آيات من القرآن الكريم

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ

وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا)، يقول: لو استقبلهم ذلك كله، لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله.
١٣٧٦٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وحشرنا عليهم كل شيء قبلا)، قال: حشروا إليهم جميعًا، فقابلوهم وواجهوهم.
١٣٧٦٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن يزيد: قرأ عيسى: (قُبُلا) ومعناه: عيانًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا، قراءةُ من قرأ: (وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا)، بضم"القاف" و"الباء"، لما ذكرنا من احتمال ذلك الأوجهَ التي بينّا من المعاني، وأن معنى"القِبَل" داخلٌ فيه، وغير داخل في القبل معاني"القِبَل".
* * *
وأما قوله: (وحشرنا عليهم)، فإن معناه: وجمعنا عليهم، وسقنا إليهم. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مسلِّيَه بذلك عما لقي من كفرة قومه في ذات الله، وحاثًّا له على الصبر على ما نال فيه: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا)، يقول: وكما ابتليناك، يا محمد، بأن جعلنا لك من مشركي قومك أعداء شياطينَ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول،

(١) انظر تفسير ((حشر)) فيما سلف ٤٥٧: ١١، تعليق: ٥، والمراجع هناك.

صفحة رقم 50

ليصدُّوهم بمجادلتهم إياك بذلك عن اتباعك والإيمان بك وبما جئتهم به من عند ربّك، كذلك ابتلينا من قبلك من الأنبياء والرسّل، بأن جعلنا لهم أعداءً من قومهم يؤذُونهم بالجدال والخصومات. يقول: فهذا الذي امتحنتك به، لم تخصص به من بينهم وحدك، بل قد عممتهم بذلك معك لأبتليهم وأختبرهم، مع قدرتي على منع من آذاهم من إيذائهم، فلم أفعل ذلك إلا لأعرف أولي العزم منهم من غيرهم. يقول: فاصبر أنتَ كما صبر أولو العزم من الرسل.
* * *
وأما"شياطين الإنس والجن"، فإنهم مَرَدتهم، وقد بينا الفعل الذي منه بُنِي هذا الاسم، بما أغنى عن إعادته. (١)
* * *
ونصب "العدو" و"الشياطين" بقوله: (جعلنا). (٢)
* * *
وأما قوله: (يُوحِي بعضُهم إلى بعض زخرف القول غرورًا)، فإنه يعني أنّه يلقي الملقي منهم القولَ، الذي زيّنه وحسَّنه بالباطل إلى صاحبه، ليغترّ به من سمعه، فيضلّ عن سبيل الله. (٣)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (شياطين الإنس والجن).
فقال بعضهم: معناه: شياطين الإنس التي مع الإنس، وشياطين الجن التي مع الجنّ، وليس للإنس شياطين.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٧٦٥- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإنس

(١) انظر تفسير ((الشيطان)) فيما سلف ١: ١١١، ١١٢، ٢٩٦.
(٢) انظر معاني القرآن ١: ٣٥١.
(٣) انظر تفسير ((الوحي)) فيما سلف من فهارس اللغة (وحي).

صفحة رقم 51

والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ولو شاء ربك ما فعلوه)، أما"شياطين الإنس"، فالشياطين التي تضلّ الإنس="وشياطين الجن"، الذين يضلون الجنّ، يلتقيان، فيقول كل واحد منهما:"إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، وأضللت أنت صاحبك بكذا وكذا"، فيعلم بعضُهم بعضًا.
١٣٧٦٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم، عن شريك، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة: (شياطين الإنس والجن)، قال: ليس في الإنس شياطين، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن. (١)
١٣٧٦٧- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن السدي في قوله: (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا)، قال: للإنسان شيطان، وللجنّي شيطان، فيلقَى شيطان الإنس شيطان الجن، فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا.
* * *
قال أبو جعفر: جعل عكرمة والسدي في تأويلهما هذا الذي ذكرت عنهما، عدوّ الأنبياء الذين ذكرهم الله في قوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا)، أولادَ إبليس، دون أولاد آدم، ودون الجن= وجعل الموصوفين بأن بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول غرورًا، ولدَ إبليس، وأن مَنْ مع ابن آدم من ولد إبليس يوحي إلى مَنْ مع الجن من ولده زخرفَ القول غرورًا.
وليس لهذا التأويل وجه مفهوم، لأن الله جعل إبليس وولده أعداءَ ابن آدم، فكل ولده لكل ولده عدوّ. وقد خصّ الله في هذه الآية الخبر عن الأنبياء أنه جعل لهم من الشياطين أعداءً. فلو كان معنيًّا بذلك الشياطين الذين ذكرهم السدي، الذين هم ولد إبليس، لم يكن لخصوص الأنبياء بالخبرِ عنهم أنه جعل لهم الشياطين أعداءً، وجهٌ. وقد جعل من ذلك لأعدى أعدائه، مثل الذي جعل

(١) الأثر: ١٣٤٦٦ - ((سعيد بن مسروق الثوري))، مضى برقم: ٧١٦٢.

صفحة رقم 52

لهم. ولكن ذلك كالذي قلنا، من أنه معنيٌّ به أنه جعل مردة الإنس والجن لكل نبي عدوًّا يوحي بعضهم إلى بعض من القول ما يؤذيهم به.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
١٣٧٦٨- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن حميد بن هلال قال، حدثني رجل من أهل دمشق، عن عوف بن مالك، عن أبي ذر: أن رسول الله ﷺ قال: يا أبا ذر، هل تعوَّذت بالله من شر شياطين الإنس والجنّ؟ قال: قلت: يا رسول الله، هل للإنس من شياطين؟ قال: نعم! (١)
١٣٧٦٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة، عن ابن عائذ، عن أبي ذر، أنه قال: أتيت رسول الله ﷺ في مجلس قد أطال فيه الجلوس، قال فقال: يا أبا ذر، هل صلَّيت؟ قال قلت: لا يا رسول الله. قال: قم فاركع ركعتين. قال: ثم جئت فجلستُ إليه فقال: يا أبا ذر، هل تعوَّذت بالله من شرِّ شياطين الإنس والجن؟ قال قلت: يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم، شرٌّ من شياطين الجن! (٢)

(١) الأثر: ١٣٧٦٨ - ((حميد بن هلال العدوي))، ثقة، متكلم فيه. سمع من ((عوف ابن مالك))، ولكنه رواه بالوسطة، عن مجهول: ((رجل من أهل دمشق)). مترجم في التهذيب، والكبير ١ / ٢ / ٣٤٤، وابن أبي حاتم ١ / ٢ /٢٣٠.
و ((عوف بن مالك بن نضلة الجشمي))، ثقة، مضى برقم: ٦١٧٢، ١٢٨٢٥، ١٢٨٢٦ لم يذكر أنه سمع من أبي ذر. وهذا الخبر فيه مجهول. ذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ٣٨٠
(٢) الأثر: ١٣٧٦٩ - كان في إسناد هذا الخبر خطأ فاحش، وقع شك من سهو الناسخ وعجلته، فإنه كتب ((حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة، عن أبي عن ابن عباس، أبي عبد الله محمد بن أيوب))، ثم ضرب على ((ابن عباس)). ولكنه ترك ((عن علي بن أبي طلحة))، وهو خطأ لا شك فيه كما سترى بعد. وسبب ذلك إسناد أبي جعفر المشهور وهو: ((حدثني المثنى، قال حدثنا عبد الله صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس)) وهو إسناد دائر في التفسير، آخره رقم: ١٣٧٥٦، فجعل فكتب الإسناد المشهور، ثم استدرك فضرب على ((ابن عباس))، والصواب أن يضرب أيضًا على ((علي بن أبي طلحة))، لأن هذا إسناد مختلف عن الأول كل الاختلاف، ولذلك حذفت ((عن علي بن أبي طلحة))، مع ثبوته في المخطوطة والمطبوعة، ولكن ابن كثير ذكره في التفسير على الصواب ٣: ٣٧٩، كما أثبته.
و ((أبو عبد الله محمد بن أيوب))، كأنه أيضًا خطأ من الناسخ، وصوابه: ((أبو عبد الملك محمد بن أيوب)) لما سترى.
((محمد بن أيوب الأزدي))، ((أبو عبد الملك))، قال البخاري في الكبير ١ / ١ /٢٩، ٣٠ (محمد بن أيوب أبو عبد الملك الأزدي، عن ابن عائذ، عن أبي ذر، عن النبي ﷺ قال: آدم نبي مكلم. قال لنا: عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن محمد بن أيوب، حديثه في الشاميين. سمع منه معاوية بن صالح)) وترجمة ابن أبي حاتم ٣ / ٢ / ١٩٦، ١٩٧، فذكر مثله.
و ((ابن عائذ)) هو ((عبد الرحمن بن عائذ الثمالي))، ويقال: الأزدي الكندي، ويقال: اليحصبي. وروى له الأربعة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ٢٧٠، وكان ابن عائذ من حملة العلم، يطلبه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحاب أصحابه. روى عن عمر وعلي مرسلا. وفي التهذيب انه روى عنهما وعن أبي ذر، وعن غيرهم من الصحابة، ولم يذكر ((مرسلا)).
وذكر ابن كثير هذا الأثر والذي يليه في تفسيره ٣: ٣٧٩ ثم قال: ((وهذا أيضًا فيه انقطاع))، وتبين من تفسيره إسناده أنه غير منقطع. ثم قال: ((وروى متصلا كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا المسعودي، أنبأني أبو عمر الدمشقي، عن عبيد بن الخشخاش، عن أبي ذر قال:... )) وذكر الحديث، وهو بطوله في مسند أحمد ٥: ١٧٨، ١٧٩.
ثم ذكر ابن كثير طرقًا أخرى للحديث ثم قال: ((فهذه طرق لهذا الحديث، ومجموعها يفيد قوته وصحته، والله أعلم)).

صفحة رقم 53

١٣٧٧٠- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: بلغني أن أبا ذر قام يومًا يُصلّي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تعوَّذ يا أبا ذر، من شياطين الإنس والجن. فقال: يا رسول الله، أوَ إنّ من الإنس شياطين؟ قال: نعم! (١)
* * *
وقال آخرون في ذلك بنحو الذي قلنا: من أن ذلك إخبارٌ من الله أنّ شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض.
* ذكر من قال ذلك:

(١) الأثر: ١٣٧٧٠ - هذا أثر منقطع، انظر التعليق على الخبر السالف، وما قاله ابن كثير.

صفحة رقم 54

١٣٧٧١- حدثنا الحسن بن يحيى قالأخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (شياطين الإنس والجن)، قال: من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض = قال قتادة: بلغني أن أبا ذر كان يومًا يصلّي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تعوَّذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن. فقال: يا نبي الله، أوَ إن من الإنس شياطين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم!
١٣٧٧٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإنس والجن)، الآية، ذكر لنا أنّ أبا ذر قام ذات يوم يصلي، فقال له نبي الله: تعوّذ بالله من شياطين الجن والإنس. فقال: يا نبي الله، أوَ للإنس شياطين كشياطين الجن؟ قال:"نعم، أوَ كذَبْتُ عليه؟ (١)
١٣٧٧٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوَّا شياطين الإنس والجن)، فقال: كفار الجنّ شياطين، يوحون إلى شياطين الإنس، كفارِ الإنس، زخرفَ القول غرورًا.
* * *
وأما قوله: (زُخرف القول غرورًا)، فإنه المزيَّن بالباطل، كما وصفت قبل. يقال منه:"زخرف كلامه وشهادته"، إذا حسَّن ذلك بالباطل ووشّاه، كما:-
١٣٧٧٤- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم، عن شريك، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة قوله: (زخرف القول غرورًا) قال: تزيين الباطل بالألسنة.

(١) قوله: ((أو كذبت عليه))، استنكار من رسول الله ﷺ سؤال أبي ذر، فإن نص التنزيل دال على ذلك، ورسول الله هو الصادق المصدق المبلغ عن ربه الحق الذي لا كذب فيه.

صفحة رقم 55

١٣٧٧٥- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"الزخرف"، فزخرفوه، زيَّنوه.
١٣٧٧٦- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (زخرف القول غرورًا)، قال: تزيين الباطل بالألسنة.
١٣٧٧٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٣٧٧٨- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (زخرف القول غرورًا)، يقول: حسَّن بعضهم لبعضٍ القول ليتّبعوهم في فتنتهم.
١٣٧٧٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (زخرف القول غرورًا) قال:"الزخرف"، المزيَّن، حيث زيَّن لهم هذا الغرور، كما زيَّن إبليس لآدم ما جاءه به وقاسمه إنه له لمن الناصحين. وقرأ: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ)، [سورة فصلت: ٢٥]. قال: ذلك الزخرف.
* * *
وأما"الغرور"، فإنه ما غرّ الإنسان فخدعه فصدَّه عن الصواب إلى الخطأ وعن الحق إلى الباطل (١) = وهو مصدر من قول القائل:"غررت فلانًا بكذا وكذا، فأنا أغرُّه غرورًا وغرًّا. كالذي:-
١٣٧٨٠- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (غرروًا) قال: يغرّون به الناسَ والجنّ.
* * *

(١) انظر تفسير ((الغرور)) فيما سلف ٧: ٤٥٣ / ٩: ٢٢٤.

صفحة رقم 56

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (١١٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شئت، يا محمد، أن يؤمن الذين كانوا لأنبيائي أعداءً من شياطين الإنس والجن فلا ينالهم مكرهم ويأمنوا غوائلهم وأذاهم، فعلتُ ذلك، ولكني لم أشأ ذلك، لأبتلي بعضهم ببعض، فيستحق كل فريق منهم ما سبق له في الكتاب السابق = (فذرهم)، يقول: فدعهم (١) = يعني الشياطين الذين يجادلونك بالباطل من مشركي قومك ويخاصمونك بما يوحي إليهم أولياؤهم من شياطين الإنس والجن= (وما يفترون)، يعني: وما يختلقون من إفك وزور. (٢)
يقول له صلى الله عليه وسلم: اصبر عليهم، فإني من وراء عقابهم على افترائهم على الله، واختلاقهم عليه الكذبَ والزور.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوًّا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا) = (ولتصغى إليه)، يقول جل ثناؤه: يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المزيَّن من القول

(١) انظر تفسير ((ذر)) فيما سلف ص: ٤٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير ((الافتراء)) فيما سلف: ١١: ٥٣٣، تعليق: ١، والمراجع هناك.

صفحة رقم 57

بالباطل، ليغرّوا به المؤمنين من أتباع الأنبياء فيفتنوهم عن دينهم= (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة)، يقول: ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة.
* * *
= وهو من"صغَوْت تَصْغَى وتصغُو"= والتنزيل جاء بـ "تصغَى" ="صَغْوًا، وصُغُوًّا"، وبعض العرب يقول:"صغيت"، بالياء، حكي عن بعض بني أسد:"صَغيت إلى حديثه، فأنا أصغَى صُغِيًّا" بالياء، وذلك إذا ملت. يقال:"صَغْوِي معك"، إذا كان هواك معه وميلك، مثل قولهم:"ضِلَعِي معك". ويقال:"أصغيت الإناء" إذا أملته ليجتمع ما فيه، ومنه قول الشاعر: (١)

تَرَى السَّفِيَهَ بِهِ عَنْ كُلِّ مُحْكَمَةٍ زَيْغٌ، وفيهِ إلَى التَّشْبِيهِ إصْغَاءُ (٢)
ويقال للقمر إذا مال للغيوب:"صغا" و"أصغى".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٧٨١- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (ولتصغى إليه أفئدة)، يقول: تزيغ إليه أفئدة.
١٣٧٨٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة)، قال: لتميل.
١٣٧٨٣- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
(١) لم أعرف قائله.
(٢) اللسان (صغا)، وأيضًا في تفسير أبي حيان ٤: ٢٠٥، والقرطبي ٧: ٦٩، وفي اللسان والقرطبي: ((عن كل مكرمة))، وكأن الصواب ما تفسير ابن جرير، وأبي حيان، وكأن الشاعر يريد الذين يتبعون ما تشابه من آيات كتاب الله، ويعرضون عن المحكم من آياته.

صفحة رقم 58
جامع البيان في تأويل آي القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري
تحقيق
أحمد شاكر
الناشر
مؤسسة الرسالة
الطبعة
الأولى، 1420 ه - 2000 م
عدد الأجزاء
24
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية