
الضلالةِ والكُفْر، ومعنى الآية: أن هؤلاء الذين أقسموا أنَّهم يؤمنُون إنْ جاءت آية- نحْنُ نقلِّب أفئدتهم وأبصارهم أنْ لو جاءت فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا أولَ مرَّة بما دُعُوا إلَيْه من عبادة اللَّه تعالى، فأخبر اللَّه عزَّ وجلَّ على هذا التأويل بصورة فعله بهم، وقالتْ فرقة: قوله: كَما في هذه الآية: إنما هي بمعنى المجازاة، أي: لما لم يؤمنوا أولَ مرَّة، نجازيهم، بأنْ نقلِّب أفئدتهم عن الهدى، ونطبع على قلوبهم، فكأنه قال: ونحْنُ نقلِّب أفئدتهم وأبصارهم، جَزَاءً لِمَا لم يؤمنوا أول مرة بما دُعُوا إلَيْه من الشرع، والضميرُ في بِهِ يحتمل أنْ يعود على اللَّه عزَّ وجلَّ، أو على القرآن، أو على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَنَذَرُهُمْ: معناه: نتركُهم، والطغيانُ: التخبُّط في الشرِّ، والإفراط فيما يتناوله المرء، ويَعْمَهُونَ: معناه: يتردّدون في حيرتهم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١١ الى ١١٢]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢)
وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى... الآية: أخبر سبحانه أنه لو أتى بجميع ما اقترحوه مِنْ إنزال ملائكةٍ وإحياءِ سلفهم حَسْبما اقترحه بعضُهم أنْ يُحْشَرَ قُصَيٌّ وغيره، فيخبر بصدْقِ محمَّد- عليه السلام-، أو يحشر عليهم كلُّ شيء قُبُلاً- ما آمنوا إلا بالمشيئةِ واللُّطْفِ الذي يخلقه ويَخْتَرِعُه سبحانه في نفْسِ مَنْ يشاء، لا ربَّ غيره.
وقرأ نافع «١» وغيره: «قبلاً»، ومعناه مواجهةً ومعاينةً قاله ابن عباس «٢» وغيره، ونصبه علَى الحالِ، وقال المبرِّد: معناه: ناحيةً كما تقول: لِي قِبَلَ فلانٍ دَيْنٌ.
قال ع «٣» : فنصبه على هذا: هو على الظرفِ، وقرأ حمزة «٤» وغيره: «قبلا» - بضمّ
(٢) أخرجه الطبري (٥/ ٣١٢) برقم (١٣٧٦١)، وذكره ابن عطية (٢/ ٣٣٥)، وابن كثير (٢/ ١٦٥)، والسيوطي (٣/ ٧٣)، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٣٣٥).
(٤) ينظر مصادر القراءات السابق.

القافِ والباءِ-، واختلف في معناه، فقال بعضهم: هو بمعنى «قِبَل» بكسر القافِ، أي:
مواجهةً كما تقول: قُبُل ودُبُر.
وقال الزَّجَّاج والفَرَّاء: هو جَمْعُ قَبِيلٍ، وهو الكفيل، أي وحشرنا عليهم كلّ شيء كفلاء بصدق محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقال مجاهد وغيره: هو جمع قَبِيلٍ، أي: صنفاً صنفاً، ونوعاً نوعاً «١»، والنصب في هذا كلّه على الحالة، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ، أي: يجهلون في اعتقادهم أن الآية تقتَضِي إيمانهم، ولا بُدَّ، فيقتضي اللفظ أنَّ الأقلَّ لا يجهل، فكان فيهم من يعتقد أنَّ الآية لو جاءت لم يُؤْمِنْ إلا مَنْ شاء اللَّه منه ذلك، قُلْتُ: وقال مكِّيٌّ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ، أي: في مخالَفَتِكَ، وهم يعلمون أنَّك نبيٌّ صادقٌ فيما جئتهم به، وروي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يُدَاعِبُ أَبَا سُفْيَانَ بَعْدَ الفَتْحِ بِمِخْصَرَةٍ فِي يَدِهِ، وَيَطْعُنُ بِهَا أَبَا سُفْيَانَ، فَإذَا أحرقته، قال: نحّ عنّي مخصرتك، فو الله، لَوْ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذَا الأَمْرَ، مَا اختلف عليك فيه اثنان. فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَسْلَمْتَ لَهُ، قِتَالُكَ إيَّايَ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو/ سُفْيَانَ: تَظُنُّ أَنِّي كُنْتُ أُقَاتِلُكَ تَكْذِيباً مِنِّي لَكَ، وَاللَّهِ، مَا شَكَكْتُ فِي صَدْقِكَ قَطُّ، وَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُكَ إلاَّ حَسَداً مِنِّي لَكَ، فَالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَزَعَ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِي، فَكَانَ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَشْتَهِي ذَلِكَ مِنْهُ، وَيَتَبَسَّمُ». انتهى من «الهداية».
وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ... الآيةَ: تتضمَّن تسلية النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وعَرْضَ القُدْوة عليه، أي: هذا الذي امتحنت به، يا محمَّد، مِن الأعداء قد امتحن به غَيْرُك من الأنبياء ليبتليَ اللَّه أُولِي العزم منهم، وشَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ:
يريد: المتمردين من النوعين، ويُوحِي: معناه: يلقيه في اختفاء، فهو كالمناجاةِ والسِّرَارِ، وزُخْرُفَ الْقَوْلِ: محسَّنه ومُزَيَّنه بالأباطيل قاله عكرمة ومجاهد «٢»، والزخرفة أكثر ما تستعملُ في الشرِّ والباطل، وغُرُوراً: مصدرٌ، ومعناه يغرُّون به المضلَّلين، والضمير في فَعَلُوهُ عائدٌ على اعتقادهم العداوةَ، ويحتملُ على «الوحْيِ» الذي تضمَّنه يُوحِي.
وقوله سبحانه: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ: لفظٌ يتضمَّن الأمر بالموادعة، وهو منسوخ
(٢) أخرجه الطبري (٥/ ٣١٥، ٣١٦) برقم (١٣٧٧٨) عن عكرمة، وبرقم (١٣٧٨٠، ١٣٧٨١) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (٢/ ٣٣٦)، والسيوطي (٣/ ٧٤)، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي نصر السجزي في «الإبانة»، وأبي الشيخ عن مجاهد.