
المسألة الأولى: لا شك أن قوله يا وَيْلَتى كَلِمَةُ تَحَسُّرٍ وَتَلَهُّفٍ، وَفِي الْآيَةِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ كَيْفَ يُدْفَنُ الْمَقْتُولُ، فَلَمَّا تَعَلَّمَ ذَلِكَ مِنَ الْغُرَابِ عَلِمَ أَنَّ الْغُرَابَ أَكْثَرُ عِلْمًا مِنْهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ بِسَبَبِ جَهْلِهِ وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ، فَنَدِمَ وَتَلَهَّفَ وَتَحَسَّرَ عَلَى فِعْلِهِ. الثَّانِي: أنه كان عالما منه بِكَيْفِيَّةِ دَفْنِهِ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ فِي الْإِنْسَانِ أَنْ لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ تَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ اسْتِخْفَافًا بِهِ، وَلَمَّا رَأَى الْغُرَابَ يَدْفِنُ الْغُرَابَ الْآخَرَ رق قلبه وقال: إن هذا الغراب لما قتل ذلك الآخر فبعد أن قتله أخفاه تحت الأرض، أفأكون أقل شفقة من هذا الغراب، وقيل: إن هذا الْغُرَابَ جَاءَ وَكَانَ يَحْثِي التُّرَابَ عَلَى الْمَقْتُولِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّ اللَّه أَكْرَمَهُ حَالَ حَيَاتِهِ بِقَبُولِ قُرْبَانِهِ. وَأَكْرَمَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ بِأَنْ بَعَثَ هَذَا الْغُرَابَ لِيَدْفِنَهُ تَحْتَ الْأَرْضِ عَلِمَ أَنَّهُ عَظِيمُ الدَّرَجَةِ عِنْدَ اللَّه/ فَتَلَهَّفَ عَلَى فِعْلِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّقَرُّبِ إِلَى أَخِيهِ إِلَّا بِأَنْ يَدْفِنَهُ فِي الْأَرْضِ، فَلَا جَرَمَ قَالَ: يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ يا وَيْلَتى اعْتِرَافٌ عَلَى نَفْسِهِ بِاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ وُقُوعِ الدَّاهِيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَلَفْظُهَا لَفْظُ النداء، كأن الْوَيْلَ غَيْرُ حَاضِرٍ لَهُ فَنَادَاهُ لِيَحْضُرَهُ، أَيْ أَيُّهَا الْوَيْلُ احْضُرْ، فَهَذَا أَوَانُ حُضُورِكَ، وَذِكْرُ (يا) زيادة بيان كما في قوله يا وَيْلَتى أَأَلِدُ [هُودٍ: ٧٢] واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَفْظُ النَّدَمِ وُضِعَ لِلُّزُومِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ النَّدِيمُ نَدِيمًا لِأَنَّهُ يُلَازِمُ الْمَجْلِسَ. وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ»
فَلَمَّا كَانَ مِنَ النَّادِمِينَ كَانَ مِنَ التَّائِبِينَ فَلِمَ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ؟
أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْلَمِ الدَّفْنَ إِلَّا مِنَ الْغُرَابِ صَارَ مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى ظَهْرِهِ سَنَةً، وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَارَ مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ، لِأَنَّهُ لَمْ ينتفع بقتله، وسخط عليه بسببه أبواه وَإِخْوَتُهُ، فَكَانَ نَدَمُهُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا لِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً، وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَدَمَهُ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ اسْتِخْفَافًا بِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ، فلما رأى أن الْغُرَابَ دَفَنَهُ نَدِمَ عَلَى قَسَاوَةِ قَلْبِهِ وَقَالَ: هَذَا أَخِي وَشَقِيقِي وَلَحْمُهُ مُخْتَلِطٌ بِلَحْمِي وَدَمُهُ مُخْتَلِطٌ بِدَمِي، فَإِذَا ظَهَرَتِ الشَّفَقَةُ مِنَ الْغُرَابِ عَلَى الْغُرَابِ وَلَمْ تَظْهَرْ مِنِّي عَلَى أَخِي كَنْتُ دُونَ الْغُرَابِ فِي الرَّحْمَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ فَكَانَ نَدَمُهُ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، لَا لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّه تَعَالَى فَلَا جَرَمَ لَمْ يَنْفَعْهُ ذلك الندم ثم قال تعالى:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٢]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَيْ بِسَبَبِ فِعْلَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ عَلَيْهِ سؤالان: الأول: أن قَوْلِهِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَيْ مِنْ أَجْلِ مَا مَرَّ مِنْ قِصَّةِ قَابِيلَ وَهَابِيلَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقَصَاصَ، وَذَاكَ مُشْكِلٌ فَإِنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ وَاقِعَةِ قَابِيلَ وَهَابِيلَ وَبَيْنَ وُجُوبِ الْقَصَاصِ عَلَى بَنِي

إِسْرَائِيلَ. الثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ الْقَصَاصِ حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ فَمَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِهِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ؟
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا الْقَتْلُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا بَيْنَ وَلَدَيْ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالثَّانِي: أَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْقَتْلَ وَقَعَ بَيْنَ وَلَدَيْ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ لَيْسَ إِشَارَةً إِلَى قِصَّةِ قَابِيلَ وَهَابِيلَ، بَلْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ الْقَتْلِ الْحَرَامِ، مِنْهَا قَوْلُهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ [المائدة: ٣٠] ومنها قوله فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة: ٣١] فَقَوْلُهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ خَسَارَةُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ إشارة إلى أنه حصل في قَلْبِهِ أَنْوَاعُ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ وَالْحُزْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا دَفْعَ لَهُ الْبَتَّةَ، فَقَوْلُهُ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَثْنَاءِ الْقِصَّةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ شَرَّعْنَا الْقَصَاصَ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ، وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ واللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فالجواب عَنْهُ أَنَّ وُجُوبَ الْقَصَاصِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ، إلا أن التشديد المذكور هاهنا فِي حَقِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي جميع الأديان لأنه تعالى حكم هاهنا بِأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ جَارٍ مَجْرَى قَتْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ منه المبالغة العظيمة فِي شَرْحِ عِقَابِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْحِ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ أَنَّ الْيَهُودَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهَذِهِ الْمُبَالَغَةِ الْعَظِيمَةِ أَقْدَمُوا عَلَى قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ قَسَاوَةِ قُلُوبِهِمْ وَنِهَايَةِ بُعْدِهِمْ عَنْ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ الْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقَصَصِ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ عَزَمُوا عَلَى الْفَتْكِ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَكَابِرِ أَصْحَابِهِ، كَانَ تَخْصِيصُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِهَذِهِ الْمُبَالَغَةِ الْعَظِيمَةِ مُنَاسِبًا لِلْكَلَامِ وَمُؤَكِّدًا لِلْمَقْصُودِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ» بِحَذْفِ الهمزة وفتح النون لا لقاء حَرَكَتِهَا عَلَيْهَا وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ، فَإِذَا خَفَّفَ كَسَرَ النُّونَ مُلْقِيًا لِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَيْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ اللَّه تَعَالَى قَدْ تَكُونُ مُعَلَّلَةً بِالْعِلَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ كَذَا وَكَذَا، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ كَتَبَةَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ مُعَلَّلَةٌ بِتِلْكَ الْمَعَانِي الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ وَالْمُعْتَزِلَةُ أَيْضًا قَالُوا: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ اللَّه تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَمَتَى ثَبَتَ ذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا لِلْكُفْرِ وَالْقَبَائِحِ فِيهِمْ مُرِيدًا وُقُوعَهَا مِنْهُمْ، لِأَنَّ خَلْقَ الْقَبَائِحِ وَإِرَادَتَهَا تَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى مُرَاعِيًا لِلْمَصَالِحِ. وَذَلِكَ يُبْطِلُ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: الْقَوْلُ بِتَعْلِيلِ أَحْكَامِ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِلَّةَ إِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً لَزِمَ قِدَمُ الْمَعْلُولِ، وَإِنْ كَانَتْ مُحْدَثَةً وَجَبَ تَعْلِيلُهَا بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ فَوُجُودُ تِلْكَ الْعِلَّةِ وَعَدَمُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّه تَعَالَى إِنْ كَانَ عَلَى السَّوِيَّةِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ عِلَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى السَّوِيَّةِ فَأَحَدُهُمَا بِهِ أَوْلَى، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُسْتَفِيدًا تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةَ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَيَكُونُ نَاقِصًا لِذَاتِهِ مُسْتَكْمِلًا بِغَيْرِهِ وَهُوَ مُحَالٌ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ تَوَقُّفُ الْفِعْلِ عَلَى الدَّوَاعِي، وَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ التَّسَلْسُلِ فِي الدَّوَاعِي، بَلْ يَجِبُ انْتِهَاؤُهَا إِلَى الدَّاعِيَةِ الْأُولَى الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْعَبْدِ لَا مِنَ الْعَبْدِ بَلْ مِنَ اللَّه، وَثَبَتَ أَنَّ عِنْدَ حُدُوثِ الدَّاعِيَةِ يَجِبُ الْفِعْلُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْكُلُّ مِنَ اللَّه، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ تَعْلِيلِ أَفْعَالِ اللَّه تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ

المتشابهات لا من المحكمات، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْمَائِدَةِ: ١٧] وَذَلِكَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّه كُلُّ شَيْءٍ وَلَا يَتَوَقَّفُ خَلْقُهُ وَحُكْمُهُ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ نَفْسٍ وَالتَّقْدِيرُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ بِغَيْرِ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَحِلُّ لِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا الْقَصَاصُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ وَمِنْهَا الْكُفْرُ مَعَ الْحِرَابِ، وَمِنْهَا الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَمِنْهَا قَطْعُ الطَّرِيقِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمَائِدَةِ: ٣٣] فَجَمَعَ تَعَالَى كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِي قَوْلِهِ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الخامسة: قوله فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً فيه إِشْكَالٌ. وَهُوَ أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ كَيْفَ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِقَتْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، فَإِنَّ مِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ مُسَاوِيًا لِلْكُلِّ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ بِسَبَبِ هَذَا السُّؤَالِ وُجُوهًا مِنَ الْجَوَابِ وَهِيَ بِأَسْرِهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ تَشْبِيهَ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ بِالْآخَرِ لَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِمُشَابَهَتِهِمَا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ قَوْلَنَا: هَذَا يُشْبِهُ ذَاكَ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِنَا: إِنَّهُ يُشْبِهُهُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، أَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِذَا/ ظَهَرَتْ صِحَّةُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَنَقُولُ: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْمَقْصُودُ مِنْ تَشْبِيهِ قَتْلِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ بِقَتْلِ النُّفُوسِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَعْظِيمِ أَمْرِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ وَتَفْخِيمِ شَأْنِهِ، يَعْنِي كَمَا أَنَّ قَتْلَ كُلِّ الْخَلْقِ أَمْرٌ مُسْتَعْظَمٌ عِنْدِ كُلِّ أَحَدٍ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ مُسْتَعْظَمًا مَهِيبًا فَالْمَقْصُودُ مُشَارَكَتُهُمَا فِي الِاسْتِعْظَامِ، لَا بَيَانُ مُشَارَكَتِهِمَا فِي مِقْدَارِ الِاسْتِعْظَامِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُسْتَعْظَمًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النِّسَاءِ: ٩٣].
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: هُوَ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ لَوْ عَلِمُوا مِنْ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ يَقْصِدُ قَتْلَهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يَدْفَعُونَهُ دَفْعًا لَا يُمَكِّنُهُ تَحْصِيلَ مَقْصُودِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ يَقْصِدُ قَتْلَ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جِدُّهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ فِي مَنْعِهِ عَنْ قَتْلِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ مِثْلَ جِدِّهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فَقَدْ رَجَّحَ دَاعِيَةَ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ عَلَى دَاعِيَةِ الطَّاعَةِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا التَّرْجِيحُ حَاصِلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ، فَكَانَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ نَازَعَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَطَالِبِهِ فَإِنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَقَتَلَهُ، وَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ فِي الْخَيْرَاتِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، فَكَذَلِكَ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ فِي الشُّرُورِ شَرٌّ مِنْ عَمَلِهِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَمَنْ يَقْتُلْ إِنْسَانًا قَتْلًا عَمْدًا عُدْوَانًا فَكَأَنَّمَا قَتَلَ جَمِيعَ النَّاسِ، وَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ الثَّلَاثَةُ حَسَنَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً الْمُرَادُ مِنْ إِحْيَاءِ النَّفْسِ تَخْلِيصُهَا عَنِ الْمُهْلِكَاتِ: مِثْلِ الْحَرْقِ وَالْغَرَقِ وَالْجُوعِ الْمُفْرِطِ وَالْبَرْدِ وَالْحَرِّ الْمُفْرِطَيْنِ، وَالْكَلَامُ فِي أَنَّ إِحْيَاءَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مِثْلُ إِحْيَاءِ النُّفُوسِ عَلَى قِيَاسِ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مِثْلُ قَتْلِ النُّفُوسِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ.