آيات من القرآن الكريم

مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ

وَإِنَّهَا تُقَالُ عِنْدَ حُلُولِ الدَّوَاهِي وَالْعَظَائِمِ. وَقَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَالْوَيْلُ: حُلُولُ الشَّرِّ، وَالْوَيْلَةُ: الْفَضِيحَةُ وَالْبَلِيَّةُ. وَقِيلَ هُوَ تَفَجُّعٌ، وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: يَا وَيْلَتَاهُ! فَإِنَّمَا يَعْنِي وَافَضِيحَتَاهُ! وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ (يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ) (١٨: ٤٩) انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ، وَالْأَلِفُ فِي الْكَلِمَةِ بَدَلُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ ; إِذِ الْأَصْلُ يَا وَيْلَتِي، وَالنِّدَاءُ لِلْوَيْلَةِ ; لِإِفَادَةِ حُلُولِ سَبَبِهَا الَّذِي تَحِلُّ لِأَجْلِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ دَعَاهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: أَقْبِلِي فَقَدْ آنَ أَوَانُ مَجِيئِكِ، فَهَلْ بَلَغَ مِنْ عَجْزِي أَنْ كُنْتُ دُونَ الْغُرَابِ عِلْمًا وَتَصَرُّفًا؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِقْرَارِ وَالتَّحَسُّرِ، وَأَمَّا النَّدَمُ الَّذِي نَدِمَهُ فَهُوَ مَا يَعْرِضُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ عَقِبَ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنَ الْخَطَأِ فِي فِعْلِ فِعْلِهِ، إِذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ فِعْلَهُ كَانَ شَرًّا لَهُ لَا خَيْرًا، وَقَدْ يَكُونُ النَّدَمُ تَوْبَةً إِذَا كَانَ سَبَبُهُ الْخَوْفَ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَالتَّأَلُّمَ مَنْ تَعَدِّي حُدُودِهِ، وَقَصَدَ بِهِ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِحَدِيثِ " النَّدَمُ تَوْبَةٌ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَعَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالصِّحَّةِ، وَأَمَّا النَّدَمُ الطَّبِيعِيُّ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ فَلَا يُعَدُّ وَحْدَهُ تَوْبَةً، وَالتَّوْبَةُ مِنْ إِحْدَاثِ الْبِدْعَةِ لَا تُنْجِي مُبْتَدِعَهَا مِنْ سُوءِ أَثَرِهَا، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا " لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ كِفْلٌ (نَصِيبٌ) مِنْ دَمِهَا ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ".
(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) قَالَ فِي اللِّسَانِ وَقَدْ ذَكَرَ الْآيَةَ: وَقَوْلُ الْعَرَبِ فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ كَذَا وَأَجْلَ كَذَا (بِفَتْحِ اللَّامِ) وَمِنْ أَجْلَاكَ (وَتُكْسَرُ الْهَمْزَةُ فِيهِمَا) قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: " وَالْأَصْلُ فِي قَوْلِهِمْ فَعَلْتُهُ مِنْ أَجْلِكَ: أَجَلَ عَلَيْهِمْ أَجَلًا ; أَيْ جَنَى وَجَرَّ " ثُمَّ قَالَ: وَأَجَلَ عَلَيْهِمْ شَرًّا يَأْجُلُهُ (بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا)
أَجَلًا: جَنَاهُ وَهَيَّجَهُ، وَأَوْرَدَ شَوَاهِدَ مِنَ الشِّعْرِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو زَيْدٍ: أَجَلْتُ عَلَيْهِمْ آجُلُ أَجَلًا ; أَيْ جَرَرْتُ جَرِيرَةً، قَالَ أَبُو عُمَرَ: يُقَالُ: جَلَبْتُ عَلَيْهِمْ وَجَرَرْتُ وَأَجَلْتُ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ ; أَيْ جَنَيْتُ، وَأَجَلَ لِأَهْلِهِ بِأَجَلٍ: كَسَبَ وَجَمَعَ وَاحْتَالَ، انْتَهَى. وَزَادَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ قَيْدًا فِي تَعْرِيفِ الْأَجَلِ، فَقَالَ: الْأَجَلُ: الْجِنَايَةُ الَّتِي يَخَافُ مِنْهَا آجِلًا، فَكُلُّ أَجَلٍ جِنَايَةٌ، وَلَيْسَ كُلُّ جِنَايَةٍ أَجَلًا، يُقَالُ: فَعَلْتُ كَذَا مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ تَعَالَى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) أَيْ مِنْ جَرَّائِهِ. انْتَهَى.
وَأَقُولُ: لَا حَاجَةَ إِلَى الْقَيْدِ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ كُلِّ جِنَايَةٍ أَنْ يُخَافَ آجِلُهَا وَتُحْذَرَ عَاقِبَتُهَا، وَمَنْ تَتَبَّعَ الشَّوَاهِدَ وَالْأَقْوَالَ يُرَجِّحُ مَعِي أَنَّ الْأَجَلَ هُوَ جَلْبُ الشَّيْءِ الَّذِي لَهُ عَاقِبَةٌ أَوْ ثَمَرَةٌ، وَكَسْبُهُ أَوْ تَهْيِيجُهُ، وَيُعَدَّى بِاللَّامِ، وَقَدْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ حَسَنَةً كَقَوْلِهِمْ: أَجَلَ لِأَهْلِهِ، وَغَلَبَ الْفِعْلُ فِي الرَّدِيءِ وَالشَّرِّ، وَإِنْ عُدِّيَ بِاللَّامِ كَقَوْلِ تَوْبَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الْعَيْسِيِّ:

صفحة رقم 287

ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي التَّعْلِيلِ مُطْلَقًا، كَمَا قَالَ عُدَيُّ بْنُ زَيْدٍ
أَجْلَ أَنَّ اللهَ قَدْ فَضَّلَكُمْ
الْبَيْتَ، وَهُوَ بِغَيْرِ مِنْ.
وَمَعْنَى الْعِبَارَةِ أَنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْجُرْمِ وَالْقَتْلِ الَّذِي أَحَلَّهُ أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَخَوَيْنِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، لَا بِسَبَبٍ آخَرَ كَتَبْنَا وَفَرَضْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى (كَتَبْنَا) يُفِيدُ أَنَّ هَذَا التَّشْدِيدَ فِي تَشْنِيعِ الْقَتْلِ كَانَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْبَشَرَ عُرْضَةٌ لِلْبَغْيِ الشَّدِيدِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِذَا لَمْ يَرْدَعْهُمُ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ، أَوْ خَوْفُ الْعِقَابِ الْعَتِيدِ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالذِّكْرِ هُوَ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الْحَسَنُ قَوْلَهُ: إِنَّ وَلَدَيْ آدَمَ هَذَيْنِ كَانَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ لِلتَّعْرِيضِ بِمَا كَانَ مِنْ شِدَّةِ حَسَدِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْعَرَبِ ; لِأَنَّهُ بَعَثَ فِيهِمْ، كَمَا بَيَّنَ اللهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَبْلُ، وَبِمَا كَانَ مِنْ إِسْرَافِهِمْ فِي الْبَغْيِ، وَمِنْهُ قَتْلُهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَأَمَّا هَذَا الَّذِي كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ فَهُوَ (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) أَيْ بِغَيْرِ سَبَبِ الْقِصَاصِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (٥: ٤٥) أَيْ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا يُقْتَلُ بِهَا جَزَاءً وِفَاقًا (أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ)
أَوْ غَيْرِ سَبَبِ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ بِسَلْبِ الْأَمْنِ، وَالْخُرُوجِ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ، وَإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، كَمَا تَفْعَلُهُ الْعِصَابَاتُ الْمُسَلَّحَةُ لِقَتْلِ الْأَنْفُسِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ، أَوْ إِفْسَادِ الْأَمْرِ عَلَى ذِي السُّلْطَانِ الْمُقِيمِ لِحُدُودِ اللهِ، وَهُوَ مَا سَيَأْتِي حُكْمُهُ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) (٥: ٣٣) الْآيَةَ.
(فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) لِأَنَّ الْوَاحِدَ يُمَثِّلُ النَّوْعَ فِي جُمْلَتِهِ، فَمَنِ اسْتَحَلَّ دَمَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ يَسْتَحِلُّ دَمَ كُلِّ وَاحِدٍ كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مِثْلُهُ، فَتَكُونُ نَفْسُهُ ضَارِبَةً بِالْبَغْيِ لَا وَازِعَ لَهَا مِنْ ذَاتِهَا وَلَا مِنَ الدِّينِ (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) أَيْ وَمَنْ كَانَ سَبَبًا لِحَيَاةِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ بِإِنْقَاذِهَا مِنْ مَوْتٍ كَانَتْ مُشْرِفَةً عَلَيْهِ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ; لِأَنَّ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى إِنْقَاذِ الْوَاحِدَةِ - وَهُوَ الرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ وَمَعْرِفَةُ قِيمَةِ الْحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَاحْتِرَامُهَا، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ فِي حُقُوقِهَا - تَنْدَغِمُ فِيهِ جَمِيعُ حُقُوقِ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُنْقِذَهُمْ كُلَّهُمْ مِنْ هَلَكَةٍ يَرَاهُمْ مُشْرِفِينَ عَلَى الْوُقُوعِ فِيهَا لَا يَنِي فِي ذَلِكَ وَلَا يَدَّخِرُ وُسْعًا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يُقَصِّرُ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْبَشَرِ عَلَيْهِ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ الَّذِي قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً بِغَيْرِ حَقٍّ لَكَانُوا عُرْضَةً لِلْهَلَاكِ بِالْقَتْلِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلَوْ كَانُوا مِثْلَ ذَلِكَ الَّذِي أَحْيَا نَفْسًا وَاحِدَةً احْتِرَامًا لَهَا وَقِيَامًا بِحُقُوقِهَا لَامْتَنَعَ الْقَتْلُ بِغَيْرِ الْحَقِّ مِنَ الْأَرْضِ، وَعَاشَ النَّاسُ مُتَعَاوِنِينَ، بَلْ إِخْوَانًا مُتَحَابِّينَ مُتَوَادِّينَ، فَالْآيَةُ تُعَلِّمُنَا مَا يَجِبُ مِنْ وَحْدَةِ الْبَشَرِ وَحِرْصِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى حَيَاةِ

صفحة رقم 288

الْجَمِيعِ، وَاتِّقَائِهِ ضَرَرَ كُلِّ فَرْدٍ ; لِأَنَّ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ الْفَرْدِ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ الْجَمِيعِ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّ الْفَرْدِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عُضْوٌ مِنَ النَّوْعِ، وَمَا قَرَّرَ لَهُ مِنْ حُقُوقِ الْمُسَاوَاةِ فِي الشَّرْعِ، قِيَامٌ بِحَقِّ الْجَمِيعِ. وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْعَالِي مَنْ جَعَلَ التَّشْبِيهَ فِي الْآيَةِ مُشْكِلًا يَحْتَاجُ إِلَى التَّخْرِيجِ وَالتَّأْوِيلِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْقُرْآنَ كَثِيرًا مَا يَهْدِينَا إِلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَوُجُوبِ تَكَافُلِهَا، بِمِثْلِ إِسْنَادِ عَمَلِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهَا إِلَى الْمُتَأَخِّرِينَ، وَوَضْعِ اسْمِ الْأُمَّةِ أَوْ ضَمِيرِهَا فِي مَقَامِ الْحِكَايَةِ، أَوِ الْخِطَابِ لِبَعْضِ أَفْرَادِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ
وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٤: ٢٩) فَقَدْ قُلْنَا هُنَالِكَ - بَعْدَ إِيرَادِ عِدَّةِ آيَاتٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِمِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ، وَبَيَانِ كَوْنِهِ يَدُلُّ عَلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا - مَا نَصُّهُ: بَلْ عَلَّمَنَا الْقُرْآنُ أَنَّ جِنَايَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ تُعَدُّ جِنَايَةً عَلَى الْبَشَرِ كُلِّهِمْ، لَا عَلَى الْمُتَّصِلِينَ مَعَهُ بِرَابِطَةِ الْأُمَّةِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الْجِنْسِيَّةِ أَوِ السِّيَاسِيَّةِ فَقَطْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) الْآيَةَ.
وَرُوِيَ أَنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ هُوَ الْقِصَاصُ، فَمَنْ قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً كَمَنْ قَتَلَ كُلَّ النَّاسِ فِي كَوْنِهِ يُقْتَلُ قِصَاصًا بِالْوَاحِدَةِ وَبِالْكَثِيرِ؛ إِذْ لَا عُقُوبَةَ فَوْقَ الْقَتْلِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلَا يَظْهَرُ مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْإِحْيَاءِ ". وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِيهِ أَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ إِذَا عَفَا عَنِ الْقَاتِلِ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، وَقِيلَ مِثْلُ هَذَا فِي الْقَتْلِ؛ وَهُوَ أَنَّ إِثْمَ قَتْلِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مِثْلُ إِثْمِ قَتْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَجَزَاؤُهُمَا وَاحِدٌ، وَقَدْ بُيِّنَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (ص٣٧ ج ٥ ط الْهَيْئَةِ) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ نَفْسُ النَّبِيِّ أَوِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ، وَإِحْيَاؤُهَا نَصْرُهُ وَشَدُّ عَضُدِهِ، وَهُوَ صَحِيحُ الْمَعْنَى ; لِأَنَّ قَتْلَ الْمُصْلِحِ أَوْ إِنْقَاذَهُ وَنَصْرَهُ يُؤَثِّرُ فِي الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ يَأْبَاهُ، وَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ وَمِنْهُ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ قَتْلَ نَفْسٍ بِدُونِ حَقٍّ حَيَى النَّاسُ جَمِيعًا مِنْهُ. وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا كَانَ قَتْلُهَا كَقَتْلِ النَّاسِ جَمِيعًا عِنْدَ الْمَقْتُولِ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَمَنْ أَنْقَذَهَا مِنَ الْقَتْلِ كَانَ عِنْدَ الْمُنْقَذِ كَإِحْيَاءِ النَّاسِ جَمِيعًا، رَوَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَاخْتَارَ مِنْهَا أَنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ فِي الْقَتْلِ هُوَ عِقَابُ الْآخِرَةِ، وَفِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهُ سَلَامَةُ النَّاسِ مِمَّنْ يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ قَتْلَ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ، وَمَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا أَوْضَحُ وَأَجْمَعُ لِلْمَعَانِي.
وَمِنَ الْغَرَائِبِ أَنَّ هَذِهِ الْحِكْمَةَ الْعَالِيَةَ مِنْ جُمْلَةِ مَا نَسِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ أَحْكَامِ دِينِهِمْ ; إِذْ فُقِدَتِ التَّوْرَاةُ، ثُمَّ كَتَبُوا مَا بَقِيَ فِي حِفْظِهِمْ مِنْ أَحْكَامِهَا، فَأَمَّا قِصَّةُ ابْنَيْ آدَمَ فَهِيَ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ قَابِيلَ لَمَّا قَدَّمَ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ مِنْ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ، وَقَدَّمَ هَابِيلُ قُرْبَانًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ، وَنَظَرَ الرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ دُونَ أَخِيهِ اغْتَاظَ

صفحة رقم 289

قَايِينُ وَقَتَلَ هَابِيلَ، فَسَأَلَهُ الرَّبُّ عَنْهُ: أَيْنَ هُوَ؟ فَأَجَابَ: لَا أَعْلَمُ، وَهَلْ أَنَا حَارِسٌ لِأَخِي؟ فَلَعَنَهُ الرَّبُّ وَطَرَدَهُ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ! فَنَدِمَ، وَاسْتَرْحَمَ الرَّبَّ، وَخَافَ أَنْ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ (١٥ - فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ:
لِذَلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَةُ أَضْعَافٍ يَنْتَقِمُ مِنْهُ، وَجَعَلَ الرَّبُّ لِقَايِينَ عَلَامَةً لِكَيْ لَا يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ (! !) فَخَرَجَ قَايِينُ مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ، وَسَكَنَ فِي أَرْضِ نَوْدٍ شَرْقِيَّ عَدَنَ! !) وَفِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مِنْهُ أَنَّ نُوحًا قَالَ لِبَنِيهِ (٦ سَافِكُ دَمِ الْإِنْسَانِ بِالْإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ ; لِأَنَّ اللهَ عَلَى صُورَتِهِ عَمِلَ الْإِنْسَانَ) وَفِي الْفَصْلِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ إِنْسَانًا عَمْدًا يُقْتَلُ، وَمَنْ بَغَى عَلَى صَاحِبِهِ لِيَقْتُلَهُ بِغَدْرٍ " فَمِنْ عِنْدَ مَذْبَحِي تَأْخُذُهُ لِلْمَوْتِ " وَمَنْ ضَرَبَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ أَوْ شَتَمَهُمَا، أَوْ سَرَقَ إِنْسَانًا وَبَاعَهُ أَوْ وُجِدَ فِي يَدِهِ يُقْتَلُ، فَأَسْبَابُ الْقَتْلِ عِنْدَهُمْ كَثِيرَةٌ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الشِّدَّةُ رَادِعَةً لَهُمْ عَنِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ حَتَّى قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، فَهَلْ يَكْثُرُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ قَتْلِ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى غَدْرًا؟ لَا، لَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ:
(وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أَيْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ بَيِّنَاتُ الرُّسُلِ، وَلَا هَذَّبَتْ نُفُوسَهُمْ، بَلْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرِ الْقَتْلِ، وَمِنْ مَجِيءِ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ، يُسْرِفُونَ فِي الْأَرْضِ بِالْقَتْلِ وَسَائِرِ ضُرُوبِ الْبَغْيِ. أَكَّدَ إِثْبَاتَ وَصْفِ الْإِسْرَافِ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ تَأْكِيدًا بَعْدَ تَأْكِيدٍ ; لِأَنَّ تَشْدِيدَ الشَّرِيعَةِ، وَتَكْرَارَ بَيِّنَاتِ الرُّسُلِ، كَانَتْ تَقْتَضِي عَدَمَ ذَلِكَ أَوْ نُدُورَهُ. وَالْحُكْمُ عَلَى الْكَثِيرِ دُونَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ فِي الصِّدْقِ وَتَحْدِيدِ الْحَقَائِقِ، وَهَذَا الرُّسُوخُ فِي الْإِسْرَافِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُمَّ أَفْرَادَ الْأُمَّةِ، وَالنَّاسُ يُطْلِقُونَ وَصْفَ الْكَثِيرِ عَلَى الْجَمِيعِ فِي الْغَالِبِ. وَالْإِسْرَافُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْعَمَلِ ; أَيْ حَدِّ الْحَقِّ وَالْمَصْلَحَةِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبِالْعَقْلِ وَالْعُرْفِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي الْقَوْمِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ شَرْعٌ. وَكُلُّ مَا يُتَجَاوَزُ فِي الْحَدِّ يُفْسِدُ. وَالْأَصْلُ فِي مَعْنَى الْإِسْرَافِ الْإِفْسَادُ، فَهُوَ مِنَ السُّرَقَةِ، وَهِيَ بِالضَّمِّ الدُّودَةُ الَّتِي تَأْكُلُ الشَّجَرَ وَالْخَشَبَ، وَإِذَا كَانَ الْإِسْرَافُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ يَجْعَلُهُ شَرًّا ; كَالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ الَّتِي تَذْهَبُ بِالْمَالِ كُلِّهِ، فَتُفْسِدُ عَلَى صَاحِبِهَا أَمْرَ مَعَاشِهِ. فَمَا بَالُكَ بِالْإِسْرَافِ فِي الشَّرِّ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ وَتَجَاوُزُ مَا اعْتَادَهُ الْأَشْرَارُ فِيهِ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) (١٧: ٣٣) فَهُوَ نَهْيٌ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَنْ يَتَجَاوَزَ حَدَّ الْقِصَاصِ إِلَى قَتْلِ غَيْرِ الْقَاتِلِ، أَوْ تَعْذِيبِ الْقَاتِلِ وَالتَّمْثِيلِ بِهِ.
وَأَكْبَرُ الْعِبَرِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قِصَّةَ ابْنَيْ آدَمَ أَقْدَمُ قِصَّةٍ تَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ الْحَسَدَ كَانَ مَثَارَ أَوَّلِ جِنَايَةٍ فِي الشَّرِّ، وَلَا يَزَالُ هُوَ الَّذِي يُفْسِدُ عَلَى النَّاسِ أَمْرَ اجْتِمَاعِهِمْ، مِنِ اجْتِمَاعِ الْعَشِيرَةِ

صفحة رقم 290
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية
فَإِنْ تَكُ أُمُّ ابْنِي زَمِيلَةُ أَثْكَلَتْ فَيَا رُبَّ أُخْرَى قَدْ أَجَلْتَ لَهَا ثَكْلَا