
- ٨٤ - فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا
- ٨٥ - مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً
- ٨٦ - وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا
- ٨٧ - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا
يَأْمُرُ تَعَالَى عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يباشر القتال بنفسه، ومن نكل عنه فَلَا عَلَيْهِ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ﴾ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ، قُلْتُ لِلْبَرَاءِ: الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَهْوَ مِمَّنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إلى التهلكة؟ قال: لا إن الله بعث برسوله ﷺ قولا: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ﴾ إنما فذلك في النفقة (رواه أحمد وابن أبي حاتم).
وقوله: ﴿حرض الْمُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ عَلَى الْقِتَالِ وَرَغِّبْهُمْ فِيهِ وَشَجِّعْهُمْ عليه، كما قال لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ يسوي الصفوف: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي التَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُبَشِّرُ النَّاسَ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سبيل

اللَّهِ بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ فإذا سألتم الله فاسأوله الفردوس فإنه وسط الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ؛ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تفجَّر أنهار الجنة».
وقوله تعالى: ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أَيْ بِتَحْرِيضِكَ إِيَّاهُمْ عَلَى الْقِتَالِ تَنْبَعِثُ هِمَمُهُمْ عَلَى مُنَاجَزَةِ الْأَعْدَاءِ، وَمُدَافَعَتِهِمْ عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ وأهله، ومقاومتهم ومصابرتهم، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً﴾ أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ ليبلو بعضكم ببعض﴾ الآية، وَقَوْلُهُ ﴿مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾ أي من يسعى في أمر فيترتب عَلَيْهِ خَيْرٌ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، ﴿وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يكن له كفر مِّنْهَا﴾ أي يكون علي وِزْرٌ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَى سعيه ونيته كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا؛ وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ» وَقَالَ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَفَاعَاتِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لبعض وقول: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً﴾ قَالَ ابن عباس: أَيْ حَفِيظًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَهِيدًا، وَفِي رِوَايَةٍ عنه حسيباً. وقال الضحاك: المقيت الرزاق، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ: وَسَأَلَهُ رجُل عَنْ قول الله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً﴾ قَالَ: مقيت لكل إنسان بقدر عمله.
وقوله تَعَالَى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ﴾ أَيْ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْمُسْلِمُ فَرَدُّوا عَلَيْهِ أَفْضَلَ مِمَّا سَلَّمَ، أَوْ رَدُّوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا سلم فَالزِّيَادَةُ مَنْدُوبَةٌ، وَالْمُمَاثَلَةُ مَفْرُوضَةٌ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «وَعَلَيْكَ السَّلَامُ ورحمة الله» ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ»، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركات، فَقَالَ لَهُ: «وَعَلَيْكَ» فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي: أَتَاكَ فُلَانٌ وفلان فسلما عليك فرددت عليهم أَكْثَرَ مِمَّا رَدَدْتَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: "إِنَّكَ لَمْ تَدَعْ لَنَا شَيْئًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ﴾ فرددناها عليك"
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِي السَّلَامِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ [السَّلَامُ عليكم ورحمة الله وبركاته]، إذا لَوْ شُرِعَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ لَزَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: السلام عليكم يا رسول الله فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: «عَشْرٌ» ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ يا رسول اللَّهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ «عِشْرُونَ» ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ: «ثلاثون». وقال ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: من سلّم عَلَيْكَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَارْدُدْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَجُوسِيًّا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ﴾ وقال فأما أهل الذمة فلا يُبدأون بِالسَّلَامِ وَلَا يُزَادُونَ بَلْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ السام عليكم فَقُلْ وَعَلَيْكَ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لا تبدأوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ فاضطروهم إلى أضيقه»، وقال الحسن البصري: السَّلَامُ تَطَوُّعٌ وَالرَّدُّ فَرِيضَةٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ قَاطِبَةً أَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ سُلِّمَ

عَلَيْهِ فَيَأْثَمُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ، لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ﴾ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بسنده إلى أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم».
وقوله تعالى: ﴿آللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ إِخْبَارٌ بِتَوْحِيدِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَتَضَمَّنَ قَسَمًا لِقَوْلِهِ: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ هذه الام موطئة للقسم فقوله تالله لا غله إلا هو خير وقسم أنه يجمع الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً﴾ أَيْ لَا أَحَدَ أَصْدَقُ مِنْهُ فِي حَدِيثِهِ وَخَبَرِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.