
وذكرنا زيادة بيان في قوله: ﴿يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ﴾ [هود: ٧٢].
وقوله تعالى: ﴿فَأُوَارِيَ﴾، عطف على: ﴿أَنْ أَكُونَ﴾. وقوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ [المائدة: ٣١].
حقيقة معنى الندم أنه وضع للزوم، ومنه سمي النديم نديمًا لأنه يلازم المجلس، ويقوي هذا قولهم: نادم سادم، والسدم اللهج بالشيء، يقال: سدم به، إذا أغري به ولزمه، ويقال (١) لمن اهتم بالشيء الفائت: نادم سادم؛ لأن هذا الهّم ألزم للقلب من الهّم لأجل الشيء الحادث؛ لأن هذا يزول بزوال ما حدث، والفائت لا سبيل إلى رده (٢).
قال كثير من المفسرين: ﴿مِنَ النَّادِمِينَ﴾ على حمله والتطواف به (٣).
وقال آخرون: ﴿مِنَ النَّادِمِينَ﴾ على ذوات أخيه؛ لأنه لم ينتفع بقتل أخيه، وسخط عليه بسببه أبواه وإخوته، فندم لأجل ذلك، لا لأجل أنه جنى واقترف ذنبًا بقتله، فلم يكن ندمه على الوجه الذي يكون ندم التربة (٤).
٣٢ - قوله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا﴾ الآية.
الأجل في اللغة: الجناية، يقال: أجَلَ عليهم شرًّا بأجله أجْلًا، إذا جنى عليهم جناية. ذكره ابن السكيت (٥)، وأبو عبيدة (٦)، والزجاج (٧)،
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٤٣، "اللسان" ٧/ ٤٣٨٦ (ندم).
(٣) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٣٠، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٤، "زاد المسير" ٢/ ٣٣٩.
(٤) انظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٦٤، "بحر العلوم" ١/ ٤٣٠، "النكت والعيون" ٢/ ٣١، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٤، "زاد المسير" ٢/ ٣٣٩.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ١٢٥ (أجل).
(٦) في "مجاز القرآن" ١/ ١٦٢.
(٧) في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٨.

وجميع أهل اللغة، وأنشدوا:
وأهلِ خِباءٍ (١) صالح ذات بينهم | قد احتَربُوا في عَاجلٍ أنا آجِلُه (٢) |
قال الزجاج: من جنايته ذلك (٥).
وقال ابن الأنباري: من سبب ذلك. قال: ويقال: فعلت ذلك من أجلك ومن جلالك ومن جلك وجرّاك وجرائك (٦).
واختلفوا في قوله: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾، فقال بعضهم: إنه من صلة النادمين، على معنى: فأصبح من النادمين من أجل ذلك، أي من أجل أنه حين قتل أخاه لم يواره (٧).
ويُروَى عن نافع أنه كان يقف على قوله: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾ ويجعله من
(٢) البيت لزُهير بن أبي سُلمى. انظر: "أشعار الستة الجاهليين" ص ٣٠٣، "الدر المصون" ٤/ ٢٤٧، وينسب لخوات بن جبير كما في "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٨، "تهذيب اللغة" ١/ ١٢٥، واستشهد به أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ١٦٣، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٠.
(٣) "مجاز القرآن" ١/ ١٦٤، "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٨، "تهذيب اللغة" ١/ ١٢٥ (أجل)، وانظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٠.
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٦٢، ١٦٤، والطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٠.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٨.
(٦) لم أقف عليه عن ابن الأنباري، وانظر: "تهذيب اللغة" ١/ ١٢٥ (أجل).
(٧) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٨، "النكت والعيون" ٢/ ٣١، "زاد المسير" ٢/ ٣٤٠، "البحر المحيط" ٣/ ٤٦٨.

تمام الكلام الأول (١).
وعامة المفسرين وأصحاب المعاني على أن قوله: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾ ابتداء كلام، وليس بمتصل بما قبله (٢).
واحتج ابن الأنباري لهذا بأن قوله: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾ رأس آية، ورأس الآية فصل. قال: ولأنه قد تقدم ما كشف علة الندم فاستغنى النادمون عن: (من أجل ذلك). قال: ولأن من (جعله من صلة للندم أسقط العلة للكتابة، ومن (٣)) جعله من صلة الكتابة لا يسقط معنى الندم، إذ قد تقدم ما كشف سببه، فكان هذا أولى (٤).
وأما التفسير: فقال ابن عباس في رواية عطاء: بسبب قابيل قضينا على (٥) بني إسرائيل (٦).
وقال الكلبي: من أجل ابني آدم حين قتل أحدهما صاحبه فرضنا على بني إسرائيل (٧).
(٢) وهذا هو الراجح. انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٠، "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٨، "إيضاح الوقوف والابتداء" ٢/ ٦١٧، ٦١٨، "القطع والائتناف" ص ٢٨٦، "زاد المسير" ٢/ ٣٤٠، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٤٦، "البحر المحيط" ٣/ ٤٦٨، "الدر المصون" ٤/ ٢٤٨.
(٣) ما بين القوسين ساقط من (ش).
(٤) انظر: "إيضاح الوقف والابتداء" ٢/ ٦١٧، ٦١٨.
(٥) في (ج): (إلي).
(٦) لم أقف عليه، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٣.
(٧) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٣، وورد نحوه عن الضحاك، انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٠

﴿أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾. قال ابن عباس: بغير قود (١).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ﴾ قال الكلبي: أو شرك في الأرض (٢).
وقال غيره: يعني بالفساد في الأرض أن يكون محاربًا لله ورسوله، كالذين ذكرهم في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ الآية (٣).
قال الزجاج: ﴿أَوْ فَسَادٍ﴾ منسوق على نفس، المعنى: أو بغير فساد في الأرض (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾.
قال مجاهد: من قتل نفسًّا محرمة يَصلى النار بقتلها كما يصلاها لو قتل الناس جميعًا (٥).
ونحو هذا قال الكلبي فقال: يعذب عليها كما أنه لو قتل الناس كلهم (٦).
وقال الحسن وابن زيد: يعني أنه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل
(٢) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٤٠، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٣.
(٣) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٣١، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٦، والقرطبي في "تفسيره" ٦/ ١٤٦.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٨.
(٥) أخرجه بنحوه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٢، وذكره بلفظه البغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٦، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٤٠.
(٦) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٣.

الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعًا (١).
وحكى الزجاج: عن بعضهم أن المعنى فيه أن المؤمنين كلهم خصماء للقاتل، وقد وَتَرهم وَتر من قصد لقتلهم جميعًا (٢). وأوصل إليهم من المكروه مثل ما يشبه القتل الذي أوصله إلى المقتول، فأذاه إياهم كأذى رجل قتلهم كلهم.
وهذا اختيار ابن الأنباري، وزاد من عنده وجهًا آخر فقال: المقدار الذي يستحقه قاتل الناس جميعًا معلوم عند الله عز وجل محدود، (فالذي يقتل الواحد يلزمه الله ذلك الإثم المعلوم) (٣)، والذي يقتل الاثنين يلزمه الله مثل ذلك (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾.
قال الكلبي: من عفا عن رجل قتل رجلاً خطأ وجبت له الجنة، كما لو عفا عن الناس جميعًا، وذلك أنه كتب عليهم في التوراة: أيما رجل قتل رجلاً خطأ فهو له قود إلا أن يشاء الولي أن يعفو (٥).
وقال الحسن: عفا عن دمها وقد وجب القود عليها (٦).
(٢) انتهى من "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٨، ١٦٩ حسب المطبوع، فبقية الكلام يحتمل له أو للمؤلف.
(٣) ما بين القوسين مكرر في (ش).
(٤) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٤١.
(٥) انظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٦٥، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٣.
(٦) "تفسير الهواري" ١/ ٤٦٦، وأخرجه بمعناه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٣، وانظر "النكت والعيون" ٢/ ٣٢، "زاد المسير" ٢/ ٢٤٣.

وهذا كقول الكلبي، وهو قول ابن زيد أيضًا (١).
وقال الزجاج: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾ أي من استنقذها من غرق أو حرق أو هدم أو ما يميت لا محالة، أو استنقذها (٢) من ضلال ﴿فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ أي أجره على الله عزّ وجلّ أجر من أحياهم أجمعين؛ (لأنه في إسدائه (٣)) إليهم المعروف بإحيائه أخاهم المؤمن بمنزلة من أحيا كل واحد منهم (٤).
وروى ابن الأنباري هذا القول عن مجاهد بإسناد له (٥).
وقال سعيد بن جبير: في هذه الآية: من استحل قتل نفس فهو كذلك في دماء الناس لا يتحرم لها، ومن أحياها مخافة من الله وتحرجًا من قتلها فكذلك يرى دماء الناس كلهم حرامًا (٦).
وهذا كما يُروى عن قتادة والضحاك أنهما قالا في هذه الآية: عظم الله أجرها وعظم وزرها، فمن استحل قتل مسلم بغير حقه، فكأنما قتل الناس أجمعين؛ لأنهم لا يَسْلمون منه، ومن أحياها فحرمها وتورعّ عن
وقال بهذا أيضًا ابن قتيبة، انظر: "غريب القرآن" ص ١٤٠.
(٢) في (ج): (واستنقذها)، وما أثبته موافق لما في "معاني الزجاج" ٢/ ١٦٩، وهو أولى.
(٣) عند الزجاج: وجائز أن يكون في إسدائه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٩، وذكر نحو هذا القول عن الحسن. انظر: "تفسير الهواري" ١/ ٤٦٦.
(٥) أخرج الطبري في "تفسيره" عن مجاهد أنه قال في هذه الآية: من أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة، وفي رواية: من غرق أو حرق أو هدم. "جامع البيان" ٦/ ٢٠٣، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٤٢.
(٦) أورده المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٨٦٢، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٥٥.

قتلها، فكأنما أحيا الناس جميعاً لسلامتهم منه (١).
قال أهل المعاني: قوله: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾ على المجاز؛ لأن المعنى: ومن نجا بها من الهلاك، والفاعل للحياة هو الله عزّ وجلّ (٢) لا يقدر عليها غيره (٣).
وسئل الحسن عن هذه الآية فقيل: أهي كما كانت لبني إسرائيل؟ قال: إي والذي لا إله غيره وما جعل دماء بني إسرائيل (أكرم (٤)) على الله من دمائنا (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾.
قال ابن عباس: بان لهم صدق ما جاءوهم به من الفرائض والحلال والحرام (٦).
وقال الكلبي: أي بالبيان في أن ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ الآية (٧).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ [المائدة: ٣٢].
أي: مجاوزون حد الحق (٨).
(٢) في (ش): (تعالى).
(٣) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٤.
(٤) ساقط من (ج).
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٤، وأورده البغوي في "تفسيره" ٣/ ٤٧، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٥٤.
(٦) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١١٣.
(٧) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٤٢.
(٨) انظر: الطبري في "تفسيره" ٦/ ٢٠٥.