
قَدِمَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ مُضَرَ وَهُمْ مُجْتَابُو النِّمَارِ «١» - أَيْ مِنْ عُرْيِهِمْ وَفَقْرِهِمْ- قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، حَتَّى خَتَمَ الْآيَةَ. وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الْحَشْرِ: ١٨]، ثُمَّ حَضَّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ فَقَالَ: «تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ صَاعِ بره، من صَاعِ تَمْرِهِ» وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ «٢» وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ، وَفِيهَا: ثُمَّ يَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ هَذِهِ مِنْهَا يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الآية.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢ الى ٤]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)
يَأْمُرُ تَعَالَى بِدَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَيْهِمْ إِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ كَامِلَةً مُوَفَّرَةً، وَيَنْهَى عَنْ أَكْلِهَا وَضَمِّهَا إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ:
لَا تَعْجَلْ بِالرِّزْقِ الْحَرَامِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ الرِّزْقُ الْحَلَالُ الَّذِي قُدِّرَ لك. وقال سعيد بن جبير:
لا تتبدلوا الْحَرَامَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْحَلَالِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، يَقُولُ: لَا تُبَذِّرُوا أَمْوَالَكُمُ الْحَلَالَ وَتَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمُ الْحَرَامَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيُّ: لَا تُعْطِ مَهْزُولًا وَتَأْخُذْ سَمِينًا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالضَّحَّاكُ: لَا تُعْطِ زَائِفًا وَتَأْخُذْ جَيِّدًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ أَحَدُهُمْ يَأْخُذُ الشَّاةَ السَّمِينَةَ مِنْ غنم اليتيم، ويجعل مَكَانَهَا الشَّاةَ الْمَهْزُولَةَ وَيَقُولُ: شَاةٌ بِشَاةٍ، وَيَأْخُذُ الدِّرْهَمَ الْجَيِّدَ وَيَطْرَحُ مَكَانَهُ الزَّيِّفَ وَيَقُولُ دِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ.
وَقَوْلُهُ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جبَيْرٍ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَالسُّدِّيُّ وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ: أَيْ لَا تَخْلِطُوهَا فَتَأْكُلُوهَا جَمِيعًا.
وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ إِثْمًا كَبِيرًا عظيما. وروى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن قَوْلِهِ حُوباً كَبِيراً قَالَ: «إِثْمًا كَبِيرًا» وَلَكِنْ في إسناده محمد بن يوسف الكديمي وهو ضعيف وروي هكذا عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وابن سيرين وقتادة ومقاتل بن حيان والضحاك وَأَبِي مَالِكٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَأَبِي سِنَانٍ مَثَلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ «اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا».
وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى وَاصِلٍ مولى أبي عيينة عن ابن سِيرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا أَيُّوبَ إِنَّ طَلَاقَ أُمِّ أَيُّوبَ كَانَ حُوبًا» قَالَ ابْنُ سِيرِينَ:
(٢) مسند أحمد ٤/ ٣٥٨.

الْحُوبُ الْإِثْمُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عبد الباقي حدثنا بشر بن موسى، حَدَّثَنَا هَوْذَةُ بْنُ خَلِيفَةَ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ أَرَادَ طلاق أم أيوب، فاستأذن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ طلاق أم أيوب لحوب» فأمسكها، ثم روى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ حُمَيدٍ الطَّوِيلِ، سَمِعْتُ أنس بن مالك أيضا يَقُولُ: أَرَادَ أَبُو طَلْحَةَ أَنْ يُطَلِّقَ أُمَّ سليم امرأته فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ طَلَاقَ أُمِّ سُلَيْمٍ لَحُوبٌ» فَكَفَّ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ أَكْلَكُمْ أَمْوَالَهُمْ مَعَ أَمْوَالِكُمْ إِثْمٌ عَظِيمٌ وَخَطَأٌ كَبِيرٌ فَاجْتَنِبُوهُ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى، أَيْ إِذَا كَانَ تَحْتَ حِجْرِ أحدكم يتيمة وخاف أن لا يُعْطِيَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا فَلْيَعْدِلْ إِلَى مَا سِوَاهَا مِنَ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُنَّ كَثِيرٌ وَلَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: أن رَجُلًا كَانَتْ لَهُ يَتِيمَةٌ فَنَكَحَهَا وَكَانَ لَهَا عَذْقٌ، وَكَانَ يُمْسِكُهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ فَنَزَلَتْ فِيهِ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أَحْسَبُهُ قَالَ: كَانَتْ شَرِيكَتَهُ فِي ذَلِكَ الْعَذْقِ وَفِي مَالِهِ. ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ «١» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى، قَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا تَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن. وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ. قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَإِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هذه الآية فأنزل الله وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ [النِّسَاءِ: ١٢٧]، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللَّهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النِّسَاءِ: ١٢٧] رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عن يتيمته إذا كانت قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجِمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهِ وَجِمَالِهِ مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ إِذَا كُنَّ قَلِيلَاتِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ.
وَقَوْلُهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أَيِ انْكِحُوا مَا شِئْتُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ إِنْ شَاءَ أَحَدُكُمْ ثِنْتَيْنِ وَإِنْ شَاءَ ثلاثا، وإن شاء أربعا. كما قال الله تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [فَاطِرٍ: ١] أَيْ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ جَنَاحَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ ثَلَاثَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعَةٌ، وَلَا يَنْفِي مَا عَدَا ذَلِكَ فِي الْمَلَائِكَةِ لِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ قَصْرِ الرِّجَالِ عَلَى أَرْبَعٍ، فَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ امْتِنَانٍ وَإِبَاحَةٍ، فَلَوْ كَانَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ أكثر من أربع لذكره.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبِيِّنَةُ عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الشِّيعَةِ، أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى تِسْعٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِلَا حَصْرٍ. وَقَدْ يتمسك بعضهم بفعل رسول الله ﷺ في جَمْعِهِ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى تِسْعٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأَمَّا إِحْدَى عَشْرَةَ كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْبُخَارِيِّ: وَقَدْ عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ بِخَمْسَ عَشْرَةَ امْرَأَةً، وَدَخَلَ مِنْهُنَّ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ. وهذا عند العلماء من خصائصه دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الأحاديث الدالة على الحصر في أربع، ولنذكر الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مَعمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ فِي حَدِيثِهِ: أَنْبَأَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنِ أَبِيهِ أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عشر نِسْوَةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا» فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ طَلَّقَ نِسَاءَهُ، وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَقَالَ: إِنِّي لَأَظُنُّ الشَّيْطَانَ فِيمَا يَسْتَرِقُ مِنَ السَّمْعِ سَمِعَ بِمَوْتِكَ فَقَذَفَهُ فِي نَفْسِكَ، وَلَعَلَّكَ لَا تَمْكُثُ إِلَّا قَلِيلًا. وَايْمُ اللَّهِ لَتُرَاجِعَنَّ نِسَاءَكَ وَلَتَرْجِعَنَّ فِي مَالِكَ أَوْ لَأُورِثُهُنَّ مِنْكَ وَلَآمُرَنَّ بِقَبْرِكَ فَيُرْجَمُ كَمَا رُجِمَ قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، من طرق عَنْ اسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ وَغُنْدَرٍ وَيَزِيدَ بْنِ زُرَيعٍ وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيِّ، وَالْفَضْلِ بْنِ مُوسَى وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحُفَّاظِ، عَنْ مَعْمَرٍ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ إِلَى قَوْلِهِ: «اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا» وَبَاقِي الْحَدِيثِ فِي قِصَّةِ عُمَرَ مِنْ أَفْرَادِ أَحْمَدَ، وَهِيَ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ وَهِيَ مُضَعِّفَةٌ لِمَا عَلَّلَ بِهِ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ روايته له سمعت البخاري يقول: هذا الحديث غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى شُعَيْبٌ وَغَيْرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ. حُدِّثْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيِّ أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ- فَذَكَرَهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَإِنَّمَا حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ، عَنِ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ طَلَّقَ نِسَاءَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَتُرَاجِعَنَّ نِسَاءَكَ أَوْ لَأَرْجُمَنَّ قَبْرَكَ كَمَا رُجِمَ قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ فِيهِ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ- وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا. وَهَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا. قَالَ أبو زرعة: وهو أصح. وقال الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَاهُ عُقَيْلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: بَلَغَنَا عَنْ عثمان بن محمد بن أبي سويد. وقال أَبُو حَاتِمٍ: وَهَذَا وَهْمٌ إِنَّمَا هُوَ الزُّهْرِيُّ، عن محمد بن سُوَيْدٍ. بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَاهُ يُونُسُ وابن عيينة عن الزهري عن

مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُوَيْدٍ وَهَذَا كَمَا عَلَّلَهُ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا الْإِسْنَادُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ مُسْنَدِ الإمام أحمد، رجاله ثقات على شرط الشيخين ثُمَّ قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ مَعْمَرٍ بل والزهري. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ:
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بُرَيْدٍ عَمْرُو بْنُ يزيد الجرمي، أخبرنا سيف بن عبيد الله حَدَّثَنَا سَرَّارُ بْنُ مُجَشِّرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ وَسَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ كَانَ عِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا. هَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ، قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ: تَفَرَّدَ بِهِ سَرَّارُ بْنُ مُجَشِّرٍ وَهُوَ ثِقَةٌ. وَكَذَا وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ قَالَ أَبُو علي: وكذا رَوَاهُ السَّمَيْدعُ بْنُ وَاهِبٍ عَنْ سَرَّارٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِّينَا مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ أَوِ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ، وَعُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ يَعْنِي حَدِيثَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لَسَوَّغَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَائِرَهُنَّ فِي بَقَاءِ الْعَشَرَةِ وَقَدْ أَسْلَمْنَ مَعَهُ فَلَمَّا أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِ أَرْبَعٍ وَفِرَاقِ سَائِرِهِنَّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ من أربع بحال، فإذا كَانَ هَذَا فِي الدَّوَامِ، فَفِي الِاسْتِئْنَافِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
حَدِيثٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ «١» وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِمَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ حُمَيْضَةَ بْنِ الشَّمَرْدَلِ وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ بِنْتِ الشمردل، حكى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الشَّمَرْذَلِ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُمَيْرَةَ الْأَسَدِيِّ قَالَ: أَسْلَمْتُ وَعِنْدِي ثَمَانِ نِسْوَةٍ فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا»، وَهَذَا الْإِسْنَادُ حَسَنٌ: وَمُجَرَّدُ هَذَا الِاخْتِلَافِ لَا يَضُرُّ مِثْلُهُ لِمَا لِلْحَدِيثِ مِنَ الشَّوَاهِدِ.
حَدِيثٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ: قال الشافعي فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ ابْنَ أَبِي الزِّنَادِ يَقُولُ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الدِّيْلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَسْلَمْتُ وَعِنْدِي خَمْسُ نِسْوَةٍ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «اخْتَرْ أَرْبَعًا أَيَّتَهُنَّ شِئْتَ وَفَارِقِ الْأُخْرَى» فَعَمَدْتُ إِلَى أَقْدَمِهِنَّ صُحْبَةً عَجُوزٍ عَاقِرٍ مَعِي مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً فَطَلَّقْتُهَا.
فَهَذِهِ كُلُّهَا شَوَاهِدُ بِصِحَّةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ غَيْلَانَ كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، أَيْ فإن خشيتم من تعداد النساء أن لا تَعْدِلُوا بَيْنَهُنَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى، وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [النِّسَاءِ: ١٢٩] فمن خاف من ذلك فليقتصر عَلَى وَاحِدَةٍ أَوْ عَلَى الْجَوَارِي السَّرَارِي فَإِنَّهُ

لَا يَجِبُ قَسْمٌ بَيْنَهُنَّ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ فَمَنْ فَعَلَ فَحَسَنٌ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ، وَقَوْلُهُ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا قال بعضهم ذلك أدنى ألا تكثر عيالكم، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ والشافعي رحمهم الله، وهو مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً [التوبة: ٢٨] أَيْ فَقْرًا فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ [التوبة: ٢٨] وقال الشاعر: [الوافر]
فَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ | ومَا يَدرِي الْغَنِيُّ مَتَى يُعِيلُ |
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَخِيسُ شُعَيْرَةً | لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ «١» |
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وأبو حاتم ابن مردويه وابن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ دُحَيْمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا قَالَ: «لَا تَجُورُوا» قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قَالَ أَبِي، هَذَا حَدِيثٌ خَطَأٌ، وَالصَّحِيحُ: عَنْ عَائِشَةَ مَوْقُوفٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي مَالِكٍ وَأَبِي رَزِينٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَالضَّحَّاكِ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَقَتَادَةَ والسُّدِّيِّ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا تَمِيلُوا، وَقَدِ اسْتَشْهَدَ عِكْرِمَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِبَيْتِ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَلَكِنَّ مَا أَنْشَدَهُ كَمَا هُوَ الْمَرْوِيُّ فِي السِّيرَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ثُمَّ أنشده جيدا واختار ذلك.
وقوله تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
النِّحْلَةُ الْمَهْرُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: نِحْلَةً فَرِيضَةً، وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: نِحْلَةً أَيْ فَرِيضَةً. زَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مُسَمَّاهُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: النِّحْلَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْوَاجِبُ، يَقُولُ: لَا تَنْكِحْهَا إِلَّا بِشَيْءٍ وَاجِبٍ لَهَا، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْكِحَ امْرَأَةً إِلَّا بِصَدَاقٍ وَاجِبٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَسْمِيَةُ الصَّدَاقِ كَذِبًا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَضْمُونُ كَلَامِهِمْ: أَنَّ الرَّجُلَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الصَّدَاقِ إِلَى الْمَرْأَةِ حَتْمًا، وَأَنْ يَكُونَ طَيِّبَ النفس
(٢) تفسير الطبري ٣/ ٥٨٢.