آيات من القرآن الكريم

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ۖ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ

فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في يوم الجمعة فأخذت اليهود السبت، والنصارى الأحد، فهدانا الله عز وجل له. واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهوديًّا، وقالت النصارى: كان نصرانيًّا، فهدانا الله عز وجل للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى، فجعلته اليهود لفرية، وجعلته النصارى ربًّا، فهدانا الله عز وجل فيه للحق (١).
وقد قال النبي - ﷺ -: "كتب الله الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيها فهدانا الله لها، والناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا، والنصارى بعد غدٍ" (٢).
وقوله تعالى: ﴿بِإِذْنِهِ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: يريد كان ذلك في قضائي وقدري (٣)، وقال بعضهم: بعلمه وإرادته فيهم، وهو قول الزجاج (٤).
وقال بعض أهل التفسير في قوله: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا اَلَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ يعني: أهل كل كتاب اختلفوا فيه بعد ما جاءهم البينات بغيًا بينهم ظلمًا وطلبًا للملك، ورفضوا الحكم بكتابهم، فعصم الله هذه الأمة من نقض حكم كتابها، ومخالفة ما فيه من الأحكام.
٢١٤ - قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ الآية، قال عطاء

(١) رواه عنه الطبري في "تفسيره" ٢/ ٣٣٩، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٣٧٨، والنحاس في "معاني القرآن" ١/ ١٦٣، والثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٧٢٦، وينظر: "البحر المحيط" ٢/ ١٣٨، "الدر المنثور" ١/ ٤٣٦.
(٢) أصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة، رواه البخاري (٨٧٦) كتاب الجمعة، باب: فرض الجمعة، ومسلم (٨٥٥) كتاب الجمعة، باب: هداية هذه الأمة ليوم الجمعة. وأوله عندهما: "نحن الآخرون السابقون".
(٣) ذكره في "الوسيط" ١/ ٣١٧.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٨٥، "تفسير الثعلبي" ٢/ ٧٢٦.

صفحة رقم 115

عن ابن عباس (١): لما دخل رسول الله - ﷺ - المدينة اشتد الضر عليهم؛ لأنهم خرجوا بلا مال، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله - ﷺ -، فأنزل الله عز وجل تطييبًا لقلوبهم ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ الآية (٢)، وقال قتادة (٣) والسدي (٤): نزلت في غزوة الخندق، حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد وشدة الخوف، وكان كما قال الله عز وجل ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ [الأحزاب: ١٠].
فقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ قال الفراء: استفهم بـ (أم) في ابتداء ليس قبله ألف فيكون (أم) ردًا عليه، وذلك يجوز إذا كان قبله كلام يتصل به، ولو كان ابتداء ليس قبله كلام لم يجز ذلك، كقولك للرجل: أعندك خبز؟ لم يجز هاهنا: أم عندك خبز، ولو قلت: أنت رجل لا تُنْصِف أم لك سلطان تُدِلُّ به؟ لجاز ذلك، إذ تقدمه كلام فاتصل به (٥).

(١) رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس في "تفسيره" ٢/ ٣٧٩، وعزاه في "الدر المنثور" ١/ ٤٣٧ إلى ابن المنذر، وعن عطاء ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٧٢٨، والواحدي في "أسباب النزول" ص ٦٨، وابن الجوزي في "زاد المسير" ١/ ٢٣١، البغوي في "تفسيره" ١/ ٢٤٥، وأبو حيان في "البحر" ٢/ ٣٧١.
(٢) رواه في "الدر المنثور" ١/ ٤٣٧ بمعناه، وعزاه إلى ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٣٧٩، وابن المنذر. وينظر: "الوسيط" ١/ ٣١٧.
(٣) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٨٣، والطبري في "تفسيره" ٢/ ٣٤١، والبيهقي في "دلائل النبوة" ٣/ ٤٣٥، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" ١/ ٤٣٧ إلى ابن المنذر، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٧٢٧.
(٤) رواه عنه الطبري في "تفسيره" ٢/ ٣٤١، وابن أبي حاتم في "تفسيره" ٢/ ٣٧٩، والثعلبي في "تفسيره" ٢/ ٧٢٧.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ١/ ١٣٢، "تفسير الثعلبي" ٢/ ٧٢٨.

صفحة رقم 116

قال ابن الأنباري: (أم) استفهام متوسط، لا يكون إلا بعد كلام، جعلوا للمتوسط لفظًا يخالف لفظ السابق، فكان للسابق (هل) وأخواتها، وللمتوسط (أم) يدل على صحة هذا قوله عز وجل: ﴿الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ [السجدة: ١ - ٣]، أتى بـ (أم) وسطًا، فجعلها استفهامًا، ولم يَرْدُدْهَا على استفهام متقدم، ومن هذا قول الأخطل:

كَذَبَتْكَ عينُكَ أم رأيتَ بواسِطٍ غَلَسَ الظلامِ من الرباب خَيَالا (١)
وقال قوم: (أم) هاهنا بمعنى (بل) (٢) وذلك لا يحسن إلا إذا تقدمه استفهام، كقولك: إنها لإبل أم شاء يا فتى، وكما قيل في بيت الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت............... البيت.
وقد استقصينا الكلام في (أم) عند قوله: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا﴾ [البقرة: ١٠٨] الآية.
وقال بعضهم: أم هاهنا عطفٌ على استفهام متقدم محذوف، تقديره: أعلمتم أن الجنة حفت (٣) بالمكاره، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير بلاء ولا مكروه؟ والكلام ما ذكره الفراء وابن الأنباري (٤).
(١) البيت في "ديوانه" ص ٣٨٥ "المعجم المفصل" ٦/ ٧٩.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٨٥، "تفسير الثعلبي" ٢/ ٧٢٨.
(٣) في (أ) (تحف).
(٤) ينظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٨٥، "التبيان" ص ١٣١، واختارا أنها منقطعة، وفي "البحر المحيط" ٢/ ١٣٩ ذكر أبو حيان في (أم) هنا أربعة أقوال: الأول: أنها منقطعة بمعنى بل والهمزة. والثاني: أنها متصلة على إضمار جملة قبلها. والثالث: الاستفهام بمعنى الهمزة. والرابع: الإضراب بمعنى بل، قال: والصحيح هو القول الأول.

صفحة رقم 117

وقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ﴾ أي: ولم يأتكم، و (ما) صلة، والفرق بينهما أن (لما) يوقف عليها في مثل قولك: أَقَدم زيد؟ فيقول: (١) (لما)، ولا يجوز: (لم) (٢).
وقوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا﴾ أي: شبه الذين مضوا من قبلكم من النبيين والمؤمنين، أي: ولما يصبكم مثل الذي (٣) أصابهم، ولم يمتحنوا بمثل الذي امتحنوا فتصبروا، كما صبروا، وهذا استدعاء إلى الصبر (٤).
وفي الكلام حذف، تقديره: مثل محن الذين، أو مثل مصيبة الذين من قبلكم (٥).
ثم ذكر ما أصابهم، فقال: ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء﴾ وهو اسم من البؤس بمعنى الشدة، قال عطاء: يريد: الفقر الشديد، ﴿وَالضَّرَّاءُ﴾: المرض والجوع (٦).
﴿الْبَأْسَاءُ﴾: نقيض النعماء، والضراء نقيض السراء.

(١) في (ش): (تقول).
(٢) ينظر: "التبيان" ص ١٣١، "البحر المحيط" ٢/ ١٤٠، "مغني اللبيب" ص ٣٦٧، وذكر أنها تفارق (لم) من خمسة أمور:
١ - أنها لا تقترن بأداة شرط.
٢ - أن منفيها مستمر النفي إلى الحال، ومنفي لم يحتمل الاتصال والانقطاع.
٣ - أن معنى (لما) لا يكون إلا قريبا من الحال.
٤ - أن منفي (لما) متوقع ثبوته.
٥ - أن منفي (لما) جائز الحذف. اهـ. وقال أبو حيان: ولما، أبلغ في النفي من لم؛ لأنها تدل على نفي الفعل متصلا بزمان الحال، فهي لنفي التوقع.
(٣) في (ي) و (ش) (الذين).
(٤) ينظر: "تفسير الثعلبي" ٢/ ٧٢٩.
(٥) ينظر: "البحر المحيط" ٢/ ١٤٠.
(٦) ذكره في "الوسيط" ١/ ٣١٧.

صفحة رقم 118

وقوله تعالى: ﴿وَزُلْزِلُوا﴾ أي: حركوا بأنواع البلايا والرزايا (١) (٢).
قال أبو إسحاق: وأصل الزلزلة في اللغة من: زَلّ الشيء عن (٣) مكانه، فإذا قلت: زلزلته، فتأويله: أنك كررت زللَه (٤) من مكانه، فضوعف لفظه لمضاعفة معناه، وكل ما كان فيه ترجيع كررت فيه فاء الفعل، نحو: صَرَّ (٥) وصَرْصَرَ وَصَلّ وصلصل (٦). وتفسير ﴿وَزُلزِلُوا﴾ هنا: خوفوا وحقيقته ما ذكرنا، وذلك أن الخائف لا يستقر بل يضطرب لقلقه، ولهذا يقال للخوف: المقيم المُقْعِد؛ لأنه يُذْهب السكون، فيجوز أن يكون ﴿وَزُلزِلُوا﴾ هاهنا مجازًا، والمراد به: خوفوا، ويجوز أن يكون حقيقة بأن يكونوا مضطربين لا يستقرون لما في قلوبهم من الجزع والخوف (٧).
وقوله تعالى ﴿حَتَى يَقُولَ اَلرَّسُولُ﴾ قرئ (يقولَ) نصبًا ورفعًا (٨)، والنصب على وجهين إذا نصبت الفعل بـ (حتى) فقلت: سرت حتى أدخلها.

(١) في (ي): (الرزايا والبلايا).
(٢) ينظر: "تفسير الثعلبي" ٢/ ٧٣٠.
(٣) في (م): (من).
(٤) كذا في الأصول، وفي "معاني القرآن" زلزلته.
(٥) (صر) ليست في (ي)، وفي (ش): (ضر وضرضر) وفي (م): (صر وصَرّ).
(٦) من "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٢٨٥. بمعناه.
(٧) ينظر في زلزل "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٥١، "المفردات" ص ٢١٩، "عمدة الحفاظ" ٢/ ١٦٥،"اللسان" ٣/ ١٨٥٧ (زلل). ونقل الأزهري عن ابن الأنباري في قولهم: أصابت القوم زلزلة، قال: الزلزلة: التخويف والتحذير، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب: ١١] ﴿وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ أي: خوفوا وحذِّروا قال بعضهم: الزلزلة مأخوذة من الزلل في الرأي، فإذا قيل: زلزل القوم، فمعناه: صرفوا عن الاستقامة، وأوقع في قلوبهم الخوف والحذر.
(٨) قرأ نافع برفع اللام، وقرأ الباقون بالنصب. ينظر: "السبعة" ص ١٨١ - ١٨٢، "الحجة" ٢/ ٣٠٥ - ٣٠٦.

صفحة رقم 119

أحدهما: أن يكون الدخول غاية للسير، والسير والدخول قد مضيا جميعًا، والمعنى: سرت (١) إلى دخولها، وقد مضى (٢) الدخول. وعلى هذا نصب (يقول) في الآية، المعنى: وزلزلوا إلى أن يقول الرسول، فكأنه حتى قول الرسول.
والوجه الآخر في النصب: أن يكون السير قد وقع والدخول لم يقع، ويكون المعنى: سرت كي أدخلها، وليس هذا وجه نصب الآية (٣). ورفع ما بعد حتى على وجهين.
فأحد الوجهين: هو وجه (٤) الرفع في الآية، كما تقول: سِرتُ (٥) حتى أَدْخُلُها، وقد مضى السير والدخول، كأنه بمنزلة قولك: سِرت فادخلها بمنزلة سرت فدخلتها، وصارت (حتى) هاهنا مما لا يعمل (٦) في الفعل شيئًا؛ لأنها تلي الجمل تقول: (٧) سرت حتى إني (٨) كالٌّ، وكقوله:
فيا عَجَبًا حتى كُليبٌ تَسُبُّني (٩)

(١) ليس في: (ش).
(٢) في (ي): (مضت).
(٣) رجح أبو حيان في "البحر" ٢/ ١٤٠ الوجه الأول، قال: لأن المس والزلزال ليسا معلولين لقول الرسول والمؤمنين.
(٤) من قوله: نصب الآية. ساقط من (ي).
(٥) (سرت) ليست في (أ) ولا (م).
(٦) في (ش) (تعمل).
(٧) في (ش): (تقول).
(٨) في (ي): (كأني).
(٩) البيت للفرزدق، وعجزه:
كأن أباها نهشل أو مجاشع

صفحة رقم 120

فعملها في الجمل يكون في معناها لا في لفظها، وعلى هذا وجه الآية، ويجوز أن يكون السير قد مضى والدخول واقع الآن، وقد انقطع السير، تقول: سرت حتى أدخلَها الآن ما أمنع، كأنك قلت: سرت حتى (أني) (١) أَدْخُلُها الآن ما أمنع، فهذه جملة باب (حتى) في الأفعال (٢). قال أبو علي الفارسي: ما ينتصب بعد (حتى) من الأفعال المضارعة على ضربين:
أحدهما: أن يكون بمعنى (إلى)، وهو الذي تحمل (٣) عليه الآية، والفعل الذي يكون قبل (حتى) مع ما حدث عنه قد مضيا جميعًا، ألا ترى أن الأمرين في الآية كذلك.
والآخر: أن يكون بمعنى (كي)، وذلك قولك: (أسلمت حتى (٤) أدخلَ الجنة)، فهذه تقديره: أسلمت كي أَدْخُلَ الجنة، فالإسلام قد كان والدخول لم يكن.
وأما قراءة من قرأ: (حَتَّى يَقُولُ) بالرفع، فالفعل الواقع بعد حتى إذا

= في "ديوانه" ص٤١٩، "الكتاب" لسيبويه ٣/ ١٨، "معاني القرآن" للفراء ١/ ١٣٨، "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٠٤، "الخزانة" ٤/ ١٤١، "همع الهوامع" ٢/ ٢٤، و"تفسير ابن يعيش" ٨/ ١٨، "مغني اللبيب" ١٧٣. والشاعر يهجو كليب بن يربوع رهط جرير، فجعلهم من الهون بحيث لا يُسابُّون مثله لشرفه. ونهشل ومجاشع: ابنا دارم، وهم رهط الفرزدق.
(١) ليست في (ي).
(٢) ينظر في ذلك: "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٠٤ - ٣٠٦، "التبيان" ص ١٣١، "البحر المحيط" ٢/ ١٤٠، "مغني اللبيب" ١٦٦ - ١٧٦.
(٣) في (ش): (يجهل).
(٤) الجملة هذه ليست في (أ) و (م).

صفحة رقم 121

كان مضارعًا مرفوعًا لا يكون إلا فعلَ حالٍ، ويجيء على ضربين.
أحدهما: أن يكون السبب الذي أدى إلى (١) الفعل الذي بعد حتى قد مضى، والفعلُ المُسَبِّبُ لم يمضِ، ومثال ذلك قولهم: مرض حتى لا يرجونه، وشَرِبَتِ الإبلُ حتى يجيء البعير يَجُرُّ بَطْنَه، وتتجه الآية على هذا الوجه، كأن المعنى: زلزلوا فيما مضى حتى إن الرسول يقول الآن: متى نصر الله، وحُكِيَتْ الحالُ التي كَانوا عليها، كما حكيت الحال في قوله: ﴿هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّه﴾ [القصص: ١٥] وفي قوله: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ [الكهف: ١٨].
والوجه الآخر من وجهي الرفع: أن يكون الفعلان جميعًا قد مضيا،
نحو: سِرتُ حتى أدخُلُها، والدخول متصل بالسير بلا فصل، كما (كان) (٢)
في الوجه الأول بينهما فصل، والحال في هذا الوجه أيضًا محكية، كما كانت محكية (٣) في الوجه الآخر، ألا ترى أن ما مضى لا يكون حالًا؟ وحتى إذا رُفِعَ الفعل بعدها حرفٌ، يصير الكلام بعدها إلى الابتداء، وليست العاطفةَ ولا الجارةَ، وهي إذا انتصب الفعلُ بعدها الجارةُ للاسم، وينتصب الفعل بعدها بإضمار (أن) كما ينتصب بعد اللام بإضمارها (٤).
واعلم أن (حتى) على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن تكون جارة نحو ﴿حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: ٥]، وهذه (٥)

(١) (إلى) ساقطة من (أ) و (ش) و (ي).
(٢) في (ش): (قال).
(٣) ليست في (أ) (م).
(٤) "الحجة" ٢/ ٣٠٦ - ٣٠٧، وينظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ١٣٢، "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٠٤ - ٣٠٦، "تفسير الثعلبي" ٢/ ٧٣٠.
(٥) (وهي) في (ي).

صفحة رقم 122

الجارة هي التي تنصب الأفعال بعدها بإضمار أن، والفعل و (أن) المضمرة (معه) (١) في موضع جر بـ (حتى) (٢).
والآخر: أن تكون (٣) عاطفة في نحو:
والزَّادَ حَتَّى نَعْلَهُ ألْقَاهَا (٤).
وهذه تكون عاطفة.
والثالث: أن تكون داخلة على الجمل ومنصرفًا بعدها الكلام إلى الابتداء، كأما وإذا ونحوهما، وذلك نحو قوله:
فيا عجبًا حَتَى كليبٌ تَسُبُّني (٥)
فهذا جملة الكلام في حتى (٦). ومعنى الآية: أن الجهد قد بلغ بالأمم قبل هذه الأمة حتى استبطأوا النصر، فقال الله عز وجل: ألا إن نصر الله قريب

(١) ليست في (ي).
(٢) ليست في (ش).
(٣) (يكون) في (م).
(٤) صدر البيت: ألقى الصحيفة كي يخاف رحله.
البيت منسوب للمتلمس، وفيه إشارة إلى قصة المتلمس وطرفة حين كتب لهما عمرو بن هند كتابين مختومين، أوهمهما أن فيهما أمرًا لعامله في البحرين بإكرامهما، إلا أن المتلمس فض صحيفته فوجد فيها أمرا بقتله فرجع. وفي "الكتاب" لسيبويه ١/ ٩٧ نسبه لابن مروان النحوي. [وقال المحقق: الصواب أنه مروان النحوي] والبيت في "الكتاب" ١/ ٩٧، و"الخزانة" ١/ ٤٤٥، ٤/ ١٤٠، و"مغني اللبيب" ١٦٧، والشاهد في البيت: مجيء حتى عاطفة، حيث نصب نعله، ويستشهد به أيضًا على مجيئها ابتدائية برفع نعله.
(٥) تقدم تخريج البيت قريبًا.
(٦) ينظر في حتى: "الكتاب" لسيبويه ١/ ٩٦ - ٩٧، ٣/ ١٦ - ٢٧، "المقتضب" للمبرد ٢/ ٣٨ - ٤٣، "معاني القرآن" للفراء ١/ ١٣٢ - ١٣٨، "الأزهية" ص٢١٤ - ٢١٦، "مغني اللبيب" ص ١٦٦ - ١٧٦.

صفحة رقم 123

فأعلم أولياءه أنه ناصرهم لا محالة، وأن ذلك قريب منهم كما قال ﴿أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: ٢٢].
وقوله تعالى: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ (متى) سؤال عن زمان؛ لأن جوابها يقع بالزمان، ألا ترى أنك تقول: متى زيد خارج؟، فيكون الجواب: يوم الجمعة أو يوم السبت، فإذا كان الاسم الذي يلي (متى) جثة احتاج إلى خبر، كقولك: متى زيد منطلق؟، ولا يجوز أن تقول: متى زيد، وتسكت؛ لأن ظروف الزمان لا تكون خبرًا للجثث، وإن كان الاسم الذي (يلي) (١) (متى) لا يكون جثة، حسن السكوت على ذلك الاسم، كقولك: متى القتال؟ وكما في هذه الآية ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾؛ لأن ظروف الزمان تكون خبرًا للمصادر (٢).
وقوله تعالى ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ﴾ (ألا) صلةٌ لابتداء الكلام، كأنه تنبيهٌ للمخاطب.
قال صاحب النظم: في هذه الآية مبتدآن وجوابان، جمع بين المبتدأين والجوابين، فقوله: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ مبتدآن.
وقوله: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ إلى آخر الآية جوابان لهما، مجموع بينهما، فيحتاج أن يرد كل جواب إلى ابتداء به ليبين نظم الكلام، والتقدير: حتى

(١) (هو) في (ي) و (ش).
(٢) ينظر في متى: "الكتاب" لسيبويه ١/ ٢١٧ - ٢١٨، "المقتضب" ٣/ ٦٣، ٢٨٩، "الأزهية" ٢٠٠ - ٢٠١، "مغني اللبيب" ٤٤٠ - ٤٤١، قال في "التبيان" ص ١٣١: وموضع متى رفع؛ لأنه خبر المصدر، وعلى قول الأخفش موضعه نصب على الظرف، ونصر مرفوع به.

صفحة رقم 124
التفسير البسيط
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي
الناشر
عمادة البحث العلمي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
سنة النشر
1430
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية