آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ ۚ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ

الثانية: في ذكر عدم تنزيل الحجة مع استحالة تحققها في نفسها، إشعار بنفيها ونفي نزولها جميعا. لأن ما لم ينزل به سلطانا، لا سلطان له.
الثالثة: قال أبو السعود: في الآية إيذان بأن المتبع في الباب هو البرهان السماويّ، دون الآراء والأهواء الباطلة.
وقد سبقه إلى ذلك الرازيّ حيث قال: هذه الآية دالة على فساد التقليد. وذلك لأن الآية دالة على أن الشرك لا دليل عليه، فوجب أن يكون القول به باطلا، وهذا إنما صح إذا كان القول بإثبات ما لا دليل على ثبوته، يكون باطلا، فيلزم فساد القول بالتقليد- انتهى- ثم أخبرهم أنه صدقهم وعده في النصر على عدوه، وهو الصادق الوعد، وأنهم لو استمروا على الطاعة ولزموا أمر الرسول لاستمرت نصرتهم، ولكن انخلعوا عن الطاعة، وفارقوا مركزهم ففارقهم النصر، فصرفهم عن عدوهم عقوبة وابتلاء وتعريفا لهم سوء عواقب المعصية وحسن عاقبة الطاعة بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٢]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ في قوله: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ. إِذْ تَحُسُّونَهُمْ أي تقتلونهم قتلا كثيرا. من (حسه) إذا أبطل حسه بِإِذْنِهِ أي بتيسيره وتوفيقه حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ أي ضعفتم وتراخيتم بالميل إلى الغنيمة وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي في الإقامة بالمركز، فقال أصحاب عبد الله «١» :
الغنيمة. أي قوم! الغنيمة. ظهر أصحابكم فما تنظرون؟ قال عبد الله بن جبير:
أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين- رواه الإمام أحمد- و (الأمر) إما بمعنى الشأن والقصة، وإما الذي يضادّه (النهي) أي فيهم أمرتم به من عدم البراح وَعَصَيْتُمْ أي أمر الرسول أن لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم،

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ٢٩٣.

صفحة رقم 428

وإن رأيتموهم ظهروا علينا، فلا تعينونا- رواه البخاريّ- مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ أي من الظفر والغنيمة، وانهزام العدوّ. روى البخاريّ «١» عن البراء قال: لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبيّ ﷺ جيشا من الرماة، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير وقال: لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم- بلفظ ما تقدم- ثم قال البراء: فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة... الحديث. مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا أي الغنيمة فترك المركز وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فثبت فيه وهم الذين نالوا شرف الشهادة، ومنهم أنس بن النضر الأسد المقدام، القائل وقتئذ: اللهم! إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء- يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه، فلقي سعد بن معاذ، فقال أين يا سعد؟ إني أجد ريح الجنة دون أحد! فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم- هذا لفظ البخاريّ- وأخرجه مسلم بنحوه، فرضي الله عنه وأرضاه وقدس روحه الزكية ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي كفكم عنهم حتى حالت الحال، ودالت الدولة.
وفيه من اللطف بالمسلمين ما لا يخفى لِيَبْتَلِيَكُمْ أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى الله، وترجعوا إليه، وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره، وملتم إلى الغنيمة. ثم أعلمهم أنه تعالى قد عفا عنهم بقوله وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ أي تفضلا عليكم لإيمانكم وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي في الأحوال كلها، إما بالنصرة إما بالابتلاء، فإن الابتلاء فضل ولطف خفيّ، ليتمرنوا بالصبر على الشدائد، والثبات

(١)
أخرجه البخاريّ في: المغازي، ١٧- باب غزوة أحد وقول الله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ... إلخ، حديث ١٤٤٢ وهذا نصه: عن البراء رضي الله عنه قال: لقد لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبيّ ﷺ جيشا من الرماة وأمّر عليهم عبد الله وقال «لا تبرحوا. إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا. وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا». فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، يرفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخلهن.
فأخذوا يقولون: الغنيمة! الغنيمة! فقال عبد الله: عهد إليّ النبي ﷺ أن لا تبرحوا. فأبوا. فلما أبوا صرف وجوههم، فأصيب سبعون قتيلا. وأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال «لا تجيبوه» فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال «لا تجيبوه» فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا. فلو كانوا أحياء لأجابوا؟ فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدوّ الله! أبقى الله عليك ما يخزيك. قال أبو سفيان: أعل هبل. فقال النبيّ ﷺ «أجيبوا» قالوا: ما نقول؟ قال «قولوا: الله أعلى وأجلّ». قال أبو سفيان: لنا العزّى ولا عزّى لكم. فقال النبيّ ﷺ «أجيبوه» قالوا: ما نقول؟ قال «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم». قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال. وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.

صفحة رقم 429

في المواطن، ويتمكنوا في اليقين، ويجعلوه ملكة لهم، ويتحققوا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا يميلوا إلى الدنيا وزخرفها، ولا يذهلوا على الحق، وليكون عقوبة عاجلة للبعض، فيتمحصوا عن ذنوبهم، وينالوا درجة الشهادة، فيلقوا الله ظاهرين- أفاده القاشانيّ-.
لطائف:
الأولى: (إذا) في قوله تعالى حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ إما شرط، أو، لا. وعلى الأول فجوابها إما محذوف أو مذكور. فتقديره، على كونه محذوفا، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منعكم الله نصره- لدلالة صدر الآية عليه- أو صرتم فريقين، لأن قوله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ... إلخ يفيد فائدته، ويؤدي معناه. وعلى كونه مذكورا فهو إما (وعصيتم) والواو صلة. وحكي هذا عن الكوفيين والفراء، قالوا: ونظيره قوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ [الصافات: ١٠٣- ١٠٤]. والمعنى ناديناه. وبعض من نصر هذا الوجه زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب (حتى إذا) بدليل قوله أورد عليهم من لزوم تعليل الشيء بنفسه- إذ الفشل والتنازع معصية فكيف يكونان علة لها- بأن المراد من العصيان خروجهم عن ذلك المكان. ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عنه، فلا لزوم. وإمّا قوله تعالى صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ وكلمة (ثم) صلة- قاله أبو مسلم-.
وعلى الثاني أعني كونها ليست شرطا فهي اسم و (حتى) حرف جر بمعنى إلى متعلقة بقوله تعالى صَدَقَكُمُ باعتبار تضمنه لمعنى النصر كأنه قيل: لقد نصركم الله (إلى) وقت فشلكم وتنازعكم.
الثانية: فائدة قوله تعالى مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ التنبيه على عظم المعصية، لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بإنجاز الوعد، كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية، فلما أقدموا عليها سلبوا ذلك الإكرام.
الثالثة: ظاهر قوله تعالى: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ. أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة، لأنها لم تذكر، فدل على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر.
الرابعة: في قوله تعالى: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. دليل على أن صاحب الكبيرة مؤمن، فإن الذنب في الآية كان كبيرة- والله أعلم-.

صفحة رقم 430
محاسن التأويل
عرض الكتاب
المؤلف
محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي
تحقيق
محمد باسل عيون السود
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1418
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية