آيات من القرآن الكريم

۞ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ

وبهذين الفعلين تقوم الحجة عليهم في قولهم الباطل، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، «وادارسوا» ما فيه وقال الطبري وغيره، قوله: وَدَرَسُوا معطوف على قوله: وَرِثُوا الْكِتابَ.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر لبعد المعطوف عليه لأنه قوله: وَدَرَسُوا يزول منه معنى إقامة الحجة بالتقدير الذي في قوله: أَلَمْ ثم وعظ وذكر تبارك وتعالى بقوله: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وقرأ جمهور الناس: «أفلا تعقلون» بالتاء من فوق وقرأ أبو عمرو وأهل مكة: «يعقلون» بالياء من أسفل.
وقوله: وَالَّذِينَ عطف على قوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وأبو عمرو والناس: «يمسّكون» بفتح الميم وشد السين وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو العالية وعاصم وحده في رواية أبي بكر. «يمسكون» بسكون الميم وتخفيف السين، وكلهم خفف وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: ١٠] إلا أبا عمرو فإنه قرأ: «ولا تمسّكوا» بفتح الميم وشد السين، وقرأ الأعمش «والذين استمسكوا» وفي حرف أبيّ «والذين مسكوا» يقال أمسك ومسك وهما لغتان بمعنى واحد، قال كعب بن زهير: [البسيط]

فما تمسك بالعهد الذي زعمت إلا كما تمسك الماء الغرابيل
أما أن شد السين يجري مع التعدي بالباء.
قوله عز وجل:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧١ الى ١٧٢]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢)
نَتَقْنَا معناه اقتلعنا ورفعنا فكأن النتق اقتلاع الشيء، تقول العرب: نتقت الزبدة من فم القربة، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
ونتقوا أحلامنا الأثاقلا
والناتق الرحم التي تقلع الولد من الرجل، ومنه قول النابغة:
لم يحرموا حسن الغداء وأمهم دحقت عليك بناتق مذكار
وفي الحديث أن رسول الله ﷺ قال: «عليكم بتزويج الأبكار فإنهن أنتق أرحاما وأطيب أفواها» الحديث. وقد جاء في القرآن بدل هذه اللفظة في هذه القصة بعينها رفعنا لكن نَتَقْنَا، وفَوْقَهُمْ أعطت الرفع بزيادة قرينة هي أن الجبل اقتلعته الملائكة وأمر الله إياه، وروي أن موسى عليه السلام لما جاءهم بالتوراة فقال عن الله تعالى هذا كتاب الله أتقبلونه بما فيه؟ فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم وما أمركم وما نهاكم، قالوا: انشر علينا ما فيها فإن كانت فرائضها يسيرة وحدودها خفيفة

صفحة رقم 473

قبلناها، قال: اقبلوها بما فيها قالوا: لا، فراجعهم موسى فراجعوا ثلاثا فأوحى الله عز وجل إلى الجبل فانقلع وارتفع فوق رؤوسهم، فقال لهم موسى ﷺ ألا ترون ما يقول ربي؟: لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها لأرمينكم بهذا الجبل، قال الحسن البصري: فلما رأوا إلى الجبل خر كل واحد منهم ساجدا على حاجبه الأيسر ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا أن يسقط عليه فلذلك ليس في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر يقولون هذه السجدة التي رفعت بها عنا العقوبة، و «الظلة» ما أظل ومنه فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [البقرة: ٢١٠] ومنه عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ [الشعراء: ١٨٩] ومنه قول أسيد بن حضير للنبي صلى الله عليه وسلم: قرأت البارحة «فغشي الدار مثل الظلة فيها أمثال المصابيح» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تلك السكينة تنزلت للقرآن فإن قيل فإذا كان الجبل ظلة فما معنى: كأنه؟ فالجواب أن البشر إنما اعتادوا هذه الأجرام الأرضية ظللا إذا كانت على عمد، فلما كان الجبل على غير عمد قيل كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أي كأنه على عمد، وَظَنُّوا قال المفسرون: معناه أيقنوا.
قال القاضي أبو محمد: وليس الأمر عندي كذلك بل هو موضع غلبة الظن مع بقاء الرجاء، وكيف يوقنون بوقوعه وموسى عليه السلام يقول: إن الرمي به إنما هو بشرط أن لا يقبلوا التوراة والظن إنما يقع ويستعمل في اليقين متى كان ذلك المتيقن لم يخرج إلى الحواس، وقد يبين هذا فيما سلف من هذا الكتب ثم قيل لهم في وقت ارتفاع الجبل: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ فأخذوها والتزموا جميع ما تضمنته من شدة ورخاء فما وفوا، وقرأ جمهور الناس: وَاذْكُرُوا وقرأ الأعمش فيما حكى أبو الفتح عنه: «واذكروا ولعلكم» على ترجيهم وهذا تشدد في حفظها والتهمم بأمرها.
وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ الآية، التقدير واذكر إذ أخذ وقوله: مِنْ ظُهُورِهِمْ قال النحاة: هو بدل اشتمال من قوله: مِنْ بَنِي آدَمَ، وألفاظ هذه الآية تقتضي أن الأخذ إنما كان من بني آدم من ظهورهم وليس لآدم في الآية ذكر بحسب اللفظة وتواترت الأحاديث في تفسير هذه الآية عن النبي ﷺ من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن عباس وغيرهما أن الله عز وجل لما خلق آدم وفي بعض الروايات لما أهبط آدم إلى الأرض في دهناء من أرض السند قاله ابن عباس، وفي بعضها أن ذلك بنعمان وهي عرفة وما يليها قاله أيضا ابن عباس وغيره، مسح على ظهره وفي بعض الروايات بيمينه وفي بعض الروايات ضرب منكبه فاستخرج منها أي من المسحة أو الضربة نسم بنيه ففي بعض الروايات كالذر وفي بعضها كالخردل وقال محمد بن كعب: إنها الأرواح جعلت لها مثالات، وروى عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ أنه قال: أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس وجعل الله لهم عقولا كنملة سليمان وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره فأقروا بذلك والتزموه وأعلمهم أنه سيبعث الرسل إليهم مذكرة وداعية، فشهد بعضهم على بعض، قال أبيّ بن كعب وأشهد عليهم السماوات السبع فليس من أحد يولد إلى يوم القيامة إلا وقد أخذ عليه العهد في ذلك اليوم والمقام، وقال السدي أعطى الكفار العهد يومئذ كارهين على وجه التقية.
قال القاضي أبو محمد: هذه نخيلة مجموع الروايات المطولة، وكأن ألفاظ هذه الأحاديث لا تلتئم

صفحة رقم 474

مع ألفاظ الآية، وقد أكثر الناس في روم الجمع بينهما فقال قوم: إن الآية مشيرة إلى هذا التناسل الذي في الدنيا، وأَخَذَ بمعنى أوجد على المعهود وأن الإشهاد هو عند بلوغ المكلف وهو قد أعطي الفهم ونصبت له هذه الصنعة الدالة على الصانع، ونحا إلى هذا المعنى الزجّاج، وهو معنى تحتمله الألفاظ لكن يرد عليه تفسير عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما الآية بالحديث المذكور، وروايتهما ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وطوّل الجرجاني في هذه المسألة ومدار كلامه على أن المسح وإخراج الذرية من أظهر آدم حسب الحديث، وقيل في الآية أخذ من ظهورهم إذ الإخراج من ظهر آدم الذي هو الأصل إخراج من ظهور بنيه الذين هم الفرع إذ الفرع والأصل شيء واحد، إلى كلام كثير لا يثبت للنقد، وقال غيره: إن جميع ما في الحديث من مسح بيمينه وضرب منكبه ونحو هذا إنما هي عبارة عن إيجاد ذلك النسم منه، و «اليمين» عبارة عن القدرة أو يكون الماسح ملكا بأمر الله عز وجل فتضمن الحديث صدر القصة وإيجاد النسم من آدم، وهذه زيادة على ما في الآية، ثم تضمنت الآية ما جرى بعد هذا من أخذ العهد، والنسم حضور موجودون هي تحتمل معنيين أحدهما أن يكون أخذ عاملا في عهد أو ميثاق تقدره بعد قوله ذُرِّيَّتَهُمْ ويكون قوله مِنْ ظُهُورِهِمْ لبيان جنس النبوة إذ المراد من الجميع التناسل ويشركه في لفظة بني آدم بنوه لصلبه وبنوه بالحنان والشفقة ويكون قوله: من ذُرِّيَّتَهُمْ بدلا من بَنِي آدَمَ، والمعنى الآخر أنه لما كانت كل نسمة هنالك لها نسبة إلى التي هي من ظهرها كأن تعيين تلك النسبة أخذ من الظهر إذ ستخرج منه فهي المستأنف فالمعنى وإذ عينوا بهذه النسبة وعرفوا بها فذلك أخذ ما وأَخَذَ على هذا عامل في ذُرِّيَّتَهُمْ وليس بمعنى مسح وأوجد بل قد تقدم إيجادهم كما تقدم الحديث المذكور، فالحديث يزيد معنى على الآية وهو ذكر آدم وأول إيجاد النسم كيف كان.
وقال الطرطوشي إن هذا العهد يلزم البشر وإن كانوا لا يذكرونه في هذه الحياة كما يلزم الطلاق من شهد عليه به وهو قد نسيه إلى غير هذا مما ليس بتفسير ولا من طريقه.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر: «ذرياتهم» جمع جمع وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي:
«ذريتهم» والإفراد هنا جمع وقد تقدم القول على لفظ الذرية في سورة آل عمران.
وروي في قصص هذه الآية: أن الأنبياء عليهم السلام كانوا بين تلك النسم أمثال السرج وأن آدم عليه السلام رأى داود فأعجبه فقال: من هذا؟ فقيل: نبي من ذريتك فقال: كم عمره؟ فقيل ستون سنة، فقال زيدوه من عمري أربعين سنة فزيدت قال: وكان عمر آدم ألفا فلما أكمل تسعمائة وستين جاء ملك الموت فقال له آدم بقي لي أربعون سنة فرجع ملك الموت إلى ربه فأخبره فقال له قل له إنك أعطيتها لابنك داود فتوفي عليه السلام بعد أن خاصم في الأربعين، قال الضحاك بن مزاحم: من مات صغيرا فهو على العهد الأول ومن بلغ فقد أخذه العهد الثاني يعني الذي في هذه الحياة المعقولة الآن، وحكى الزجاج عن قوم أنهم قالوا إن هذه الآية عبارة عن أن كل نسمة إذا ولدت وبلغت فنظرها في الأدلة المنصوبة عهد عليها في أن تؤمن وتعرف الله، وقد تقدم ذكر هذا القول وهو قول ضعيف منكب عن الأحاديث المأثورة مطرح لها.

صفحة رقم 475
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز
عرض الكتاب
المؤلف
أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي
تحقيق
عبد السلام عبد الشافي محمد
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1422 - 2001
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية