آيات من القرآن الكريم

وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ

والمجتمع الذي يكثر فيه العقلاء الفطناء هو الذي تقل فيه إذاعة الأخبار إلا من مصادرها الأصيلة، وهو الذي يرجع أفراده في معرفة الحقائق إلى العلماء المتخصصين.
وهكذا نرى الآية الكريمة تغرس في نفوس المؤمنين أسمى ألوان الإخلاص لدينهم ودولتهم وقيادتهم، فهي في مطلعها تنكر عليهم إذاعة الاخبار بدون تحقق من صدقها ومن فائدتها، وفي وسطها تأمرهم بأن يرجعوا إلى حقائق دينهم وإلى الحكام العادلين، والعلماء المخلصين الذين يعرفون الأمور على وجهها ليسألوهم عما يريدون معرفته، وفي آخرها تذكرهم بفضل الله عليهم ورحمته بهم حتى يداوموا على طاعته، ويشكروه على نعمه.
وبعد هذا الحديث الحكيم عن أحوال المنافقين وضعفاء الإيمان، وعن تباطئهم عن الجهاد وإشاعتهم للأخبار بدون تثبت، بعد كل ذلك أمر الله- تعالى- نبيه محمدا ﷺ أن يستمر في قتاله للمشركين، وأن يحرض أصحابه على ذلك، كما أرشد- سبحانه- المؤمنين إلى طائفة من مكارم الأخلاق التي تقوى رابطتهم فقال- تعالى-:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٤ الى ٨٧]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (٨٧)
والفاء في قوله فَقاتِلْ للإفصاح عن جواب شرط مقدر. أى:

صفحة رقم 239

إلى أفعالهم وأقوالهم.
وقوله لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ أى: قاتل- يا محمد- في سبيل إعلاء كلمة الله، والله- تعالى- لا يكلفك إلا فعل نفسك، فتقدم للجهاد ولا تلتفت إلى تباطؤ المتباطئين، أو تخذيل المخذلين، فإن الله هو ناصرك لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف.
وجملة لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ في محل نصب على الحال من فاعل فقاتل. أى: فقاتل حال كونك غير مكلف إلا نفسك وحدها.
قال صاحب الكشاف: قيل: دعا النبي ﷺ الناس في بدر الصغرى إلى الخروج، وكان أبو سفيان قد واعد رسول الله ﷺ اللقاء فيها. فكره بعضهم أن يخرجوا فنزلت فخرج رسول الله ﷺ وما معه إلا سبعون لم يعولوا على أحد. ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده، وقرئ لا تُكَلَّفُ بالجزم على النهى. ولا نكلف: بالنون وكسر اللام.
أى: لا نكلف نحن إلا نفسك وحدها» «١».
وقوله وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أى: حثهم على القتال ورغبهم فيه، حتى ينفروا معك خفافا وثقالا من أجل نصرة الحق والدفاع عن المظلومين.
ولقد استجاب النبي ﷺ لهذه الأوامر، وأعد نفسه لقتال أعدائه، ورغب أتباعه في ذلك، ولذا قال ﷺ عند ما أذن الله له في القتال «والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي» «٢» أى: حتى أموت.
ولقد اقتدى به أبو بكر الصديق في حروب الردة فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعونى عناقا كانوا يؤدونها لرسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها. ولو خالفتني يميني لجاهدتهم بشمالي «٣».
ولقد استفاضت أحاديث النبي ﷺ في ترغيب أمته في الجهاد، ومن ذلك قوله لأصحابه يوم بدر وهو يسوى الصفوف: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض.
قال الفخر الرازي: دلت الآية الكريمة على أنه ﷺ كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال، لأنه- تعالى- ما كان يأمره بذلك إلا وهو ﷺ موصوف بهذه الصفات. ولقد اقتدى به أبو بكر- رضى الله عنه- حيث حاول الخروج وحده لقتال ما نعى الزكاة، ومن علم أن الأمر

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٢
(٢) السالفة: صفحة العنق، وكنى بانفرادها عن الموت لأنها لا تنفرد عما يليها إلا به. [.....]
(٣) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٩٣

صفحة رقم 240

كله بيد الله، وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء الله سهل عليه ذلك. ودلت الآية على أنه ﷺ لو لم يساعده على القتال غيره لم يجز له التخلف عن الجهاد» «١».
وقوله: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا بشارة للمؤمنين، ووعد منه- سبحانه- بحسن عاقبتهم وسوء عاقبة الكافرين. وعَسَى حرف ترج. وهو هنا يفيد التحقق واليقين، لأنه صادر عن الله- تعالى-، الذي لا يخلف وعده. وفي التعبير بها تعليم للمؤمنين الأدب في القول حتى لا يجزمون بأمر يتعلق بالمستقبل، بل يسددون ويقاربون ويباشرون الأسباب ثم بعد ذلك يتركون النتائج لله- تعالى- والمعنى: قاتل يا محمد في سبيل الله وحرض المؤمنين على ذلك، عسى الله- تعالى- أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أى يمنع قتالهم وصولتهم وطغيانهم وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً أى أشد صولة وأعظم سلطانا، وأقدر بأسا على ما يريده وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أى أشد عقوبة وتعذيبا.
والتنكيل: مصدر من قول القائل نكلت بفلان فأنا أنكل به تنكيلا إذا أوجعته عقوبة، وجعلته عبرة لغيره. وأصله التعذيب بالنكل وهو القيد، ثم استعمل في كل تعذيب بلغ الغاية في الشدة والألم.
وأفعل التفضيل أَشَدُّ ليس على بابه، لأن بأس المشركين لا قيمة له بجانب بأس الله- تعالى- وقوته ونفاذ أمره. وعذابهم لغيرهم من الضعفاء لا وزن له بجانب عذابه- سبحانه- للظالمين، لأن عذابهم لغيرهم يمكن التخلص منه أما عذابه- سبحانه- فلا يمكن التخلص منه ولأن عذابهم لغيرهم سينتهي مهما طال، أما عذابه- سبحانه- للكافرين الظالمين فهو باق دائم لا ينتهى ولا يزول.
والمقصود من هذا التذييل تهديد الكافرين بسوء المصير وتشجيع المؤمنين على قتالهم، وبشارتهم النصر عليهم:
قال القرطبي: قوله- تعالى- عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا إطماع، والإطماع من الله- تعالى- واجب لأن إطماع الكريم إيجاب..
فإن قال قائل: نحن نرى الكفار في بأس وشدة، وقلتم: إن عسى بمعنى اليقين فأين ذلك الوعد؟ قيل له: قد وجد هذا الوعد ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام. فمتى وجد ولو لحظة مثلا فقد صدق الوعد فقد كف الله بأس المشركين في بدر الصغرى. وفي الحديبية وفي

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٠ ص ٢٠٤

صفحة رقم 241

غزوة الأحزاب حيث ألقى الله- تعالى- في قلوب الأحزاب الرعب فانصرفوا دون أن ينالوا خيرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ. فهذا كله بأس قد كفه الله عن المؤمنين «١».
ثم رغب- سبحانه المؤمنين في التوسط في الخير، وحذرهم من التوسط في الشر، فقال:
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها والشفاعة: هي التوسط بالقول في وصول إنسان إلى منفعة دنيوية أو أخروية، أو إلى إنقاذه من مضرة. وهي مأخوذة من الشفع وهو الزوج في العدد ضد الوتر. فكأن المشفوع له كان وترا فجعله الشفيع شفعا.
والنصيب: الحظ من كل شيء. والكفل: الضعف والنصيب والحظ.
قال الجمل: واستعمال الكفل في الشر أكثر من استعمال النصيب فيه وإن كان كل منهما قد يستعمل في الخير كما قال- تعالى- يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ولقلة استعمال النصيب في الشر وكثرة استعمال الكفل فيه غاير بينهما في الآية الكريمة حيث أتى بالكفل مع السيئة وبالنصيب مع الحسنة» «٢».
والمعنى: من يشفع شفاعة حسنة، أى يتوسط في أمر يترتب عليه خير يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها أى: يكن له ثواب هذه الشفاعة الحسنة. وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً وهي ما كانت في غير طريق الخير يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها أى: يكن له نصيب من وزرها وإثمها، لأنه سعى في الفساد ولم يسع في الخير.
وإطلاق الشفاعة على السعى في الشر من باب المشاكلة، لأن الشفاعة لا تطلق إلا على الوساطة في الخير.
والآية الكريمة وإن كانت واردة على سبيل التعميم في بيان جزاء كل شفاعة حسنة أو كل شفاعة سيئة، إلا أن المقصود بها قصدا أوليا ترغيب المؤمنين في أن يعاون بعضهم بعضا على الجهاد في سبيل الله، وفي انضمام بعضهم إلى بعض من أجل نصرة الحق، وتهديد المنافقين الذين كان يشفع بعضهم لبعض لكي يأذن لهم النبي ﷺ في التخلف عن الجهاد. وقد رجح هذا الاتجاه الإمام ابن جرير فقال ما ملخصه:
يعنى- سبحانه- بقوله مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها من يصر يا محمد شفعا لوتر أصحابك، فيشفعهم في جهاد عدوهم

(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ٢٩٤- بتصرف وتلخيص
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٤٠٧

صفحة رقم 242

وقتالهم في سبيل الله، وهو الشفاعة الحسنة يكن له نصيب منها، أى يكن له من شفاعته تلك نصيب، وهو الحظ من ثواب الله وجزيل كرامته. ومن يشفع وتر أهل الكفر بالله على المؤمنين به، فيقاتلهم وذلك هو الشفاعة السيئة يكن له كفل منها. يعنى بالكفل: النصيب والحظ من الوزر والإثم، وهو مأخوذ من كفل البعير والمركب، وهو الكساء أو الشيء يهيأ عليه شبيه بالسرج على الدابة. يقال: جاء فلان مكتفلا: إذا جاء على مركب قد وطئ له... وقد قيل: إن الآية عنى بها شفاعة الناس بعضهم لبعض. وغير مستنكر أن تكون الآية نزلت فيما ذكر، ثم عم بذلك كل شافع بخير أو شر.
وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك لأنه في سياق الآية التي أمر الله نبيه فيها بحض المؤمنين على القتال. فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسول الله ﷺ والوعيد لمن أبى إجابته أشبه منه من الحث على شفاعة الناس بعضهم لبعض التي لم يجر لها ذكر قبل. ولا لها ذكر بعد «١».
وقوله وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً تذييل قصد به تعريف الناس أنه- سبحانه- سيجازى كل إنسان بعمله، حتى يكثروا من فعل الخير ويقلعوا عن فعل الشر.
ومقيتا: أى مقتدرا. من أقات على الشيء اقتدر عليه. ومنه قول الزبير ابن عبد المطلب:

إذا كان الأمر كما حكى- سبحانه- عن المنافقين وكيدهم فقاتل أنت يا محمد من أجل إعلاء كلمة الله ولا تلتفت
وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتا
أى: وكنت على رد إساءته مقتدرا.
أو مقيتا: معناها حفيظا من القوت وهو ما يمسك الرمق من الرزق وتحفظ به الحياة:
والمعنى: وكان الله تعالى- وما زال على كل شيء مقتدرا لا يعجزه شيء، وحفيظا على أحوال الناس لا يغيب عنه شيء من ذلك، وسيجازيهم بما يستحقون من ثواب أو عقاب.
هذا وقد وردت أحاديث متعددة في الحض على الشفاعة الحسنة، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبى موسى الأشعرى قال: «كان النبي ﷺ إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال: «اشفعوا تؤجروا ويقضى الله على لسان نبيه ما أحب».
قال صاحب الكشاف: والشفاعة الحسنة هي التي روعي بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر أو جلب إليه خير، وابتغى بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، لا في حد من حدود الله ولا في حق من الحقوق- يعنى الواجبة عليه- والسيئة ما كانت بخلاف ذلك.
وعن مسروق: أنه شفع شفاعة. فأهدى إليه المشفوع له جارية. فغضب وردها. وقال:
لو علمت ما في قلبك ما تكلمت في حاجتك. ولا أتكلم فيما بقي منها» «٢».
(١) تفسير ابن جرير ج ٥ ص ٢٨٦
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٥٤٢
.

صفحة رقم 243

وبعد أن أمر الله- تعالى- عباده بالشفاعة الحسنة ونهاهم عن الشفاعة السيئة، أتبع ذلك بتعليمهم أدب اللقاء والمقابلة حتى تزيد المودة والمحبة بينهم فقال- تعالى-: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها.
والتحية: تفعلة من حييت والأصل تحيية مثل ترضية وتسمية فأدغموا الياء في الياء. قال الراغب: أصل التحية من الحياة، بأن يقال حياك الله، أى: جعل لك حياة، وذلك إخبار ثم جعل دعاء تحية. يقال: حيا فلان فلانا تحية إذا قال له ذلك «١».
وكان من عادة العرب إذا لقى بعضهم بعضا أن يقولوا على سبيل المودة: حياك الله فلما جاء الإسلام أبدل ذلك بالسلام والأمان بأن يقول المسلم لأخيه المسلم: السلام عليكم وأضيف إليها الدعاء برحمة الله وبركاته.
قال ابن كثير: قوله- تعالى- وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها أى: إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه بأفضل مما سلم، أوردوا عليه بمثل ما سلم. فالزيادة مندوبة والمماثلة مفروضة. فعن سلمان الفارسي قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: السلام عليكم يا رسول الله. فقال «وعليك السلام ورحمة الله» ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. ثم جاء ثالث فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته فقال له: (وعليك) فقال له الرجل:
يا رسول الله، بأبى أنت وأمى أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت على.
فقال (إنك لم تترك لنا شيئا) قال الله- تعالى-: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها فرددناها عليك. وفي الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إذ لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول الله ﷺ «٢»
.
فأنت ترى أن الآية الكريمة تدعو المؤمنين إلى أن يردوا التحية على من يحيونهم وأن يفشوا هذه التحية بينهم، لأن إفشاءها يؤدى إلى توثيق علاقات المحبة والمودة بين المسلمين.
وقد ورد في الحض على إفشاء السلام أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا.
ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم».
وقوله إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً تذييل قصد به بعث الناس على امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.

(١) مفردات القرآن للراغب الاصفهانى ص ١٤٠
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٣١
.

صفحة رقم 244

أى: إن الله- تعالى- كان وما زال مهيمنا على عباده، بصيرا بكل أقوالهم وأعمالهم، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وسيحاسب الناس يوم القيامة على أفعالهم، وسيجازيهم عليها بما يستحقون فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
وإذا كان الأمر كذلك فالعاقل هو الذي يفعل ما أمره الله- تعالى- بفعله، ويجتنب ما أمره الله- تعالى- باجتنابه.
هذا وقد تكلم العلماء هنا كلاما طويلا في كيفية السلام وفي فضله، وفي بعض أحكامه المأثورة، فارجع إلى كلامهم إن شئت «١».
ثم بين- سبحانه- أن مصير العباد جميعا إليه يوم القيامة فقال- تعالى- اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ.
أى: الله الواحد الأحد الفرد الصمد والذي لا معبود بحق سواه، كتب على نفسه أنه ليبعثنكم من قبوركم وليحشرنكم إلى الحساب في يوم القيامة الذي لا شك في حصوله ووقوعه.
فالجملة الكريمة قررت أن العبادة الحق إنما هي لله رب العالمين، كما قررت أن يوم الحساب آت لا شك فيه مهما أنكره الملحدون، ومارى فيه الممارون.
ولفظ الجلالة مبتدأ، وجملة «لا إله إلا هو» خبر. وقوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ جواب قسم محذوف. أى والله ليحشرنكم من قبوركم للحساب يوم القيامة. والجملة القسمية إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب، أو هي خبر ثان للمبتدأ أو هي الخبر وجملة لا إله إلا هو معترضة.
وقوله لا رَيْبَ فِيهِ في محل نصب على الحال من يوم إذ الضمير في قوله (فيه) يعود إلى اليوم. ويجوز أن يكون في محل نصب على أنه نعت لمصدر محذوف دل عليه ليجمعنكم أى:
ليجمعنكم جمعا لا ريب فيه.
والاستفهام في قوله- تعالى- وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً للإنكار والنفي أى: لا يوجد في هذا الوجود من هو أصدق من الله- تعالى في حديثه وخبره ووعده ووعيده، وذلك لأن الكذب قبيح، والله- تعالى- منزه عن كل قبيح. ولأن الكاذب إنما يكذب لجر منفعة، أو لدفع مضرة، أو لجهله بقبح الكذب.. والله- تعالى- غنى عن كل شيء، وقدير على كل شيء وخالق لكل شيء، ومن كان كذلك لا يصدر عنه كذب وإنما يصدر عنه كل حق وصدق وعدل.

(١) راجع القرطبي ج ٥ ص ٢٩٨. والآلوسي ج ٥ ص ٩٨. والفخر الرازي ج ١٠ ص ٢٠٨.

صفحة رقم 245
التفسير الوسيط
عرض الكتاب
المؤلف
محمد سيد طنطاوي
الناشر
دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية