ النَّازِلِ يَوْمَ الدَّارِ لَمَا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى هَذِهِ الْفِقْرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مَظْنُونًا أَنْ يَسْتَبْعِدَ الْحَوَارِيُّونَ نُزُولَ الرُّوحِ عَلَيْهِمْ مَرَّةً أُخْرَى
لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَفِيضِينَ مِنْهُ مِنْ قَبْلُ أَيْضًا، بَلْ لَا مَجَالَ لِلِاسْتِبْعَادِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِذَا نَزَلَ عَلَى قَلْبِ أَحَدٍ، وَحَلَّ فِيهِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ لَا مَحَالَةَ ظُهُورًا بَيِّنًا فَلَا يُتَصَوَّرُ إِنْكَارُ الْمُتَأَثِّرِ مِنْهُ، وَلَيْسَ ظُهُورُهُ عِنْدَهُمْ فِي صُورَةٍ يَكُونُ فِيهِ مَظِنَّةً يَكُونُ الِاسْتِبْعَادُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ. حَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا عَلِمَ بِالتَّجْرِبَةِ وَبِنُورِ النُّبُوَّةِ أَنَّ الْكَثِيرِينَ مِنْ أُمَّتِهِ يُنْكِرُونَ النَّبِيَّ الْمُبَشَّرَ بِهِ عِنْدَ ظُهُورِهِ أَكَّدَهُ أَوَّلًا بِهَذِهِ الْفِقْرَةِ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ مَجِيئِهِ.
(٢) إِنَّ هَذَا الرُّوحَ مُتَّحِدٌ بِالْأَبِ مُطْلَقًا وَبِالِابْنِ نَظَرًا إِلَى هُوَّتِهِ اتِّحَادًا حَقِيقِيًّا فَلَا يَصْدُقُ فِي حَقِّهِ (فَارَقْلِيطُ آخَرُ) بِخِلَافِ النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ هَذَا الْقَوْلَ فِي حَقِّهِ بِلَا تَكَلُّفٍ.
(٣) إِنَّ الْوَكَالَةَ وَالشَّفَاعَةَ مِنْ خَوَاصِّ النُّبُوَّةِ لَا مِنْ خَوَاصِّ هَذِهِ الرُّوحِ الْمُتَّحِدِ بِاللهِ فَلَا يَصْدُقَانِ عَلَى الرُّوحِ، وَيَصْدُقَانِ عَلَى النَّبِيِّ الْمُبَشَّرِ بِهِ بِلَا تَكَلُّفٍ.
(٤) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: (هُوَ يُذَكِّرُكُمْ كُلَّ مَا قَلْتُهُ لَكُمْ) وَلَمْ يَثْبُتْ فِي رِسَالَةٍ مِنْ رَسَائِلِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ كَانُوا قَدْ نَسُوا مَا قَالَهُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَذَا الرُّوحُ النَّازِلُ يَوْمَ الدَّارِ ذَكَّرَهُمْ إِيَّاهُ.
(٥) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: (وَالْآنَ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ (أَنْ يُوجَدَ) حَتَّى إِذَا كَانَ - أَيْ وُجِدَ وَبُعِثَ - تُؤْمِنُونَ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ
بِهِ لَيْسَ الرُّوحَ؛ لِأَنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ أَنَّهُ مَا كَانَ عَدَمُ الْإِيمَانِ مَظْنُونًا مِنْهُمْ وَقْتَ نُزُولِهِ بَلْ لَا مَجَالَ لِلِاسْتِبْعَادِ أَيْضًا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْحَكِيمِ الْعَاقِلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ فُضُولٍ، فَضْلًا عَنْ شَأْنِ النَّبِيِّ الْعَظِيمِ الشَّأْنِ، فَلَوْ أَرَدْنَا بِهِ النَّبِيَّ الْمُبَشَّرَ بِهِ يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَحَلِّهِ، وَفِي غَايَةِ الِاسْتِحْسَانِ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ مَرَّةً ثَانِيَةً.
(٦) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: (هُوَ يَشْهَدُ لِأَجْلِي). وَهَذَا الرُّوحُ مَا شَهِدَ لِأَجْلِهِ بَيْنَ أَيْدِي أَحَدٍ؛ لِأَنَّ تَلَامِيذَهُ الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمَسِيحَ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ قَبْلَ نُزُولِهِ أَيْضًا فَلَا فَائِدَةَ لِلشَّهَادَةِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَالْمُنْكِرُونَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُحْتَاجِينَ لِلشَّهَادَةِ فَهَذَا الرُّوحُ مَا شَهِدَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ بِخِلَافِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ شَهِدَ لِأَجْلِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَصَدَّقَهُ وَبَرَّأَهُ عَنِ ادِّعَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَبَرَّأَ أُمَّهُ عَنْ تُهْمَةِ الزِّنَا، وَجَاءَ ذِكْرُ بَرَاءَتِهِمَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَفِي الْأَحَادِيثِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ مَحْصُورَةٍ.
(٧) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (قَالَ وَأَنْتُمْ تُشْهِدُونَ؛ لِأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ) وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ هَكَذَا) وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا؛ لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ) وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٦٠ هَكَذَا (وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا لِأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ (فَيُوجَدُ فِي هَذِهِ التَّرَاجِمِ الثَّلَاثِ لَفْظُ أَيْضًا وَكَذَا يُوجَدُ فِي التَّرَاجِمِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ وَسَنَةَ ١٨٢٨ وَسَنَةَ ١٨٤١ وَفِي تَرْجَمَةِ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٤ تَرْجَمَةُ لَفْظِ أَيْضًا، فَلَفْظُ " أَيْضًا " سَقَطَ مِنَ التَّرَاجِمِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْهَا عِبَارَةُ يُوحَنَّا سَهْوًا أَوْ قَصْدًا فَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْحَوَارِيِّينَ غَيْرُ شَهَادَةِ الْفَارَقْلِيطِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الرُّوحَ النَّازِلَ يَوْمَ الدَّارِ لَمْ تُوجَدْ مُغَايَرَةٌ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَشْهَدْ شَهَادَةً مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ شَهَادَةِ الْحَوَارِيِّينَ بَلْ شَهَادَةُ الْحَوَارِيِّينَ هِيَ شَهَادَتُهُ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الرُّوحَ مَعَ كَوْنِهِ إِلَهًا مُتَّحِدًا بِاللهِ اتِّحَادًا حَقِيقِيًّا بَرِيًّا مِنَ النُّزُولِ وَالْحُلُولِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالشَّكْلِ - الَّتِي هِيَ مِنْ عَوَارِضِ الْجِسْمِ وَالْجُسْمَانِيَّاتِ - نَزَلَ مِثْلَ رِيحٍ عَاصِفَةٍ، وَظَهَرَ فِي أَشْكَالِ أَلْسِنَةٍ مُنْقَسِمَةٍ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَوْمَ الدَّارِ فَكَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ عَلَيْهِ أَثَرُ الْجِنِّ، فَكَمَا أَنَّ قَوْلَ الْجِنِّ يَكُونُ قَوْلَهُ فِي تِلْكَ
الْحَالَةِ فَكَذَلِكَ كَانَتْ شَهَادَةُ الرُّوحِ هِيَ شَهَادَةُ الْحَوَارِيِّينَ، فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيَّ الْمُبَشَّرَ بِهِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ شَهَادَةِ الْحَوَارِيِّينَ.
(٨) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لَمْ يَأْتِكُمُ الْفَارَقْلِيطُ فَأَمَّا إِنِ انْطَلَقْتُ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ (فَعَلَّقَ مَجِيئَهُ بِذَهَابِهِ وَهَذَا الرُّوحُ عِنْدَهُمْ نَزَلَ عَلَى الْحَوَارِيِّينَ فِي حُضُورِهِ لَمَّا أَرْسَلَهُمْ إِلَى الْبِلَادِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ فَنُزُولُهُ لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ بِذَهَابِهِ فَلَا يَكُونُ مُرَادًا بالْفَارَقْلِيطِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ شَخْصٌ لَمْ يَسْتَفِضْ مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ قَبْلَ زَمَانِ صُعُودِهِ، وَكَانَ مَجِيئُهُ مَوْقُوفًا عَلَى ذَهَابِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ ذَهَابِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَكَانَ مَجِيئُهُ مَوْقُوفًا عَلَى ذَهَابِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ وُجُودَ رَسُولَيْنِ ذَوِي شَرِيعَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ غَيْرُ جَائِزٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْآخِرُ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَةِ الْأَوَّلِ أَوْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الرُّسُلِ مُتْبِعًا لِشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وُجُودُ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَمَكَانٍ وَاحِدٍ كَمَا ثَبَتَ وُجُودُهُمْ مَا بَيْنَ زَمَانِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
(٩) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: (يُوَبِّخُ الْعَالَمَ) فَهَذَا الْقَوْلُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ الْجَلِيِّ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ وَبَخَّ الْعَالَمَ سِيَّمَا الْيَهُودَ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَوْبِيخًا لَا يَشُكُّ فِيهِ إِلَّا مُعَانِدٌ بَحْتٌ، وَسَيَكُونُ ابْنُهُ الرَّشِيدُ مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ رَفِيقًا لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي زَمَانِ قَتْلِ الدَّجَّالِ الْأَعْوَرِ وَمُتَابِعِيهِ، بِخِلَافِ الرُّوحِ النَّازِلِ يَوْمَ الدَّارِ، فَإِنَّ تَوْبِيخَهُ لَا يَصِحُّ عَلَى أُصُولِ أَحَدٍ، وَمَا كَانَ التَّوْبِيخُ مَنْصِبَ الْحَوَارِيِّينَ بَعْدَ نُزُولِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى الْمِلَّةِ بِالتَّرْغِيبِ
وَالْوَعْظِ. وَمَا قَالَ رانكين فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِدَافِعِ الْبُهْتَانِ الَّذِي هُوَ بِلِسَانِ أُرْدُو فِي رَدِّهِ عَلَى خُلَاصَةِ (صَوْلَةِ الضَّيْغَمِ) : إِنَّ لَفْظَ التَّوْبِيخِ لَا يُوجَدُ فِي الْإِنْجِيلِ، وَلَا فِي تَرْجَمَةٍ مِنْ تَرَاجِمِ الْإِنْجِيلِ، وَهَذَا الْمُسْتَدِلُّ أَوْرَدَ هَذَا اللَّفْظَ لِيَصْدُقَ عَلَى مُحَمَّدٍ صِدْقًا بَيِّنًا؛ لِأَجْلِ أَنْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَخَّ وَهَدَّدَ كَثِيرًا، إِلَّا أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّغْلِيظِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْخَائِفِينَ مِنَ اللهِ - انْتَهَى كَلَامُهُ - فَمَرْدُودٌ، وَهَذَا الْقِسِّيسُ إِمَّا جَاهِلٌ غَالِطٌ أَوْ مُغَالِطٌ لَيْسَ لَهُ إِيمَانٌ وَلَا خَوْفٌ مِنَ اللهِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُوجَدُ فِي التَّرَاجِمِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْهَا عِبَارَةُ يُوحَنَّا، وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٦٧١ فِي رُومِيَّةَ الْعُظْمَى، وَعِبَارَةُ التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ
الْمَطْبُوعَةِ فِي بَيْرُوتَ سَنَةَ ١٨٦٠ هَكَذَا (وَمَتَّى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ) إِلَخْ. وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ وَسَنَةَ ١٨٢٥، وَفِي التَّرَاجِمِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ وَسَنَةَ ١٨٢٨ وَسنَةَ ١٨٤١ يُوجَدُ لَفْظُ الْإِلْزَامِ. وَلَفْظُ التَّبْكِيتِ وَالْإِلْزَامِ أَيْضًا قَرِيبَانِ مِنَ التَّوْبِيخِ لَكِنْ لَا شِكَايَةَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ مِنْ عَادَاتِ عُلَمَاءِ بُرُوتُسْتَنْتْ، وَلِذَلِكَ تَرَى أَنَّ مُتَرْجِمِي الْفَارِسِيَّةَ وَأُرْدُو تَرَكُوا لَفْظَ فَارَقْلِيطَ لِشُهْرَتِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُتَرْجِمِ تَرْجَمَةِ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٣٩ فَاقَ أَسْلَافَهُ هَؤُلَاءِ أَيْضًا حَيْثُ أَرْجَعَ إِلَى الرُّوحِ ضَمَائِرَ الْمُؤَنَّثِ لِيَحْصُلَ الِاشْتِبَاهُ لِلْعَوَامِّ أَنَّ مِصْدَاقَ هَذَا اللَّفْظِ (أَيْ مَدْلُولَهُ) مُؤَنَّثٌ وَلَيْسَ بِمُذَكِّرٍ.
(١٠) قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (أَمَّا عَلَى الْخَطِيَّةِ فَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِي) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَارَقْلِيطَ يَكُونُ ظَاهِرًا عَلَى مُنْكِرِي عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُوَبِّخًا لَهُمْ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالرُّوحُ النَّازِلُ يَوْمَ الدَّارِ مَا كَانَ ظَاهِرًا عَلَى النَّاسِ مُوَبِّخًا لَهُمْ.
(١١) قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (إِنَّ لِي كَلَامًا كَثِيرًا أَقُولُهُ لَكُمْ وَلَكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُطِيقُونَ حَمْلَهُ الْآنَ (وَهَذَا يُنَافِي إِرَادَةَ الرُّوحِ النَّازِلِ يَوْمَ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى أَحْكَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهُ عَلَى زَعْمِ أَهْلِ التَّثْلِيثِ كَانَ أَمْرُ الْحَوَارِيِّينَ بِعَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ، وَبِدَعْوَةِ أَهْلِ الْعَالَمِ كُلِّهِ، فَأَيُّ أَمْرٍ حَصَلَ لَهُمْ أَزْيَدُ مِنْ أَقْوَالِهِ الَّتِي قَالَهَا إِلَى زَمَانِ صُعُودِهِ، نَعَمْ إِنَّهُمْ بَعْدَ نُزُولِ هَذَا الرُّوحِ أَسْقَطُوا جَمِيعَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ الَّتِي هِيَ مَا عَدَا بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْعَشْرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ الْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ، وَحَلَّلُوا جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا يَجُوزُ فِي شَأْنِهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ حَمْلَهُ؛ لِأَنَّهُمُ اسْتَطَاعُوا حَمْلَ سُقُوطِ حُكْمِ تَعْظِيمِ السَّبْتِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. وَكَانَ الْيَهُودُ يُنْكِرُونَ كَوْنَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَسِيحًا مَوْعُودًا بِهِ لِأَجْلِ عَدَمِ مُرَاعَاتِهِ هَذَا الْحُكْمَ، فَقَبُولُ سُقُوطِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ كَانَ أَهْوَنَ عِنْدَهُمْ، نَعَمْ قَبُولُ زِيَادَةِ الْأَحْكَامِ لِأَجْلِ ضَعْفِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِ الْقُوَّةِ إِلَى زَمَانِ صُعُودِهِ كَمَا يَعْتَرِفُ بِهِ عُلَمَاءُ بُرُوتُسْتَنْتْ كَانَ خَارِجًا عَنِ اسْتِطَاعَتِهِمْ فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بالْفَارَقْلِيطِ نَبِيٌّ تُزَادُ فِي شَرِيعَتِهِ
أَحْكَامٌ، وَيَثْقُلُ حَمْلُهَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ الضُّعَفَاءِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرِيعَةِ العِيسَوِيَّةِ.
(١٢) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: لَيْسَ يَنْطِقُ مِنْ عِنْدِهِ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَارَقْلِيطَ يَكُونُ بِحَيْثُ يُكَذِّبُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَاحْتَاجَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ يُقَرِّرَ حَالَ صِدْقِهِ فَقَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَلَا مَجَالَ لِمَظِنَّةِ التَّكْذِيبِ فِي حَقِّ الرُّوحِ النَّازِلِ يَوْمَ الدَّارِ عَلَى أَنَّ هَذَا الرُّوحَ عِنْدَهُمْ عَيْنُ اللهِ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: بَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَا يَسْمَعُ فَمِصْدَاقُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ فِي حَقِّهِ مَظِنَّةُ التَّكْذِيبِ، وَلَيْسَ هُوَ عَيْنَ اللهِ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٥٣: ٣، ٤) وَقَالَ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ (٦: ٥٠).
(١٣) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا هُوَ لِي، وَهَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَى الرُّوحِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ أَهْلِ التَّثْلِيثِ قَدِيمٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَقَادِرٌ مُطْلِقٌ، لَيْسَ لَهُ كَمَالٌ مُنْتَظَرٌ، بَلْ كُلُّ كَمَالٍ مِنْ كِمَالَاتِهِ حَاصِلٌ لَهُ بِالْفِعْلِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَوْعُودُ بِهِ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي يَكُونُ لَهُ كَمَالٌ مُنْتَظَرٌ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ مُوهِمًا أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّبِيُّ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَتِهِ دَفَعَهُ بِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ: (جَمِيعُ مَا لِلْأَبِ فَهُوَ لِي فَلِأَجْلِ هَذَا قُلْتُ مِمَّا هُوَ لِي يَأْخُذُ) يَعْنِي أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَحْصُلُ لِلْفَارَقْلِيطِ مِنَ اللهِ فَكَأَنَّهُ يَحْصُلُ مِنِّي كَمَا اشْتُهِرَ: مَنْ كَانَ لِلَّهِ كَانَ اللهُ لَهُ - فَلِأَجْلِ هَذَا قُلْتُ: إِنَّ مِمَّا هُوَ لِي يَأْخُذُ.
وَأَمَّا الثَّانِي أَعْنِي الشُّبَهَاتِ الَّتِي تُورِدُهَا عُلَمَاءُ بُرُوتُسْتَنْتْ فَخَمْسَةٌ: (الشُّبْهَةُ الْأَوْلَى) جَاءَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ تَفْسِيرُ الْفَارَقْلِيطِ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وَرُوحِ الْحَقِّ، وَهُمَا عِبَارَاتَانِ عَنِ الْأُقْنُومِ الثَّالِثِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بالْفَارَقْلِيطِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ: إِنَّ صَاحِبَ مِيزَانِ الْحَقِّ يَدَّعِي فِي تَأْلِيفَاتِهِ كَوْنَ أَلْفَاظِ رُوحِ اللهِ، وَرُوحِ الْقُدُسِ، وَرُوحِ الْحَقِّ، وَرُوحِ الصِّدْقِ، وَرُوحِ فَمِ اللهِ، بِمَعْنَى وَاحِدٍ. قَالَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي مِنْ مِفْتَاحِ الْأَسْرَارِ فِي الصَّفْحَةِ ٥٣
مِنَ النُّسْخَةِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٥٠: إِنَّ لَفْظَ رُوحِ اللهِ، وَلَفْظَ رُوحِ الْقُدُسِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ انْتَهَى. فَادَّعَى أَنَّ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الْعَهْدَيْنِ - وَقَالَ فِي حَلِّ الْإِشْكَالِ، فِي جَوَابِ كَشْفِ الْأَسْتَارِ: مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ مَا بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّ أَلْفَاظَ رُوحِ الْقُدُسِ وَرُوحِ الْحَقِّ وَرُوحِ فَمِ اللهِ وَغَيْرِهَا بِمَعْنَى رُوح اللهِ، فَلِذَلِكَ مَا رَأَيْتُ إِثْبَاتَهُ ضَرُورِيًّا انْتَهَى.
فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْقَوْلَ فَنَحْنُ نَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْ صِحَّةِ ادِّعَائِهِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ هَاهُنَا، وَنُسَلِّمُ تَرَادُفَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى زَعْمِهِ، لَكِنَّا نُنْكِرُ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ مَوَاضِعِ الْعَهْدَيْنِ بِمَعْنَى الْأُقْنُومِ الثَّالِثِ، وَنَقُولُ قَوْلًا مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ: مَنْ لَهُ شُعُورُ مَا يَكْتُبُ الْعَهْدَيْنِ يَعْرِفُ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْأُقْنُومِ الثَّالِثِ كَثِيرًا، فَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ كِتَابِ حِزْقِيَالَ قَوْلُ اللهِ - تَعَالَى - فِي خِطَابِ أُلُوفٍ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ أَحْيَاهُمْ بِمُعْجِزَةِ حِزْقِيَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَكَذَا: (فَأَجْعَلُ فِيكُمْ رُوحِي) فَفِي هَذَا الْقَوْلِ رُوحُ اللهِ بِمَعْنَى لِلنَّفْسِ النَّاطِقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا بِمَعْنَى الْأُقْنُومِ الثَّالِثِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ اللهِ عَلَى زَعْمِهِمْ - وَفِي الْبَابِ الرَّابِعِ مِنَ الرِّسَالَةِ الْأُولَى لِيُوحَنَّا تَرْجَمَةٌ عَرَبِيَّةٌ سَنَةَ ١٧٦٠ هَكَذَا (١ أَيُّهَا الْأَحِبَّاءُ لَا تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ بَلِ امْتَحِنُوا الْأَرْوَاحَ هَلْ هِيَ مِنَ اللهِ؟ ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْكَذَبَةَ كَثِيرُونَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى الْعَالِمِ ٢ بِهَذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ اللهِ: كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ اللهِ ٦ نَحْنُ مِنَ اللهِ فَمَنْ يَعْرِفُ اللهَ يَسْمَعُ لَنَا، وَمَنْ لَيْسَ مِنَ اللهِ لَا يَسْمَعُ لَنَا، مِنْ هَذَا تَعْرِفُ رُوحَ الْحَقِّ وَرُوحَ الضَّلَالِ (وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ) بِهَذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ اللهِ (وَفِي التَّرَاجِمِ الْعَرَبِيَّةِ الْأُخَرِ سَنَةَ ١٨٢١ وَسَنَةَ ١٨٣١ وَسَنَةَ ١٨٤٤ هَكَذَا (بِهَذَا يُعْرَفُ رُوحُ اللهِ) وَفِي تَرْجَمَةِ سَنَةِ ١٨٢٥ (فَإِنَّكُمْ تُمَيِّزُونَ رُوحِ اللهِ) وَلَفْظُ رُوحِ اللهِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَفْظُ رُوحٍ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ بِمَعْنَى الْوَاعِظُ الْحَقُّ لَا بِمَعْنَى الْأُقْنُومِ الثَّالِثِ، وَلِذَلِكَ تَرْجَمَ مُتَرْجَمُ تَرْجَمَةِ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٤٥ لَفْظَ كُلِّ رُوحٍ بِكُلِّ وَاعِظٍ، وَلَفْظَ الْأَرْوَاحِ بِالْوَاعِظِينَ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى، وَلَفْظَ رُوحٍ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بِالْوَاعِظِ مِنْ جَانِبِ اللهِ. وَلَفْظَ رُوحِ الْحَقِّ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ بِالْوَاعِظِ الصَّادِقِ. وَتَرْجَمَ لَفْظَ رُوحِ الضَّلَالِ
بِالْوَاعِظِ الْمُضِلِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِرَوْحِ اللهِ، وَرُوحِ الْحَقِّ الْأُقْنُومَ الثَّالِثَ الَّذِي هُوَ عَيْنُ اللهِ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. فَتَفْسِيرُ الْفَارَقْلِيطِ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَرُوحِ الْقُدُسِ وَرُوحِ الْحَقِّ لَا يَضُرُّنَا؛ لِأَنَّهُمَا بِمَعْنَى الْوَاعِظِ الْحَقِّ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ رُوحِ الْحَقِّ رُوحِ اللهِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الرِّسَالَةِ الْأُولَى لِيُوحَنَّا، فَيَصِحُّ إِطْلَاقُهُمَا عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا رَيْبٍ.
(الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) إِنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِضَمِيرِ " كُمْ " الْحَوَارِيُّونَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ الْفَارَقْلِيطُ فِي عَهْدِهِمْ، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَظْهَرْ فِي عَهْدِهِمْ.
(أَقُولُ) : هَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مَنْشَأَهُ أَنَّ الْحَاضِرِينَ وَقْتَ الْخِطَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا مُرَادِينَ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ، وَهُوَ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. أَلَّا تَرَى أَنَّ قَوْلَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ وَالسِّتِّينَ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى فِي خِطَابِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخِ وَالْمَجْمَعِ هَكَذَا. (وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ مِنَ الْآنِ تُبْصِرُونَ ابْنَ الْإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِيًا عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ) وَهَؤُلَاءِ الْمُخَاطَبُونَ قَدْ مَاتُوا:
وَمَضَتْ عَلَى مَوْتِهِمْ مُدَّةٌ هِيَ أَزْيَدُ مِنْ أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، وَمَا رَأَوْهُ آتِيًا عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ، فَكَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخَاطَبِينَ هَاهُنَا الْمَوْجُودُونَ مِنْ قَوْمِهِمْ وَقْتَ نُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، الْمُرَادُ: الَّذِينَ يُوجَدُونَ وَقْتَ ظُهُورِ الْفَارَقْلِيطِ.
(الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي حَقِّ الْفَارَقْلِيطِ أَنَّ الْعَالَمَ لَا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ، وَهُوَ لَا يَصْدُقُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ النَّاسَ رَأَوْهُ وَعَرَفُوهُ.
أَقُولُ: هَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهُمْ أَحْوَجُ النَّاسِ تَأْوِيلًا فِي هَذَا الْقَوْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا؛ لِأَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ عَيْنُ اللهِ عِنْدَهُمْ، وَالْعَالَمُ يَعْرِفُ اللهَ أَكْثَرَ مِنْ مَعْرِفَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا بُدَّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْرِفَةِ الْمَعْرِفَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الْكَامِلَةُ. فَفِي صُورَةِ التَّأْوِيلِ اشْتِبَاهٌ فِي صِدْقِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنَّ الْعَالَمَ لَا يَعْرِفُهُ مَعْرِفَةً حَقِيقِيَّةً كَامِلَةً. وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ مَعْرِفَةً حَقِيقِيَّةً كَامِلَةً. وَالْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ الْمُعَرَّفَةُ، وَلِذَا لَمْ يُعِدْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَفْظَ الرُّؤْيَةِ بَعْدَ لَفْظِ أَنْتُمْ، بَلْ قَالَ: وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ، وَلَوْ حَمَلْنَا الرُّؤْيَةَ عَلَى الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ يَكُونُ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ مَحْمُولًا عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِ الْإِنْجِيلِيِّ الْأَوَّلِ فِي الْبَابِ
الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ. وَأَنْقُلُ عِبَارَتَهُ عَنِ التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ وَسَنَةَ ١٨٢٥ (١٣ فَلِذَلِكَ أَضْرِبُ لَكُمُ الْأَمْثَالَ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ، وَيَسْمَعُونَ وَلَا يَسْتَمِعُونَ وَلَا يَفْهَمُونَ ١٤ وَقَدْ كَمُلَ فِيهِمْ تَنَبُّؤُ أَشْعِيَا حَيْثُ قَالَ: إِنَّكُمْ تَسْتَمِعُونَ سَمْعًا وَلَا تَفْهَمُونَ، وَتَنْظُرُونَ نَظَرًا وَلَا تُبْصِرُونَ فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا.
وَأَمْثَالُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ مَعَانِيَ مَجَازِيَّةً لَكِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ، وَوَقَعَتْ فِي كَلَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَثِيرًا، فَفِي الْآيَةِ السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الِابْنَ إِلَّا الْأَبُ، وَلَا أَحَدٌ يَعْرِفُ الْأَبَ إِلَّا الِابْنُ، وَمَنْ أَرَادَ الِابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ (وَفِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (الَّذِي أَرْسَلَنِي حَقٌّ الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ) وَفِي الْبَابِ الثَّامِنِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (١٩ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلَا أَبِي لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضًا ٥٥ وَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَيِ اللهَ إِلَخْ). وَفِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (أَيُّهَا الْأَبُ إِنَّ الْعَالِمَ لَمْ يَعْرِفْكَ، أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ) فِي الْبَابِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (٧ لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضًا، وَمِنَ الْآنِ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ ٨ قَالَ لَهُ فيلبس يَا سَيِّدُ أَرِنَا الْأَبَ وَكَفَانَا ٩ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا هَذِهِ مَدَّتُهُ، وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فيلبس الَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْأَبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الْأَبَ؟) فَالْمُرَادُ بِالْمَعْرِفَةِ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمَعْرِفَةُ الْكَامِلَةُ، بِالرُّؤْيَةِ الْمُعَرَّفَةِ. وَإِلَّا لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالُ يَقِينًا: لِأَنَّ الْعَوَامَّ مِنَ النَّاسِ كَانُوا يَعْرِفُونَ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَضْلًا عَنْ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ وَالْكَهَنَةِ وَالْمَشَايِخِ وَالْحَوَارِيِّينَ، وَرُؤْيَةُ اللهِ بِالْبَصَرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ مُمْتَنِعَةٌ عَنْ أَهْلِ التَّثْلِيثِ أَيْضًا.
(الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ) أَنَّهُ وَقَعَ فِي حَقِّ الْفَارَقْلِيطِ (أَنَّهُ مُقِيمٌ عِنْدَكُمْ وَثَابِتٌ فِيكُمْ) وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْفَارَقْلِيطَ كَانَ فِي وَقْتِ الْخِطَابِ مُقِيمًا عِنْدَ الْحَوَارِيِّينَ وَثَابِتًا فِيهِمْ، فَكَيْفَ يَصْدُقُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -!.
أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ فِي التَّرَاجِمِ الْأُخْرَى هَكَذَا فَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ سَنَةَ ١٨١٦ وَسَنَةَ ١٨٢٥ (لِأَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ مَعَكُمْ وَسَيَكُونُ فِيكُمْ) وَالتَّرَاجِمُ الْفَارِسِيَّةُ الْمَطْبُوعَةُ سَنَةَ
١٨١٦ وَسَنَةَ ١٨٢٨ وَسَنَةَ ١٨٤١ وَتَرْجَمَةُ أُرْدُو الْمَطْبُوعَةُ سَنَةَ ١٨١٤ وَسَنَةَ ١٨٣٩ كُلُّهَا مُطَابِقَةٌ لِهَاتَيْنِ التَّرْجَمَتَيْنِ، وَفِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٦٠ هَكَذَا: (مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ (فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ " ثَابِتٌ فِيكُمْ " الثُّبُوتَ الِاسْتِقْبَالِيَّ يَقِينًا فَلَا اعْتِرَاضَ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَبَقِيَ قَوْلُهُ " مُقِيمٌ عِنْدَكُمْ ".
فَأَقُولُ: لَا يَصِحُّ حَمْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَعْنَى هُوَ مُقِيمٌ عِنْدَكُمُ الْآنَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ: (أَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ فَيُعْطِيكُمْ فَارَقْلِيطَ آخَرَ) وَقَوْلُهُ (قَدْ قُلْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى إِذَا كَانَ تُؤْمِنُونَ. وَقَوْلُهُ. إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لَمْ يَأْتِكُمُ الْفَارَقْلِيطُ) وَإِذَا أُوِّلَ نَقُولُ: إِنَّهُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ كَمَا أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي بَعْدَهُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَمَعْنَاهُ: يَكُونُ مُقِيمًا عِنْدَكُمْ فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَلَا خَدْشَةَ فِي صِدْقِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الِاسْتِقْبَالِ بِالْحَالِ بَلْ بِالْمَاضِي فِي الْأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ كَثِيرٌ فِي الْعَهْدَيْنِ - أَلَّا تَرَى أَنَّ حِزْقِيَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَخْبَرَ أَوَّلًا عَنْ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ وَإِهْلَاكِهِمْ حِينَ وُصُولِهِمْ إِلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْبَابِ التَّاسِعِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ كِتَابِهِ هَكَذَا (هَا هُوَ جَاءَ وَصَارَ يَقُولُ الرَّبُّ الْإِلَهُ هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قَلْتُ عَنْهُ) فَانْظُرُوا إِلَى قَوْلِهِ هَا هُوَ جَاءَ وَصَارَ - وَهَذَا الْقَوْلُ فِي التَّرْجَمَةِ الْفَارِسِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨٣٩ هَكَذَا (اينك رسيد وبوقوع بيوست) فَعَبَّرَ عَنِ الْحَالِ الْمُسْتَقْبَلِ بِالْمَاضِي لِكَوْنِهِ يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ، وَقَدْ مَضَتْ مُدَّةٌ أَزْيَدُ مِنْ أَلْفَيْنِ وَأَرْبَعمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَظْهَرْ خُرُوجُهُمْ - وَفِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوَحَنَّا هَكَذَا (الْحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الْآنُ حِينَ يَسْمَعُ الْأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللهِ وَالسَّامِعُونَ يُحْيَوْنَ) فَانْظُرُوا إِلَى قَوْلِهِ وَهِيَ الْآنُ، وَقَدْ مَضَتْ مُدَّةٌ أَزْيَدُ مِنْ أَلْفٍ وَثَمَانمِائَةِ سَنَةٍ وَلِمَ تَجِئْ هَذِهِ السَّاعَةُ، وَهِيَ إِلَى الْآنَ مَجْهُولَةٌ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَتَى تَجِيءُ!.
(الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ) فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ هَكَذَا (٤ وَفِيمَا هُوَ مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَاهُمْ أَلَّا يَبْرَحُوا مِنْ أُورْشَلِيمَ بَلْ يَنْتَظِرُوا مَوْعِدَ الْأَبِ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي ٥ لِأَنَّ يُوحَنَّا
عُمِّدَ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ لَيْسَ هَذِهِ الْأَحْكَامُ بِكَثِيرٍ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَارَقْلِيطَ هُوَ الرُّوحُ النَّازِلُ يَوْمَ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِوَعْدِ الْأَبِ هُوَ الْفَارَقْلِيطُ.
أَقُولُ: الِادِّعَاءُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَوْعِدِ الْأَبِ هُوَ الْفَارَقْلِيطُ ادِّعَاءٌ مَحْضٌ، بَلْ هُوَ غَلَطٌ لِثَلَاثَةَ عَشَرَ وَجْهًا، وَقَدْ عَرَّفْتُهَا، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْأَخْبَارَ عَنِ الْفَارَقْلِيطِ شَيْءٌ وَالْوَعْدَ بِإِنْزَالِ الرُّوحِ عَلَيْهِمْ مَرَّةً أُخْرَى شَيْءٌ آخَرُ. وَقَدْ وَفَّى اللهُ بِالْوَعْدَيْنِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ الْوَعْدِ الْأَوَّلِ بِمَجِيءِ الْفَارَقْلِيطِ، وَهَاهُنَا بِمَوْعِدِ الْأَبِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ يُوحَنَّا نَقَلَ بِشَارَةَ الْفَارَقْلِيطِ، وَلَمْ يَنْقُلْهَا الْإِنْجِلِيُّونَ الْبَاقُونَ - وَلُوقَا نَقَلَ مَوْعِدَ نُزُولِ الرُّوحِ الَّذِي نَزَلَ يَوْمَ الدَّارِ، وَلَمْ يَقُلْهُ يُوحَنَّا. وَلَا بَأْسَ فِيهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَتَّفِقُونَ فِي نَقْلِ الْأَقْوَالِ الْخَسِيسَةِ، كَرُكُوبِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى الْحِمَارِ وَقْتَ الذَّهَابِ إِلَى أُورْشَلِيمَ، اتَّفَقَ عَلَى نَقْلِهِ الْأَرْبَعَةُ، وَقَدْ يَتَخَالَفُونَ فِي نَقْلِ الْأَحْوَالِ الْعَظِيمَةِ، أَلَّا تَرَى أَنَّ لُوقَا انْفَرَدَ بِذِكْرِ إِحْيَاءِ ابْنِ الْأَرْمَلَةِ مِنَ الْأَمْوَاتِ فِي نَايِينَ، وَبِذِكْرِ إِرْسَالِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَبْعِينَ تِلْمِيذًا، وَبِذِكْرِ إِبْرَاءِ عَشَرَةِ بُرْصٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْحَالَاتِ أَحَدٌ مِنَ الْإِنْجِيلِيِّينَ، مَعَ أَنَّهَا مِنَ الْحَالَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَأَنَّ يُوحَنَّا انْفَرَدَ بِذِكْرِ وَلِيمَةِ الْعُرْسِ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَظَهَرَ مِنْ يَسُوعَ فِي مُعْجِزَةِ تَحْوِيلِ الْمَاءِ خَمْرًا، وَهَذِهِ الْمُعْجِزَةُ أَوَّلُ مُعْجِزَاتِهِ، وَسَبَبُ ظُهُورِ مَجْدِهِ وَإِيمَانِ التَّلَامِيذِ بِهِ، وَيَذْكُرُ إِبْرَاءَ السَّقِيمِ فِي بَيْتِ صَيْدَا فِي أُورْشَلِيمَ، وَهَذِهِ أَيْضًا مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ، وَالْمَرِيضُ كَانَ مَرِيضًا مِنْ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَيَذْكُرُ قِصَّةَ امْرَأَةٍ أُخِذَتْ فِي زِنَا، وَيَذْكُرُ إِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ، وَهَذَا أَيْضًا مَنْ أَعْظَمِ مُعْجِزَاتِهِ، وَهِيَ مُصَرَّحَةٌ بِهِمَا فِي الْبَابِ التَّاسِعِ وَبِذِكْرِ إِحْيَاءِ الْعَازَارِ مِنْ بَيْنِ الْأَمْوَاتِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا أَحَدٌ مِنَ الْإِنْجِلِيِّينَ، مَعَ أَنَّهَا حَالَاتٌ عَظِيمَةٌ، وَهَكَذَا حَالُ مَتَّى وَمُرْقُصَ، فَإِنَّهُمَا انْفَرَدَا بِذِكْرِ بَعْضِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْحَالَاتِ الَّتِي لَمَّ يَذْكُرْهُمَا غَيْرُهُمَا، وَإِذَا طَالَ الْبَحْثُ فِي هَذَا الْمَسْلَكِ فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْبِشَارَاتِ الَّتِي نَقَلْتُهَا عَنْ كُتُبِهِمُ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَهُمْ فِي زَمَانِنَا اهـ.
بِشَارَةُ إِنْجِيلِ بِرْنَابَا.
ذَكَرَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُعْنَ بِإِيرَادِ الْبِشَارَاتِ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي يَعُدُّهَا أَهْلُ الْكِتَابِ غَيْرَ قَانُونِيَّةٍ إِلَّا بِشَارَةَ إِنْجِيلِ بِرْنَابَا، وَقَدْ نَقَلَهَا عَنْ مُقَدِّمَةِ تَرْجَمَةِ الْقِسِّيسِ سايل الْإِنْكِلِيزِيِّ لِلْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهَا: (اعْلَمْ يَا بِرْنَابَا أَنَّ الذَّنْبَ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا يَجْزِي اللهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللهَ غَيْرُ رَاضٍ
عَنِ الذَّنْبِ، وَلَمَّا اكْتَسَبَ أُمِّي وَتَلَامِيذِي لِأَجْلِ الدُّنْيَا سَخِطَ اللهُ لِأَجْلِ هَذَا الْأَمْرِ، وَأَرَادَ بِاقْتِضَاءِ عَدْلِهِ أَنْ يَجْزِيَهُمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ غَيْرِ اللَّائِقَةِ لِيَحْصُلَ لَهُمُ النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ أَذِيَّةٌ هُنَاكَ، وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ بَرِيًّا لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَمَّا قَالُوا فِي حَقِّي إِنَّهُ اللهُ وَابْنُ اللهِ كَرِهَ اللهُ هَذَا الْقَوْلَ، وَاقْتَضَتْ مَشِيئَتُهُ أَلَّا تَضْحَكَ الشَّيَاطِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنِّي
وَلَا يَسْتَهْزِئُونَ بِي، فَأَرَادَ بِمُقْتَضَى لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يَكُونَ الضَّحِكُ وَالِاسْتِهْزَاءُ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ مَوْتِ يَهُوذَا، وَيَظُنُّ كُلُّ شَخْصٍ أَنِّي صُلِبْتُ، لَكِنَّ هَذِهِ الْإِهَانَةَ وَالِاسْتِهْزَاءَ تَبْقَيَانِ إِلَى أَنْ يَجِيءَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، فَإِذَا جَاءَ فِي الدُّنْيَا يُنَبِّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ عَلَى هَذَا الْغَلَطِ وَتَرْتَفِعُ هَذِهِ الشُّبْهَةُ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ " تَرْجَمَةُ كَلَامِهِ.
أَقُولُ: هَذِهِ الْبِشَارَةُ عَظِيمَةٌ وَإِنِ اعْتَرَضُوا بِأَنَّ هَذَا الْإِنْجِيلَ رَدَّهُ مَجَالِسُ عُلَمَائِنَا السَّلَفِ أَقُولُ: لَا اعْتِبَارَ لِرَدِّهِمْ وَقَبُولِهِمْ كَمَا عَلِمْتَ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا الْإِنْجِيلُ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الْقَدِيمَةِ، وَيُوجَدُ ذِكْرُهُ فِي كُتُبِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، فَعَلَى هَذَا كُتِبَ هَذَا الْإِنْجِيلُ قَبْلَ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِائَتَيْ سَنَةٍ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُخْبِرَ بِغَيْرِ الْإِلْهَامِ بِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِمِائَتَيْ سَنَةٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَإِنْ قَالُوا إِنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَرَّفَ هَذَا الْإِنْجِيلَ بَعْدَ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ هَذَا الِاحْتِمَالُ بَعِيدٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا الْتَفَتُوا إِلَى هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ أَيْضًا فَكَيْفَ إِلَى إِنْجِيلِ بِرْنَابَا، وَيَبْعُدُ أَنْ يُؤَثِّرَ تَحْرِيفُ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي إِنْجِيلِ بِرْنَابَا تَأْثِيرًا تُغَيَّرُ بِهِ النُّسَخُ الْمَوْجُودَةُ عِنْدَ الْمَسِيحِيِّينَ أَيْضًا وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ أَسْلَمُوا نَقَلُوا عَنْ كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْبِشَارَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَحَرَّفُوهَا فَعَلَى زَعْمِهِمْ أَقُولُ إِنَّ
هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءَ الْكِبَارَ حَرَّفُوا عَلَى زَعْمِهِمْ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ تَحْرِيفُهُمْ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَهُمْ فِي مَوَاضِعِ هَذِهِ الْبِشَارَاتِ، فَكَيْفَ أَثَّرَ تَحْرِيفُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي إِنْجِيلِ بِرْنَابَا فِي النُّسَخِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ؟ فَهَذَا الِاحْتِمَالُ وَاهٍ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَاجِبُ الرَّدِّ اهـ.
وَقَدْ خَتَمَ الشَّيْخُ (رَحْمَةُ اللهِ) - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - هَذِهِ الْبِشَارَاتِ بِتَنْبِيهٍ ذَكَّرَ فِيهِ الْقَارِئَ بِمَا بَيَّنَهُ مُفَصَّلًا مِنِ اخْتِلَافِ النَّصَارَى فِي تَرْجَمَةِ كُتُبِهِمْ وَالتَّغْيِيرِ فِيهَا زَمَنًا بَعْدَ زَمَنٍ؛ لِئَلَّا يَظُنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى مَا أَوْرَدَهُ وَرَآهُ مُخَالِفًا لِغَيْرِ التَّرْجَمَاتِ الَّتِي نَقَلَ عَنْهَا أَنَّهُ هُوَ الْمُخْطِئُ فِيمَا نَقَلَهُ، وَهَذَا مَشْهُورٌ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَهُ.
بَعْدَ هَذَا أَقُولُ: إِنَّ الشَّيْخَ رَحْمَةَ اللهِ لَمْ يَرَ إِنْجِيلَ بِرْنَابَا وَإِنَّمَا نَقَلَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ مِنْ مُقَدَّمَةِ سايل الْمُسْتَشْرِقِ الْإِنْجِلِيزِيِّ لِتَرْجَمَتِهِ لِلْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَسَايل هَذَا قَدِ اطَّلَعَ عَلَى إِحْدَى النُّسْخَتَيْنِ
اللَّتَيْنِ وُجِدَتَا مِنْ هَذَا الْإِنْجِيلِ فِي أَوَّلِ الْقَرْنِ الثَّامِنَ عَشَرَ، وَهِيَ النُّسْخَةُ الْأَسْبَانِيَّةُ وَقَدْ فُقِدَتْ، إِذْ كَانَ الْمُتَعَصِّبُونَ مِنَ النَّصَارَى يُتْلِفُونَ كُلَّ مَا عَثَرُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي تَعُدُّهَا الْكَنِيسَةُ غَيْرَ قَانُونِيَّةٍ، وَأَمَّا النُّسْخَةُ الْأُخْرَى فَهِيَ بِاللُّغَةِ الْإِيطَالِيَّةِ الْقَدِيمَةِ وَكَانَتْ فِي خِزَانَةِ كُتُبِ (الْفَاتِيكَانْ) فَسَرَقَهَا مِنْهَا رَاهِبٌ اسْمُهُ (مرينو) فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ السَّادِسَ عَشَرَ، وَيَظُنُّ أَنَّهَا هِيَ النُّسْخَةُ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ فِي خِزَانَةِ كُتُبِ بَلَاطِ (فِيِينَّا) وَقَدْ تُرْجِمَتْ هَذِهِ النُّسْخَةُ بِالْإِنْكِلِيزِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَسَعَيْنَا إِلَى تَرْجَمَتِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ سَنَةَ ١٣٢٥ وَطَبَعْنَاهَا طَبْعًا دَقِيقًا فِي مَطْبَعَةِ الْمَنَارِ، وَإِنَّنَا نَنْقُلُ عَنْهَا هُنَا نَصَّ بَعْضِ بِشَارَاتِهِ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ الْبِشَارَةِ الَّتِي نَقَلَهَا الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ إِذْ هِيَ مُتَعَدِّدَةٌ.
جَاءَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَالسَّبْعِينَ مِنْ هَذَا الْإِنْجِيلِ أَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَخْبَرَ الْحَوَارِيِّينَ أَنَّهُ سَيَنْصَرِفُ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ ثُمَّ قَالَ: (٧ فَبَكَى حِينَئِذٍ الرُّسُلُ قَائِلِينَ: يَا مُعْلِّمُ لِمَاذَا تَتْرُكُنَا، لِأَنَّ الْأَحْرَى بِنَا أَنْ نَمُوتَ مِنْ أَنْ تَتْرُكَنَا ٨ أَجَابَ يَسُوعُ: لَا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلَا تَخَافُوا ٩ لِأَنِّي لَسْتُ أَنَا الَّذِي خَلَقَكُمْ، بَلِ اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ يَحْمِيكُمْ ١٠ أَمَّا مِنْ خُصُوصِي فَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُ لِأُهَيِّئَ الطَّرِيقَ لِرَسُولِ اللهِ الَّذِي سَيَأْتِي بِخَلَاصِ الْعَالَمِ ١١
وَلَكِنِ احْذَرُوا أَنْ تُغَشُّوا؛ لِأَنَّهُ سَيَأْتِي أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ يَأْخُذُونَ كَلَامِي وَيُنَجِّسُونَ إِنْجِيلِي.
١٢ حِينَئِذٍ قَالَ اندراوس: يَا مُعَلِّمُ اذْكُرْ لَنَا عَلَّامَةً لِنَعْرِفَهُ ١٣ أَجَابَ يَسُوعُ: أَنَّهُ لَا يَأْتِي فِي زَمَنِكُمْ بَلْ يَأْتِي بَعْدَكُمْ بِعِدَّةِ سِنِينَ حِينَمَا يُبْطَلُ إِنْجِيلِي، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ ثَلَاثُونَ مُؤْمِنًا ١٤ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَرْحَمُ اللهُ الْعَالَمَ فَيُرْسِلُ رَسُولَهُ الَّذِي تَسْتَقِرُّ عَلَى رَأْسِهِ غَمَامَةٌ بَيْضَاءُ، يَعْرِفُهُ أَحَدُ مُخْتَارِي اللهِ وَهُوَ سَيُظْهِرُهُ لِلْعَالَمِ ١٥ وَسَيَأْتِي بِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ عَلَى الْفُجَّارِ وَيُبِيدُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مِنَ الْعَالَمِ ١٦ وَإِنِّي أُسَرَّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِوَاسِطَتِهِ سَيُعْلَنُ وَيُمَجَّدُ اللهُ وَيَظْهَرُ صِدْقِي ١٧ وَسَيَنْتَقِمُ مِنَ الَّذِينَ سَيَقُولُونَ إِنِّي أَكْبَرُ مِنْ إِنْسَانٍ ١٨ الْحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الْقَمَرَ سَيُعْطِيهِ رُقَادًا فِي صِبَاهُ، وَمَتَى كَبُرَ هُوَ أَخْذَهُ بِكَفَّيْهِ ١٩ فَلْيَحْذَرِ الْعَالِمُ أَنْ يَنْبِذَهُ؛ لِأَنَّهُ سَيَفْتِكُ بِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ ٢٠ فَإِنَّ مُوسَى عَبْدُ اللهِ قَتَلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَلَمْ يُبْقِ يَشُوعُ عَلَى الْمُدُنِ الَّتِي أَحْرَقُوهَا وَقَتَلُوا الْأَطْفَالَ ٢١ لِأَنَّ الْقُرْحَةَ الْمُزْمِنَةَ يُسْتَعْمَلُ لَهَا الْكَيُّ). (٢٢ وَسَيَجِيءُ بِحَقٍّ أَجْلَى مِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيُوَبِّخُ مَنْ لَا يُحْسِنُ السُّلُوكَ فِي الْعَالَمِ ٢٣ وَسَيُحْيِي طَرَبًا أَبْرَاجَ مَدِينَةِ آبَائِنَا بَعْضِهَا بَعْضًا ٢٤ فَمَتَى شُوهِدَ سُقُوطُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِلَى الْأَرْضِ، وَاعْتُرِفَ بِأَنِّي بَشَرٌ كَسَائِرِ الْبَشَرِ. فَالْحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنَّ نَبِيَّ اللهِ حِينَئِذٍ يَأْتِي
وَجَاءَ فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ وَالتِّسْعِينَ مِنْ مُحَاوَرَةٍ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَرَئِيسِ كَهَنَةِ الْيَهُودِ: أَنَّ الْكَاهِنَ سَأَلَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَأَجَابَ بِذِكْرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أُمِّهِ، وَبِأَنَّهُ بَشَرٌ مَيِّتٌ ثُمَّ قَالَ الْإِنْجِيلُ مَا نَصُّهُ: (٣ أَجَابَ الْكَاهِنُ: أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ مُوسَى أَنْ إِلَهًا سَيُرْسِلُ لَنَا مسيا الَّذِي سَيَأْتِي لِيُخْبِرَنَا بِمَا يُرِيدُ اللهُ، وَسَيَأْتِي لِلْعَالِمِ بِرَحْمَةِ اللهِ ٤ لِذَلِكَ أَرْجُوكَ أَنْ تَقُولَ لَنَا الْحَقَّ هَلْ أَنْتَ مَسْيَا اللهِ الَّذِي نَنْتَظِرُهُ؟.
(٥ أَجَابَ يَسُوعُ: حَقًّا إِنَّ اللهَ وَعَدَ هَكَذَا وَلَكِنِّي لَسْتُ هُوَ ; لِأَنَّهُ خُلِقَ
قَبْلِيِ وَسَيَأْتِي بَعْدِي.
(٦ أَجَابَ الْكَاهِنُ: إِنَّنَا نَعْتَقِدُ مِنْ كَلَامِكَ وَآيَاتِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنَّكَ نَبِيٌّ وَقُدُّوسُ اللهِ ٧ لِذَلِكَ أَرْجُوكَ بِاسْمِ الْيَهُودِيَّةِ كُلِّهَا وَإِسْرَائِيلَ أَنْ تُفِيدَنَا حُبًّا فِي اللهِ بِأَيَّةِ كَيْفِيَّةٍ سَيَأْتِي مَسْيَا؟) (٨ أَجَابَ يَسُوعُ: لَعَمْرُ اللهِ الَّذِي تَقِفُ بِحَضْرَتِهِ نَفْسِي إِنِّي لَسْتُ مَسْيَا الَّذِي تَنْتَظِرُهُ كُلُّ قَبَائِلِ الْأَرْضِ كَمَا وَعَدَ اللهُ أَبَانَا إِبْرَاهِيمَ قَائِلًا: بِنَسْلِكَ أُبَارِكُ كُلَّ قَبَائِلِ الْعَرَبِ ٩ وَلَكِنْ عِنْدَمَا يَأْخُذُنِي اللهُ مِنَ الْعَالِمِ سَيُثِيرُ الشَّيْطَانُ مَرَّةً أُخْرَى لِهَذِهِ الْفِتْنَةِ الْمَلْعُونَةِ بِأَنْ يَحْمِلَ عَادِمَ التَّقْوَى عَلَى الِاعْتِقَادِ بِأَنِّي اللهُ وَابْنُ اللهِ ١٠ فَيَتَنَجَّسَ بِسَبَبِ هَذَا كَلَامِي وَتَعْلِيمِي حَتَّى لَا يَكَادَ يَبْقَى ثَلَاثُونَ مُؤْمِنًا ١١ حِينَئِذٍ يَرْحَمُ اللهُ الْعَالِمَ، وَيُرْسِلُ رَسُولَهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ الْأَشْيَاءِ لِأَجْلِهِ ١٢ الَّذِي سَيَأْتِي مِنَ الْجَنُوبِ بِقُوَّةٍ وَسَيُبِيدُ الْأَصْنَامَ وَعَبَدَةَ الْأَصْنَامِ ١٣ وَسَيَنْتَزِعُ مِنَ الشَّيْطَانِ سُلْطَتَهُ عَلَى الْبَشَرِ ١٤ وَسَيَأْتِي بِرَحْمَةِ اللهُ لِخَلَاصِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ١٥ وَسَيَكُونُ مَنْ يُؤْمِنُ بِكَلَامِهِ مُبَارَكًا.
ثُمَّ قَالَ فِي الْفَصْلِ ٩٧ مَا نَصُّهُ: (١ وَمَعَ أَنِّي لَسْتُ مُسْتَحِقًّا أَنْ أَحُلَّ سَيْرَ حِذَائِهِ قَدْ نِلْتُ نِعْمَةً وَرَحْمَةً مِنَ اللهِ لِأَرَاهُ).
(٢ فَأَجَابَ حِينَئِذٍ الْكَاهِنُ مَعَ الْوَالِي وَالْمَلِكِ قَائِلِينَ لَا تُزْعِجُ نَفْسَكَ يَا يَسُوعُ قُدُّوسَ اللهِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْفِتْنَةَ لَا تَحْدُثُ فِي زَمَنِنَا مَرَّةً أُخْرَى ; لِأَنَّنَا سَنَكْتُبُ إِلَى مَجْلِسِ الشُّيُوخِ الرُّومَانِيِّ الْمُقَدَّسِ بِإِصْدَارِ أَمْرٍ مَلَكِيٍّ أَنْ لَا أَحَدَ يَدْعُوكَ فِيمَا بَعْدُ اللهَ أَوِ ابْنَ اللهِ (٤) فَقَالَ حِينَئِذٍ يَسُوعُ: إِنَّ كَلَامَكُمْ لَا يُعَزِّينِي ; لِأَنَّهُ يَأْتِي ظَلَامٌ حَيْثُ تَرْجُونَ النُّورَ ٥ وَلَكِنْ تَعْزِيتِي هِيَ فِي مَجِيءِ الرَّسُولِ الَّذِي سَيُبِيدُ كُلَّ رَأْيٍ كَاذِبٍ فِيَّ وَسَيَمْتَدُّ دِينُهُ وَيَعُمُّ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ ; لِأَنَّهُ هَكَذَا وَعَدَ اللهُ أَبَانَا إِبْرَاهِيمَ ٦ وَأَنَّ مَا يُعَزِّينِي هُوَ وَأَنْ لَا نِهَايَةَ لِدِينِهِ لِأَنَّ اللهَ سَيَحْفَظُهُ صَحِيحًا).
(٧ أَجَابَ الْكَاهِنُ: أَيَأْتِي رُسُلٌ آخَرُونَ بَعْدَ مَجِيءِ رَسُولِ اللهِ؟)
(٨ فَأَجَابَ يَسُوعُ: لَا يَأْتِي بَعْدَهُ أَنْبِيَاءُ صَادِقُونَ مُرْسَلُونَ مِنَ اللهِ ٩ وَلَكِنْ يَأْتِي عَدَدٌ غَفِيرٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ وَهُوَ مَا يُحْزِنُنِي ١٠ ; لِأَنَّ الشَّيْطَانَ سَيُثِيرُهُمْ بِحُكْمِ اللهِ الْعَادِلِ فَيَتَسَتَّرُونَ بِدَعْوَى إِنْجِيلِي.
(١١ أَجَابَ هِيدْرُوسُ: كَيْفَ أَنَّ مَجِيءَ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ يَكُونُ بِحُكْمِ اللهِ الْعَادِلِ؟.
(١٢ أَجَابَ يَسُوعُ: مِنَ الْعَدْلِ أَنَّ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْحَقِّ لِخَلَاصِهِ يُؤْمِنُ بِالْكَذِبِ لِلَعْنَتِهِ ١٣ لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الْعَالَمَ كَانَ يَمْتَهِنُ الْأَنْبِيَاءَ الصَّادِقِينَ دَائِمًا وَأَحَبَّ الْكَاذِبِينَ كَمَا يُشَاهَدُ فِي أَيَّامِ مِيشَعَ وَأَرْمِيَا ; لِأَنَّ الشَّبِيهَ يُحِبُّ شَبِيهَهُ).
(١٣ فَقَالَ الْكَاهِنُ حِينَئِذٍ: مَاذَا يُسَمَّى مسيا؟ وَمَا هِيَ الْعَلَامَةُ الَّتِي تُعْلِنُ مَجِيئَهُ ١٤ أَجَابَ يَسُوعُ: إِنَّ اسْمَ مسيا عَجِيبٌ ; لِأَنَّ اللهَ نَفْسَهُ سَمَّاهُ لَمَّا خَلَقَ نَفْسَهُ وَوَضْعَهَا فِي بَهَاءٍ سَمَاوِيٍّ ١٥ قَالَ اللهُ: اصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ ; لِأَنِّي لِأَجْلِكَ أُرِيدُ أَنْ أَخْلُقَ الْجَنَّةَ وَالْعَالَمَ وَجَمًّا غَفِيرًا مِنَ الْخَلَائِقِ الَّتِي أَهَبُهَا لَكَ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يُبَارِكُكَ يَكُونُ مُبَارَكًا، وَمَنْ يَلْعَنُكَ يَكُونُ مَلْعُونًا ١٦ وَمَتَى أَرْسَلْتُكَ إِلَى الْعَالَمِ أَجْعَلُكَ رَسُولِي لِلْخَلَاصِ وَتَكُونُ كَلِمَتُكَ صَادِقَةً، حَتَّى إِنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ تَهِنَانِ، وَلَكِنَّ إِيمَانَكَ لَا يَهِنُ أَبَدًا ١٧ إِنَّ اسْمَهُ الْمُبَارَكَ مُحَمَّدٌ.
(١٨ حِينَئِذٍ رَفَعَ الْجُمْهُورُ أَصْوَاتَهُمْ قَائِلِينَ: يَا اللهُ أَرْسِلْ لَنَا رَسُولَكَ يَا مُحَمَّدُ تَعَالَ سَرِيعًا لِخَلَاصِ الْعَالَمِ!) اهـ.
وَأَمَّا الْبِشَارَةُ الَّتِي نَقَلَهَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ فِي إِظْهَارِ الْحَقِّ فَهِيَ مِنَ الْفَصْلِ الْعِشْرِينَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ، وَلَيْسَ بَعْدَهُ غَيْرَ فَصْلَيْنِ مِنْ هَذَا الْإِنْجِيلِ، وَتَرْجَمَتُهَا قَرِيبَةٌ مِنَ التَّرْجَمَةِ الْأَخِيرَةِ لِلْإِنْجِيلِ كُلِّهِ.
تَنْبِيهٌ
لَقَدْ كَانَ مِنْ مَوَاضِعِ ارْتِيَابِ الْبَاحِثِينَ مِنْ عُلَمَاءِ أُورُبَّةَ فِي هَذَا الْإِنْجِيلِ ذِكْرُهُ لِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ (مُحَمَّدٍ) وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ بَعْضَ
الْمُسْلِمِينَ قَدْ دَسُّوا فِيهِ ذَلِكَ، وَقَوَّى شُبْهَتَهُمْ مَا وُجِدَ مِنَ التَّعْلِيقَاتِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى حَوَاشِي النُّسْخَةَ الطَّلْيَانِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ مِنْهُ إِلَى هَذَا الْعَهْدِ.
وَقَدْ فَنَّدْنَا هَذِهِ الشُّبْهَةَ فِي مُقَدِّمَتِنَا لِطَبْعَةِ هَذَا الْإِنْجِيلِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَا بَيَّنَاهُ مِنِ اسْتِحَالَةِ صُدُورِ هَذِهِ الْحَوَاشِي عَنْ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهَا عَلَى فَسَادِ لُغَتِهَا وَعُجْمَتِهَا مُخَالَفَةٌ لِمَا يَعْرِفُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ عَجَمِيًّا ; لِأَنَّهُ مِنْ أَذْكَارِ الدِّينِ كَكَلِمَةِ سُبْحَانَ اللهِ فَهِيَ تُذْكَرُ فِي هَذِهِ الْحَوَاشِي بِتَقْدِيمِ الْمُضَافِ
إِلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ هَكَذَا " اللهُ سُبْحَانَ " وَبَعْدَ أَنْ أَوْرَدْنَا فِي الْمُقَدِّمَةِ أَمْثِلَةً أُخْرَى كَهَذِهِ قُلْنَا: " وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى: أَضِفْ إِلَيْهَا عَدَمُ اطِّلَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِهَا عَلَى هَذَا الْإِنْجِيلِ كَمَا حَقَّقَهُ الدُّكْتُورُ مَرْجِلْيُوثُ الْمُسْتَشْرِقُ الْإِنْكِلِيزِيُّ. مُؤَيِّدًا تَحْقِيقَهُ بِخُلُوِّ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ رَدُّوا عَلَى النَّصَارَى مِنْ ذِكْرِهِ، وَنَاهِيكَ بِابْنِ حَزْمٍ الْأَنْدَلُسِيِّ وَابْنِ تَيْمِيَةَ الْمَشْرِقِيِّ، فَقَدْ كَانَا أَوْسَعَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ اطِّلَاعًا كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كُتُبِهِمَا وَلَمْ يَذْكُرَا فِي رَدِّهِمَا عَلَى النَّصَارَى هَذَا الْإِنْجِيلَ.
" بَقِيَ أَمْرٌ يَسْتَنْكِرُهُ الْبَاحِثُونَ فِي هَذَا الْإِنْجِيلِ بَحْثًا عِلْمِيًّا لَا دِينِيًّا أَشَدَّ الِاسْتِنْكَارِ وَهُوَ تَصْرِيحُهُ بِاسْمِ " النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ " عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَائِلِينَ. لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُتِبَ قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ ; إِذِ الْمَعْهُودُ فِي الْبِشَارَاتِ أَنْ تَكُونَ بِالْكِنَايَاتِ وَالْإِشَارَاتِ، وَالْعَرِيقُونَ فِي الدِّينِ لَا يَرَوْنَ مِثْلَ ذَلِكَ مُسْتَنْكِرًا فِي خَبَرِ الْوَحْيِ. وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بِيرَمْ عَنْ رَحَّالَةٍ إِنْكِلِيزِيٍّ أَنَّهُ رَأَى فِي دَارِ الْكُتُبِ الْبَابَوِيَّةِ فِي الْفَاتِيكَانِ نُسْخَةً مِنَ الْإِنْجِيلِ مَكْتُوبَةً بِالْقَلَمِ الْحِمْيَرِيِّ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَفِيهَا يَقُولُ الْمَسِيحُ (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمَهُ أَحْمَدُ) وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ بِالْحَرْفِ، وَلَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ رَأَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي فِيهَا هَذِهِ الْبِشَارَاتُ الصَّرِيحَةُ، فَيَظْهَرُ أَنَّ فِي مَكْتَبَةِ الْفَاتِيكَانِ مِنْ بَقَايَا تِلْكَ الْأَنَاجِيلِ وَالْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ مَمْنُوعَةً فِي الْقُرُونِ الْأُولَى مَا لَوْ ظَهَرَ لَأَزَالَ كُلَّ شُبْهَةٍ عَنْ إِنْجِيلِ بِرْنَابَا وَغَيْرِهِ.
" عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُتَرْجِمٌ بِاللُّغَةِ الْإِيطَالِيَّةِ قَدْ ذَكَرَ اسْمَ " مُحَمَّدٍ " تَرْجَمَةً، أَنْ يَكُونَ قَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ الَّذِي تَرْجَمَ هُوَ عَنْهُ بِلَفْظٍ يُفِيدُ مَعْنَاهُ كَلَفْظِ
الْفَارَقْلِيطِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّسَاهُلِ مَعْهُودٌ عِنْدَ الْمَسِيحِيِّينَ فِي التَّرْجَمَةِ كَمَا بَيَّنَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهِ بِالشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ مِنْ كُتُبِهِمْ فِي الْأَمْرِ السَّابِعِ مِنَ الْمَسْلَكِ السَّادِسِ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ مِنْ كِتَابِهِ إِظْهَارِ الْحَقِّ، وَزَادَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَيَانًا فِي الْبِشَارَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ " اهـ.
وَإِنَّنِي أَزِيدُ مِثَالًا عَلَى مَا سَبَقَ مِنِ اخْتِلَافِ تَرْجَمَةِ الْأَعْلَامِ وَالْأَلْقَابِ وَالصِّفَاتِ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ يُقَرِّبُ لِفَهْمِ الْقَارِئِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَهُوَ مَا جَاءَ فِي نُبُوَّةِ النَّبِيِّ حجى مِنَ الْبِشَارَةِ بِنَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: بِشَارَةُ النَّبِيِّ حجى بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ:
" ٢: ٦ هَكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: هِيَ مَرَّةٌ بَعْدَ قَلِيلٍ فَأُزَلْزِلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَالْيَابِسَةَ ٧ وَأُزَلْزِلُ كُلَّ الْأُمَمِ، وَيَأْتِي مُشْتَهَى كُلِّ الْأُمَمِ فَأَمْلَأُ هَذَا الْبَيْتَ مَجْدًا، قَالَ رَبُّ
الْجُنُودِ ٨ لِيَ الْفِضَّةُ وَلِيَ الذَّهَبُ يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ ٩ مَجْدُ هَذَا الْبَيْتِ الْأَخِيرِ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ مَجْدِ الْأَوَّلِ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ ١٠ وَفِي هَذَا الْمَكَانِ أُعْطِي السَّلَامَ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ ".
أَقُولُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ: إِنَّ اسْمَ أَوْ لَقَبَ " مُشْتَهَى الْأُمَمِ " وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْعِبْرَانِيِّ عِنْدَ الْيَهُودِ " حَمَدُوتْ " وَمَعْنَاهُ: الَّذِي يُحْمَدُ فَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْحَمْدِ كَمَلَكُوتٍ مِنَ الْمَالِكِ. فَحَمْدُوتُ الْأُمَمِ هَذَا الَّذِي تَحْمَدُهُ الْأُمَمُ، وَهُوَ مَعْنَى مُحَمَّدٍ وَمَحْمُودٍ، فَالْأَوَّلُ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ حَمَّدَهُ بِالتَّشْدِيدِ إِذَا حَمِدَهُ كَثِيرًا، وَمَنْ تَحْمَدُهُ الْأُمَمُ يَكُونُ مَحْمُودًا حَمْدًا كَثِيرًا أَيْ مُحَمَّدًا. وَالثَّانِي اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ (حَمِدَ) الثُّلَاثِيِّ، وَمَحْمُودٌ مِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
فَهَلْ بَعْدَ هَذَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْفَارَقَلِيطِ الْيُونَانِيِّ مُتَرْجَمًا مِنْ لَفْظٍ حَمَدُوتْ الْعِبْرَانِيِّ، وَنُسَخُ الْإِنْجِيلِ الْعِبْرَانِيَّةِ الَّتِي نَقَلَتْ أَلْفَاظَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامِ بِحُرُوفِهَا قَدْ فُقِدَتْ، وَلَا نَدْرِي سَبَبَ فَقْدِهَا؟ بَلْ نَحْنُ مُعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ نَتَّهِمُ مَجَامِعَ الْأَسَاقِفَةِ الَّتِي تَحَكَّمَتْ فِي الْأَنَاجِيلِ الْقَدِيمَةِ، فَعَدَّتْ بَعْضَهَا قَانُونِيًّا وَبَعْضَهَا غَيْرَ قَانُونِيٍّ، وَصَارُوا يُتْلِفُونَ مَا هُوَ غَيْرُ قَانُونِيٍّ. بَلْ نَحْنُ لَا نَعْتَدُّ بِتَنَصُّرِ الْقَيْصَرِ قُسْطَنْطِينَ الْأَوَّلِ وَلَا نَعْتَقِدُ إِخْلَاصَهُ فِيهِ، بَلْ نَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَمَلًا سِيَاسِيًّا مِنْهُ، وَإِنَّهُ اسْتَعَانَ بِالْمَجَامِعِ عَلَى تَحْوِيلِ النَّصْرَانِيَّةِ عَنْ صِرَاطِ التَّوْحِيدِ إِلَى وَثَنِيَّةِ الْقُدَمَاءِ مِنَ الْيُونَانِيِّينَ
وَأَسَاتِذَتِهِمْ مِنْ قُدَمَاءَ الْمِصْرِيِّينَ، الَّذِينَ دَانُوا بِعَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِأُلُوفٍ مِنَ السِّنِينَ، وَلَوْ بَقِيَتْ نُسَخُ تِلْكَ الْأَنَاجِيلِ لَكَانَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ الِاسْتِقْلَالِيِّ فِي الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ مِنَ التَّحْقِيقِ فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ لِأُولَئِكَ الْأَسَاقِفَةِ الَّذِينَ قَبِلُوا مِنْهَا مَا وَافَقَ اعْتِقَادَهُمْ وَرَدُّوا مَا لَمْ يُوَافِقْهُ، كَأَنَّ عَقَائِدَهُمُ التَّقْلِيدِيَّةَ الْمُتَأَثِّرَةَ بِنَصْرَانِيَّةِ قُسْطَنْطِينَ السِّيَاسِيَّةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ قُرُونٍ خَلَتْ لِلْمَسِيحِ هِيَ الْأَصْلُ، وَالْأَنَاجِيلَ الْمَأْثُورَةَ هِيَ الْفَرْعُ، تُعْرَضُ عَلَى تِلْكَ التَّقَالِيدِ فَيُقْبَلُ مِنْهَا مَا وَافَقَهَا وَيُرَدُّ مَا خَالَفَهَا؟.
وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَرَى إِنْجِيلَ بِرْنَابَا أَرْقَى مِنْ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالثَّنَاءِ عَلَى الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي عُلُومِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، وَالْفَضَائِلِ فَإِنَ كَانَ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ كَالدُّكْتُورِ خَلِيلِ سَعَادَة الَّذِي تَرْجَمَ لَنَا هَذَا الْإِنْجِيلَ يُعَلِّلُ هَذَا بِمُوَافَقَتِهِ لِفَلْسَفَةِ أَرِسْطُو الَّتِي كَانَتْ رَائِجَةً فِي قُرُونِ الْمَسِيحِيَّةِ الْأَوْلَى - فَإِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ أُورُبَّةَ الْبَاحِثِينَ الْمُسْتَقِلِّينَ قَدْ طَعَنَ بِمِثْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى، وَفِي آدَابِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ فَقَالُوا: إِنَّ التَّوْرَاةَ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ شَرَائِعِ الْمِصْرِيِّينَ الَّذِينَ نَشَأَ مُوسَى فِي حِجْرِ فِرْعَوْنِهِمْ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ شَرِيعَةِ حَمُورَابِي الَّتِي هِيَ أَصْلُ شَرَائِعِ الْبَابِلِيِّينَ، وَكَانَتْ كِتَابَةُ التَّوْرَاةِ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ النَّبِيِّ الْبَابِلِيِّ، وَفِيهَا أُلُوفٌ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْبَابِلِيَّةِ - وَقَالُوا: إِنَّ الْآدَابَ الْمَسِيحِيَّةَ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ كُتُبِ الْيُونَانِ وَالرُّومَانِ فِي الْفَلْسَفَةِ الْعَمَلِيَّةِ الْأَخْلَاقَ.