
لمّا كان المال والأموال في هذا الموضع سواء، كقول الشاعر:
........................ ، فإن الحوادث أودى بها
لمّا كان معنى الحوادث والحدثان واحدًا.
قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (٣)
العَولُ: الخروج عن حد الاستقامة، والعول في الفريضة خروج
عن حدِّ السهام المسماة، والعويل: الصياح الخارج عن حد الاستقامة
في الكلام، وذلك نحو الألفاظ التي يتحرّاها المصاب.
وعوَّلت عليه مِلتُ نحوه بالاعتماد، والِمعْول على بناء الآلة، كأنه آلة العول.

والآية تُؤوِلَتْ على وجهين:
أحدهما: قيل: إن الرجل قبل الإِسلام إذا مات كان وليُّه يسير في أيتامه سيرة غير قاصدة، ويأكل أمو الهم إسرافًا وبدارًا، وكانوا يسيرون في يتامى النساء
خاصة بأقبح سيرة، فإنها متى كانت اليتيمة ذات مال وجمال
تزوّجوا بها بأقلّ من مهرها، ثم لم يحُسنوا إليها، وإن كان أحدهم
لا يرغب فيها عَضَلها عن النكاح، طمعًا في مالها، فلما جاء
الإِسلام نُهوا عن ذلك بهذه الآية.
وقوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ) أي إن خفتم أن لا تستعملوا العدالة -
أي إذا تزوّجتم بهن فتزوجوا من غيرهن. وإلى هذا ذهب ابن
عباس وعائشة.
والثاني: أنهم يتحرجون في أموال اليتامى، لمّا

عظَّم الله تعالى من أمرهم في نحو قوله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ) الآية.
ولم يكونوا يتحرّجون من التزوُّج بعدد من النساء، فقال
تعالى إن تحرَّجتم عن تناول مال اليتيم خشية أن لا تُقسطوا.
فتحرجوا النساء أن لا تعدلوا بينهن، وانكحوا مقدار ما يمكنكم
الوفاء بحقوقهن.
وقيل: معناه إن خفتم أن لا تُقسطوا في حفظ أموال اليتامى.
وأن تجوروا في الإِنفاق على نسائكم.
فانكحوا عددًا مخصوصًا لا يحوجكم إلى أن تقسطوا.
إن قيل: فما معنى ذكر هذه الأعداد إن كان الأمر على ما وصفت؟
وهلّا قيل: فانكحوا ماطاب لكم من النساء سواهن؟

قيل: يجوز للحكيم إذا سئل عن حكم أن يجيب عنه، ويقرن إليه ما
علم أنّ بالسائل حاجة إليه. فلمّا سُئل عن ذلك، وكان فيهم من لا
يُبالي أن يتزوّج بالعدد الكثير من النساء، بيّن العدد الذي لا يجوز أن
يتعداه الإِنسان في وقت واحد، ولذلك أحيلوا على هذه الآية لما
استفتوا في يتامى النساء، فقال تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) الآية.
وقد اختُلف في العدد الذي يجوز أن ينتهى إليه في النكاح.
فمذهب عامة الفقهاء أنه لا يجوز مجاوزة الأربع، ومذهب بعض
الشيعة أنه يجوز بلا عدد كالسراري.
وقال: الآية ليست بتوقيفٍ، بل هي إباحة: كقولك: تناول ما أحببت واحدًا واثنين وثلاثة، وأنّ تخصيص بعض مقتضى العموم على طريق
التبيين لا يقتضي الاقتصار عليه، وذهب بعضهم ممن لا يعرف
شرط الكلام إلى أن المباح منهن تسع، وقال: الواو تقتضي
الجمع، فصار كقولك: اثنين وثلاثًا وأربعًا، وذلك تسع.
وأكد ذلك بأن النبي - ﷺ - مات عن تسغ نسوة.
قال: وغير منكر أن

يذكر عدد واحد بلفظين، كما قال: (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ).
وهذا فاسد، أما أولاً: فإن العدول عن ذكر الشيء بلفظة
واحدة إلى لفظين، إما أن يكون لغرض نحو (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ)، لمّا خالف بين حكميهما أورده بلفظين.
أو يكون ذلك للعيّ والاستدراك عن نسيان، وكلام الله تعالى منزَّه
عن ذلك، ومنهم من ردَّ إلى واحدة، لتأويلٍ انتزعه من
الآيتين: إحداهما هذه، والأخرى قوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ) الآية. قال: فبيَّن أنكم لا تستطيعون
تحري العدالة في النساء، وقال ههنا: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً).
فكأنه قال: انكحوا واحدة إن لم تستطيعوا أن تعدلوا.

فقد ثبت أن لا تستطيعوا، فإذًا، فانحكوا واحدة، وهذا القائل
خفي عليه الفرق بين العدلين، فإن العدل في تلك الآية تركُ ميل
القلب، وذلك مرفوع عن الإِنسان، لقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).
وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) عنى به العدل الذي
هو حق القسم والنفقة، ولهذا قال: (فَإِنْ خِفْتُمْ) فإن الخوف
يُقال فيما فيه رجاء ما، ولهذا لا يُقال: خفت أن لا أقدر
على بلوغ السماء أو نسف الجبل.
وهذه الأقوال المتقدّمة يُبطلها ما رُوي أنه لمّا نزلت هذه الآية
كانت تحت قيس بن الحارث ثمان نسوة، فقال له - ﷺ -: "خل سبيل أربع ".

وكذا قال لابن مسعود الثقفي، وكان قد أسلم وتحته تسع
نسوة، واستدلَّ أهل الظاهر بالآية على وجوب النكاح.
واستدل بها بعض الفقهاء على أنه غير واجب، وبيان هذا أن

ما في قوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ) إمّا أن يكون عبارة عن
المنكوحة، أو عن الزمان، أو العدد. فلا يصح الأول.
لأن (ما) لا يُعبَّر به عن أعيان العقلاء مجردًا، ولا عن العدد، لأنه محال أن يعني نكاح العدد، وإن عنى المعدود فالكلام راجع إلى أن يكون عبارة
عن العقلاء، فيجب أن يكون عبارة عن الزمان، فكأنه قال: اعقدوا
وقت ما يطيب لكم، والمخالف يوجبه طاب لنا أو لم يطب.

فإن قيل: معناه ما تاقت أنفسكم إليه، قيل: إن عنى ما تاقت
نفسه إلى العقد فليس ذلك مذهبًا لأحد، وإن عنى المخالف: ما
تاقت نفسه إلى الجماع، فلم يجر للجماع ذكر.
وقد تقدَّم الكلام في العول، فقول من قال:
ذلك أدنى أن لا تجاوزوا ما فرض الله.
وقول من قال: أن لا تميلوا، يرجعان إلى أصل واحد.
وقول الشافعي معناه: أن لا يكثر عيالكم.
وقد ذهب إلى هذا التأويل

زيد بن أسلم، وأجازه الأصمعي، وابن الأعرابي.
ومنه قيل: فلان يعول عشرة، وقال ابن داود: غلط
الشافعي، لأن صاحب الإِماء في العيال كصاحب الأزواج.