
وبـ ﴿وَآلَ عِمْرَانَ﴾: موسى وهارون (١). قالوا: وإنما خصَّ هؤلاء بالذكر؛ لأنَّ الأنبياء بأسرهم من نسلهم.
وقوله تعالى: ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾. قال صاحب "النَّظْمِ": ظاهر هذا اللفظ على العموم، وتأويله على الخصوص؛ لأنه يتضمَّنُ أخباراً منفصلاً بعضها من بعض، وأُجْمِلَت في الإخبار عنها؛ لأنه عز وجل إنْ كان عنى بالاصطفاء: أولادَ آدم، فمن سواه من العالمين الذين فُضِّل عليهم قد خرجوا من أن يكون لهم على العالمين فضل؛ لأن آدم من جملة العالمين، وكذلك نوحٌ، وإبراهيم، وآل عمران، إذا دخل أحد هؤلاء في التفضيل خرج الآخرون منه (٢)؛ لأن كلاً من (العالَمين).
فتأويل ذلك: أنَّ الله اصطفى كلاً منهم على عالَم لا يدخله من قد فُضِّل منهم على عالَم آخر، كما جاء في التفسير: على عالَمي زمانهم.
٣٤ - قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ قال أبو إسحاق (٣): المعنى
(٢) في (ب): (منهم).
(٣) في "معاني القرآن" له ١/ ٣٩٩.

اصطفى ذرِّيَةً بعضها من بعض؛ فيكون نصب (ذريةً) على البدل (١)، وجائز (٢) أن ينتصب (٣) على الحال، المعنى: اصطفاهم في حال كون بعضهم مِن بعض (٤).
وقوله: ﴿بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ فيه قولان: أحدهما: بعضها من ولد بعض؛ لأنَّ الجميع (٥) ذُرِّية آدمَ ثم ذُرِّية نوح (٦).
الثاني: (بعضها [من بعض)] (٧)، أي: في التناصر (٨) في الدين (٩)، فيكون المعنى: أنَّ بعضها يوالي (١٠) بعضاً، ولا يَتَبَرَّأُ بعضهم من بعض، كما يتبرأ الكافرون؛ ألا تراه (١١) قال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ
(٢) في (ب): (وجاز)، وفي "معاني القرآن" (وجائزًا).
(٣) في (ج): (ينصب)، وهكذا هي في "معاني القرآن".
(٤) وجوز الهمداني رفعها، على تقدير: تلك ذرية. انظر: "الفريد في إعراب القرآن المجيد" ١/ ٥٦٣.
(٥) في (ب): (الأول).
(٦) أورد هذا القول الماوردي في "النكت والعيون" ١/ ٣٨٦، وعزاه لبعض المتأخرين دون أن يُعيِّنْ، وأورده ابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٣٧٥ وقال: (ذكره بعض أهل التفسير).
(٧) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق.
(٨) في (ب): (التباصر).
(٩) وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة. انظر المصادر السابقة
(١٠) في (ب): (توافي).
(١١) (ألا تراه): ساقط من (ج).

اتَّبَعُوا} [البقرة: ١٦٦].
فقوله: ﴿بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾، أي: هم على غير صفة الكافرين؛ لأنهم إخوان متوالون (١)، وهذا كقوله: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٦٧]؛ أي: بعضهم يُلابس (٢) بعضاً، ويوالي بعضاً وليس المعنى: على النسل والولادة، [لأنه قد يكون من نَسْلِ] (٣) المنافقِ مُؤمنٌ، ومِنْ نَسْلِ المؤمنِ مُنافقٌ. قال عُبَيْد الرَّاعي (٤):
فَقلتُ ما أنا مِمَّن لا يُواصِلُنِي | ولا ثَوائِيَ (٥) إلا رَيْثَ أحْتَمِلُ (٦). |
والعرب تقول: (هو مِنْ بني فلان)؛ إذا كان يواليهم ويُلابسهم، وإن
(٢) أي: يخالط، وقد سبق بيانها.
(٣) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ)، والمثبت من بقية النسخ.
(٤) هو: أبو جندل، عبيد بن حُصين بن معاوية النُّمَيْري، تقدم ٢/ ٣١٨. انظر: "طبقات فحول الشعراء" ٢/ ٥٠٢، "الشعر والشعراء" ص ٢٦٥، "شرح شواهد المغني" ١/ ٣٣٦.
(٥) في (ب): (رأي). (أ)، (ج) ثواي. والمثبت من: الديوان، ومصادر البيت.
(٦) الييت في: "ديوانه" ١٩٧. وقد ورد منسوبًا له في "الحجة" للفارسي ١/ ١٧٣، إلا أنه لم يجزم بنسبته إليه، بل قال: (أظنه الراعي). و"أساس البلاغة" ١/ ٣٨٨، و"المقاصد النحوية" للعيني ٢/ ٣٣٦. وورد في "المقاصد النحوية" (يوافقني) بدلًا من: (يواصلني)، وورد في "أساس البلاغة" (وما) بدلًا من: (ولا). وورد في الديوان، وبقية المصادر: (أرتحل) بدلًا من: (أحتمل).
(٧) ما بين المعقوفين غير مقروء في: (أ)، وفي (ب): (أنا ممن لا)، والمثبت من: (ج)، (د)، لأنها أقرب لما ذكره المؤلف من قبل.

لم يكن من نسلهم. وهذا القول يُحكى معناه عن أبي رَوْق (١).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. قال عطاء عن ابن عباس (٢): هذا مخاطبة لليهود الذين قالوا: نحن أبناءُ الله وأحبَّاؤه، وأبناء (٣) الأنبياء الذين اصطفاهم. فأنزل فيهم قوله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾، الآيات إلى قوله: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، ويريد: ﴿سَمِيعٌ﴾ لقولكم الذي تقولون: إنكم من ولد إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ومن آل عمران. وإنَّما فضَّلت أولئك، ورفعتهم واصطفيتهم؛ بطاعتهم، ولو عصوني، لأنزلتهم منازل العاصين. ﴿عَلِيمٌ﴾ بما في قلوبكم من تكذيب محمد، وعصيانه، بعد إقراركم بالتوراة، وتصديقكم بما فيها من صفته.
وذكر أهل المعاني في هذا قولين آخرين:
أحدهما: أنَّ المعنى: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لما تقوله (الذرية) المصطفاة ﴿عَلِيمٌ﴾ بما تضمره (٤)؛ فلذلك فضلها على غيرها، لما في معلومه من استقامتها في فعلها وقولها (٥).
القول الثاني: أنَّ هذه الآية تتصل بما بعدها، تقديرها: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لما تقوله امرأة عمران، ﴿عَلِيُمٌ﴾ بما تضمره، إذْ قالتْ: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ﴾
(٢) لم أهتد إلى مصدر هذه الرواية عنه من طريق عطاء، والذي عثرت عليه هو ما سبق من رواية أبي صالح عنه في هذا المعنى عند قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾، آية: ٣١، وقد سبق الكلام على هذه الرواية.
(٣) في (ب): (وأما).
(٤) والذُرِّيَّة: تأتي مذكرًا ومؤنثًا ومفردًا وجمعًا، ولذا جاء هنا تذكير الضمائر. انظر تفسير قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا﴾ من آية: ٣٨. من هذه السورة.
(٥) لم أهتد إلى قائل هذا القول ولكن ورد مثل هذا القول في "تفسير ابن أبي حاتم" ٢/ ٦٣٦ عن ابن إسحاق، حيث قال: (أي: سميع لما يقولون،.. عليم بما يخفون).