قُلْنَا: إِظْهَارًا لِعُلُوِّ مَرْتَبَةِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهَا أَعْظَمُ العبادات بعد الإيمان.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧١]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَصْلُ النَّتْقِ قَلْعُ الشَّيْءِ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَالرَّمْيُ بِهِ. يُقَالُ: نَتَقَ مَا فِي الْجِرَابِ إِذَا رَمَى بِهِ وَصَبَّهُ وَامْرَأَةٌ نَاتِقٌ وَمِنْتَاقٌ إِذَا كَثُرَ وَلَدُهَا لِأَنَّهَا تَرْمِي بِأَوْلَادِهَا رَمْيًا فَمَعْنَى نَتَقْنَا الْجَبَلَ أَيْ قَلَعْنَاهُ مِنْ أَصْلِهِ وَجَعَلْنَاهُ فَوْقَهُمْ وَقَوْلُهُ: كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَأَنَّهُ سَقِيفَةٌ وَالظُّلَّةُ كُلُّ مَا أَظَلَّكَ مِنْ سَقْفِ بَيْتٍ أَوْ سَحَابَةٍ أَوْ جَنَاحِ حَائِطٍ، وَالْجَمْعُ ظُلَلٌ وَظِلَالٌ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: عَلِمُوا وَأَيْقَنُوا. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: قَوِيَ فِي نُفُوسِهِمْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ إِنْ خَالَفُوهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى الظَّنِّ، وَمَضَى الْكَلَامُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٦] رُوِيَ أَنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ لِغِلَظِهَا وَثِقَلِهَا، فَرَفَعَ اللَّه الطُّورَ على رؤوسهم مِقْدَارَ عَسْكَرِهِمْ، وَكَانَ فَرْسَخًا فِي فَرْسَخٍ، وَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ قَبِلْتُمُوهَا بِمَا فِيهَا وَإِلَّا لَيَقَعَنَّ عَلَيْكُمْ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَى الْجَبَلِ خَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَاجِدًا عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْسَرِ، وَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنِهِ الْيُمْنَى خَوْفًا مِنْ سُقُوطِهِ، فَلِذَلِكَ لَا تَرَى يَهُودِيًّا يَسْجُدُ إِلَّا عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْسَرِ وَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنِهِ الْيُمْنَى، وَيَقُولُونَ هِيَ السَّجْدَةُ الَّتِي رُفِعَتْ عَنَّا بِهَا الْعُقُوبَةُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أَيْ وَقُلْنَا خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ أَوْ قَائِلِينَ: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ مِنَ الْكِتَابِ بِقُوَّةٍ وَعَزْمٍ عَلَى احْتِمَالِ مَشَاقِّهِ وَتَكَالِيفِهِ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، أَيْ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ مِنَ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ بِقُوَّةٍ، إِنْ كُنْتُمْ تُطِيقُونَهُ كَقَوْلِهِ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرَّحْمَنِ: ٣٣] وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ لَعَلَّكُمْ تتقون ما أنتم عليه.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٤]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ تَوَابِعِهَا عَلَى أَقْصَى الْوُجُوهِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَجْرِي مَجْرَى تَقْرِيرِ الْحُجَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ الْأَثَرِ مَا
رَوَى مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ الْجُهَنِيُّ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ: «إِنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ» فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّه فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ
اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ اللَّه النَّارَ»
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّه آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: «إِنَّ اللَّه مَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِ آدَمَ الْيُمْنَى فَخَرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةٌ بَيْضَاءُ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ تَتَحَرَّكُ، ثُمَّ مَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِهِ الْيُسْرَى فَخَرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةٌ سَوْدَاءُ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ فَقَالَ يَا آدَمُ هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ.
ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى فَقَالَ لِلْبِيضِ هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِي وَهُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَقَالَ لِلسُّودِ هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي وَهُمْ أصحاب الشمال وأصحاب الْمَشْأَمَةِ ثُمَّ أَعَادَهُمْ جَمِيعًا فِي صُلْبِ آدَمَ، فَأَهْلُ الْقَبُولِ مَحْبُوسُونَ حَتَّى يَخْرُجَ أَهْلُ الْمِيثَاقِ كُلُّهُمْ مِنْ أَصْلَابِ الرِّجَالِ، وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى فِيمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ الْأَوَّلَ وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ [الْأَعْرَافِ: ١٠٢] وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ قُدَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ كَسَعِيدِ بن المسيب، وسعيد بن جبير، والضحاك، وعكرة، وَالْكَلْبِيِّ،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَنَّهُ أَبْصَرَ آدَمَ فِي ذُرِّيَّتِهِ قَوْمًا لَهُمْ نُورٌ. فَقَالَ يَا رَبِّ مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ الْأَنْبِيَاءُ، وَرَأَى وَاحِدًا هُوَ أَشَدُّهُمْ نُورًا فَقَالَ مَنْ هُوَ؟ قَالَ دَاوُدُ، قَالَ فَكَمْ عُمْرُهُ قَالَ سَبْعُونَ سَنَةً قَالَ آدَمُ: هُوَ قَلِيلٌ قَدْ وَهَبْتُهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ عُمُرُ آدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَلَمَّا تَمَّ عُمُرُ آدَمَ تِسْعَمِائَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً أَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ، فَقَالَ بَقِيَ مِنْ أَجَلِي أَرْبَعُونَ سنة، فقال: ألست قد وَهَبْتَهُ مِنَ ابْنِكَ دَاوُدَ؟ فَقَالَ مَا كُنْتُ لِأَجْعَلَ لِأَحَدٍ مِنْ أَجَلِي شَيْئًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ كُتِبَ لِكُلِّ نَفْسٍ أَجَلُهَا.
أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ: فَقَدْ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا الْوَجْهِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ بِوُجُوهٍ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: لَهُمْ قَالُوا: قَوْلُهُ: مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ لَا شَكَّ أن قوله: مِنْ ظُهُورِهِمْ يدل مِنْ قَوْلِهِ: بَنِي آدَمَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ شَيْئًا.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ شَيْئًا مِنَ الذُّرِّيَّةِ لَمَا قَالَ: مِنْ ظُهُورِهِمْ بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: مِنْ ظَهْرِهِ، لِأَنَّ آدَمَ لَيْسَ لَهُ إِلَّا ظَهْرٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ذُرِّيَّتَهُمْ لَوْ كَانَ آدَمُ لَقَالَ ذُرِّيَّتَهُ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ أُولَئِكَ الذُّرِّيَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَهَذَا الْكَلَامُ يَلِيقُ بِأَوْلَادِ آدَمَ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مُشْرِكًا.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا مِنَ الْعَاقِلِ، فَلَوْ أَخَذَ اللَّه الْمِيثَاقَ مِنْ أُولَئِكَ الذَّرِّ لَكَانُوا عُقَلَاءَ، وَلَوْ كَانُوا عُقَلَاءَ وَأُعْطُوا ذَلِكَ الْمِيثَاقَ حَالَ عَقْلِهِمْ لَوَجَبَ أَنْ يَتَذَكَّرُوا فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّهُمْ أُعْطُوا الْمِيثَاقَ قَبْلَ دُخُولِهِمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ عَظِيمَةٌ مَهِيبَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ كَوْنِهِ عَاقِلًا أَنْ يَنْسَاهَا نِسْيَانًا كُلِّيًّا لَا يَتَذَكَّرُ مِنْهَا شَيْئًا لَا بِالْقَلِيلِ وَلَا بِالْكَثِيرِ، وَبِهَذَا الدَّلِيلِ يَبْطُلُ الْقَوْلُ بِالتَّنَاسُخِ. فَإِنَّا نَقُولُ لَوْ كَانَتْ أَرْوَاحُنَا قَدْ حَصَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ الْأَجْسَادِ فِي أَجْسَادٍ أُخْرَى لَوَجَبَ أَنْ نَتَذَكَّرَ الْآنَ أَنَّا كُنَّا قَبْلَ هَذَا الْجَسَدِ فِي جَسَدٍ آخَرَ، وَحَيْثُ لَمْ نَتَذَكَّرْ ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ/ بِالتَّنَاسُخِ بَاطِلًا. فَإِذَا كَانَ اعْتِمَادُنَا فِي إِبْطَالِ التَّنَاسُخِ لَيْسَ إِلَّا عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ وَهَذَا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ قَائِمٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَجَبَ الْقَوْلُ بِمُقْتَضَاهُ، فَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ إِنَّا فِي وَقْتِ الْمِيثَاقِ أُعْطِينَا الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ مَعَ أَنَّا فِي هَذَا الْوَقْتِ لَا نَتَذَكَّرُ شَيْئًا مِنْهُ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إِنَّا كُنَّا قَبْلَ هَذَا الْبَدَنِ
فِي بَدَنٍ آخَرَ مَعَ أَنَّا فِي هَذَا الْبَدَنِ لَا نَتَذَكَّرُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ مَذْهَبِ أَهْلِ التَّنَاسُخِ فَإِنْ لَمْ يَبْعُدِ الْتِزَامُ هَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا الْتِزَامُ مَذْهَبِ التَّنَاسُخِ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ الَّذِينَ خَلَقَهُمُ اللَّه مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ عَدَدٌ عَظِيمٌ وكثيرة، فالمجموع الحاصل من تلك الذرات يَبْلُغُ مَبْلَغًا عَظِيمًا فِي الْحَجْمِيَّةِ وَالْمِقْدَارِ وَصُلْبُ آدَمَ عَلَى صِغَرِهِ يَبْعُدُ أَنْ يَتَّسِعَ لِذَلِكَ الْمَجْمُوعِ.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ الْبِنْيَةَ شَرْطٌ لِحُصُولِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الْهَبَاءِ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَاهِمًا مُصَنِّفًا لِلتَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ فِي الْعُلُومِ الدَّقِيقَةِ. وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُفْضِي إِلَى الْتِزَامِ الْجَهَالَاتِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبِنْيَةَ شَرْطٌ لِحُصُولِ الْحَيَاةِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الذَّرَّاتِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا فَاهِمًا عَاقِلًا إِلَّا إِذَا حَصَلَتْ لَهُ قُدْرَةٌ مِنَ الْبِنْيَةِ وَاللَّحْمِيَّةِ وَالدَّمِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَشْخَاصِ الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَى الْوُجُودِ مَنْ أَوَّلِ تَخْلِيقِ آدَمَ إِلَى آخِرِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ لَا تَحْوِيهِمْ عَرْصَةُ الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ بِأَسْرِهِمْ حَصَلُوا دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟
الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: قَالُوا هَذَا الْمِيثَاقُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَهُ اللَّه مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِيَصِيرَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ لِيَصِيرَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ عِنْدَ دُخُولِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْمِيثَاقِ لَا يَصِيرُونَ مُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ عِنْدَ دُخُولِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ الْمِيثَاقَ فِي الدُّنْيَا فَكَيْفَ يَصِيرُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي التَّمَسُّكِ بِالْإِيمَانِ؟
الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: إِنَّ حَالَ أُولَئِكَ الذُّرِّيَّةِ لَا يَكُونُ أَعْلَى فِي الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ مِنْ حَالِ الْأَطْفَالِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ تَوْجِيهُ التَّكْلِيفِ عَلَى الطِّفْلِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ عَلَى أُولَئِكَ الذَّوَاتِ؟
وَأَجَابَ الزَّجَّاجُ عَنْهُ فَقَالَ: لَمَّا لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُؤْتِيَ اللَّه النمل العقل كما قال: قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ [النَّمْلِ: ١٨] وَأَنْ يُعْطِيَ الْجَبَلَ الْفَهْمَ حَتَّى يُسَبِّحَ كَمَا قَالَ: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٧٩] وَكَمَا أَعْطَى اللَّه الْعَقْلَ لِلْبَعِيرِ حَتَّى سَجَدَ لِلرَّسُولِ، وَلِلنَّخْلَةِ حَتَّى سَمِعَتْ وَانْقَادَتْ حين دعيت فكذا هاهنا.
الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّ أُولَئِكَ الذَّرِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا كَامِلِي الْعُقُولِ وَالْقَدْرِ أَوْ مَا كَانُوا/ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانُوا مُكَلَّفِينَ لَا مَحَالَةَ وَإِنَّمَا يَبْقُونَ مُكَلَّفِينَ إِذَا عَرَفُوا اللَّه بِالِاسْتِدْلَالِ وَلَوْ كَانُوا كَذَلِكَ لَمَا امْتَازَتْ أَحْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَلَوِ افْتَقَرَ التَّكْلِيفُ فِي الدُّنْيَا إِلَى سَبْقِ ذَلِكَ الْمِيثَاقِ لا فتقر التَّكْلِيفُ فِي وَقْتِ ذَلِكَ الْمِيثَاقِ إِلَى سَبْقِ مِيثَاقٍ آخَرَ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ فِي وَقْتِ ذَلِكَ الْمِيثَاقِ مَا كَانُوا كَامِلِي الْعُقُولِ وَلَا كَامِلِي الْقَدْرِ، فَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ وَالتَّكْلِيفُ عَلَيْهِمْ.
الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطَّارِقِ: ٥، ٦] وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الذَّرَّاتُ عُقَلَاءَ فَاهِمِينَ كَامِلِينَ، لَكَانُوا مَوْجُودِينَ قَبْلَ هَذَا الْمَاءِ الدَّافِقِ وَلَا مَعْنَى لِلْإِنْسَانِ إِلَّا ذَلِكَ الشَّيْءُ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ مَخْلُوقًا مِنَ الْمَاءِ الدَّافِقِ وَذَلِكَ رَدٌّ لِنَصِّ الْقُرْآنِ.
فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عِنْدَ الْمِيثَاقِ ثُمَّ أَزَالَ عَقْلَهُ وَفَهْمَهُ وَقُدْرَتَهُ؟ ثُمَّ إِنَّهُ خَلَقَهُ مَرَّةً أُخْرَى فِي رَحِمِ الْأُمِّ وَأَخْرَجَهُ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ.
قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ خَلَقَهُ مِنَ النُّطْفَةِ خَلْقًا عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَلْقًا عَلَى سَبِيلِ الْإِعَادَةِ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ خَلْقَهُ مِنَ النُّطْفَةِ هُوَ الْخَلْقُ الْمُبْتَدَأُ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ بَاطِلٌ.
الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: هِيَ أَنَّ تِلْكَ الذَّرَّاتِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ هِيَ عَيْنُ هَؤُلَاءِ النَّاسِ أَوْ غَيْرِهِمْ وَالْقَوْلُ الثَّانِي بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، بَقِيَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ بَقُوا فُهَمَاءَ عُقَلَاءَ قَادِرِينَ حَالَ مَا كَانُوا نُطْفَةً وَعَلَقَةً وَمُضْغَةً أَوْ مَا بَقُوا كَذَلِكَ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَالثَّانِي: يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ الْإِنْسَانُ حَصَلَ لَهُ الْحَيَاةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَوَّلُهَا وَقْتَ الْمِيثَاقِ، وَثَانِيهَا فِي الدُّنْيَا، وَثَالِثُهَا فِي الْقَبْرِ، وَرَابِعُهَا فِي الْقِيَامَةِ. وَأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ الْمَوْتُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. مَوْتٌ بَعْدَ الْحَيَاةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ، وَمَوْتٌ فِي الدُّنْيَا، وَمَوْتٌ فِي الْقَبْرِ، وَهَذَا الْعَدَدُ مُخَالِفٌ لِلْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غَافِرٍ: ١١].
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنين: ١٢] فَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ بِهَذَا الذَّرِّ صَحِيحًا لَكَانَ ذَلِكَ الذَّرُّ هُوَ الْإِنْسَانُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُكَلَّفُ الْمُخَاطَبُ الْمُثَابُ الْمُعَاقَبُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ.
لِأَنَّ ذَلِكَ الذَّرَّ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالْعَلَقَةِ، وَالْمُضْغَةِ، وَنَصُّ الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنَ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ وَقَوْلُهُ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ [عَبَسَ: ١٧- ١٩] فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ أَصْحَابِ النَّظَرِ وَأَرْبَابِ الْمَعْقُولَاتِ: إِنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ الذُّرِّيَّةَ وَهُمُ الْأَوْلَادُ مِنْ أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَذَلِكَ الْإِخْرَاجُ أَنَّهُمْ كَانُوا نُطْفَةً فَأَخْرَجَهَا اللَّه تَعَالَى فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ، وَجَعَلَهَا عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ بَشَرًا سَوِيًّا، وَخَلْقًا كَامِلًا ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا رَكَّبَ فِيهِمْ مِنْ دَلَائِلِ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَجَائِبِ خَلْقِهِ، وَغَرَائِبِ صُنْعِهِ. فَبِالْإِشْهَادِ صَارُوا كَأَنَّهُمْ قَالُوا بَلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ مِنْهَا قوله تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: ١١] وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: ٤٠] وَقَوْلُ الْعَرَبِ:
قَالَ الْجِدَارُ لِلْوَتِدِ لِمَ تَشُقُّنِي | قَالَ سَلْ مَنْ يَدُقُّنِي |
فَإِنَّ الَّذِي وَرَايِي | مَا خَلَّانِي وَرَايِي |
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي
فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ مَشْهُورٌ فِي الْكَلَامِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لَا طَعْنَ فِيهِ الْبَتَّةَ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَصِحَّ هَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِصِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: إِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا؟
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا الْمُخْتَارُ عِنْدَكُمْ فيه؟ صفحة رقم 400
قلنا: هاهنا مَقَامَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَنِ الذَّرِّ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يصح القول به، فهل يمكن جعله تفسير الألفاظ هَذِهِ الْآيَةِ؟
أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَالْمُنْكِرُونَ لَهُ قَدْ تَمَسَّكُوا بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَقَرَّرْنَاهَا، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِوَجْهٍ مُقْنِعٍ.
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مِنَ الْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْقَوْلُ بِأَخْذِ هَذَا الْمِيثَاقِ لَوَجَبَ أَنْ نَتَذَكَّرَهُ الْآنَ.
قُلْنَا: خَالِقُ الْعِلْمِ بِحُصُولِ الْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ عَقْلِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ. وَالْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ خَالِقُهَا هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يَخْلُقَهَا.
فَإِنْ قَالُوا: فَإِذَا جَوَّزْتُمْ هَذَا، فَجَوِّزُوا أَنْ يُقَالَ: إن قَبْلَ هَذَا الْبَدَنِ كُنَّا فِي أَبْدَانٍ أُخْرَى عَلَى سَبِيلِ التَّنَاسُخِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَتَذَكَّرُ الْآنَ أَحْوَالَ تِلْكَ الْأَبْدَانِ! قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ظَاهِرٌ وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا كُنَّا فِي أَبْدَانٍ أُخْرَى، وَبَقِينَا فِيهَا سِنِينَ وَدُهُورًا، امْتَنَعَ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ نِسْيَانُهَا، أَمَّا أَخْذُ هَذَا الْمِيثَاقِ إِنَّمَا حَصَلَ فِي أَسْرَعِ زَمَانٍ، وَأَقَلِّ وَقْتٍ فَلَمْ/ يَبْعُدْ حُصُولُ النِّسْيَانِ فِيهِ، وَالْفَرْقُ الظَّاهِرُ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ هَذَا الْفَرْقِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا بَقِيَ عَلَى الْعَمَلِ الْوَاحِدِ سِنِينَ كَثِيرَةً يَمْتَنِعُ أَنْ يَنْسَاهُ، أَمَّا إِذَا مَارَسَ الْعَمَلَ الْوَاحِدَ لَحْظَةً وَاحِدَةً فَقَدْ يَنْسَاهُ، فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَجْمُوعُ تِلْكَ الذَّرَّاتِ يَمْتَنِعُ حُصُولُهَا بِأَسْرِهَا فِي ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قُلْنَا: عِنْدَنَا الْبِنْيَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا لِحُصُولِ الْحَيَاةِ، وَالْجَوْهَرُ الْفَرْدُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ، قَابِلٌ لِلْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ، فَإِذَا جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الذَّرَّاتِ جَوْهَرًا فَرْدًا، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ ظَهْرَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَتَّسِعُ لِمَجْمُوعِهَا؟ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا قُلْنَا: الْإِنْسَانُ جَوْهَرٌ فَرْدٌ. وَجُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ فِي الْبَدَنِ. عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْقُدَمَاءِ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: الْإِنْسَانُ هُوَ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ، وَإِنَّهُ جَوْهَرٌ غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ، وَلَا حَالَ فِي الْمُتَحَيِّزِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ فَائِدَةُ أَخْذِ الْمِيثَاقِ هِيَ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؟
فَجَوَابُنَا أَنْ نَقُولَ: يَفْعَلُ اللَّه مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَأَيْضًا أَلَيْسَ أَنَّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ إِذَا أَرَادُوا تَصْحِيحَ الْقَوْلِ بِوَزْنِ الْأَعْمَالِ، وَإِنْطَاقِ الْجَوَارِحِ قَالُوا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ فِي إِسْمَاعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لُطْفٌ؟ فَكَذَا هاهنا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ فِي تَمْيِيزِ السُّعَدَاءِ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ فِي وَقْتِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ لُطْفٌ. وَقِيلَ أَيْضًا إِنَّ اللَّه تَعَالَى يُذَكِّرُهُمْ ذَلِكَ الْمِيثَاقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَقِيَّةُ الْوُجُوهِ ضَعِيفَةٌ وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا سَهْلٌ هَيِّنٌ.
وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ مِنَ الذَّرِّ. فَهَلْ يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَفْسِيرًا لِأَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَنَقُولُ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ أَوَّلًا دَافِعَةٌ لِذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فقد بينا أن المراد منه، وإذا أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الذُّرِّيَّةُ مَأْخُوذَةً مَنْ ظَهْرِ آدَمَ لَقَالَ مِنْ ظَهْرِهِ ذُرِّيَّتَهُ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ. أَجَابَ النَّاصِرُونَ لِذَلِكَ الْقَوْلِ: بِأَنَّهُ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذَا الْوَجْهِ وَالطَّعْنُ فِي تَفْسِيرِ رَسُولِ اللَّه غَيْرُ مُمْكِنٍ. فَنَقُولُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ الذَّرَّ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ الشَّخْصَ الْفُلَانِيَّ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ فُلَانٌ
وَذَلِكَ الْفُلَانُ فُلَانٌ آخَرُ، فَعَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي عُلِمَ دُخُولُهُمْ فِي الْوُجُودِ يُخْرِجُهُمْ وَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَأَمَّا أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ كُلَّ تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، فَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ، إِلَّا أَنَّ الْخَبَرَ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ إِخْرَاجُ الذُّرِّيَّةِ مِنْ ظُهُورِ/ بَنِي آدَمَ بِالْقُرْآنِ، وَثَبَتَ إِخْرَاجُ الذُّرِّيَّةِ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِالْخَبَرِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَلَا مُدَافَعَةَ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِمَا مَعًا.
صَوْنًا لِلْآيَةِ. وَالْخَبَرُ عَنِ الطَّعْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَهَذَا مُنْتَهَى الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَقَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثانية: قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو ذُرِّيَّاتِهِمْ بِالْأَلْفِ عَلَى الْجَمْعِ وَالْبَاقُونَ ذُرِّيَّتَهُمْ عَلَى الْوَاحِدِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الذُّرِّيَّةُ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. فَمَنْ أَفْرَدَ فَإِنَّهُ قَدِ اسْتَغْنَى عَنْ جمعه بوقوعه عَلَى الْجَمْعِ فَصَارَ كَالْبَشَرِ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى الواحد كقوله: ما هذا بَشَراً وَعَلَى الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا [التَّغَابُنِ: ٦] وَقَوْلُهُ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَكَمَا لَمْ يُجْمَعْ بَشَرٌ بِتَصْحِيحٍ وَلَا تَكْسِيرٍ كَذَلِكَ لَا يُجْمَعُ الذُّرِّيَّةُ وَمَنْ جَمَعَ قَالَ: إِنَّ الذُّرِّيَّةَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَلَا إِشْكَالَ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ جَمْعًا فَجَمْعُهُ أَيْضًا حَسُنٌ، لِأَنَّكَ قَدْ رَأَيْتَ الْجُمُوعَ الْمُكَسَّرَةَ قَدْ جُمِعَتْ. نَحْوَ الطُّرُقَاتِ وَالْجَدَرَاتِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ يُونُسَ أَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى فَنَقُولُ: أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ الْمِيثَاقَ الْأَوَّلَ فَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَهُ قَالَ: إِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّمْثِيلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى نَصَبَ لَهُمُ الْأَدِلَّةَ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ، وَشَهِدَتْ بِهَا عُقُولُهُمْ، فَصَارَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى مَا إِذَا أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا وَإِقْرَارِنَا بِوَحْدَانِيَّتِهِ، أَمَّا قَوْلُهُ: شَهِدْنا فَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا بَلى قَالَ اللَّه لِلْمَلَائِكَةِ اشْهَدُوا فَقَالُوا شَهِدْنَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: قالُوا بَلى لِأَنَّ كَلَامَ الذرية قد انقطع هاهنا وَقَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ تَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَيْهِمْ بِالْإِقْرَارِ، لِئَلَّا يَقُولُوا مَا أَقْرَرْنَا، فَأَسْقَطَ كَلِمَةَ «لَا» كَمَا قَالَ: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النَّحْلِ: ١٥] يُرِيدُ لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ، هَذَا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ، وَعِنْدَ البصريين تقريره: شَهِدْنَا كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: شَهِدْنا مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الذُّرِّيَّةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ، فَقَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، بِكَذَا وَكَذَا، لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ أَوْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: شَهِدْنا لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ يَقُولُوا مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَشْهَدَهُمْ فَلَمْ يَجُزْ قَطْعُهُ مِنْهُ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولُوا أَوْ تَقُولُوا: فَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالْيَاءِ جَمِيعًا، لِأَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْغَيْبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ... - وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ لِئَلَّا يَقُولُوا وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ، لِأَنَّهُ قَدْ جَرَى فِي الْكَلَامِ خِطَابٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ حَسَنٌ، لِأَنَّ الْغَائِبِينَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ فِي الْمَعْنَى.
أَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْإِشْهَادِ أَنْ لَا يَقُولَ الْكُفَّارُ إِنَّمَا أَشْرَكْنَا، لِأَنَّ آبَاءَنَا أَشْرَكُوا، فَقَلَّدْنَاهُمْ فِي ذَلِكَ الشِّرْكِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ امْتَنَعَ عَلَيْهِمُ التَّمَسُّكُ بِهَذَا الْقَدْرِ. وَأَمَّا الذين