
إِذَا قُلْنَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فَهَذَا يَقْتَضِي تَعْلِيقَ حُدُوثِ هَذَا الْجَزَاءِ عَلَى حُصُولِ الْمَشِيئَةِ فَلَوْ كَانَتِ الْمَشِيئَةُ قَدِيمَةً لَكَانَ الشَّرْطُ قَدِيمًا وَيَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الشَّرْطِ حُصُولُ الْمَشْرُوطِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْجَزَاءِ قَدِيمًا.
وَالْحِسُّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ فَوَجَبَ كَوْنُ الشَّرْطِ حَادِثًا وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ هُوَ الْمَشِيئَةَ لَزِمَ الْقَوْلُ بِكَوْنِ الْمَشِيئَةِ حَادِثَةً. هَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَشِيئَةَ وَإِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً إِلَّا أَنَّ تَعَلُّقَهَا بِإِحْدَاثِ ذَلِكَ الْمُحْدَثِ فِي الْحَالِ إِضَافَةٌ حَادِثَةٌ وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِصِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ قَالَ أَصْحَابُنَا الْمُرَادُ يَجْهَلُونَ بِأَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ وَبِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ كُفَّارًا عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ الَّتِي طَلَبُوهَا وَالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يَظُنُّونَ ذلك.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٢]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢)
[قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ وَكَذلِكَ مَنْسُوقٌ عَلَى شَيْءٍ وَفِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الشَّيْءِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ مَنْسُوقٌ عَلَى قَوْلِهِ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام ١٠٨] اي كما فعلنا ذلك كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا الثَّانِي مَعْنَاهُ جَعَلْنَا لَكَ عَدُوًّا كَمَا جَعَلْنَا لِمَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ كَذلِكَ عَطْفًا/ عَلَى مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لَهُ أَعْدَاءً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي جَعَلَ أُولَئِكَ الْأَعْدَاءَ أَعْدَاءً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْعَدَاوَةَ مَعْصِيَةٌ وَكُفْرٌ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ خَالِقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْجَعْلِ الْحُكْمُ وَالْبَيَانُ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا حَكَمَ بِكُفْرِ إِنْسَانٍ قِيلَ إِنَّهُ كَفَّرَهُ وَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ عَدَالَتِهِ قِيلَ إِنَّهُ عَدَّلَهُ فَكَذَا هَاهُنَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَوْنَهُمْ أَعْدَاءً لَهُ لَا جَرَمَ قَالَ إِنَّهُ جَعَلَهُمْ أَعْدَاءً لَهُ وَأَجَابَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ إِلَى الْعَالَمِينَ وَخَصَّهُ بِتِلْكَ الْمُعْجِزَةِ حَسَدُوهُ وَصَارَ ذَلِكَ الْحَسَدُ سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ الْقَوِيَّةِ فَلِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ أَعْدَاءً لَهُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْمُتَنَبِّي
فَأَنْتَ الَّذِي صَيَّرْتَهُمْ لِي حُسَّدًا
وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الأنبياء بعداوتهم وَأَعْلَمَهُمْ كَوْنَهُمْ أَعْدَاءً لَهُمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي صَيْرُورَتَهُمْ أَعْدَاءً لِلْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَلِهَذَا الْوَجْهِ جَازَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ أَعْدَاءً لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ ضَعِيفَةٌ جِدًّا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَفْعَالَ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الدَّوَاعِي وَهِيَ حَادِثَةٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ مَذْهَبُنَا.
ثُمَّ هَاهُنَا بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ وَالصَّدَاقَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَحْصُلَ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَبْلُغُ فِي عَدَاوَةِ غَيْرِهِ إِلَى حَيْثُ لَا يَقْدِرُ الْبَتَّةَ عَلَى إِزَالَةِ تِلْكَ الْحَالَةِ عَنْ قَلْبِهِ بَلْ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِخْفَاءِ آثَارِ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ

وَلَوْ أَتَى بِكُلِّ تَكَلُّفٍ وَحِيلَةٍ لَعَجِزَ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ حُصُولُ الْعَدَاوَةِ وَالصَّدَاقَةِ فِي الْقَلْبِ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَلْبِ الْعَدَاوَةِ بِالصَّدَاقَةِ وَبِالضِّدِّ وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَالشُّعَرَاءُ عَرَفُوا أَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنِ الْوُسْعِ؟ قَالَ الْمُتَنَبِّي
يُرَادُ مِنَ الْقَلْبِ نِسْيَانُكُمْ | وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ النَّصْبُ فِي قَوْلِهِ شَياطِينَ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ عَدُوًّا وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَدُوًّا مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ وَالتَّقْدِيرُ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أَعْدَاءَ الْأَنْبِيَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَلَى قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمَعْنَى مَرَدَةُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالشَّيْطَانُ كُلُّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا إِنَّ مِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينَ وَمِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مِنَ الْجِنِّ إِذَا أَعْيَاهُ الْمُؤْمِنُ ذَهَبَ إِلَى مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْإِنْسِ وَهُوَ شَيْطَانُ الْإِنْسِ فَأَغْرَاهُ بِالْمُؤْمِنِ لِيَفْتِنَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: «هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؟» قَالَ قُلْتُ وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ «نَعَمْ هُمْ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ».
وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ وَلَدِ إِبْلِيسَ إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ وَلَدَهُ قِسْمَيْنِ فَأَرْسَلَ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ إِلَى وَسْوَسَةِ الْإِنْسِ. وَالْقِسْمَ الثَّانِي إِلَى وَسْوَسَةِ الْجِنِّ فَالْفَرِيقَانِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ الشِّكَايَةُ مِنْ سَفَاهَةِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ هُمُ الْأَعْدَاءُ وَهُمُ الشَّيَاطِينُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْقَوْلُ الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يَقْتَضِي إِضَافَةَ الشَّيَاطِينِ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْإِضَافَةُ تَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالشَّيَاطِينُ نَوْعٌ مُغَايِرٌ لِلْجِنِّ وَهُمْ أَوْلَادُ إِبْلِيسَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ قَوْلُهُ عَدُوًّا بِمَعْنَى أَعْدَاءً وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ
إِذَا أَنَا لَمْ أَنْفَعْ صَدِيقِي بِوِدِّهِ | فَإِنَّ عَدُوِّي لَنْ يَضُرُّهُمُو بُغْضِي |
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فَالْمُرَادُ أَنَّ أُولَئِكَ الشَّيَاطِينَ يُوَسْوِسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. صفحة رقم 120

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ تَصْدُرُ عَنْ إِنْسَانٍ فَإِنَّهَا تَكُونُ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ شَيْطَانٍ وَإِلَّا لَزِمَ دُخُولُ التَّسَلْسُلِ أَوِ الدَّوْرِ فِي هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينِ فَوَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِانْتِهَاءِ هَذِهِ الْقَبَائِحِ وَالْمَعَاصِي إِلَى قَبِيحٍ أَوَّلَ وَمَعْصِيَةٍ سَابِقَةٍ حَصَلَتْ لَا بِوَسْوَسَةِ شَيْطَانٍ آخَرَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ إِنَّ أُولَئِكَ الشَّيَاطِينَ كَمَا أَنَّهُمْ يُلْقُونَ الْوَسَاوِسَ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَقَدْ يُوَسْوِسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلِلنَّاسِ فِيهِ مَذَاهِبُ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْأَرْوَاحُ إِمَّا فَلَكِيَّةٌ وَإِمَّا أَرْضِيَّةٌ وَالْأَرْوَاحُ الْأَرْضِيَّةُ مِنْهَا طَيِّبَةٌ طَاهِرَةٌ خَيِّرَةٌ آمِرَةٌ بِالطَّاعَةِ وَالْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْأَرْضِيَّةُ وَمِنْهَا خَبِيثَةٌ قَذِرَةٌ شِرِّيرَةٌ آمِرَةٌ بِالْقَبَائِحِ وَالْمَعَاصِي وَهُمُ الشَّيَاطِينُ. ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ الطَّيِّبَةَ كَمَا أَنَّهَا تَأْمُرُ النَّاسَ بِالطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ فَكَذَلِكَ قَدْ يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالطَّاعَاتِ وَالْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ كَمَا أَنَّهَا تَأْمُرُ النَّاسَ بِالْقَبَائِحِ وَالْمُنْكَرَاتِ فَكَذَلِكَ قَدْ يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِتِلْكَ الْقَبَائِحِ وَالزِّيَادَةِ فِيهَا وَمَا لَمْ يَحْصُلْ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الِانْضِمَامُ فَالنُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ إِذَا كَانَتْ طَاهِرَةً نَقِيَّةً عَنِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَرْوَاحِ الطَّاهِرَةِ فَتَنْضَمُّ إِلَيْهَا وَإِذَا كَانَتْ خَبِيثَةً مَوْصُوفَةً بِالصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ فَتَنْضَمُّ إِلَيْهَا. ثُمَّ إِنَّ صِفَاتِ الطَّهَارَةِ كَثِيرَةٌ وَصِفَاتِ الْخُبْثِ وَالنُّقْصَانِ كَثِيرَةٌ وَبِحَسَبِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا طَوَائِفُ مِنَ الْبَشَرِ وَطَوَائِفُ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ بِحَسَبِ تِلْكَ الْمُجَانَسَةِ وَالْمُشَابَهَةِ وَالْمُشَاكَلَةِ يَنْضَمُّ الْجِنْسُ إِلَى جِنْسِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَفْعَالِ الْخَيْرِ كَانَ الْحَامِلُ عَلَيْهَا مَلَكًا وَكَانَ تَقْوِيَةُ ذَلِكَ الْخَاطِرِ إِلْهَامًا وَإِنْ كَانَ فِي بَابِ الشَّرِّ كَانَ الْحَامِلُ عَلَيْهَا شَيْطَانًا وَكَانَ تَقْوِيَةُ ذَلِكَ الْخَاطِرِ وَسْوَسَةً.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فَيَجِبُ عَلَيْنَا تَفْسِيرُ أَلْفَاظٍ ثَلَاثَةٍ الْأَوَّلُ الْوَحْيُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيمَاءِ وَالْقَوْلِ السَّرِيعِ.
وَالثَّانِي الزُّخْرُفُ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بَاطِنُهُ بَاطِلًا وَظَاهِرُهُ مُزَيَّنًا ظَاهِرًا يُقَالُ فُلَانٌ يُزَخْرِفُ كَلَامَهُ إِذَا زَيَّنَهُ بِالْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ وَكُلُّ شَيْءٍ حَسَنٍ مُمَوَّهٍ فَهُوَ مُزَخْرَفٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ كَوْنَهُ مُشْتَمِلًا عَلَى خَيْرٍ رَاجِحٍ وَنَفْعٍ زَائِدٍ فَإِنَّهُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ مُخْتَارًا لِكَوْنِهِ طَالِبًا لِلْخَيْرِ وَالنَّفْعِ ثُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا الِاعْتِقَادُ مُطَابِقًا لِلْمُعْتَقَدِ فَهُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ وَالْإِلْهَامُ وَإِنْ كَانَ صَادِرًا مِنَ الْمَلَكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقَدًا مُطَابِقًا لِلْمُعْتَقَدِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ظَاهِرُهُ مُزَيَّنًا لِأَنَّهُ فِي اعْتِقَادِهِ سَبَبٌ لِلنَّفْعِ الزَّائِدِ وَالصَّلَاحِ الرَّاجِحِ وَيَكُونُ بَاطِنُهُ فَاسِدًا بَاطِلًا لِأَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمُعْتَقَدِ فَكَانَ مُزَخْرَفًا فَهَذَا تَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ. وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ غُرُوراً قَالَ الْوَاحِدِيُّ غُرُوراً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ وَهَذَا الْمَصْدَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ مَعْنَى إِيحَاءِ الزُّخْرُفِ مِنَ الْقَوْلِ مَعْنَى الْغُرُورِ فَكَأَنَّهُ قَالَ/ يَغُرُّونَ غُرُورًا وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْمَغْرُورَ هُوَ الَّذِي يَعْتَقِدُ فِي الشَّيْءِ كَوْنَهُ مُطَابِقًا لِلْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ مَعَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَالْغُرُورُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ عَيْنِ هَذَا الْجَهْلِ أَوْ عَنْ حَالَةٍ مُتَوَلِّدَةٍ عَنْ هَذَا الْجَهْلِ فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَأْثِيرَ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ أَكْمَلَ وَلَا أَقْوَى دَلَالَةً عَلَى تَمَامِ الْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِهِ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ وَأَصْحَابُنَا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ.