
حيث جاء مثلا في سورة النساء: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) وآية البقرة هذه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [٢٦٠].
ولقد أورد ابن كثير حديثا عزاه إلى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي لم نجده في مجموعة الكتب الخمسة عن أبي ذر الغفاري على هامش الآية قال: «قال رسول الله ﷺ من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها». والحديث يقتضي أن تكون الآية مدينة لأن الصيام فرض في المدينة وليس هناك ما يؤيد ذلك. ولعل ذلك كان من قبيل التطبيق فالتبس على الرواة.
وهناك أحاديث أخرى يوردها المفسرون على هامش الآية أيضا متقاربة في المدى لم ترد في الكتب الخمسة نكتفي بواحد منها أورده ابن كثير بإخراج الحافظ أبو يعلى عن أنس بن مالك قال: «قال رسول الله ﷺ من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة». وفي رواية «ومن همّ بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة فإن تركها كتبت له حسنة يقول الله إنما تركها من مخافتي».
وفي الأحاديث تساوق مع الهدف القرآني في الترغيب والحثّ على الأعمال الحسنة والتحذير من الأعمال السيئة كما هو ظاهر، والله أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٦١ الى ١٦٥]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)

(١) قيما: قرئت بكسر القاف وفتح الياء المخففة وقرئت بفتح القاف وكسر الياء المشددة والمعنى مقارب وهو المستقيم والثابت.
(٢) الملة: هي الطريقة الدينية، أو الشريعة الدينية، وقالوا في أصل الكلمة إنها من الإملاء كأن ما يأتي به الشرع ويورده الرسول يملى على أمته فيكون لهم ملة متبعة «١».
(٣) نسكي: عبادتي. وتأتي النسك كناية عن القربان الذي يتقرب به الإنسان إلى الله.
(٤) ولا تزر وازرة وزر أخرى: لا تحمل نفس حمل نفس أخرى.
(٥) ليبلوكم: ليختبركم.
في الآيات أمر للنبي ﷺ بأن يعلن أن الله قد هداه إلى طريق قويم وهو الدين المستقيم طريق إبراهيم وملته الذي كان موحّدا حنيفا ولم يكن مشركا. وبأن يعلن أيضا أن صلاته وخشوعه وعبادته ونسكه ومحياه ومماته وكل أمر من أموره هو لله رب العالمين لا شريك له، وأنه أمر بذلك وهو أول المسلمين أنفسهم لله.
وبأن يتساءل تساؤل المنكر عما إذا كان يصح أن يتخذ غير الله ربّا له وهو ربّ كل شيء. وبأن يعلن أن كل امرئ إنما هو مسؤول عما يقترف ويكسب. ولا يحمل أحد تبعة أحد وإثمه، ومرجع الجميع إلى الله الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويحاسبهم عليه من حيث إنه هو الذي خلقهم وجعلهم خلائف في الأرض ورفع بعضهم فوق بعض ليختبرهم فيما يسّره لهم ومكّنهم فيه، كلا بحسبه ومن حيث هو سريع العقاب على الذين يستحقون عقابه، غفور رحيم للتائبين المؤمنين.

ولم نطلع في كتب التفسير على رواية خاصة بنزول الآيات. والمتبادر أنها استمرار للسياق ومتصلة به. وقد جاءت خاتمة قوية لفصول المناظرة القائمة بين النبي ﷺ والمشركين، وخاتمة قوية للسورة في ذات الوقت. وقد أمر النبي ﷺ فيها بإعلان خصومه أن الطريق قد وضح والحجة قد قامت وأنه على ملة إبراهيم المستقيمة التوحيدية وأول من يسلم نفسه لله وأن من يضيع الفرصة الآن فقد لا تواتيه في المستقبل ولن تنفعه إذا ما حل فيه أمر الله ولا يستطيع أحد أن يحمل إثمه ووزره.
تعليق على آية قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً إلخ والآية التالية لها
وهذه هي المرة الأولى التي ذكر فيها أن الملّة التي هدى الله تعالى النبي ﷺ إليها هي ملة إبراهيم. وقد ذكرت في آيات سابقة ملّة إبراهيم بوصفه حنيفا غير مشرك في سياق الحديث عن إبراهيم نفسه ثم تكرر هذا وذاك في آيات أخرى مكية ومدنية.
ولقد ذكرت الروايات «١» أن فريقا من العرب كانوا يتحدثون عن ملّة إبراهيم قبل البعثة ويصفونها بالحنيفية ويتعبّدون عليها منهم زيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة وأبو عامر الأوسي المشهور بالراهب ثم بالفاسق ومهما يكن من أمر الروايات فإن تكرر ذكر ملّة إبراهيم في آيات مكية وإعلان كون الله قد هدى النبي ﷺ إليها في هذه الآية يمكن أن يسوّغا القول بجزم إن ملّة إبراهيم كانت تتردد على ألسنة العرب فجاءت هذه الآية وأمثالها لتقرر بصورة حاسمة أنها هي التوحيد المنافي للشرك ولترد على مزاعم المشركين الذين كانوا يزعمون أنهم على ملّة إبراهيم، ويمارسون تقاليدهم باسمها في حين أنهم

مشركون وأن تقاليدهم مشوبة بشوائب الشرك، ولتعلن أن هذه الملة هي التي هدى الله نبيه إليها، ولتهتف بمن يريد أن يتبعها حقا أن يتبع النبي ﷺ ويستجيب إلى دعوته، ولتأمر النبي ﷺ بإعلان إسلامه إلى الله ربّ العالمين وحده بهذه الصيغة القوية النافذة.
تعليق على جملة وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ
هذا، وقد توهم جملة وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أنها بسبيل إقرار تفاضل الناس الطبقي. والذي يتبادر لنا أنها بسبيل تقرير واقع أمرهم في الدنيا وكونه ناموسا اجتماعيا عاما نشأ من طبيعة الاجتماع التي أودعها الله بني آدم ونتيجة لتفاوتهم في المواهب والنشاط والكسب وليست إقرارا للتفاضل بين الناس بدليل أن ذلك ليس مستقرا وإنما هو متقلب متداول بين جميع الناس حسب تقلب وتبدل الظروف والمواهب والأسباب. ثم بسبيل تنبيههم إلى أنهم معرّضون في تفاوتهم إلى اختبار الله تعالى وواجبهم نحوه ونحو الناس، فمن آمن وأصلح واتقى وعرف حده وأدى واجبه له الرحمة والغفران، ومن كفر وأفسد وبغى فله العقاب الشديد.
وفي هذا ما فيه من عظة وتلقين جليل مستمر المدى وهذا هو المتسق مع آيات القرآن الأخرى ومبادئه العامة التي لا تقر التفاضل إلّا في التقوى والمكارم والإخلاص والعمل الصالح وتعتبر الناس والمسلمين بخاصة طبقة واحدة متساوية في الحقوق والواجبات نحو الله والناس.
وفي سورة الزخرف آية فيها نفس العبارة مع تعليل للناموس الاجتماعي الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري الذي منه ذلك المظهر الدنيوي الواقعي أي اختلاف الناس وهو أن ذلك هو لتبادل المنافع والخدمات بين الناس وهذا نصها: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [٣٢].
وفي سورة الحجرات آية تقرر تساوي الناس في أصلهم وحياتهم وحصر

الفضل بينهم بالتقوى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [١٣].
وفي السورة نفسها آية تقرر الأخوة العامة بين المسلمين إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [١٠] حيث تمنع التفاضل الطبقي بين المسلمين. ومن الموانع القرآنية بالنسبة للمسلمين بخاصة الآيات [٥١- ٥٤] من هذه السورة التي مرّ شرحها بما يغني عن التكرار.
وهناك أحاديث عديدة في الكتب الخمسة وغيرها فيها توكيد على الأخوة الإسلامية. منها هذا الحديث الرائع الجامع الذي رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال النبي ﷺ لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبغ بعضكم على بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه» «١».