آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ ۚ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ

القول في تأويل قوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"ولقد صدقكم الله"، أيها المؤمنون من أصحاب محمد ﷺ بأحُد وعدَه الذي وعدهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
و"الوعد" الذي كان وعدَهم على لسانه بأحد، قوله للرماة:"اثبتوا مكانكم ولا تبرحوا، وإن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم". وكان وعدهم رسول الله ﷺ النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره، كالذي:-
٨٠٠٤- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما برز رسول الله ﷺ إلى المشركين بأحد، أمر الرماة، فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين وقال:"لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم،" وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير، أخا خوّات بن جبير. ثم إنّ طلحة بن عثمان، صاحب لواء المشركين، قام فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجِّلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجِّلكم بسيوفنا إلى الجنة! فهل منكم أحد يعجِّله الله بسيفي إلى الجنة! أو يعجِّلني بسيفه إلى النار؟ فقام إليه علي بن أبي طالب فقال: والذي نفسي بيده، لا أفارقك حتى يعجِّلك الله بسيفي إلى النار، أو يعجِّلني بسيفك إلى الجنة! فضربه علي فقطع رجلَه، فسقط، فانكشفت عورته، فقال: أنشدك الله والرحم، ابنَ عم! فتركه.

صفحة رقم 281

فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لعليّ أصحابه: ما منعك أن تجهز عليه؟ قال: إنّ ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته، فاستحييت منه.
= ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم، وحمل النبي ﷺ وأصحابه فهزموا أبا سفيان. فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل، (١) فرمته الرماة، فانقمع. فلما نظر الرماة إلى رسول الله ﷺ وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه، بادروا الغنيمة، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم!. فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر. فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله، ثم حمل فقتل الرماة، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رأى المشركون أنّ خيلهم تقاتل، تنادوا فشَدُّوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم. (٢).
٨٠٠٥- حدثنا هارون بن إسحاق قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: لما كان يوم أحُد ولقينا المشركين، أجلس رسول الله ﷺ رجالا بإزاء الرماة، وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير، أخا خوات بن جبير، وقال لهم:"لا تبرحوا مكانكم، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تُعينونا". فلما التقى القوم، هُزم المشركون حتى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن وبدت خلاخلهنّ، فجعلوا يقولون:"الغنيمة، الغنيمة"! قال عبد الله: مهلا! أما علمتم ما عهدَ إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأبوا، فانطلقوا، فلما أتوهم صرف الله وجوههم، فأصيب من المسلمين سبعون قتيلا.

(١) في التعليق على الأثر السالف: ٧٩٤٣، ذكرت أن المخطوطة هناك، كان فيها"لر" غير منقوطة، واستظهرت مرجحًا أنها"كر"، ولكنه عاد هنا في المخطوطة، فكتبها"حمل" واضحة، فأخشى أن يكون هذا هو الصواب الراجح.
(٢) الأثر: ٨٠٠٤- الأثر السالف رقم: ٧٩٤٣، والتاريخ ٣: ١٤، ١٥.

صفحة رقم 282

٨٠٠٦- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، بنحوه. (١)
٨٠٠٧- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسُّونهم بإذنه"، فإن أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من شوّال حتى نزل أحدًا، وخرج رسول الله ﷺ فأذَّن في الناس، فاجتمعوا، وأمَّر على الخيل الزبير بن العوام، ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي. وأعطى رسول الله ﷺ اللواء رجلا من قريش يقال له: مصعب بن عمير. وخرج حمزة بن عبد المطلب بالحسَّر، (٢) وبعث حمزة بين يديه. وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل. فبعث رسول الله ﷺ الزبير وقال:"استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه حتى أوذنك". وأمر بخيل أخرى، فكانوا من جانب آخر، فقال:"لا تبرحوا حتى أوذنكم". وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى، فأرسل النبي ﷺ إلى الزبير أن يحمل، فحمل على خالد بن الوليد فهزمه ومن معه، كما قال:"ولقد صدقكم الله وعده إذ تحُسُّونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبُّون"، وإنّ الله وعد المؤمنين أن ينصرهم وأنه معهم. (٣)
٨٠٠٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني

(١) الأثران: ٨٠٠٥، ٨٠٠٦ - تاريخ الطبري ٣: ١٣، ١٤ وانظر مسند أحمد ٤: ٢٩٣، ٢٩٤.
(٢) في المطبوعة: "بالجسر"، وهو خطأ، "والحسر" جمع حاسر، وهم الرجالة الذين لا خيل لهم، يقال: سموا بذلك لأنهم يحسرون عن أيديهم وأرجلهم. ويقال إنه يقال لهم"حسر"، لأنه لا بيض لهم ولا دروع يلبسونها.
(٣) الأثر: ٨٠٠٧- تاريخ الطبري ٣: ١٤.

صفحة رقم 283

محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، (١) وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا -في قصة ذكرها عن أحد- ذكر أن كلهم قد حدَّث ببعضها، وأن حديثهم اجتمع فيما ساق من الحديث، فكان فيما ذكر في ذلك: أن رسول الله ﷺ نزل الشعب من أحُد في عُدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحُد، وقال:"لا يقاتلنَّ أحدٌ، حتى نأمره بالقتال". (٢) وقد سرَّحت قريش الظهر والكُراع، (٣) في زروع كانت بالصَّمغة من قناة للمسلمين، (٤) فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله ﷺ عن القتال: أترعى زروع بني قيلة ولما نُضارِب! (٥) وتعبَّأ رسول الله ﷺ للقتال وهو في سبعمئة رجل، (٦) وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف، (٧) ومعهم مائتا فرس قد جَنَبوها، (٨) فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل. وأمرَّ رسول الله ﷺ على الرماة عبد الله بن جبير، أخا بني عمرو بن عوف، وهو يومئذ مُعلم بثياب بيض، والرماةُ خمسون رجلا وقال:"انضح عنا الخيل بالنبل، لا يأتونا من خلفنا! إن كانت لنا أو علينا فأثبت مكانك، لا نؤتيَنَّ من قبلك". (٩) فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض. (١٠) واقتتلوا، حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس، وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبى طالب، في رجال من المسلمين. فأنزل الله عز وجل نصره وصدقهم وعده، فحسُّوهم بالسيوف حتى كشفوهم، وكانت الهزيمةَ لا شك فيها. (١١)
٨٠٠٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده قال، قال الزبير: والله لقد رأيتُني أنظر إلى خَدَم هند ابنة عتبة وصواحبها مشمِّرات هوارب، (١٢) ما دون إحداهن قليلٌ ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القومَ عنه

(١) في المطبوعة والمخطوطة: "أن محمد بن يحيى..."، والصواب من سيرة ابن هشام ٣: ٦٤ وتاريخ الطبري ٣: ٩.
(٢) في المطبوعة: "لا تقاتلوا حتى نأمر بالقتال"، وفي المخطوطة مثله، إلا أنه كتب: "نأمره" والصواب من سيرة ابن هشام، ومن تاريخ الطبري.
(٣) الظهر: الإبل التي يحمل عليها ويركب. والكراع: اسم يجمع الخيل والسلاح، ويعني هنا الخيل.
(٤) "الصمغة": أرض في ناحية أحد. و"قناة" واد يأتي من الطائف، حتى ينتهي إلى أصل قبور الشهداء بأحد.
(٥) بنو قيلة: هم الأوس والخزرج، الأنصار. وقيلة: أم قديمة لهم ينسبون إليها.
(٦) في المطبوعة: "وصفنا رسول الله..."، وهو خطأ محض، والصواب من سيرة ابن هشام، والتاريخ، والمخطوطة، وهي فيها غير منقوطة.
(٧) في المطبوعة: "وتصاف قريش..."، وهو خطأ صرف، والصواب من التاريخ، ومن المخطوطة وهي فيها غير منقوطة.
(٨) جنب الفرس والأسير يجنبه (بضم النون) جنبًا (بالتحريك) فهو مجنوب وجنيب، وخيل جنائب: إذا قادهما إلى جنبه. ويقال: "خيل مجنبة" بتشديد النون مثلها.
(٩) نضح عنه: ذب عنه، ورد عنه ونافح.
(١٠) هذا اختصار مخل جدًا، فإن أبا جعفر لفق كلام ابن إسحاق، والذي رواه ابن هشام مخالف في ترتيبه لما جاء في خبر الطبري هنا. وذلك أنه من أول قوله: "وأمر رسول الله ﷺ على الرماة..." مقدم على قوله: "وتعبأت قريش"، وذلك في السيرة ٣: ٦٩، ٧١. أما قوله: "فلما التقى الناس" فإنه يأتي في السيرة في ص ٧٢، وسياق الجملة: "فلما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرضنهم"، وساق ما كان من أمرهن، ثم قال: "قال ابن إسحاق: فاقتتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس"، أما قوله بعد ذلك: "وحمزة بن عبد المطلب..."، فهو عطف علي"وقاتل أبو دجانة"، استخرجه الطبري من سياق سيرة ابن إسحاق ٣: ٧٧، لا من نصه. وقد تركت ما في التفسير على حاله، لأنه خطأ من أبي جعفر نفسه ولا شك. وأما قوله: "ثم أنزل الله نصره..." إلى آخر الأثر فهو في السيرة ٣: ٨٢.
(١١) الأثر: ٨٠٠٨- هذا أثر ملفق من نص ابن إسحاق، وهو فيما رواه ابن هشام في سيرته من مواضع متفرقة كما سترى ٣: ٦٩، ٧٠ / ثم ص: ٧٢ / ثم ص: ٧٧ / ثم ص ٨٢، وانظر التعليق السالف. ثم انظر تاريخ الطبري ٣: ١٣ / ثم ص١٦. وقوله: "حسوهم" أي قتلوهم واستأصلوهم، كما سيأتي في تفسير الآية بعد.
(١٢) في المخطوطة: "مسموات هوادن" وضبط الكلمة الأولى بالقلم بفتح الميم وضم السين وميم مشددة مفتوحة!! وهذا أعجب ما رأيت من السهو والغفلة! والكلمتان خطأ محض، وفي المطبوعة: "هوازم"، والصواب من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري. و"الخدم" جمع خدمة: وهي الخلخال، ويجمع أيضًا"خدام" بكسر الخاء."شمر تشميرًا فهو مشمر": جد في السير أو العمل وأسرع ومضى مضيًا، وأصله من فعل العادي إذا جد في عدوه وشمر عن ساقه وجمع ثوبه في يده، ليكون أسرع له.

صفحة رقم 284

يريدون النهب، وخلَّوا ظهورنا للخيل، فأتينا من أدبارنا. وصرخ صارخٌ:"ألا إنّ محمدًا قد قُتل"! فانكفأنا، وأنكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء، (١) حتى ما يدنو منه أحدٌ من القوم. (٢)
٨٠١٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله:"ولقد صدقكم الله وعده"، أي: لقد وفَيتُ لكم بما وعدتكم من النصر على عدوكم. (٣)
٨٠١١- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"ولقد صدقكم الله وعده"، وذلك يوم أحد، قال لهم:"إنكم ستظهرون، فلا أعرِفنَّ ما أصبتم من غنائمهم شيئًا، (٤) حتى تفرُغوا"! فتركوا أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وعصوا، ووقعوا في الغنائم، ونسوا عَهْده الذي عَهِده إليهم، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به. (٥)
* * *

(١) في المخطوطة: "بعد أن رأينا أصحابناب" وضرب على"بنا" من"أصحابنا"، فاجتهد الناشر قراءة هذا الكلام الفاسد فجعل مكان"أصبنا""هزمنا" ولكني رددته إلى نص ابن إسحاق من رواية ابن هشام في السيرة، والطبري في التاريخ."انكفأ": مال ورجع وانقلب، وهو صورة حركة الراجع، من انكفاء الإناء إذا أملته ناحية، و"انكفأوا علينا"، أي مالوا راجعين عليهم.
(٢) الأثر: ٨٠٠٩- سيرة ابن هشام ٣: ٨٢، وهو تابع آخر الأثر السالف رقم: ٨٠٠٨، وفي تاريخ الطبري ٣: ١٦، ١٧.
(٣) الأثر: ٨٠١٠- سيرة ابن هشام ٣: ١٢٠، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨٠٠٢.
(٤) في المخطوطة: "فلا عرض ما أصبتم"، وفي المطبوعة: "فلا تأخذوا ما أصبتم"، تصرف في طلب المعنى، وهو خطأ، وستأتي على الصواب في الأثر رقم: ٨٠٢٥، في المطبوعة والمخطوطة معًا، كما كتبتها هنا. وقوله: "فلا أعرفن ما أصبتم..."، يعني: لا يبلغني أنكم أصبتم من غنائمهم شيئًا. وقولهم: "لا أعرفن كذا" و"ولأعرفن كذا" كلمة تقال عند الوعيد والتهديد والزجر الشديد. وانظر مجيئها في الأثرين رقم: ٨١٥٨، ٨١٦٠ والتعليق عليهما. وانظر الدر المنثور ٢: ٨٥.
(٥) انظر الأثر الآتي رقم: ٨٠٢٥.

صفحة رقم 286

القول في تأويل قوله: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولقد وَفَى الله لكم، أيها المؤمنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما وعدكم من النصر على عدوكم بأحُد، حين"تحُسُّونهم"، يعني: حين تقتلونهم.
* * *
يقال منه:"حسَّه يَحُسُّه حسًا"، إذا قتله، (١) كما:-
٨٠١٢- حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال، حدثنا يعقوب بن عيسى قال، حدثني عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف في قوله:"إذ تحُسُّونهم بإذنه"، قال: الحسُّ: القتل. (٢)
٨٠١٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن أبي الزناد، عن أبيه قال: سمعت عبيد الله بن عبد الله يقول في قول الله عز وجل:"إذ تحسُّونهم"، قال: القتل.
٨٠١٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا

(١) انظر تفسير"الحس" فيما سلف ٦: ٤٤٣.
(٢) الأثر: ٨٠١٢-"محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطى"، مضى القول فيه برقم: ٢٨٦٧، ٢٨٦٨، ٢٨٨٨، وفي ٢٨٦٨"محمد بن عبيد الله بن سعيد". و"يعقوب بن عيسى" هو: "يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري"، سلف في رقم: ٢٨٦٧. و"عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز... الزهري"، هو الأعرج، المعروف بابن أبي ثابت، قيل: "ليس بثقة، إنما كان صاحب شعر"، وقال يحيى: "رأيته ببغداد، كان يشتم الناس ويطعن في أحسابهم. ليس حديثه بشيء". مترجم في التهذيب. و"محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف" قال البخاري: "منكر الحديث"، وقال أبو حاتم: "هم ثلاثة إخوة: محمد بن عبد العزيز، وعبد الله بن عبد العزيز، وعمران بن عبد العزيز، وهم ضعفاء الحديث، ليس لهم حديث مستقيم، وليس لمحمد عن أبي الزناد، والزهري، وهشام بن عروة، حديث صحيح". مترجم في الكبير ١ / ١ / ١٦٧، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٧.

صفحة رقم 287

عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إذ تحسونهم بإذنه"، قال: تقتلونهم.
* * *
٨٠١٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم"، أي: قتلا بإذنه.
٨٠١٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إذ تحسونهم"، يقول: إذ تقتلونهم.
٨٠١٧- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إذ تحسونهم بإذنه"، والحس القتل.
٨٠١٨- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه"، يقول: تقتلونهم.
٨٠١٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إذ تحسونهم" بالسيوف: أي القتل. (١)
٨٠٢٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن:"إذ تحسونهم بإذنه"، يعني: القتل.
٨٠٢١- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله:"إذ تحسونهم بإذنه"، يقول: تقتلونهم.
* * *
وأما قوله:"بإذنه"، فإنه يعني: بحكمي وقضائي لكم بذلك، وتسليطي إياكم عليهم، (٢) كما:-

(١) الأثر: ٨٠١٩- سيرة ابن هشام ٣: ١٢٠، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨٠١٠، وكان في المخطوطة والمطبوعة: "أي: بالقتل"، والباء زيادة لا خير فيها، والصواب من سيرة ابن هشام.
(٢) انظر تفسير"الإذن" فيما سلف ٢: ٤٤٩، ٤٥٠ / ٤: ٢٨٦، ٣٧١ / ٥: ٣٥٢، ٣٥٥، ٣٩٥.

صفحة رقم 288

٨٠٢٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق: إذ تحسونهم بإذني، وتسليطي أيديكم عليهم، وكفِّي أيديهم عنكم. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"حتى إذا فشلتم"، حتى إذا جبنتم وضعفتم (٢) ="وتنازعتم في الأمر"، يقول: واختلفتم في أمر الله، يقول: وعصيتم وخالفتم نبيكم، فتركتم أمره وما عهد إليكم. وإنما يعني بذلك الرماة الذين كان أمرَهم ﷺ بلزوم مركزهم ومقعدهم من فم الشِّعب بأحُد بإزاء خالد بن الوليد ومن كان معه من فرسان المشركين، الذين ذكرنا قبلُ أمرَهم.
= وأما قوله:"من بعد ما أراكم ما تحبون"، فإنه يعني بذلك: من بعد الذي أراكم الله، أيها المؤمنون بمحمد، من النصر والظفر بالمشركين، وذلك هو الهزيمة التي كانوا هزموهم عن نسائهم وأموالهم قبل ترك الرماة مقاعدهم التي كان رسول الله ﷺ أقعدهم فيها، وقبل خروج خيل المشركين على المومنين من ورائهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا تظاهرت الأخبار عن أهل التأويل.

(١) الأثر: ٨٠٢٢- سيرة ابن هشام ٣: ١٢٠، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨٠١٩.
(٢) انظر تفسير"فشل" فيما سلف ٧: ١٦٨.

صفحة رقم 289

وقد مضى ذكر بعض من قال، وسنذكر قول بعض من لم يذكر قوله فيما مضى.
*ذكر من قال ذلك:
٨٠٢٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر"، أي اختلفتم في الأمر ="وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون"، وذاكم يوم أحد، عهد إليهم نبي الله ﷺ وأمرَهم بأمر فنسوا العهد، وجاوزوا، (١) وخالفوا ما أمرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقذف عليهم عدوَّهم، (٢) بعد ما أراهم من عدوهم ما يحبون.
٨٠٢٤- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: أنّ رسول الله ﷺ بعث ناسًا من الناس -يعني: يوم أحُد- فكانوا من ورائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كونوا هاهنا، فردّوا وجه من فرَّ منا، (٣) وكونوا حرسًا لنا من قِبل ظهورنا". وإن رسول الله ﷺ لما هزم القوم هو وأصحابه، قال الذين كانوا جُعلوا من ورائهم، بعضهم لبعض، (٤) لما رأوا النساء مُصْعِدات في الجبل ورأوا الغنائم،

(١) في المطبوعة: "وجاوزوا"، وهي ضعيفة المعنى هنا. ولم تذكر كتب اللغة"حاوز" لكنهم قالوا: "انحاز القوم وتحوزوا وتحيزوا: تركوا مركزهم ومعركة قتالهم وتنحوا عنه، ومالوا إلى موضع آخر". وانظر ما سلف في التعليق على رقم: ٧٥٢٤، من قوله: "تحاوز الناس".
(٢) في المطبوعة: "فانصرف عليهم"، ولا معنى لها، ولكنه أخذها من الأثر التالي ٨٠٢٥، من رسم المخطوطة هناك. وفي الدر المنثور ٢: ٨٥"فانصر عليهم"، ولا معنى لها أيضًا. وهي في المخطوطة هنا"فصرف"، فرجحت أن يكون هذا تصحيف"فقذف"، فأثبتها، وهي سياق المعنى حين انحطت عليهم خيل المشركين من ورائهم.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "من قدمنا"، والصواب من تاريخ الطبري. وفي الدر المنثور ٢: ٨٤"من ند منا"، يقال"ند البعير"، إذا نفر وشرد وذهب على وجهه، ولا بأس بمعناها هنا.
(٤) في المطبوعة: "اختلف الذين كانوا جعلوا من ورائهم فقال بعضهم لبعض"، زاد الناشر الأول"اختلف"، أما المخطوطة، والدر المنثور ٢: ٨٤، فليس فيها"اختلف"، والكلام بعد كما هو، وهو مضطرب، ورددته إلى الصواب من تاريخ الطبري، حذفت"فقال" من وسط الكلام، ووضعت"قال" في أوله.

صفحة رقم 290

قالوا:"انطلقوا إلى رسول الله ﷺ فأدركوا الغنيمة قبل أن تسبقوا إليها"! وقالت طائفة أخرى:"بل نطيع رسول الله ﷺ فنثبت مكاننا"! فذلك قوله:"منكم من يريد الدنيا"، للذين أرادوا الغنيمة ="ومنكم من يريد الآخرة"، للذين قالوا:"نطيع رسول الله ﷺ ونثبت مكاننا". فأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكان فشلا حين تنازعوا بينهم يقول:"وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون"، كانوا قد رأوا الفتح والغنيمة.
٨٠٢٥- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"حتى إذا فشلتم"، يقول: جبنتم عن عدوكم ="وتنازعتم في الأمر"، يقول: اختلفتم ="وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون"، وذلك يوم أحد قال لهم:"إنكم ستظهرون، فلا أعرفنَّ ما أصبتم من غنائمهم شيئًا حتى تفرغوا"، (١) فتركوا أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وعصوا، ووقعوا في الغنائم، ونسوا عهده الذي عهده إليهم، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به، فانقذف عليهم عدوهم، (٢) من بعد ما أراهم فيهم ما يحبون. (٣)
٨٠٢٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"حتى إذا فشلتم"، قال ابن جريج، قال ابن عباس: الفشَل: الجبن.
٨٠٢٧- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون"، من الفتح.

(١) انظر التعليق على الأثر: ٨٠١١، ص: ٢٨٦، تعليق: ٤.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "فانصرف عليهم عدوهم"، ولا معنى لها، وفي الدر المنثور ٢: ٨٥"فانصر عليهم"، ولا معنى لها، وانظر التعليق السالف ص: ٢٩٠ تعليق: ٢.
(٣) الأثر: ٨٠٢٥- مضى برقم: ٨٠١١ مختصرًا.

صفحة رقم 291

٨٠٢٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"حتى إذا فشلتم"، أي تخاذلتم (١) ="وتنازعتم في الأمر"، أي: اختلفتم في أمري ="وعصيتم"، أي: تركتم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ وما عهد إليكم، يعني الرماة="من بعد ما أراكم ما تحبون"، أي: الفتح لا شك فيه، وهزيمة القوم عن نسائهم وأموالهم. (٢)
٨٠٢٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن المبارك، عن الحسن:"من بعد ما أراكم ما تحبون"، يعني: من الفتح.
* * *
قال أبو جعفر: وقيل معنى قوله:"حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون" = حتى إذا تنازعتم في الأمر فشلتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون = وأنه من المقدم الذي معناه التأخير، (٣) وإن"الواو" دخلت في ذلك، ومعناها السقوط، كما يقال، (٤) (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ) [سورة الصافات: ١٠٣-١٠٤] معناه: ناديناه. وهذا مقول في: (حَتَّى إِذَا) وفي (فَلَمَّا أَنْ). [لم يأت في غير هذين]. (٥) ومنه قول الله عز وجل: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج ثُمَّ قَالَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) [سورة الأنبياء: ٩٦-٩٧].

(١) في المطبوعة: "تجادلتم"، وهو خطأ صرف، والصواب من سيرة ابن هشام.
(٢) الأثر: ٨٠٢٨- سيرة ابن هشام ٣: ١٢١.
(٣) في المطبوعة: "أنه من المقدم..." بإسقاط الواو، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة.
(٤) في المطبوعة"كما قلنا في فلما أسلما..." بزيادة"في" وفي المخطوطة: "كما قلنا فلما أسلما"، بإسقاط"في"، وأثبت ما في معاني القرآن للفراء ١: ٢٣٨، فهذا نص كلامه.
(٥) في المطبوعة: "وهذا مقول في (حتى إذا) وفي (لما) ومنه قول الله..."، وفي المخطوطة: "وهذا مقول في (حتى إذا) وفي (فلما أن)، وفلما، ومنه قول الله عز وجل". والذي في المطبوعة تغيير لا خير فيه، والذي في المخطوطة خطأ لا شك فيه، فآثرت إثبات ما في معاني القرآن للفراء ١: ٢٣٨، فإنه نص مقالته، وزدت منه ما بين القوسين.

صفحة رقم 292

ومعناه: اقترب، (١) كما قال الشاعر: (٢)
حَتَّى إذَا قَمِلَتْ بُطُونكُمُ... وَرَأَيْتُمُ أَبْنَاءَكُمْ شَبُّوا (٣) وَقَلَبْتُمْ ظَهْرَ المِجَنِّ لَنَا... إنَّ اللَّئِيمَ العَاجِزَ الخَبُّ (٤)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"منكم من يريد الدنيا، الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله ﷺ في الشِّعب من أحُد لخيل المشركين، ولحقوا بعسكر المسلمين طلب النهب إذ رأوا هزيمة المشركين ="ومنكم من يريد الآخرة"، يعني بذلك: الذين ثبتوا من الرماة في مقاعدهم التي

(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٣٨.
(٢) هو الأسود بن يعفر النهشلي، وهو في أكثر الكتب غير منسوب.
(٣) معاني القرآن للفراء ١: ١٠٧، ٢٣٨ / اللسان (قمل) والجزء: ٢٠: ٣٨١ / تأويل مشكل القرآن: ١٩٧، ١٩٨ / المعاني الكبير: ٥٣٣ / مجالس ثعلب: ٧٤ / أمالي الشجري ١: ٣٥٧، ٣٥٨ / الإنصاف لابن الأنباري: ١٨٩ / الخزانة ٤: ٤١٤ / وهو في جميعها غير منسوب، وهو من شعر لم أجده تامًا، ذكر أبياتًا منه البكري في معجم ما استعجم: ٣٧٩، فيها البيت الأول وحده، وبيتان آخران منها في اللسان (وقب) وتهذيب الألفاظ: ١٩٦. وهو من شعر يهجو فيه بني نجيح، من بني عبد الله بن مجاشع بن دارم يقول في هجائهم:
أَبَنِي نَجِيحٍ، إنَّ أُمَّكُمُ أَمَةٌ، وإنَّ أَبَاكُمُ وَقْبُ
أَكَلَتْ خَبِيثَ الزَّادِ فَاتَّخَمَتْ عَنْهُ، وَشَمَّ خِمَارَهَا الكَلْبُ
وقوله: "قملت بطونكم"، كثرت قبائلكم. والبطون بطون القبائل.
(٤) يقال: "قلبت له ظهر المجن" - والمجن: الترس، لأنه يوارى صاحبه - كلمة تضرب مثلا لمن كان لصاحبه على مودة ورعاية، ثم حال عن ذلك فعاداه. والخب (بفتح الخاء، وكسرها) الخداع الخبيث المنكر: وفي الحديث: "المؤمن غر كريم، والكافر خب لئيم".

صفحة رقم 293

أقعدهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعوا أمره، محافظة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابتغاء ما عند الله من الثواب بذلك من فعلهم والدار الآخرة. كما:-
٨٠٣٠- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"منكم من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة"، فالذين انطلقوا يريدون الغنيمة هم أصحاب الدنيا، والذين بقوا وقالوا:"لا نخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أرادوا الآخرة.
٨٠٣١- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس مثله.
٨٠٣٢ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة"، فإن نبي الله ﷺ أمر يوم أحد طائفة من المسلمين، فقال:"كونوا مَسْلحة للناس"، (١) بمنزلةٍ أمرَهم أن يثبتوا بها، وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم حتى يأذن لهم. فلما لقي نبي الله ﷺ يوم أحد أبا سفيان ومن معه من المشركين، هزمهم نبي الله صلى الله عليه وسلم! فلما رأى المسلحةُ أن الله عز وجل هزم المشركين، انطلق بعضهم وهم يتنادون:"الغنيمة! الغنيمة! لا تفتكم"! وثبت بعضهم مكانهم، وقالوا: لا نَريم موضعنا حتى يأذن لنا نبي الله صلى الله عليه وسلم!. ففي ذلك نزل:"منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة"، فكان ابن مسعود يقول: ما شعرت أن أحدًا من أصحاب النبي ﷺ كان يريد الدنيا وعرَضَها، (٢) حتى كان يوم أحد.

(١) المسلحة: القوم ذوو السلاح يوكلون بثغر من الثغور يحفظونه مخافة أن يأتي منه العدو. وسميت الثغور"مسالح" من ذلك، وهي مواضع المخافة.
(٢) "ما شعرت"، أي: ما علمت، يأتي كذلك في الأثر التالي.

صفحة رقم 294

٨٠٣٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: لما هزم الله المشركين يوم أحد، قال الرماة:"أدركوا الناس ونبيَّ الله ﷺ لا يسبقوكم إلى الغنائم، فتكون لهم دونكم"! وقال بعضهم:"لا نَريم حتى يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم". فنزلت:"منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة"، قال: ابن جريج، قال ابن مسعود: ما علمنا أن أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ كان يريد الدنيا وعرَضَها، حتى كان يومئذ.
٨٠٣٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن المبارك، عن الحسن:"منكم من يريد الدنيا"، هؤلاء الذين يجترون الغنائم (١) ="ومنكم من يريد الآخرة"، الذين يتبعونهم يقتلونهم.
٨٠٣٥- حدثنا الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي عن عبد خير قال: قال عبد الله: ما كنت أرى أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد:"منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة". (٢)
٨٠٣٦- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن عبد خير قال، قال ابن مسعود: ما كنت أظن في أصحاب رسول الله ﷺ يومئذ أحدًا يريد الدنيا، حتى قال الله ما قال.
٨٠٣٧- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع

(١) في المطبوعة: "يحيزون الغنائم"، وهو خطأ، والكلمة في المخطوطة غير منقوطة، والذي أثبته هو صواب قراءتها. واجتر الشيء: جره، يعني يطلبونها إلى أنفسهم.
(٢) الأثر ٨٠٣٥-"الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي"، مضى مرارًا، وسلف ترجمته في رقم: ١٦٢٥، وكان في المطبوعة: "العبقري"، وهو خطأ، وفي المخطوطة غير منقوط. وأما "عبد خير"، فهو"عبد خير بن يزيد الهمداني". أدرك الجاهلية، وروي عن أبي بكر، وابن مسعود وعلي، وزيد بن أرقم، وعائشة. وهو تابعي ثقة. مترجم في التهذيب.

صفحة رقم 295

قال، قال عبد الله بن مسعود لما رآهم وقعوا في الغنائم: ما كنت أحسب أن أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ يريد الدنيا حتى كان اليوم.
٨٠٣٨- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان ابن مسعود يقول: ما شعرتُ أن أحدًا من أصحاب النبي ﷺ كان يريد الدنيا وعرَضها، حتى كان يومئذ. (١)
٨٠٣٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق"منكم من يريد الدنيا"، أي: الذين أرادوا النهب رغبة في الدنيا وتركَ ما أمروا به من الطاعة التي عليها ثواب الآخرة ="ومنكم من يريد الآخرة"، أي: الذي جاهدوا في الله لم يخالفوا إلى ما نهوا عنه لعرض من الدنيا رغبة فيها، (٢) رجاء ما عند الله من حسن ثوابه في الآخرة. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ثم صرفكم، أيها المؤمنون، عن المشركين بعد ما أراكم ما تحبون فيهم وفي أنفسكم، من هزيمتكم إياهم وظهوركم عليهم، فردَّ وجوهكم عنهم لمعصيتكم أمر رسولي، ومخالفتكم طاعته، وإيثاركم الدنيا على الآخرة،

(١) الأثر: ٨٠٣٨- هو من بقية الأثر السالف: ٨٠٢٤، ورواه في تاريخه ٣: ١٤.
(٢) في المطبوعة: "لم يخالفوا" بإسقاط الواو، وأثبتها من المخطوطة وابن هشام. وفي المطبوعة والمخطوطة: "لعرض من الدنيا رغبة في رجاء ما عند الله"، وهو كلام يتلجلج، والصواب ما في سيرة ابن هشام، وهو الذي أثبت.
(٣) الأثر: ٨٠٣٩- سيرة ابن هشام ٣: ١٢١، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨٠٢٨.

صفحة رقم 296

- عقوبةً لكم على ما فعلتم،"ليبتليكم"، يقول: ليختبركم، (١) فيتميز المنافق منكم من المخلص الصادق في إيمانه منكم. كما:-
٨٠٤٠- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ثم ذكر حين مال عليهم خالد بن الوليد:"ثم صرفكم عنهم ليبتليكم".
٨٠٤١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن في قوله:"ثم صرفكم عنهم"، قال: صرف القوم عنهم، فقتل من المسلمين بعدَّة من أسروا يوم بدر، وقُتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وشُجّ في وجهه، وكان يمسح الدم عن وجهه ويقول:"كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيِّهم وهو يدعوهم إلى ربهم"؟ فنزلت: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) [سورة آل عمران: ١٢٨]، الآية. فقالوا: أليس كان رسول الله ﷺ وعدنا النصر؟ فأنزل الله عز وجل:"ولقد صدقكم الله وعده" إلى قوله:"ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم".
٨٠٤٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق:"ثم صرفكم عنهم ليبتليكم"، أي: صرفكم عنهم ليختبركم، وذلك ببعض ذنوبكم. (٢)
* * *

(١) انظر تفسير"ابتلى" فيما سلف ٢: ٤٩ / ٣: ٧، ٢٢٠ / ٥: ٣٣٩.
(٢) الأثر: ٨٠٤٢- سيرة ابن هشام ٣: ١٢١، وهو تتمة الآثار التي آخرها: ٨٠٣٩. وفي سيرة ابن هشام المطبوعة، سقط بعض الكلام، فاضطرب لفظه، ويستفاد تصحيحه من هذا الموضع من التفسير.

صفحة رقم 297

القول في تأويل قوله: ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولقد عفا عنكم"، ولقد عفا الله = أيها المخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتاركون طاعته فيما تقدم به إليكم من لزوم الموضع الذي أمركم بلزومه = عنكم، فصفح لكم من عقوبة ذنبكم الذي أتيتموه، عما هو أعظم مما عاقبكم به من هزيمة أعدائكم إياكم، وصرفِ وجوهكم عنهم، (١) إذ لم يستأصل جمعكم، كما:-
٨٠٤٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن، في قوله:"ولقد عفا عنكم"، قال: قال الحسن، وصفَّق بيديه: وكيف عفا عنهم، وقد قتل منهم سبعون، وقُتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وشج في وجهه؟ قال: ثم يقول: قال الله عز وجل:"قد عفوت عنكم إذ عصيتموني، أن لا أكون استأصلتكم". قال: ثم يقول الحسن: هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله غضابٌ لله، يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فصنعوه، فوالله ما تركوا حتى غُمُّوا بهذا الغم، فأفسق الفاسقين اليوم يَتَجَرْثَمُ كل كبيرة، (٢) ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم أن لا بأس عليه!! فسوف يعلم.
٨٠٤٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"ولقد عفا عنكم"، قال: لم يستأصلكم.

(١) في المخطوطة: "وصرف وجوهكم عنه"، والصواب ما في المطبوعة.
(٢) في المطبوعة: "يتجرأ على كل كبيرة"، تصرف في نص المخطوطة، وتجرثم الشيء: أخذ معظمه، وجرثومة كل شيء: أصله ومجتمعه.

صفحة رقم 298
جامع البيان في تأويل آي القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري
تحقيق
أحمد شاكر
الناشر
مؤسسة الرسالة
الطبعة
الأولى، 1420 ه - 2000 م
عدد الأجزاء
24
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية