آيات من القرآن الكريم

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ۚ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ۚ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ ۖ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ

٦- أهل الإيمان يطيعون الله في الفرائض ورسوله فيما سنّ لهم، والمنافقون متنكرون للطاعة.
وأما وعد الله تعالى للمؤمنين فيشمل ثلاثة أشياء مفسّرة للرحمة التي وعدهم بها في الآية المتقدمة:
١- الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، أي البساتين التي ينعم بها الناظر، وتجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار، وهي تجري منضبطة بالقدرة الإلهية في غير أخدود (شقّ).
٢- المساكن الطيبة في جنات عدن، أي القصور من الزبرجد (جوهر معروف هو الزمرّد الأخضر) والدّرّ والياقوت (ذي اللون الأحمر) يفوح طيبها من مسيرة خمس مائة عام، في جنات عدن (اسم موضع معين في الجنة، أو دار إقامة). قال مقاتل والكلبي: عدن: أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محفوفة بها، وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها الأنبياء والصدّيقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله.
٣- رضوان من الله أكبر وأعظم وأجل من كل ما ذكر. وفي هذا دلالة واضحة على أن السعادة الروحانية أفضل من الجسمانية.
جهاد الكفار والمنافقين وأسبابه
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)

صفحة رقم 308

الإعراب:
وَلَقَدْ قالُوا اللام لام القسم.
إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ... الاستثناء مفرّغ.
البلاغة:
وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ فيه تأكيد المدح بما يشبه الذّم، كما قال الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم... بهن فلول من قراع الكتائب
المفردات اللغوية:
جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسّلاح. والجهاد: استفراغ الجهد والوسع في مدافعة العدوّ.
وَالْمُنافِقِينَ باللسان والحجّة. وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ بالانتهار والمقت، والغلظة: الخشونة والقسوة في المعاملة وهي ضدّ اللين. الْمَصِيرُ المرجع.
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي المنافقون. ما قالُوا وهو ما بلغك عنهم من السّبّ والطّعن.
وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام. وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا من الفتك بالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة، عند عوده من تبوك، وهم بضعة عشر رجلا، فضرب عمار بن ياسر وجوه الرّواحل لما غشوه، فردّوا. وَما نَقَمُوا أنكروا وكرهوا وعابوا عليه. إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ أي أثراهم بالغنائم بعد شدّة حاجتهم. فَإِنْ يَتُوبُوا عن النّفاق ويؤمنوا بك. وَإِنْ يَتَوَلَّوْا عن الإيمان. عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بالقتل. وَالْآخِرَةِ بالنّار.
وَلِيٍّ يحفظهم منه. وَلا نَصِيرٍ يمنعهم منه.
سبب النزول:
نزول الآية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ:
قال الضّحّاك: خرج المنافقون مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، وكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبّوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وطعنوا في الدّين، فنقل

صفحة رقم 309

ما قالوا حذيفة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «يا أهل النّفاق، ما هذا الذي بلغني عنكم؟»، فحلفوا ما قالوا شيئا من ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية كذّابا لهم «١».
وقال قتادة فيما أخرجه عنه ابن جرير: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا، أحدهما من جهينة، والآخر من غفار، فظهر الغفاري على الجهني، فنادى عبد الله بن أبيّ، يا بني الأوس انصروا أخاكم، فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل:
سمّن كلبك يأكلك، فوالله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمع بها رجل من المسلمين، فجاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فأخبره، فأرسل إليه، فجعل يحلف بالله ما قال، وأنزل الله تعالى هذه الآية «٢».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الجلاس بن سويد أحد المتخلّفين عن غزوة تبوك قال: لئن كان هذا الرّجل صادقا (يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم) على إخواننا الذين هم سادتنا وخيارنا، لنحن شرّ من الحمير (يقصد الآيات التي نزلت فيمن تخلّف من المنافقين) فرفع عمير بن سعيد ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فحلف بالله: ما قلت، فأنزل الله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا الآية. فزعموا أنه تاب وحسنت توبته.
ولعل أصحّ ما ذكر في سبب نزول هذه الآية:
ما رواه ابن جرير والطّبراني وأبو الشيخ ابن حيان وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم جالسا في ظلّ شجرة، فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموا، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال له: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرّجل، فجاء

(١) أسباب النزول للواحدي: ص ١٤٤
(٢) أسباب النزول، المرجع السابق، تفسير الرازي: ١٦/ ١٣٦، تفسير ابن كثير: ٢/ ٣٧١

صفحة رقم 310

بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، فتجاوز عنهم، فأنزل الله: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا الآية».
والخلاصة: إنه عليه الصّلاة والسّلام أقام في غزوة تبوك شهرين، ينزل عليه القرآن، ويعيب المتخلّفين، فنطق بعضهم بكلمة الكفر التي لم تذكر في القرآن، لئلا يتعبّد المسلمون بتلاوتها، فاختلف الرّواة فيها، كما ذكر، ولا مانع من تعدّد أسباب النّزول.
نزول: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا:
قال الضّحّاك: همّوا أن يدفعوا ليلة العقبة، وكانوا قوما قد أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وهم معه يلتمسون غرّته حتى أخذ في عقبة، فتقدّم بعضهم وتأخّر بعضهم، وذلك كان ليلا، قالوا: إذا أخذ في العقبة دفعناه عن راحلته في الوادي، وكان قائده في تلك الليلة عمار بن ياسر، وسائقه حذيفة، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل، فالتفت فإذا هو بقوم متلثّمين، فقال: إليكم يا أعداء الله فأمسكوا، ومضى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم حتى نزل منزله الذي أراد، فأنزل الله تعالى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا «١».
المناسبة:
بعد أن قارن الله تعالى صفات المؤمنين مع صفات المنافقين، وقابل بين جزاء كل من الفريقين، عاد مرة أخرى إلى تهديد الكفار والمنافقين وإنذارهم بالجهاد، وأبان أسبابه من إظهار الكفر، وحلف الأيمان الكاذبة، وقول كلمات فاسدة، ثم فتح لهم باب الأمل وهو التوبة، وهددهم بالعذاب الأليم إن أصروا على الكفر.

(١) أسباب النزول، المرجع السابق: ص ١٤٥، تفسير الرّازي، المرجع السابق.

صفحة رقم 311

التفسير والبيان:
الجهاد ثلاثة أنواع: جهاد العدو الظاهر، وجهاد الشيطان، وجهاد النفس والهوى. ويشملها كلها قوله تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ [الحج ٢٢/ ٧٨] وقوله: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٤١].
وقال صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس بن مالك: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»
والجهاد باللسان: إقامة الحجة والبرهان.
وروى ابن كثير عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة ٩/ ٥] وسيف للكفار: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ، مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ، وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة ٩/ ٢٩] وسيف للمنافقين: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة ٩/ ٧٣] وسيف للبغاة: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات ٤٩/ ٩].
وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، كما اختار ابن جرير الطبري. فإن لم يظهروا النفاق يعاملون باتفاق الأئمة معاملة المسلمين إلا إذا ارتدوا، أو بغوا على جماعة المسلمين بالقوة، أو امتنعوا من إقامة شعائر الإسلام وأركانه. قال ابن عباس رضي الله عنه: جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين باللسان، أي بالحجة والبرهان.
والكافر: هو كل من لم يؤمن بالإسلام، أو من لم ينطق بالشهادتين، والكفر: ستر نعمة الله تعالى وجحود الإسلام. والمنافق: هو الذي يستر كفره وينكره بلسانه.

صفحة رقم 312

ومعنى الآية: يا أيها النبي جاهد كلّا من الكفار والمنافقين، واغلظ عليهم أي عاملهم بالخشونة والشدة، ولا تحابهم ولا تلن لهم واعلم أن مقرهم جهنم لا مقر لهم سواه، وبئس المصير مصيرهم: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان ٢٥/ ٦٦]. أي أن لهم عذابين: عذاب الدنيا بالجهاد، وعذاب الآخرة في جهنم.
والجهاد: عبارة عن بذل الجهد، وليس في الآية ما يدل على أن ذلك الجهاد بالسيف أو باللسان، أو بطريق آخر، وإنما تدل على وجوب الجهاد مع الفريقين، فأما كيفية تلك المجاهدة فلفظ الآية لا يدل عليها، بل إنما يعرف من دليل آخر، وهذا هو الرأي الصحيح الذي اختاره الرازي.
وقد دلت الدلائل الأخرى من غير الآية على أن جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين تارة بإقامة الحجة والبرهان، وبترك الرفق أحيانا، وبالانتهار أحيانا أخرى. قال ابن مسعود في قوله: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ: تارة باليد (أي بالسلاح الحربي) وتارة باللسان، فمن لم يستطع فليكشر في وجهه، فمن لم يستطع فبالقلب.
وقد أدت سياسة الإسلام الحكيمة بأمر الله وحكمة رسوله، ومعاملة المنافقين معاملة المسلمين في الظاهر، إلى توبة أكثرهم وإسلام الألوف منهم.
ثم ذكر الله تعالى أسباب جهاد الكفار والمنافقين، وهي إظهار الكفر بالقول، والهمّ بالفتك برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، والاستهزاء بآيات الله وبالنبي والمؤمنين، فقال: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ....
أي إن القرآن يثبت للمنافقين الكذب الصريح واليمين الفاجرة، فهم يحلفون بالله، إنهم ما قالوا كلمة الكفر التي رويت عنهم، ولم يذكر القرآن تلك الكلمة، ترفعا من ذكرها، ولئلا يردد المسلمون تلاوتها، ولكنهم قالوها، وهي كما ذكر

صفحة رقم 313

في سبب النزول: إنهم لما اجتمعوا إثر رجوع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من تبوك، وكانوا خمسة عشر، بقصد الفتك به، ودفعه عن راحلته، فقد طعنوا في نبوته، ونسبوه إلى الكذب، والتصنع في ادعاء الرسالة، وذلك هو قول كلمة الكفر، كما اختار الزجاج والرازي.
وكفروا بعد إسلامهم: معناه أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام.
وهمّهم بما لم ينالوا: هو اغتيال الرسول في العقبة، بعد رجوعه من تبوك.
والصحيح أن عددهم كما جاء في رواية مسلم اثنا عشر منافقا.
وما أنكر هؤلاء المنافقون وما عابوا من أمر الإسلام أو الدين وبعثة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم شيئا، إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ تعالى من فضله ورسوله، بالغنائم الحربية، وكانوا كسائر الأنصار في المدينة فقراء، كما
قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للأنصار: «كنتم عالة، فأغناكم الله بي»
أي أن أكثر أهل المدينة كانوا بحاجة وضنك من العيش، فلما قدمهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أثروا بالغنائم.
وروي أنه قتل للجلاس بن سويد (أحد المتخلفين عن تبوك) مولى، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بديته اثني عشر ألفا، فاستغنى.
فليس هناك شيء ينقمون منه إلا أن الإسلام كان سببا في غناهم. وهذا مدح بما يشبه الذم.
فإن ينوبوا من النفاق ومساوئ أقوالهم وأفعالهم، يكن ذلك خيرا لهم وأصلح، ويفوزوا بالخير، ويقبل الله توبتهم. وفي هذا ترغيب لهم بالتوبة، وفتح باب الأمل والرجاء بالرحمة أمامهم.
وإن يتولوا عن التوبة بالإصرار على النفاق، يعذبهم الله عذابا مؤلما في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهو قتلهم وسبي أولادهم ونسائهم واغتنام أموالهم،

صفحة رقم 314

وعيشهم في قلق وهمّ وخوف، كما قال تعالى عنهم: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا، لَوَلَّوْا إِلَيْهِ، وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة ٩/ ٥٧] وقال: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون ٦٣/ ٤]. وأما عذابهم في الآخرة فهو معروف، وهو إلقاؤهم فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
وما لهم في الأرض كلها من ولي يتولى أمورهم ويدافع عنهم، ولا نصير ينصرهم وينجّيهم من العذاب، إذ أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وأما المنافقون فلا ولاية لهم ولا نصرة بينهم، فليس لهم أحد يجلب لهم خيرا أو يدفع عنهم شرا.
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآيات جهاد الكفار والمنافقين وأسباب ذلك، وقد دلت الآيات على ما يأتي:
١- وجوب مجاهدة الكفار والمنافقين، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم ولأمته من بعده.
وجهاد الكفار بالسيف وسائر أنواع الأسلحة الحربية، وجهاد المنافقين باللسان، وشدة الزجر والتغليط، أي بإقامة الحجة والبرهان تارة، وبالانتهار والكهر تارة أخرى. ويلاحظ أن إقامة الحجة باللسان دائمة.
٢- أسباب جهادهم: إعلان الكفر، وسبّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، والطعن في الإسلام، وتآمرهم على اغتيال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، واستهزاؤهم بآيات الله وبالرسول والمؤمنين.
٣- حلفهم الأيمان الفاجرة الكاذبة. والصحيح أن هذه الأقوال والأفعال لخبيثة هي ظاهرة عامة بين المنافقين لعموم القول، ووجود المعنى في

صفحة رقم 315

عبد الله بن أبي والجلاس بن سويد، ووديعة بن ثابت وفي غيرهم. وأساس اعتقادهم في النبي أنه ليس بنبي.
٤- كلمة الكفر التي قالوها قيل: هي تكذيبهم بما وعد الله من الفتح، أو قول الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشرّ من الحمير، أو قول عبد الله بن أبي: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون ٦٣/ ٨]، وقيل: هي سبّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والطعن في الإسلام. والظاهر هو المعنى الأخير.
٥- دل قوله: وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أي بعد الحكم بإسلامهم، على أن المنافقين كفار، ويدل عليه دلالة قاطعة قوله تعالى في آية أخرى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون ٦٣/ ٣].
ودلّ هذا القول أيضا على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق بالله وبالنبوة، والمعرفة لله عز وجل، وإن كان الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله، دون غيره من الأقوال والأفعال إلا في الصلاة. فمن شوهد يصلي الصلاة في وقتها، حتى صلّى صلوات كثيرة حكم عليه بالإيمان.
٦- دلّ قوله: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا على مؤامرة جماعية من المنافقين، وكانوا في الأصح اثني عشر منافقا، لقتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك.
تشبه مؤامرة كفار قريش ليلة الهجرة.
٧- المنافقون من شرّ الناس لأنهم كما ذكر تعالى: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ... غادرون، يقابلون الإحسان بالإساءة، فقد استغنوا بالغنائم، ومع ذلك هموا بقتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فانطبق عليهم المثل المشهور: «اتق شرّ من أحسنت إليه».

صفحة رقم 316
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية