
تحُسونهم: تستأصلونهم بالقتل. فشلتم: ضعفتم. ليبتليكم: ليختبركم.
في هذه الآية الكريمة والتي بعدها تصوير للمعركة، وعرض كامل لمشهدها، ولتداول النصر والهزيمة فيها، ثم ماتبعها من فرار. ومع ذلك التصوير توجهات قرآنية، وتربية وتعليم بأسلوب قرآني حكيم.
« ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾. ما زال الكلام والخطاب مع الأصحاب الذين كانوا في أُحد.. وكان (A) قد وعدهم النصر يومئذ ان امتثلوا أمره. وقد وفى الله لهم بما قاله على لسان نبيه، ذلك ان الرسول (A) أقام الرماة عند الجبل صيانة لمؤخرة المسلمين، وأوصاهم ان لا يبرحوا مكانهم، حتى ولو رأوا العدو تتخطفه الطير، ووعدهم النصر بهذا الشرط. كان الرماة خمسين رجلاً.
ولما ابتدأت المعركة شرع الرماة يرشقون المشركين، وقية الأصحاب يضربونهم بالسيوف، وقتلوهم قتلاً ذريعاً، حتى انهزوا، وهذا معنى ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾، أي تقتلونهم بأمر الله. وفي تفسير ابن جرير الطبري والمراغي وغيرهما ان طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين المعروف بكبش الكتيبة قام فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون ان الله يعجّلنا بسيوفكم الى النار، ويعجلكم بسيوفنا الى الجنة، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي الى الجنة، أو يعجلني بسيفه الى النار؟. فقام اليه علي بن أبي طالب (ع) وضربه فقطع رِجله. وسقط، فانكشفت عورته، فقال طلحة لعلي: انشدك الله والرحم يا ابن عم.. فتركه على (ع) وكبّر رسول الله (A). وقال لعلي أصحابُه: ما منعك أن تجهز عليه؟. قال: ناشدني الله والرحم.. هذا هو عليٌّ في خلقه، يفيض قلبه بالحنان والرحمة، حتى على أعدى اعدائه الذي برز له شاهراً السيف في وجهه مصمماً على قتاله وقتله.
﴿حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ﴾. بعد أن ولى المشركون الدبر وكانوا ثلاثة آلاف مشرك امتلأ الوادي بما خلفوه من الغنائم. وحين رآها الرماة، وإخوانهم المسلمون ينتهبونها دونهم عصَف بهم ريح الطمع، واختلفوا فيما بينهم، وقال بعضهم: ما بقاؤنا هنا؟ وتجاهلوا وصية النبي وتشديده عليهم بالبقاء. فقال لهم أميرهم عبد الله بن جبير: امكثوا ولا تخالفوا أمر الرسول (A).. ولكن أكثرهم غادروا مواقعهم هابطين الى انتهاب الأسلاب والأموال، وتركوا أميرهم عبد الله في نفر دون لعشرة، والى هذا التنازعه والعصيان يشير قوله تعالى: ﴿حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ﴾. أما قوله: ﴿مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ﴾ فيشير الى انهزام المشركين وغنائمهم.
وكان خالد بن الوليد يحارب النبي (A) مع أبي سفيان، وحين رأى مؤخرة المسلمين مكشوفة بعد أن أخلاها الرماة اغتنم الفرصة، وانقضّ مع جماعة من المشركين على البقية الباقية من الرماة، وقاتل هؤلاء بشجاعة وحرارة، حتى استشهدوا جميعاً، وخلا ظهر المسلمين، ورجع المشركون الى الميدان، وأحاطوا بالمسلمين من الخلف والأمام، وأكثروا فيهم القتل والجراح، ودارت الدائرة عليهم بعد ان كانت لهم..

وهذه النتيجة الحتيمة للتنازع والتخاصم.
﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾. وهم الرماة الذين تركوا مقاعدهم طمعاً بالغنيمة. ﴿وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة﴾. وهم الذين ثبتوا مكانهم مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى نالوا الشهادة. ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾. أي ردكم عن الكفار بعد أن نصركم عليم بسبب تنازعكم وعصيانكم. ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾. أي عاملكم معلامة من يمتحنكم ليظهر ثباتكم على الايمان، وصبركم على الشدائد، ويميز بين المخلصين والمنافقين. ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين﴾. وكثيراً ما يخطىء الإنسان عن طيش، ثم يؤوب الى رشده، فيعفوا الله عما سلف منه، أما من عاد فينتقم الله منه.