
كأنه إشارة إلى ما قال عليه الصلاة والسلام:
"إن الله يحاسب عباده بقدر عقولهم ".
قوله عز وجل: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (٨٦)
التحية: من قولهم حيَّا الله فلانًا، أي جعل له حياة، وذلك
إخبار، ثم يُجعل دعاء، ثم يقال: وحيَّا فلان فلانًا إذا قال له
ذلك، وحكم به، كما يقال: أضللت فلانًا وأرشدته إذا
حكمت له بذلك، وأصل التحية من الحياة، ثم يقال لكل دعاء
تحية، لكون جميعه غير خارج عن كونه حياة، أو سبب حياة.
إما دنيوية وإما أخروية.
إن قيل: علي أي وجه

جعل قولهم: السلام تحية الملتقين؟
قيل: السلام والسِّلم واحد، بدلالة قوله: (فَقَالُوْا سَلَامًا قَالَ سِلْم) (١)
ولما كان الملتقيان من الأجانب قد حذر أحدهما الآخر استعملوا هذه
اللفظة تنبيهًا من المخاطب، أي بذلت لك ذلك وطلبته منك.
ونبه المجيب إذا قال: وعليك السلام. على نحو ذلك، ثم صار
ذلك مستعملًا في الأجانب والأقارب والأعادي والأحباب، تنبيهًا
أني أسأل الله ذلك لك، وأكثر المفسرين حملوا الآية على التحية
المجردة، فقالوا معناه: من حيّاكم بتحية فحيوا بأحسن منها أو
ردّوها أي قابلوه بمثلها، قالوا: ورد ذلك أنه متى قال قائل:
السلام عليكم، فإنه يقول: وعليكم السلام، أو يقول:
وعليكم، فهذا هو ردُّه، ويدلّ أنه إذا قال: وعليكم. فقد رد، أن
رجلًا دخل على عمر فقال: السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته، فقال عمر: وعليكم، فظن الرجل أنه لم يسمع عمر.

فأعاد عليه، فأعاد عمر مثل ما قال، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين
ألا ترد عليَّ كما أقول؟
قال: أو لم أفعل؟ وأما أحسن منها فأن يقول له أكثر من ذلك ما لم يستوف المسلِّم ألفاظ التحية، وذلك أن رجلًا أتى النبي - ﷺ - فقال: السلام عليكم فقال النبي - ﷺ -:
"عليكم السلام ورحمة الله ".
ثم أتى آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال - ﷺ -: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ".
فجاء ثالث فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقال - ﷺ -: "وعليكم ".
فقيل له في ذلك، فقال: "إن الأول والثاني أتيا من التحية شيئًا فرددت عليهما بأحسن مما سلَّما، والثالث حيّاني بالتحية كلِّها فرددت عليه مثلها".
ومن المفسرين من قال له: إن من حيّاكم ببعض التحية

فحيوا بها تامَّة، ومن حياكم بالتحية تامة فردّوا مثلها، ومنهم
من قال: بل خُير كلهم بين الأمرين، وقال قتادة: بأحسن منها
للمسلمين، وبمثلها أهل الكتاب، وهو أن يقال: وعليكم.
وقال ابن عباس: من سلَّم عليك من خلق الله فاردد عليه، وإن
كان مجوسيا.
ومن المفسرين من حمل ذلك على الهدايا واللطف،

وقال: حقّ من تولى شيئًا أن يولِّي مثله وأحسن منه.
ومنهم من قال: السلام هاهنا السِّلْم، وهو أصله، قال: وهذا أمر منه
أن من بذل لكم السلم من الكفار بأن يروم الدخول في الشرع.
فابذلوا له، كقوله: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا).
قال: وأمر بأن يرد على باذِلها مثلها أو أكثر منها.
قال: ومثله أن يبذل له الأمان مما خافه، وأكثر منه أن يبين أن له ما لهم، وعليه ما عليهم من النصرة والموالاة، وذلك مما قد بيّنه في قوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
قال: وذلك هو الذي بسطه من بعد في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا).

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) أي يحاسبكم
على كل شيء قلَّ أو كثر، فلا تتغافلوا عن صغيرة وكبيرة.
وقول عطاء: حفيظًا، وقول ابن جبير: شهيدًا فإشارة إلى
هذا المعنى، وقيل: (حَسِيبًا) أي كافيًا، من قولهم:
أحسبني هذا الشيء - أي كفاني - حتى قلت حسبي.
ومن قال ذلك جعله من باب: الداعي السميع. أي المسمع،