بَعْضُهَا فِي الْبَعْضِ كَالْكَلَامِ فَإِنَّهُ اسْمٌ، ثُمَّ يُقَالُ: قَدْ كَلَّمْتُهُ كَلَامًا فَيَصِيرُ مَصْدَرًا. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ الْحَسَنُ حَوْبًا، وَقُرِئَ: حَابًا.
[سورة النساء (٤) : آية ٣]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣)
[في قوله تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ حُكْمُ الْأَنْكِحَةِ وَفِي/ الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْإِقْسَاطُ الْعَدْلُ، يُقَالُ أَقْسَطَ الرَّجُلُ إِذَا عَدَلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الْحُجُرَاتِ: ٩] وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ وَالنَّصَفَةُ، قَالَ تَعَالَى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النِّسَاءِ: ١٣٥] قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَصْلُ قَسَطَ وَأَقْسَطَ جَمِيعًا مِنَ الْقِسْطِ وَهُوَ النَّصِيبُ، فَإِذَا قَالُوا: قَسَطَ بِمَعْنَى جَارَ أَرَادُوا أَنَّهُ ظَلَمَ صَاحِبَهُ فِي قِسْطِهِ الَّذِي يُصِيبُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: قَاسَطْتُهُ إِذَا غَلَبْتَهُ عَلَى قِسْطِهِ، فَبُنِيَ قَسَطَ عَلَى بِنَاءِ ظَلَمَ وَجَارَ وَغَلَبَ، وَإِذَا قَالُوا أَقْسَطَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ صَارَ ذَا قِسْطٍ عَدْلٍ، فَبُنِيَ عَلَى بِنَاءِ أَنْصَفَ إِذَا أَتَى بِالنِّصْفِ وَالْعَدْلِ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَقَسْمِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا شَرْطٌ وَقَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ جَزَاءٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ كَيْفَ يَتَعَلَّقُ هَذَا الْجَزَاءُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ:
رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا، إِلَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْكِحَهَا بِأَدْنَى مِنْ صَدَاقِهَا، ثُمَّ إِذَا تَزَوَّجَ بِهَا عَامَلَهَا مُعَامَلَةً رَدِيئَةً لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا مَنْ يَذُبُّ عَنْهَا وَيَدْفَعُ شَرَّ ذَلِكَ الزَّوْجِ عَنْهَا، فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ تَظْلِمُوا الْيَتَامَى عِنْدَ نِكَاحِهِنَّ فَانْكِحُوا مِنْ غَيْرِهِنَّ مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ قالت: وقوله تَعَالَى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ قَالَتْ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ [النِّسَاءِ: ١٢٧] الْمُرَادُ مِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْيَتَامَى وَمَا فِي أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ مِنَ الْحُوبِ الْكَبِيرِ، خَافَ الْأَوْلِيَاءُ أَنْ يَلْحَقَهُمُ الْحُوبُ بِتَرْكِ الْإِقْسَاطِ فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى، فَتَحَرَّجُوا مِنْ وَلَايَتِهِمْ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ رُبَّمَا كَانَ تَحْتَهُ الْعَشْرُ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَأَكْثَرُ، فَلَا يَقُومُ بِحُقُوقِهِنَّ وَلَا يَعْدِلُ بَيْنَهُنَّ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ خِفْتُمْ تَرْكَ الْعَدْلِ فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى فَتَحَرَّجْتُمْ مِنْهَا، فَكُونُوا خَائِفِينَ من ترك العدل من النساء، فقالوا عَدَدَ الْمَنْكُوحَاتِ، لِأَنَّ مَنْ تَحَرَّجَ مِنْ ذَنْبٍ أَوْ تَابَ عَنْهُ وَهُوَ مُرْتَكِبٌ لِمِثْلِهِ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَحَرِّجٍ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّأْوِيلِ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ وَلَايَةِ الْيَتَامَى فَقِيلَ: إِنْ خِفْتُمْ فِي حَقِّ الْيَتَامَى فَكُونُوا خَائِفِينَ مِنَ الزِّنَا، فَانْكِحُوا مَا حَلَّ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَلَا تَحُومُوا حَوْلَ الْمُحَرَّمَاتِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ: مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ عِنْدَهُ النِّسْوَةُ وَيَكُونُ/ عِنْدَهُ الْأَيْتَامُ، فَإِذَا أَنْفَقَ مَالَ نَفْسِهِ عَلَى النِّسْوَةِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ وَصَارَ مُحْتَاجًا، أَخَذَ فِي إِنْفَاقِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى عَلَيْهِنَّ فَقَالَ تَعَالَى:
وَإِنْ خفتم ألّا تقسطوا في أموال الْيَتَامَى عِنْدَ كَثْرَةِ الزَّوْجَاتِ فَقَدْ حَظَرْتُ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَنْكِحُوا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ
كَيْ يَزُولَ هَذَا الْخَوْفُ، فَإِنْ خِفْتُمْ فِي الْأَرْبَعِ أَيْضًا فَوَاحِدَةً، فَذَكَرَ الطَّرَفَ الزَّائِدَ وَهُوَ الْأَرْبَعُ، وَالنَّاقِصَ وَهُوَ الْوَاحِدَةُ، وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى مَا بَيْنَهُمَا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ مِنَ الْأَرْبَعِ فَثَلَاثٌ، فَإِنْ خِفْتُمْ فَاثْنَتَانِ، فَإِنْ خِفْتُمْ فَوَاحِدَةٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى خَوَّفَ مِنَ الْإِكْثَارِ مِنَ النِّكَاحِ بِمَا عَسَاهُ يَقَعُ مِنَ الْوَلِيِّ مِنَ التَّعَدِّي فِي مَالِ الْيَتِيمِ لِلْحَاجَةِ إِلَى الْإِنْفَاقِ الْكَثِيرِ عِنْدَ التَّزَوُّجِ بالعدد الكثير.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا.
فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَصْحَابُ الظَّاهِرِ: النِّكَاحُ وَاجِبٌ وَتَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَانْكِحُوا أَمْرٌ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَتَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٥] إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ فَحَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّ تَرْكَ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ وَاجِبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ: مَا طابَ وَلَمْ يَقُلْ: مَنْ طَابَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ تَقُولُ: مَا عِنْدَكَ؟ فَيَقُولُ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ، وَالْمَعْنَى مَا ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي عِنْدَكَ، وَمَا تِلْكَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي عِنْدَكَ، وَثَانِيهَا: أَنَّ (مَا) مَعَ مَا بَعْدَهُ فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، وَتَقْدِيرُهُ: فَانْكِحُوا الطَّيِّبَ مِنَ النِّسَاءِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ «مَا» وَ «مَنْ» رُبَّمَا يَتَعَاقَبَانِ. قَالَ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشَّمْسِ: ٥] وَقَالَ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: ٢] وَحَكَى أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: سُبْحَانَ مَا سَبَّحَ لَهُ الرَّعْدُ، وَقَالَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [النُّورِ: ٤٥] وَرَابِعُهَا: إِنَّمَا ذَكَرَ «مَا» تَنْزِيلًا لِلْإِنَاثِ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ. وَمِنْهُ: قَوْلُهُ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج: ٣٠].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ مَا طابَ لَكُمْ أَيْ مَا حَلَّ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ لِأَنَّ مِنْهُنَّ مَنْ يَحْرُمُ نِكَاحُهَا، وَهِيَ الْأَنْوَاعُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٣] وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: فَانْكِحُوا أَمْرُ إِبَاحَةٍ. فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا طابَ لَكُمْ أَيْ مَا حَلَّ لَكُمْ لَنَزَلَتِ الْآيَةُ مَنْزِلَةَ مَا يُقَالُ: أَبَحْنَا لَكُمْ نِكَاحَ مَنْ يَكُونُ نِكَاحُهَا مُبَاحًا لَكُمْ: وَذَلِكَ يُخْرِجُ الْآيَةَ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ تَصِيرُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحِلِّ وَالْإِبَاحَةِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَذْكُورَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً لَا مَحَالَةَ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الطَّيِّبَ عَلَى اسْتِطَابَةِ النَّفْسِ وَمَيْلِ الْقَلْبِ، كَانَتِ الْآيَةُ عَامًّا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْإِجْمَالِ وَالتَّخْصِيصِ كَانَ رَفْعُ الْإِجْمَالِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وَالْمُجْمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً أَصْلًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ مَعْنَاهُ: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهَا أَمْرَانِ: الْعَدْلُ وَالْوَصْفُ، أَمَّا الْعَدْلُ فَلِأَنَّ الْعَدْلَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّكَ تَذْكُرُ كَلِمَةً وَتُرِيدُ بِهَا كَلِمَةً أُخْرَى، كَمَا تَقُولُ: عُمَرُ وزفر وتريد به عامراً وزافرا، فكذا هاهنا تُرِيدُ بِقَوْلِكَ: مَثْنَى: ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ فَكَانَ مَعْدُولًا، وَأَمَّا أَنَّهُ وَصْفٌ، فَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [فَاطِرٍ: ١] وَلَا شَكَّ أنه وصف.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ غَيْرُ مُنْصَرِفَةٍ أَنَّ فِيهَا عَدْلَيْنِ لِأَنَّهَا مَعْدُولَةٌ عَنْ أُصُولِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَأَيْضًا أَنَّهَا مَعْدُولَةٌ عَنْ تَكَرُّرِهَا فَإِنَّكَ لَا تُرِيدُ بِقَوْلِكَ: مَثْنَى ثِنْتَيْنِ فَقَطْ، بَلْ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، فَإِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ كَانَ غَرَضُكَ الْإِخْبَارَ عَنْ مَجِيءِ هَذَا الْعَدَدِ فَقَطْ، أَمَّا إِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي الْقَوْمُ مَثْنَى أَفَادَ أَنَّ تَرْتِيبَ مَجِيئِهِمْ وَقَعَ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ نَوْعَانِ مِنَ الْعَدَدِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الصَّرْفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الِاسْمِ سَبَبَانِ أَوْجَبَ ذَلِكَ مَنْعُ الصَّرْفِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ لِأَجْلِ ذَلِكَ نَائِبًا مِنْ جِهَتَيْنِ فَيَصِيرُ مُشَابِهًا لِلْفِعْلِ فَيَمْتَنِعُ صَرْفُهُ، وَكَذَا إِذَا حَصَلَ فِيهِ الْعَدْلُ مِنْ جِهَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ صَرْفُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَبِيدَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِطَابَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ إِنْسَانًا مَتَى طَابَتْ لَهُ امْرَأَةٌ قَدَرَ عَلَى نِكَاحِهَا، وَالْعَبْدُ لَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ النِّكَاحِ إِلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النَّحْلِ: ٧٥] فَقَوْلُهُ: لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ يَنْفِي كَوْنَهُ مُسْتَقِلًّا بِالنِّكَاحِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ»
فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ/ هَذِهِ الْآيَةَ لَا يَنْدَرِجُ فِيهَا الْعَبْدُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ مَشْرُوعٌ لِلْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَحِلُّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأَرْبَعِ وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْجَوَابُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ احْتَجَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَحْرَارِ بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْأَحْرَارِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاءِ: ٤] وَالْعَبْدُ لَا يَأْكُلُ مَا طَابَتْ عَنْهُ نَفْسُ امْرَأَتِهِ مِنَ الْمَهْرِ، بَلْ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا وَرَدَ عُمُومَانِ مُسْتَقِلَّانِ، فَدُخُولُ التَّقْيِيدِ فِي الْأَخِيرِ لَا يُوجِبُ دُخُولَهُ فِي السَّابِقِ.
أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْخِطَابَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَرَدَتْ مُتَوَالِيَةً عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ فَلَمَّا عُرِفَ فِي بَعْضِهَا اخْتِصَاصُهَا بِالْأَحْرَارِ عُرِفَ أَنَّ الْكُلَّ كَذَلِكَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ عَلِمَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَنَاوِلٌ لِلْعَبِيدِ إِلَّا أَنَّهُمْ خَصَّصُوا هَذَا الْعُمُومَ بِالْقِيَاسِ، قَالُوا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ لِلرِّقِّ تَأْثِيرًا فِي نُقْصَانِ حُقُوقِ النِّكَاحِ، كَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَدَدُ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لِلْعَبْدِ نِصْفُ مَا لِلْحُرِّ، وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَقْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ذَهَبَ قوم سدى إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِأَيِّ عَدَدٍ أُرِيدَ، وَاحْتَجُّوا بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ إِطْلَاقٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْدَادِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا عَدَدَ إِلَّا وَيَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ دَاخِلًا. وَالثَّانِي:
أَنَّ قَوْلَهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لَا يَصْلُحُ تَخْصِيصًا لِذَلِكَ الْعُمُومِ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْأَعْدَادِ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْبَاقِي، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَعْدَادِ يَدُلُّ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْحَجْرِ مُطْلَقًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ لِوَلَدِهِ: افْعَلْ مَا شِئْتَ اذْهَبْ إِلَى السُّوقِ وَإِلَى الْمَدِينَةِ وَإِلَى الْبُسْتَانِ، كَانَ تَنْصِيصًا فِي تَفْوِيضِ زِمَامِ الْخِيَرَةِ إِلَيْهِ مُطْلَقًا، وَرَفْعِ الْحَجْرِ وَالْحَرَجِ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِلْإِذْنِ بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، بَلْ كَانَ إذنا في المذكور وغيره فكذا هاهنا، وَأَيْضًا فَذِكْرُ جَمِيعِ الْأَعْدَادِ مُتَعَذَّرٌ، فَإِذَا ذَكَرَ بَعْضَ الْأَعْدَادِ بَعْدَ قَوْلِهِ:
فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى حُصُولِ الْإِذْنِ فِي جَمِيعِ الْأَعْدَادِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَقَوْلُهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يُفِيدُ حِلَّ هَذَا الْمَجْمُوعِ، وَهُوَ يُفِيدُ تِسْعَةً، بَلِ الْحَقُّ أَنَّهُ يُفِيدُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَثْنَى لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ اثْنَيْنِ فَقَطْ، بَلْ عَنِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْبَقِيَّةِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ عَنْ/ تِسْعٍ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ فَقَالَ: فَاتَّبِعُوهُ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ. الثَّانِي: أَنَّ سُنَّةَ الرحل طَرِيقَتُهُ، وَكَانَ التَّزَوُّجُ بِالْأَكْثَرِ مِنَ الْأَرْبَعِ طَرِيقَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَانَ ذَلِكَ سَنَةً لَهُ، ثُمَّ
إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»
فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي تَوَجُّهَ اللَّوْمِ عَلَى مَنْ تَرَكَ التَّزَوُّجَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ أَصْلَ الْجَوَازِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُعْتَمَدَ الْفُقَهَاءِ فِي إِثْبَاتِ الْحَصْرِ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْخَبَرُ، وَهُوَ مَا
رُوِيَ أَنَّ غَيْلَانَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ بَاقِيَهُنَّ،
وَرُوِيَ أَنَّ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ وَاحِدَةً».
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْحَصْرِ بِهَذَا الْخَبَرِ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ وَاقِعَةُ حَالٍ، فَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِ أَرْبَعٍ وَمُفَارَقَةِ الْبَوَاقِي لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ وَبَيْنَ الْبَوَاقِي غَيْرُ جَائِزٍ، إِمَّا بِسَبَبِ النَّسَبِ، أَوْ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ، وبالجملة فلهذا الِاحْتِمَالُ قَائِمٌ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَلَا يُمْكِنُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمِثْلِهِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ إِجْمَاعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ، فَكَيْفَ يُقَالُ: الْإِجْمَاعُ نَسَخَ هَذِهِ الْآيَةَ. الثَّانِي: أَنَّ فِي الْأُمَّةِ أَقْوَامًا شُذَّاذًا لَا يَقُولُونَ بِحُرْمَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَالْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَةِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لَا يَنْعَقِدُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: الْإِجْمَاعُ يَكْشِفُ عَنْ حُصُولِ النَّاسِخِ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنِ الثَّانِي، أَنَّ مُخَالِفَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ فَلَا عِبْرَةَ بِمُخَالَفَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتُمْ فَكَانَ الْأَوْلَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ، فَلِمَ جَاءَ بِوَاوِ الْعَطْفِ دُونَ «أَوْ» ؟
قُلْنَا: لَوْ جَاءَ بِكَلِمَةِ «أَوْ» لَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَأْتِي بِالتَّثْنِيَةِ، وَالْبَعْضَ الْآخَرَ بِالتَّثْلِيثِ وَالْفَرِيقَ الثَّالِثَ بِالتَّرْبِيعِ، فَلَمَّا ذَكَرَهُ بِحَرْفِ الْوَاوِ أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ أَنْ يَخْتَارُوا قِسْمًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلَ لِلْجَمَاعَةِ: اقْتَسَمُوا هَذَا الْمَالَ وَهُوَ أَلْفٌ، دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَأْخُذَ دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَلِبَعْضٍ/ آخَرِينَ أَنْ يَأْخُذُوا ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَلِطَائِفَةٍ ثَالِثَةٍ أَنْ يَأْخُذُوا أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، فَكَذَا هاهنا الْفَائِدَةُ فِي تَرْكِ «أَوْ» وَذِكْرِ الْوَاوِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ مَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِمَّا طَابَ، تَقْدِيرُهُ: فَانْكِحُوا الطَّيِّبَاتِ لَكُمْ مَعْدُودَاتٍ هَذَا الْعَدَدَ، ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا بَيْنَ هَذِهِ الْأَعْدَادِ كَمَا خِفْتُمْ تَرْكَ الْعَدْلِ فِيمَا فَوْقَهَا، فَاكْتَفُوا بِزَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِالْمَمْلُوكَةِ، سَوَّى فِي السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ بَيْنَ الْحُرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَبَيْنَ الْإِمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، وَلَعَمْرِي إنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر، لا عليك أكثرت منهن أَمْ أَقْلَلْتَ، عَدَلْتَ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ أَمْ لَمْ تَعْدِلْ، عَزَلْتَ عَنْهُنَّ أَمْ لَمْ تَعْزِلْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ فَواحِدَةً بِنَصْبِ التَّاءِ وَالْمَعْنَى: فَالْتَزِمُوا أَوْ فَاخْتَارُوا وَاحِدَةً وَذَرُوا الْجَمْعَ رَأْسًا، فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ يَدُورُ مَعَ الْعَدْلِ، فَأَيْنَمَا وَجَدْتُمُ الْعَدْلَ فَعَلَيْكُمْ بِهِ، وَقُرِئَ فَواحِدَةً بِالرَّفْعِ وَالتَّقْدِيرُ: فَكَفَتْ وَاحِدَةٌ، أَوْ فَحَسْبُكُمْ وَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ الِاشْتِغَالَ بِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ أَفْضَلُ مِنَ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ التَّزَوُّجِ بِالْوَاحِدَةِ وَبَيْنَ التَّسَرِّي، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مُشْعِرٌ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ، كَمَا إِذَا قَالَ الطَّبِيبُ: كُلِ التُّفَّاحَ أَوِ الرُّمَّانَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمًا مُقَامَ الْآخَرِ فِي تَمَامِ الْغَرَضِ، وَكَمَا أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى هَذِهِ التَّسْوِيَةِ، فَكَذَلِكَ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ السَّكَنُ وَالِازْدِوَاجُ وَتَحْصِينُ الدِّينِ وَمَصَالِحُ الْبَيْتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِالطَّرِيقَيْنِ، وَأَيْضًا إِنْ فَرَضْنَا الْكَلَامَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةً ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَ بِهَا، فَهَهُنَا يَظْهَرُ جِدًّا حُصُولُ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ التَّزَوُّجِ وَبَيْنَ التَّسَرِّي، وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ التَّزَوُّجَ وَالتَّسَرِّيَ مُتَسَاوِيَانِ. فَنَقُولُ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالنَّوَافِلِ أَفْضَلُ مِنَ التَّسَرِّي فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ النِّكَاحِ لِأَنَّ الزائد على أحد المتساويين يكون زائد عَلَى الْمُسَاوِي الثَّانِي لَا مَحَالَةَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ.
المسألة الأولى: المراد من الأدنى هاهنا الْأَقْرَبُ، وَالتَّقْدِيرُ: ذَلِكَ أَقْرَبُ مِنْ أَنْ لَا تَعُولُوا وَحَسُنَ حَذْفُ «مِنْ» لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ أَلَّا تَعُولُوا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ: لَا تَجُورُوا وَلَا تَمِيلُوا، / وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا،
رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا قَالَ: (لَا تَجُورُوا) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «أَنْ لَا تَمِيلُوا»
قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كِلَا اللَّفْظَيْنِ مَرْوِيٌّ، وَأَصْلُ الْعَوْلِ الْمَيْلُ يُقَالُ: عَالَ الْمِيزَانُ عَوْلًا، إِذَا مَالَ، وَعَالَ الْحَاكِمُ فِي حُكْمِهِ إِذَا جَارَ، لِأَنَّهُ إِذَا جَارَ فَقَدْ مَالَ. وَأَنْشَدُوا لِأَبِي طَالِبٍ.
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَغُلُّ شَعِيرَةً | وَوَزَّانِ صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ |
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ أَنْ لَا تَفْتَقِرُوا، يُقَالُ: رَجُلٌ عَائِلٌ أَيْ فَقِيرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا قَلَّ عِيَالُهُ قَلَّتْ نَفَقَاتُهُ، وَإِذَا قَلَّتْ نَفَقَاتُهُ لَمْ يَفْتَقِرْ. صفحة رقم 489
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا مَعْنَاهُ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا تَكْثُرَ عِيَالُكُمْ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: وَقَدْ خَطَّأَهُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَكُلِّ مَنْ رَوَى تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنْ لَا تَمِيلُوا وَلَا تَجُورُوا، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ خَطَأٌ فِي اللُّغَةِ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا تُعِيلُوا لَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَقِيمًا، فَأَمَّا تَفْسِيرُ تَعُولُوا بِتُعِيلُوا فَإِنَّهُ خَطَأٌ فِي اللُّغَةِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الزَّوْجَةَ الْوَاحِدَةَ أَوْ مِلْكَ الْيَمِينِ وَالْإِمَاءَ فِي الْعِيَالِ. بِمَنْزِلَةِ النِّسَاءِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ مِنَ الْعَدَدِ مَنْ شَاءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ كَثْرَةَ الْعِيَالِ. وَزَادَ صَاحِبُ النَّظْمِ فِي الطَّعْنِ وَجْهًا رَابِعًا، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً وَلَمْ يَقُلْ أَنْ تَفْتَقِرُوا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَعْطُوفًا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، وَلَا يَكُونُ جَوَابُهُ إِلَّا بِضِدِّ الْعَدْلِ، وَذَلِكَ هُوَ الْجَوْرُ لَا كَثْرَةُ الْعِيَالِ. وَأَنَا أَقُولُ:
أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ طَعَنَ فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنْ لَا تَجُورُوا وَلَا تَمِيلُوا، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ إِذَا ذَكَرُوا وَجْهًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنِ اسْتِخْرَاجِ وَجْهٍ آخَرَ فِي تَفْسِيرِهَا، وَلَوْلَا جَوَازُ ذَلِكَ وَإِلَّا لَصَارَتِ الدَّقَائِقُ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ مَرْدُودَةً بَاطِلَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقُولُهُ إِلَّا مُقَلِّدُ خَلَفٍ، وَأَيْضًا: فَمَنِ الَّذِي/ أَخْبَرَ الرَّازِيَّ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَذْكُرْهُ وَاحِدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ، وَمِنَ الْمَشْهُورِ أَنَّ طَاوُسًا كَانَ يَقْرَأُ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا تُعِيلُوا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا قَدْ جَعَلُوا هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةً، فَبِأَنْ يَجْعَلُوهُ تَفْسِيرًا كَانَ أَوْلَى، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ شِدَّةُ جَهْلِ الرَّازِيِّ فِي هَذَا الطَّعْنِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَنَقُولُ: إِنَّكَ نَقَلْتَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي اللُّغَةِ عَنِ الْمُبَرِّدِ، لَكِنَّكَ بِجَهْلِكَ وَحِرْصِكَ عَلَى الطَّعْنِ فِي رُؤَسَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْأَعْلَامِ، وَشِدَّةِ بَلَادَتِكَ، مَا عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الطَّعْنَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُبَرِّدُ فَاسِدٌ، وَبَيَانُ فَسَادِهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُقَالُ: عَالَتِ الْمَسْأَلَةُ إِذَا زَادَتْ سِهَامُهَا وكثرة، وَهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنَ الْمَيْلِ لِأَنَّهُ إِذَا مَالَ فَقَدْ كَثُرَتْ جِهَاتُ الرَّغْبَةِ وَمُوجِبَاتُ الْإِرَادَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا تُكْثِرُوا، وَإِذَا لَمْ تُكْثِرُوا لَمْ يَقَعِ الْإِنْسَانُ فِي الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ لِأَنَّ مَطِيَّةَ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ هِيَ الْكَثْرَةُ وَالْمُخَالَطَةُ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَرْجِعُ هَذَا التَّفْسِيرُ إِلَى قَرِيبٍ مِنَ التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ الَّذِي اخْتَارَهُ الْجُمْهُورُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ؟ حَسُنَ أَنْ يُقَالَ:
مَعْنَاهُ أَنَّهُ طَوِيلُ الْقَامَةِ كَثِيرُ الضِّيَافَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ تَفْسِيرَ طَوِيلُ النِّجَادِ هُوَ أَنَّهُ طَوِيلُ الْقَامَةِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ هُوَ هَذَا الْمَعْنَى. وَهَذَا الْكَلَامُ تُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ التَّعْبِيرَ عَنِ الشَّيْءِ بِالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى الشَّيْءِ بِذِكْرِ لَوَازِمِهِ، فَهَهُنَا كَثْرَةُ الْعِيَالِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْمَيْلِ وَالْجَوْرِ، وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ كَثْرَةَ الْعِيَالِ كِنَايَةً عَنِ الْمَيْلِ وَالْجَوْرِ، لَمَّا أَنَّ كَثْرَةَ الْعِيَالِ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْمَيْلِ وَالْجَوْرِ، فَجَعَلَ هَذَا تَفْسِيرًا لَهُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُطَابَقَةِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ وَالِاسْتِلْزَامِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَالشَّافِعِيُّ لَمَّا كَانَ مُحِيطًا بِوُجُوهِ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ اسْتَحْسَنَ ذِكْرَ هَذَا الْكَلَامِ، فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لَمَّا كَانَ بَلِيدَ الطَّبْعِ بَعِيدًا عَنْ أَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ، لَا جَرَمَ لَمْ يَعْرِفِ الْوَجْهَ الْحَسَنَ فِيهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ: عَالَ الرَّجُلُ عِيَالَهُ