آيات من القرآن الكريم

۞ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ

٨- قد لا يأتي العذاب الشديد فجأة، وإنما بالتدريج، فقد عاقب الله بني إسرائيل أولا بتنكيل البابليين، ثم النصارى بهم، وسلبوا ملكهم. ومن ألوان عذاب الدنيا: المسخ قردة وخنازير بسبب التمادي في العصيان، ثم يأتي عذاب الآخرة.
رفع الجبل فوق اليهود وإذلالهم إلى يوم القيامة وتفريقهم في الأرض واستثناء الصالحين
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٧ الى ١٧١]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)

صفحة رقم 146

الإعراب:
وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ دون: صفة لموصوف محذوف، وتقديره: ومنهم جماعة دون ذلك، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، وهو منصوب على الظرف. أُمَماً مفعول ثان أو حال مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ صفة أو بدل منه.
وَرِثُوا الْكِتابَ: جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة فَخَلَفَ.
يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو وَرِثُوا.
وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ الجملة حال من وَيَقُولُونَ...
وَيَقُولُونَ: سَيُغْفَرُ لَنا معطوف على يَأْخُذُونَ.
وَدَرَسُوا معطوف على وَرِثُوا الْكِتابَ.
أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ اعتراض وقع بين: ورثوا ودرسوا. أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ عطف بيان لميثاق الكتاب.
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ في موضع رفع لأنه مبتدأ، وخبره: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ وتقديره: إنا لا نضيع أجر المصلحين منهم، ليعود من الخبر إلى المبتدأ عائد. ويجوز أن يكون ذكر الْمُصْلِحِينَ من قبيل وضع المظهر موضع المضمر أي أجرهم، تنبيها على أن الإصلاح كالمانع من التضييع.
وَإِذْ نَتَقْنَا وإذ: في موضع نصب بتقدير فعل، وتقديره: واذكر إذ نتقنا.
كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ في موضع نصب على الحال من الْجَبَلَ. وقيل: في موضع رفع بتقدير مبتدأ محذوف.
البلاغة:
أَفَلا تَعْقِلُونَ التفات من الغيبة إلى الخطاب، لزيادة لتوبيخ.
المفردات اللغوية:
تَأَذَّنَ مثل أذّن: أي أعلم ونادى للإعلام لَيَبْعَثَنَّ ليسلطن عَلَيْهِمْ أي على اليهود يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ يذيقهم سوء العذاب بالذل وأخذ الجزية، فبعث عليهم سليمان، وبعده البابليين المجوس بقيادة بختنصر، فقتلهم وسباهم وضرب عليهم الجزية، ثم النصارى، ثم

صفحة رقم 147

المسلمين، ثم الألمان في العصر الحديث لَسَرِيعُ الْعِقابِ لمن عصاه وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ لأهل طاعته رَحِيمٌ بهم.
وَقَطَّعْناهُمْ فرقناهم فِي الْأَرْضِ أُمَماً أي جماعات وفرقا وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي ناس منحطون عنهم وهم الكفار والفساق وَبَلَوْناهُمْ اختبرناهم بِالْحَسَناتِ بالنّعم وَالسَّيِّئاتِ النقم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن فسقهم. فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ بسكون اللام:
من يخلف غيره في الشر، ومنه قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ...
[مريم ١٩/ ٥٩] وبفتح اللام: من يخلف غيره بالخير، والخلف: مصدر نعت به، ولذلك يقع على الواحد والجمع، وقيل: جمع وَرِثُوا الْكِتابَ التوراة عن آبائهم يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى العرض: متاع الدنيا وحطامها، والأدنى: الشيء الدني وهو الدنيا، والمراد يأخذون المال أو هذا الشيء الدنيء من حلال وحرام.
وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ الجملة حال، أي يرجون المغفرة، وهم عائدون إلى ما فعلوه، مصرون عليه، وليس في التوراة وعد المغفرة مع الإصرار، وإنما غفران الذنوب لا يصح إلا بالتوبة، والمصرّ لا غفران له.
أَلَمْ يُؤْخَذْ استفهام تقرير مِيثاقُ الْكِتابِ الإضافة بمعنى في، وهو قوله في التوراة:
من ارتكب ذنبا عظيما، فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة. وَدَرَسُوا ما فِيهِ عطف على: يُؤْخَذْ أي قرءوه وفهموه، فهم عارفون الحكم ذاكرون له. فلم كذبوا عليه بنسبة المغفرة مع الإصرار لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الحرام. أَفَلا تَعْقِلُونَ أو بالياء: أنها خير، فتؤثروها على الدنيا.
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بالتشديد والتخفيف أي يتمسكون به ويعملون وَأَقامُوا الصَّلاةَ كعبد الله بن سلام وأصحابه.
وَإِذْ نَتَقْنَا واذكر إذ رفعنا الجبل من أصله ظُلَّةٌ أي مظلة وهي كل ما أظلك من سقف أو سماء أو جناح طائر وَظَنُّوا أيقنوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ ساقط عليهم، بإنذار الله لهم بوقوعه إن لم يقبلوا أحكام التوراة، وكانوا أبوها لثقلها، فقبلوا. خُذُوا ما آتَيْناكُمْ أي قلنا لهم:
خذوا ما آتيناكم بجد واجتهاد. وَاذْكُرُوا ما فِيهِ بالعمل به.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى بعض قبائح اليهود وعقابهم عليها بالمسخ قردة، ذكر في هذه الآية أنه تعالى حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة، عقابا على

صفحة رقم 148

أفعالهم، ثم ذكر أنه فرقهم جماعات مشردين في الأرض، وأن خلفهم جماعة ماديون تهمهم الدنيا فقط، وأن أسلافهم قبلوا الأخذ بالتوراة بعد إنذارهم بإسقاط الجبل عليهم. وهذا كله للعبرة، فكل أمة تفسق عن أمر الله وتخالف أحكام الدين مهددة بمثل هذا العقاب.
التفسير والبيان:
واذكر يا محمد حين أعلم ربك أسلاف اليهود على لسان أنبيائهم أنه قضى عليهم في علمه وأوجب على نفسه، ليسلطنّ عليهم إلى يوم القيامة من يذيقهم العقاب الشديد، ويلحق بهم الذل والصغار، ويفرض عليهم الجزية، ويبدد ملكهم، ويفرق شملهم، حتى يصبحوا أذلة مشردين.
إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ لمن عصاه وخالف شرعه، وإنه لغفور لمن تاب إليه وأناب، ورحيم بأهل الطاعة والإنابة.
وقد تحقق مدلول الآية، فكان موسى عليه السلام أول من فرض الخراج عليهم، وألزمهم به، ثم قهرهم اليونانيون والكشدانيون والكلدانيون والبابليون، ثم الروم النصارى، أخذوا منهم الجزية والخراج، ثم المسلمون الذين أخذوا منهم الجزية والخراج، ثم الألمان بقيادة هتلر في العصر الحديث، الذي قتلهم وشردهم في البلاد.
والآية بمعنى قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً إلى أن قال: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الإسراء ١٧/ ٤- ٨] أي وإن عدتم إلى الإفساد بعد المرة الآخرة، عدنا إلى التعذيب والإذلال.
وأما وجود اليهود في فلسطين الآن فهو أمر عارض مؤقت زائل بإذن الله، لثقتنا بوعد الله وكلامه.

صفحة رقم 149

هذا هو العقاب الأول على معاصي اليهود المتكررة وتمردهم على أحكام الله، وهو تسليط الأمم عليهم لإذلالهم وتعذيبهم.
والعقاب الثاني: هو تفريقهم وتمزيقهم جماعات وطوائف وفرقا في أنحاء الأرض، فلا يخلو منهم قطر من الأقطار، فيهم الصالح وغير ذلك.
فمنهم الصالحون المحسنون الذين يؤمنون بالأنبياء بعد موسى، ويؤمنون بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، ويؤثرون الآخرة على الدنيا، مثل أولئك الذين نهوا عن الاعتداء في السبت، ومثل عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا.
ومنهم من هو دون غيره في الصلاح، ومنهم الفسقة الفجرة الكفرة الذين كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ومنهم السماعون للكذب الأكّالون للسّحت كالرشا والربا لتبديل الأحكام والقضاء بغير ما أنزل الله. وفي الجملة: معنى وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي منحطون عن الصلاح، وهم كفرتهم وفسقتهم.
والله يعامل الفريقين كما يعامل غيرهم، فيختبرهم بالحسنات أي بالنعم وبالسيئات أي بالنقم، لعلهم يرجعون عن ذنبهم، ويشكروا النعمة، ويصبروا على النقمة.
ثم ظهر من الصالحين ومن دونهم خلف ورثوا التوراة عن أسلافهم، أي تلقفوا ما فيها من الأحكام وقرءوها واطلعوا على ما فيها. وهم الذين كانوا في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم هجروها وآثروا الدنيا ومتاعها وزينتها وتفانوا في جمع حطامها، لا يبالون، حلالا كان أو حراما أي من غير طريق شرعي، كالسحت والرشوة والمحاباة في الحكم والاتجار في الدين وتحريف الكلم عن مواضعه، وزعموا أن الله سيغفر لهم ولا يؤاخذهم على أفعالهم وسيئاتهم، قائلين: إننا أبناء الله وأحباؤه، وسلائل أنبيائه، وهم مقيمون على المعاصي، مصرون على الذنوب، لا يتورعون عن ضم الحرام إلى غيره، فإن يأتهم عرض آخر من عروض الدنيا مثل

صفحة رقم 150

الذي أخذوه أولا بالباطل، يأخذوه بلهف دون تعفف، وهم يعلمون أن وعد الله بالمغفرة مخصوص بالتائبين الذين يقلعون عن ذنوبهم.
فرد الله تعالى عليهم بقوله: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ... أي أن الله تعالى ينكر عليهم صنيعهم هذا لأنه قد أخذ عليهم العهد والميثاق ألا يقولوا على الله غير الحق، فيما يتمنون على الله من غفران ذنوبهم التي يصرون عليها ولا يتوبون منها، وهذا هو المذكور في التوراة: من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة، ومن جملة الميثاق أن يبينوا للناس الحق ولا يكتمونه، وألا يحرفوا الكلم ولا يغيروا الشرائع لأجل أخذ الرشوة، وهم قد درسوا الكتاب (التوراة) وفهموا ما فيه، من تحريم أكل مال الغير بالباطل والكذب على الله.
ثم رغبهم الله في جزيل ثوابه، وحذرهم من وبيل عقابه، فقال:
ألم يعلموا أن الدار الآخرة وما فيها من نعيم خالد خير للذين يتقون المعاصي ومحارم الله، ويتركون هوى نفوسهم، ويقبلون على طاعة ربهم، إنها خير من حطام الدنيا الفاني الذي يؤخذ بطريق الحرام كالرّشا والسحت وغير ذلك، أفلا تعقلون؟ أي أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعرض الدنيا عما عندي من ثواب عقل يردعهم عماهم فيه من السفه والتبذير؟! والخلاصة: أن الدار الآخرة خير من ذلك العرض الخسيس.
وفي هذا إيماء إلى أن الطمع في متاع الدنيا هو الذي أفسد بني إسرائيل، وفي هذا عبرة للمسلمين الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة.
ثم أثنى الله تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، كما هو مكتوب فيه، فقال تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ... أي والذين يستمسكون بأوامر الكتاب الإلهي، ويعتصمون به، ويقتدون بمنهجه، ويتركون زواجره، وأقاموا الصلاة، وخصها بالذكر مع أن الكتاب يشتمل على كل عبادة،

صفحة رقم 151

ومنها إقامة الصلاة إظهارا لعلو مرتبتها، وأنها أعظم العبادات بعد الإيمان، وأنها عماد الدين، والفارقة بين الكفر والإيمان.
إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ أي لا نضيع أجرهم لأن المصلحين في معنى الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف ١٨/ ٣٠].
وبعد أن بيّن الله تعالى مخالفة بني إسرائيل لأحكام دينهم ذكّر ببدء حالهم في إنزال الكتاب عليهم، فقال: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ... أي واذكر أيها النبي إذ رفعنا فوقهم جبل الطور لقوله: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة ٢/ ٦٣- ٩٣] وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ [النساء ٤/ ١٥٤]، وأصبح كأنه سقيفة، لما أبوا أن يقبلوا التوراة لثقلها، وعلموا وأيقنوا أنه ساقط عليهم لأن الجبل لا يثبت في الجو، ولأنهم كانوا يوعدون به، وقلنا لهم: خذوا ما أعطيناكم من أحكام الشريعة بجد واجتهاد، وحزم وعزم على احتمال المشاق والتكاليف.
واذكروا ما فيه من الأوامر والنواهي، ولا تنسوه، أو: واذكروا ما فيه من الإعداد للثواب والعقاب، فترغبوا في الثواب العظيم، وترهبوا من العقاب الشديد، رجاء أن تتحقق التقوى في قلوبكم، فتصبح أعمالكم متفقة مع الدين، وفي ذلك الفلاح لكم، أو لتتقوا ما أنتم عليه، فإن قوة العزيمة في إقامة الدين تزكي النفوس وتهذيب الأخلاق، كما أن التهاون في احترام الدين يغري النفوس على اتباع الشهوات، كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس ٩١/ ٩- ١٠].
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات واردة في حق اليهود الذين بقوا على الكفر واليهودية، فأما الذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم فخارجون عن هذا الحكم.

صفحة رقم 152

وقد دلت الآيات على ما يلي:
١- إعلام اليهود الأسلاف ومن باب أولى الخلف أنهم إن غيروا نصوص التوراة، ولم يؤمنوا بالنبي الأمي، بعث الله عليهم من يعذبهم إلى يوم القيامة.
وهذا تنصيص على أن ذلك العذاب مستمر إلى يوم القيامة، وهو يقتضي أن العذاب إنما يحصل في الدنيا. وللعذاب ألوان ومظاهر، فهو إما أخذ الجزية، وإما الاستخفاف والإهانة والإذلال لقوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا [آل عمران ٣/ ١١٢] وإما الإخراج والإبعاد من الوطن. وقد أذاقهم العذاب أمم كثيرة في الماضي من عهد بختنصّر، إلى العهد الإسلامي، وإلى العصر الحديث. وأما دولة إسرائيل فلا يحسد موقفها فهي تبع لإمريكا والغرب، وتعيش في قلق واضطراب ومخاوف، فلا تنعم بالأمن والاستقرار، ولا تهدأ ساحتها، لا في الداخل ولا في الخارج، وزوالها محقق مع الزمن، كما يثبت أهل العلم، فإن مرور الزمان ليس في صالحهم إطلاقا.
٢- اليهود أمة مشتتة ممزقة مفرقة في أنحاء الأرض، لا يخلو منهم قطر، منهم الصلحاء ومنهم الكفرة الفسقة الفجرة، وقد اختبرهم الله بأنواع عديدة من الاختبارات، أو عاملهم معاملة المختبر، فأمدهم بالحسنات أي بالخصب والعافية، والسيئات، أي الجدب والشدائد، ليرجعوا عن كفرهم ويتوبوا من فسقهم. قال أهل المعاني: وكل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة، أما النعم فلأجل الترغيب، وأما النقم فلأجل الترهيب.
٣- أولاد الذين فرّقهم الله في الأرض، ورثوا التوراة كتاب الله، فقرءوه وعلموه، وكانوا خلف سوء، خالفوا أحكامه وارتكبوا محارمه، مع دراستهم له، فاستحقوا التوبيخ والتقريع من الله تعالى.
ومن قبائحهم: ماديتهم الطاغية، وربما هم الذين علّموا أوربا وأمريكا

صفحة رقم 153

النزعة المادية الشديدة، فهم كانوا يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا من حلال أو حرام، لشدة حرصهم ونهمهم: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى ويزعمون أنه سيغفر لهم مع بقائهم على المعاصي، بل إنهم لا يتوبون، وقد ذمهم الله على اغترارهم بقولهم: سَيُغْفَرُ لَنا مع أنهم مصرون على الذنوب.
وإن جاءتهم عروض أخرى دنيوية وهي الرّشا والمكاسب الخبيثة، أخذوها أيضا. وفي هذا دلالة على أن الطمع في الدنيا هو سبب فساد اليهود. قال الحسن البصري: هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا، وأنهم لا يستمتعون منها «١».
وقال القرطبي: وهذا الوصف الذي ذمّ الله تعالى به هؤلاء موجود فينا، أسند الدارمي أبو محمد عن معاذ بن جبل قال: «سيبلى القرآن في صدور أقوام كما سيبلى الثوب فيتهافت، يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصّروا قالوا:
سنبلغ، وإن أساؤوا قالوا: سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئا»
«٢».
٤- أخذ الله العهد والميثاق على بني إسرائيل في التوراة وفي جميع الشرائع على اتباع قول الحق في الشرع والأحكام، وألا يميل الحكام بالرّشا إلى الباطل. وهذا عهد أيضا على المسلمين في كتاب ربنا وسنة نبينا.
ثم خالف اليهود الميثاق، مع أنهم قرءوا التوراة، وهم قريبو عهد بها. قال ابن زيد: كان يأتيهم المحقّ برشوة، فيخرجون له كتاب الله، فيحكمون له به، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة، وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم، وحكموا له.

(١) تفسير الرازي: ١٥/ ١٤
(٢) تفسير القرطبي: ٧/ ٣١١- ٣١٢

صفحة رقم 154
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية