آيات من القرآن الكريم

۞ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ

القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر، يا محمد، إذ اقتلعنا الجبل فرفعناه فوق بني إسرائيل، كأنه ظلة غمام من الظلال= وقلنا لهم: "خذوا ما آتيناكم بقوة"، من فرائضنا، وألزمناكم من أحكام كتابنا، فاقبلوه، اعملوا باجتهاد منكم في أدائه، من غير تقصير ولا توانٍ (١) = "واذكروا ما فيه"، يقول ما في كتابنا من العهود والمواثيق التي أخذنا عليكم بالعمل بما فيه = "لعلكم تتقون"، يقول: كي تتقوا ربكم، فتخافوا عقابه بترككم العمل به إذا ذكرتم ما أخذ عليكم فيه من المَواثيق.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٣٣١- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة"، فقال لهم موسى: خذوا ما آتيناكم بقوة"، يقول: من العمل بالكتاب، وإلا خَرَّ عليكم

(١) (١) انظر تفسير ((بقوة)) فيما سلف ١: ١٦٠، ١٦١، ٣٥٦، ٣٥٧، وسائر فهارس اللغة (قوى).

صفحة رقم 217

الجبل فأهلككم! فقالوا: بل نأخذ ما آتانا الله بقوّة! ثم نكثُوا بعد ذلك.
١٥٣٣٢- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس قوله: "وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة"، فهو قوله: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ)، [سورة النساء: ١٥٤]، فقال: "خذوا ما آتيناكم بقوة"، وإلا أرسلته عليكم.
١٥٣٣٣- حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، عن ابن عباس قال: إنّي لأعلم خَلْقِ الله لأيِّ شيء سجدت اليهود على حَرْفِ وُجوههم: لما رفع الجبل فوقهم سَجَدُوا، وجعلوا ينظرون إلى الجبل مخافةَ أن يقع عليهم. قال: فكانت سجدةً رضيها الله، فاتخذوها سُنَّة. (١)
١٥٣٣٤- حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا داود، عن عامر، عن ابن عباس، مثله.
١٥٣٣٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة"، أي: بجدّ= "واذكروا ما فيه لعلكم تتقون"، جبل نزعه الله من أصله ثم جعله فوق رؤوسهم، فقال: لتأخذُنّ أمري، أو لأرمينَّكم به!
١٥٣٣٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: "وإذ نتقنا الجبل"، قال: كما تنتق الزُّبْدَة (٢)

(١) (١) الأثر: ١٥٣٣٣ - ((إسحق بن شاهين الواسطي))، شيخ أبي جعفر، لم أجد له ترجمة، ومضى برقم: ٧٢١١، ٩٧٨٨.
و ((خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن المزني الواسطى))، مضى برقم: ٧٢١١. و ((داود)) هو ((داود بن أبي هند)). و ((عامر)) هو الشعبى.
(٢) (٢) في المطبوعة: ((كما تنتق الربذة))، وهي في المخطوطة غير منقوطة، فأساء إعجامها غاية الإساءة. ونتق الزبدة))، هو أن تنفض السقاء لكي تقتلع منه زبدته.

صفحة رقم 218

= قال ابن جريج: كانوا أبوا التوراة أن يقبلوها أو يؤمنوا بها= "خذوا ما آتيناكم بقوّة"، قال: يقول: لتؤمنن بالتوراة ولتقبلُنَّها، أو ليقعَنَّ عليكم.
١٥٣٣٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله قال: هذا كتاب الله، أتقبلونه بما فيه، فإن فيه بيانُ ما أحلَّ لكم وما حرَّم عليكم، وما أمركم وما نهاكم! قالوا: انشُرْ علينا ما فيها، فإن كانت فرائضها يسيرةً وحدودها خفيفةً، قبلناها! قال: اقبلوها بما فيها! قالوا: لا حتى نعلم ما فيها، كيف حدودها وفرائضها! فراجعوا موسى مرارًا، فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء، حتى إذا كان بين رؤوسهم وبين السماء قال لهم موسى: ألا ترون ما يقول ربِّي؟ "لئن لم تقبلوا التوراةَ بما فيها لأرمينَّكم بهذا الجبل". قال: فحدثني الحسن البصريّ، قال: لما نظروا إلى الجبل خرَّ كلُّ رجل ساجدًا على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه اليُمْنَى إلى الجبلِ، فَرَقًا من أن يسقط عليه، فلذلك ليس في الأرض يهوديُّ يسجدُ إلا على حاجبه الأيسر، يقولون: هذه السجدة التي رُفِعت عنا بها العقوبة= قال أبو بكر: فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتَبَه بيده، لم يبقَ على وجه الأرض جبلٌ ولا شجرٌ ولا حجرٌ إلا اهتزّ، فليس اليوم يهوديّ على وجه الأرضِ صغيرٌ ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتزّ، ونَفضَ لها رأسَه.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قوله: "نتقنا".
فقال بعض البصريين (١) معنى "نتقنا"، رفعنا، واستشهد بقول العجاج:
يَنْتُقُ أَقْتَادَ الشَّلِيلِ نَتْقَا (٢)

(١) (١) هو أبو عبيدة، كما يظهر لك من التخريج الآتي.
(٢) (٢) ديوانه: ٤٠، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٣٢، من آبيات يذكر فيها بعيره وسرعته وشدة سيره. و ((الشليل))، الحلس، أو مسح من شعر أو صوف يجعل على عجز البعير وراء الرحل. و ((الأقتاد)) جمع ((قتد)) (بفتحتين). خشب الرحل. وكان في المطبوعة: ((السليل))، تابع المخطوطة، وهي غير منقوطة

صفحة رقم 219

وقال: يعني بقوله: "ينتق"، يرفعها عن ظهره، وبقول الآخر: (١)
*وَنَتَقُوا أحْلامَنَا الأثَاقِلا* (٢)
وقد حكي عن قائل هذه المقالة قول آخر: (٣) وهو أن أصل "النتق" و"النُّتُوق"، كل شيء قلعته من موضعه فرميت به، يقال منه: "نَتَقْتُ نَتْقًا". قال: ولهذا قيل للمرأة الكثيرة [الولد] :"ناتق"، (٤) لأنها ترمي بأولادها رَمْيًا، واستشهد ببيت النابغة:
لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم دحقت عليك بناتق مذكار (٥)
* * *

(١) (١) هو رؤبه بن العجاج.
(٢) (٢) ديوانه: ١٢٢، ومجاز القرآن ١: ٢٣٢، واللسان (نتق)، من أرجوزة تمدح فيها بقومه، ثم مدح سليمان بن علي، قال في ذكر قومه:
فالنَّاسُ إنْ فَصَّلْتَهُمْ فَصَائِلا كُلُّ إلَيْنَا يَبْتَغِي الوَسَائِلا
قَدْ جَرِّبُوا أَخْلاقَنَا الجَلائِلا وَنَتَقُوا أَحْلامَنَا الأثاقِلا
فَلَمْ يَرَ النَّاسُ لَنَا مُعَادِلا أَكْثَرَ عِزًّا وَأَعَزَّ جَاهِلا
و ((الأثاقل)) جمع ((الأثقل))، يعنى أثقل من سائر أحلام الناس، كما يقال ((الأكابر))، و ((الأصاغر))، و ((الأماثل))
(٣) (٣) يعني أبا عبيدة أيضا، ولم أجده في موضع آخر فيما طبع من مجاز القرآن.
(٤) (٤) في المطبوعة والمخطوطة: ((للمرأة الكبيرة)) وهو لا يصح، وإنما أسقط الناسخ ما أثبته بين القوسين، والصواب ما أثبت.
(٥) (٥) ديوانه: ٥٠، واللسان (دحق) و (نتق)، من قصيدتة التي قالها في زرعة بن عمرو بن خويلد، حين لقى النابغة بعكاظ، فأشار عليه أن يشير علي قومه بني ذبيان بترك حلف بني أسد، فأبي النابغة الغدر، فتهدده زرعة وتوعده، فلما بلغه تهدده، ذمه وهجاه، ومجد بني أسد، فقال في أول شعره:ثم يقول في ذكر الغاضريين من بني أسد حلفاء بني ذبيان: لَمْ يُحْرَمُوا........................................
نُبِّئتُ زُرْعَةَ، وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا يُهْدِي إلَيَّ غَرَائِبَ الأَشْعَارِ
وَالغَاضِرِيًّونَ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا بِلِوَائِهِمْ سَيْرًا لِدَارِ قَرار
تَمْشِي بِهِمْ أُدْمٌ كَأنَّ رِحَالِهَا عَلَقُ هُرِيقَ عَلَى مُتُونِ صُوَارِ
................... ...................
جَمْعًا يَظَلُّ بِهِ الفَضَاءُ مُعَضِّلا يَدَعُ الإِكامَ كأنَّهنَّ صَحَارِي
يصفهم في البيت الأخير بالنعمة، ولين العيش، وأن أمهاتهم عشن بخير معيشة، فكثر ولدهن. وقوله: ((دحقت))، وذلك أن المرأة إذا ولدت ولدها بعضهم في إثر بعض قيل: ((دحقت))، ((مذكار)) تلد الذكور. ورواية الديوان وغيره: ((طفحت عليك))، أي: أتسعت بولدها وغلبت، كما يطفح الماء فيغطي ما حوله ويغرقه.

صفحة رقم 220

وقال آخر: معناه في هذا الموضع: رفعناه. وقال: قالوا: "نَتَقَني السَّيرُ": حرَّكني. وقال: قالوا: "ما نَتَق برجْلِه لا يركُض"، و"النتق": نتق الدابة صاحبها حين تعدُو به وتتعبه حتى يربو، فذلك "النَّتق" و"النتوق"، و"نتقتني الدَّابة"، و"نتقت المرأة تنْتُق نُتوقًا": كثر ولدها.
* * *
وقال بعض الكوفيين: "نتقنا الجبل"، عَلَّقنا الجبل فوقهم فرفعناه، ننتقه نتقًا، و"امرأة مِنْتاق"، كثيرة الولد: قال: وسمعت "أخذ الجراب، فنتق ما فيه"، (١) إذا نثر ما فيه. (٢)
* * *

(١) في المطبوعة: ((ونتق)) بالواو، وأثبت. في المخطوطة.
(٢) لم يفسر أبو جعفر ((الظل))، فانظر تفسيرها فيما سلف ٤: ٢٦١، ٢٦٢.

صفحة رقم 221
جامع البيان في تأويل آي القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري
تحقيق
أحمد شاكر
الناشر
مؤسسة الرسالة
الطبعة
الأولى، 1420 ه - 2000 م
عدد الأجزاء
24
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية