
الجملة خبر للموصول والربط حاصل بلفظ المصلحين لأنه قائم مقام الضمير لا سيما وهو فيه الألف واللام فإنها تكفي في الربط عند الكوفيين. وقيل: الخبر محذوف والتقدير مثابون وقوله تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ اعتراض وهذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أي واذكر يا أشرف الخلق إذا قلعنا الجبل الذي سمع موسى عليه كلام ربه وأعطي الألواح وجعلناه فوق رؤوسهم كأنه سقيفة وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ إن لم يقبلوا أحكام التوراة خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أي وقلنا لهم: اعملوا بما أعطيناكم بجد على احتمال تكاليفه وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الثواب والعقاب ويقال: احفظوا ما فيه من الأمر والنهي ويقال: اعملوا بما فيه من الحلال والحرام لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) أي راجين أن تنتظموا في سلك المتقين وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وقرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر على الجمع. والباقون على التوحيد أي واذكر يا أكرم الخلق لليهود حين أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا وذكر هذه الآية يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين. والمقصود من ذكرها هنا الاحتجاج على اليهود بتذكير الميثاق العام المنتظم للناس كافة ومنعهم عن التقليد وحملهم على الاستدلال.
وفي تفسير هذه الآية طريقان: طريق السلف، وطريق الخلف. فطريق السلف: أن الله تعالى لما خلق آدم أخرج أولا ذرية آدم كالذر من ظهره أي من مسام شعر ظهره إذ تحت كل شعرة ثقبة دقيقة يقال لها: سم مثل سم الخياط في النفوذ فتخرج الذرة الضعيفة منها كما يخرج الصئبان من العرق السائل، ثم أخرج من هذه الذر الذي أخرجه من آدم ذريته ذرا، ثم أخرج من الذر الآخر ذريته ذرا، ثم أخرج من الذر الآخر ذريته ذرا، وهكذا إلى آخر النوع الإنساني وانحصر الجميع قدام آدم ونظر لهم بعينه، وخلق الله تعالى فيهم العقل والفهم والنطق، وجعل الذر المسلم أبيض والكافر أسود، وخاطب الجميع بقوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ فقال الجميع: بلى أي أنت ربنا، ثم أعاد الجميع إلى ظهر آدم. ويجب اعتقاد إخراج الذرية من ظهر آدم كما شاء الله ومعنى قوله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ إلخ أي استنطقهم بربوبيته تعالى فأقروا بذلك.
وقال الحكيم الترمذي: إن الله تعالى تجلى للكفار بالهيبة، فقالوا: بلى مخافة منه تعالى، فلم يك ينفعهم إيمانهم. وتجلى للمؤمنين بالرحمة، فقالوا: بلى مطيعين مختارين، فنفعهم إيمانهم، وطريق الخلف أن الله تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى في أرحام الأمهات وجعلها علقة، ثم مضغة، ثم جعلهم بشرا سويا وخلقا كاملا، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقه وغرائب صنعه، فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا: بلى وإن لم يكن هناك قول

باللسان فمحصل هذه الطريقة أنه لا إخراج ولا قول، ولا شهادة بالفعل وإنما هذا كله على سبيل المجاز التمثيلي فشبه حال النوع الإنساني بعد وجوده بالفعل بصفات التكليف من حيث نصب الأدلة على ربوبية الله المقتضية، لأن ينطق ويقر بمقتضاها بأخذ الميثاق عليه بالفعل بالإقرار بما ذكر وحينئذ فمعنى قوله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ أي ونصب الله لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم:
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنهم منه منزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل والله أعلم بحقيقة الحال أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ.
وقرأ أبو عمرو بالياء على الغيبة. والباقون بالتاء وفي قوله تعالى: شَهِدْنا قولان، فقيل: إنه من كلام الملائكة وذلك لأنهم لما قالوا: بلى قال الله تعالى للملائكة: اشهدوا، فقالوا: شهدنا عليهم لئلا يقولوا ما أقررنا، أو لئلا تقولوا أيها الكفرة، أو شهدنا عليهم كراهة أن يقولوا.
وقيل: إنه من بقية كلام الذرية أي وأشهدهم على أنفسهم بكذا وكذا لئلا يقولوا يوم القيامة عند ظهور الأمر إنا كنا عن وحدانية الربوبية لا نعرفه، أو كراهية أن يقولوا ذلك وعلى هذا التقدير فلا يجوز الوقف عند قوله: شَهِدْنا ولا يحسن على بلى. وقوله: أَوْ تَقُولُوا معطوف على أَنْ تَقُولُوا.
والمعنى أن المقصود من هذا الإشهاد لئلا يقول الكفار: إنما أشركنا لأن آباءنا أشركوا من قبل زماننا فقلدناهم في ذلك الشرك.
وقال الخلف: معنى هذه الآية أنا نصبنا هذه الدلائل وأظهرناها للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين فما نبهنا عليه منبه، أو كراهة أن يقولوا: إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا، لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على الاقتداء بالآباء كما قالوا: وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ لا نقدر على الاستدلال بالدليل أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) من آبائنا المضلين فالمؤاخذة إنما هي عليهم، والمعنى لا يمكنهم الاحتجاج بذلك، لأنه قامت الحجة عليهم يوم القيامة لإخبار الرسل إياهم بذلك الميثاق في الدنيا فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمتهم الحجة ولا تسقط الحجة بنسيانهم بعد إخبار الرسل وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ
الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
(١٧٤) أي مثل ما بيّنا خبر الميثاق في هذه الآية نبين سائر الآيات ليتدبروها فيرجعوا إلى الحق ويعرضوا عن الباطل وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) أي واتل يا أكرم الخلق على اليهود خبر

الذي آتيناه علوم الكتب القديمة والتصرف بالاسم الأعظم وهو أحد علماء بني إسرائيل فكان يدعو به حيث شاء فيجاب بعين ما طلب في الحال، وكان بحيث إذا نظر رأى العرش، وكان في مجلسه اثنا عشر ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه، ثم صار بحيث كان أول من صنف كتابا أن ليس للعلم صانع وهذا معنى فانسلخ منها أي انسلخ من تلك الآيات انسلاخ الحية من جلدها بأن كفر بها فأدركه الشيطان فصار من زمرة الضالين.
قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رحمهم الله تعالى: نزلت هذه الآية في بلعم بن باعوراء، وذلك لأن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه وغزا أهله وكانوا كفارا، فطلبوا منه أن يدعو على موسى عليه السلام وقومه وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم، فامتنع منه فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليه فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه فقال موسى: يا رب بأيّ ذنب وقعنا في التيه؟ فقال: بدعاء بلعم، فقال: كما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه، ثم دعا موسى عليه أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان، فسلخه الله مما كان عليه ونزع منه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أي ولو شئنا رفعه لرفعناه للعمل بتلك الآيات، فكان يرفع منزلته بواسطة تلك الأعمال الصالحة وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أي مال إلى الدنيا فآثر الدنيا الدنية على المنازل السنية وَاتَّبَعَ هَواهُ في إيثار الدنيا معرضا عن تلك الآيات الجليلة فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي صفة بلعم كصفتي الكلب في حالتي التعب والراحة، فهذا الكلب إن شد عليه لهث وإن ترك أيضا لهث لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له فكذلك هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال طبيعة ذاتية له واللهث إدلاع اللسان بالتنفس الشديد أي فالكلب دائم اللهث سواء أزعجته بالطرد العنيف، أو تركته على حاله بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد إلا عند التعب ذلِكَ أي المثل السيئ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وهم اليهود حيث أوتوا في التوراة ما أوتوا من نعوت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وبشروا الناس باقتراب مبعثه فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة فَاقْصُصِ الْقَصَصَ أي فاقصص يا أكرم الرسل على قومك قصص الذين كذبوا أنبياءهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) أي يتعظون ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا بعد قيام الحجة عليها وعلمهم بها وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) معطوف على كذبوا داخل معه في حكم الصلة، أي الذين جمعوا بين التكذيب في آيات الله وظلم أنفسهم خاصة.
وقرأ الجحدري ساء مثل القوم مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي أي من يخلق الله فيه الاهتداء فهو المهتدي لدينه بإثبات الياء وصلا ووقفا عند جميع القراء لثبوتها في الرسم بخلاف ما في