
[سورة المائدة (٥) : آية ٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)هَذَا شُرُوعٌ فِي الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ. وَالْمَيْتَةُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الْبَقَرَةِ، وَكَذَلِكَ الدَّمُ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمَا هُنَا مِنْ تَحْرِيمِ مُطْلَقِ الدَّمِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ مَسْفُوحًا كَمَا تَقَدَّمَ حَمْلًا لِلْمُطْلِقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ تَخْصِيصُ الْمَيْتَةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطُّحَالُ» أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحلّ مِيتَتُهُ» وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَهْلِ السُّنَنِ وَغَيْرِهِمْ، وَصَحَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ أَطَلْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى. وَالْإِهْلَالُ:
رَفْعُ الصَّوْتِ لِغَيْرِ اللَّهِ كَأَنْ يَقُولَ: باسم اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا هُنَا إِلَى تَكْرِيرِ مَا قَدْ أَسْلَفْنَاهُ فَفِيهِ مَا لَا يَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْمُنْخَنِقَةُ هِيَ الَّتِي تَمُوتُ بِالْخَنْقِ: وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلِهَا كَأَنْ تُدْخِلَ رَأْسَهَا فِي حَبْلٍ أَوْ بَيْنَ عُودَيْنِ، أَوْ بفعل آدميّ أو غيره، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَخْنُقُونَ الشَّاةَ، فَإِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا. وَالْمَوْقُوذَةُ هِيَ الَّتِي تُضْرَبُ بِحَجَرٍ أَوْ عَصًا حَتَّى تَمُوتَ مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ، يُقَالُ: وَقَذَهُ يَقِذُهُ وَقْذًا فَهُوَ وَقِيذٌ، وَالْوَقْذُ شِدَّةُ الضَّرْبِ، وَفُلَانٌ وَقِيذٌ: أَيْ مُثْخَنٌ ضَرْبًا، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَيَضْرِبُونَ الْأَنْعَامَ بِالْخَشَبِ لِآلِهَتِهِمْ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ يَأْكُلُونَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقَ:
شَغَّارَةٌ تَقِذُ الْفَصِيلَ بِرِجْلِهَا | فطّارة لقوادم الأبكار «١» |
قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَدِيٍّ قَالَ: «قَلْتُ: يَا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد
الحلب بالسبابة والوسطى مع الاستعانة بطرف الإبهام.

فأصيب، فقال: إذا رميت بالمعراض فخزق فَكُلْهُ، وَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَإِنَّمَا هُوَ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْهُ» فَقَدِ اعْتَبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم الخزق وَعَدَمَهُ، فَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إِلَّا مَا خزق لَا مَا صُدِمَ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّذْكِيَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَإِلَّا كَانَ وَقِيذًا. وَأَمَّا الْبَنَادِقُ الْمَعْرُوفَةُ الْآنَ: وَهِيَ بَنَادِقُ الْحَدِيدِ الَّتِي يُجْعَلُ فِيهَا الْبَارُودُ وَالرَّصَاصُ وَيُرْمَى بِهَا، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ لِتَأَخُّرِ حُدُوثِهَا، فَإِنَّهَا لَمْ تَصِلْ إِلَى الدِّيَارِ الْيَمَنِيَّةِ إِلَّا فِي الْمِائَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقَدْ سَأَلَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنِ الصَّيْدِ بِهَا إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَتَمَكَّنِ الصَّائِدُ مِنْ تَذْكِيَتِهِ حَيًّا. وَالَّذِي يظهر لي أنه حلال لأنها تخزق وَتَدْخُلُ فِي الْغَالِبِ مِنْ جَانِبٍ مِنْهُ وَتَخْرُجُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ: «إِذَا رَمَيْتَ بالمعراض فخزق فكله» فاعتبر الخزق فِي تَحْلِيلِ الصَّيْدِ. قَوْلُهُ: وَالْمُتَرَدِّيَةُ هِيَ الَّتِي تَتَرَدَّى مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ فَتَمُوتُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ تَتَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ مَدْفِنٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَالتَّرَدِّي مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّدَى وَهُوَ الْهَلَاكُ وَسَوَاءٌ تَرَدَّتْ بنفسها أو ردّاها غَيْرُهَا. قَوْلُهُ: وَالنَّطِيحَةُ هِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَنْطَحُهَا أُخْرَى فَتَمُوتُ مِنْ دُونِ تَذْكِيَةٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ أَيْضًا: فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، لِأَنَّ الدَّابَّتَيْنِ تَتَنَاطَحَانِ فَتَمُوتَانِ، وَقَالَ: نَطِيحَةٌ وَلَمْ يَقُلْ نَطِيحٌ مَعَ أَنَّهُ قِيَاسُ فَعِيلٍ، لِأَنَّ لُزُومَ الْحَذْفِ مُخْتَصٌّ بِمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَذْكُورٍ فَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ ثَبَتَتِ التَّاءُ لِلنَّقْلِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ. وَقَرَأَ أَبُو مَيْسَرَةَ: وَالْمَنْطُوحَةُ. قَوْلُهُ: وَما أَكَلَ السَّبُعُ أَيْ مَا افْتَرَسَهُ ذُو نَابٍ كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ وَالضَّبُعِ وَنَحْوِهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا أَكَلَ مِنْهُ السَّبُعُ، لِأَنَّ مَا أَكَلَهُ السَّبُعُ كُلُّهُ قَدْ فَنِيَ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَخُصُّ اسْمَ السَّبُعِ بِالْأَسَدِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا أَكَلَ السَّبُعُ شَاةً، ثُمَّ خَلَّصُوهَا مِنْهُ أَكَلُوهَا، وَإِنْ ماتت لم يُذَكُّوهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ: السَّبُعُ بِسُكُونِ الْبَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ لِأَهْلِ نَجْدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ فِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ:
مَنْ يَرْجِعِ الْعَامَ إِلَى أَهْلِهِ | فَمَا أَكِيلُ السَّبْعِ بِالرَّاجِعِ |

بِفَتْحِ النُّونِ وَالصَّادِ، جَعَلَهُ اسْمًا مُوَحَّدًا كَالْجَبَلِ وَالْجَمَلِ، وَالْجَمْعُ أَنْصَابٌ كَالْأَجْبَالِ وَالْأَجْمَالِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ حَوَالَيْ مَكَّةَ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَذْبَحُ بِمَكَّةَ وَتَنْضَحُ بِالدَّمِ مَا أَقْبَلَ مِنَ الْبَيْتِ وَيُشَرِّحُونَ اللَّحْمَ وَيَضَعُونَهُ عَلَى الْحِجَارَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قال المسلمون للنبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: نَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نُعَظِّمَ هَذَا الْبَيْتَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَالْمَعْنَى: وَالنِّيَّةُ بِذَلِكَ تَعْظِيمُ النُّصُبِ لَا أَنَّ الذَّبْحَ عَلَيْهَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِهَذَا قِيلَ إن عَلَى بمعنى اللام: أي لأجلها. قاله قُطْرُبٌ، وَهُوَ عَلَى هَذَا دَاخِلٌ فِيمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِتَأْكِيدِ تَحْرِيمِهِ ولدفع ما كانوا يظنونه من أن ذَلِكَ لِتَشْرِيفِ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ. قَوْلُهُ: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ: أَيْ وَحَرَّمَ عَلَيْكُمُ الِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ. وَالْأَزْلَامُ: قِدَاحُ الْمَيْسَرِ وَاحِدُهَا زَلَمٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلَامٌ كَالزَّلَمْ لَيْسَ بِرَاعِي إِبِلٍ وَلَا غَنَمْ وَلَا بِجَزَّارِ عَلَى لَحْمِ وَضَمْ وَقَالَ آخَرُ:
فَلَئِنْ جَذِيمَةُ قُتِلَتْ سَادَاتُهَا | فَنِسَاؤُهَا يَضْرِبْنَ بِالْأَزْلَامِ |
أَيْ اسْتَدْعَى السَّقْيَ. فَالِاسْتِقْسَامُ: طَلَبُ الْقِسْمِ وَالنَّصِيبِ. وَجُمْلَةُ قِدَاحِ الْمَيْسَرِ عَشَرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهَا، وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا فِي الْمُقَامَرَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَزْلَامَ كِعَابُ فَارِسَ وَالرُّومِ الَّتِي يَتَقَامَرُونَ بِهَا، وَقِيلَ: هِيَ الشَّطْرَنْجُ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ لِأَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِدَعْوَى عِلْمِ الْغَيْبِ وَضَرْبٌ مِنَ الْكَهَانَةِ. قَوْلُهُ:
ذلِكُمْ فِسْقٌ إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ أَوْ إِلَى جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا. وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ عَنِ الْحَدِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَاهُ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، لِأَنَّ الْفِسْقَ هُوَ أَشَدُّ الْكُفْرِ لَا مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اصْطِلَاحُ قَوْمٍ مِنْ أَنَّهُ مَنْزِلَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ. قَوْلُهُ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ الْمُرَادُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ، وَهُوَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الزَّمَانُ الْحَاضِرُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ، ولم يرد يوما معينا. ويئس فيه لغتان ييئس بياءين يأسا، وأيس يأيس إِيَاسًا وَإِيَاسَةً.
قَالَهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ. أَيْ حَصَلَ لَهُمُ الْيَأْسُ مِنْ إِبْطَالِ دِينِكُمْ وَأَنْ يَرُدُّوكُمْ إِلَى دِينِهِمْ كَمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ فَلا تَخْشَوْهُمْ أَيْ لَا تَخَافُوا مِنْهُمْ أَنْ يَغْلِبُوكُمْ أَوْ يُبْطِلُوا دِينَكُمْ وَاخْشَوْنِ فَأَنَا الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إِنْ نَصَرْتُكُمْ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ، وَإِنْ خَذَلْتُكُمْ لَمْ يَسْتَطِعْ غَيْرِي أَنْ يَنْصُرَكُمْ. قَوْلُهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ جَعَلْتُهُ صفحة رقم 13

كَامِلًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى إِكْمَالٍ لِظُهُورِهِ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا وَغَلَبَتِهِ لَهَا وَلِكَمَالِ أَحْكَامِهِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْمُشْتَبَهِ، وَوَفَّى مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى مَا يُسْتَفَادُ مِنْ تَقْدِيمِ قَوْلِهِ:
لَكُمْ. قَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ بِالْإِكْمَالِ هُنَا: نُزُولُ مُعْظَمِ الْفَرَائِضِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. قَالُوا: وَقَدْ نَزَلَ بعد ذلك قرآن كثير كَآيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ الْكَلَالَةِ وَنَحْوِهِمَا. وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الْمَذْكُورِ هُنَا هُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، هَكَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقِيلَ:
إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. قَوْلُهُ: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بِإِكْمَالِ الدِّينِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْأَحْكَامِ وَبِفَتْحِ مَكَّةَ وَقَهْرِ الْكُفَّارِ وَإِيَاسِهِمْ عَنِ الظُّهُورِ عَلَيْكُمْ كَمَا وَعَدْتُكُمْ بِقَوْلِي: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ «١». قَوْلُهُ:
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أَيْ أَخْبَرْتُكُمْ بِرِضَايَ بِهِ لَكُمْ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ رَاضِيًا لِأَمَةِ نبيه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُ لِاخْتِصَاصِ الرِّضَا بِهَذَا الْيَوْمِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ الْيَوْمَ دِينًا بَاقِيًا إِلَى انْقِضَاءِ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَدِينًا مُنْتَصِبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا. قَوْلُهُ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ هَذَا مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ: أَيْ مَنْ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ فِي مَخْمَصَةٍ أَيْ مَجَاعَةٍ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. وَالْخَمْصُ: ضُمُورُ الْبَطْنِ، وَرَجُلٌ خَمِيصٌ وَخُمْصَانٌ، وَامْرَأَةٌ خَمِيصَةٌ وَخُمْصَانَةٌ، وَمِنْهُ أَخْمَصُ الْقَدَمِ، وَيُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْجُوعِ، قَالَ الْأَعْشَى:
تبيتون في المشتى ملاء بُطُونُكُمْ | وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى «٢» يَبِتْنَ خَمَائِصَا |
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمِي أَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَعْرِضُ عَلَيْهِمْ شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ جَاءُوا بِقَصْعَةِ دَمٍ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهَا يَأْكُلُونَهَا، قَالُوا: هَلُمَّ يَا صَدِّيُّ فَكُلْ قُلْتُ: وَيَحْكُمْ إِنَّمَا أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ مَنْ يُحَرِّمُ هَذَا عَلَيْكُمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، قَالُوا: وَمَا ذاك؟ قال: فتلوت عليهم هذا الْآيَةَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ قَالَ:
وَمَا أُهِلَّ لِلطَّوَاغِيتِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ قَالَ: الَّتِي تُخْنَقُ فَتَمُوتُ وَالْمَوْقُوذَةُ قال: التي تضرب بالخشبة فتموت وَالْمُتَرَدِّيَةُ قال: التي تتردّى من الجبل فتموت وَالنَّطِيحَةُ قال: الشاة التي تنطح الشاة
(٢). غرثى: جوعى.