
أبغض عبدا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض».
اصطفاء الأنبياء وقصة نذر امرأة عمران ما في بطنها لعبادة الله
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٧]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)
الإعراب:
ذُرِّيَّةً منصوب على الحال من الأسماء المتقدمة. إِذْ ظرف منصوب متعلق بفعل مقدر تقديره: اذكر يا محمد إذ قالت، أو متعلق بقوله: سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
مُحَرَّراً حال من ما. وعبر ب ما عمن يعقل للإبهام، مثل: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ.

وَضَعَتْها الهاء عائدة على «ما» حملا على المعنى، ومعناها التأنيث.
أُنْثى منصوب على الحال من ضمير وَضَعَتْها.
وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا بالتشديد، وزكريا مفعول به، ومن قرأها بالتخفيف رفع زكرياء لأنه فاعل. والهمزة في زكرياء للتأنيث.
البلاغة:
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى جملتان معترضتان لتعظيم الأمر.
أُعِيذُها التعبير بالمضارع للدلالة على الاستمرار والتجديد.
وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً شبه تربيتها الصالحة ونموها بالزرع الذي ينمو شيئا فشيئا عن طريق الاستعارة التبعية، بحذف المشبه والإتيان بشيء من لوازمه.
المفردات اللغوية:
اصْطَفى اختار. ذُرِّيَّةً الذرية في الأصل: صغار الأولاد، ثم استعملت في الصغار والكبار، وللواحد والكثير، والمراد: ذرية يشبه بعضها بعضا. امْرَأَتُ عِمْرانَ اسمها حنة بنت فاقود. مُحَرَّراً عتيقا خالصا من شواغل الدنيا، مخصصا للعبادة وخدمة البيت المقدس (المسجد الأقصى). فَتَقَبَّلْ مِنِّي خذه على وجه الرضا والقبول.
أُعِيذُها بِكَ أي أمنعها وأحفظها بحفظك، وأصل التعوذ والاستعاذة بالله: الالتجاء إليه، والاستجارة به، واللجوء إليه بالدعاء والرجاء. مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ المطرود.
مَرْيَمَ بالعبرية: خادم الرب أي العابدة. وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً رباها بما يصلح أحوالها.
وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا جعل زكريا كافلا لها. وزكريا: من ولد سليمان بن داود عليهما السلام.
الْمِحْرابَ: الغرفة وهي أشرف المجالس، وتسمى عند أهل الكتاب بالمذبح: وهي مقصورة في مقدم المعبد، ذات باب يصعد إليه بسلم ذي درجات قليلة يكون من فيه محجوبا عمن في المعبد. أَنَّى لَكِ هذا من أين لك هذا، والزمان زمان قحط وجدب. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يأتيني به من الجنة. بِغَيْرِ حِسابٍ أي بغير عدّ ولا إحصاء لكثرته، فهو رزق واسع بلا تبعة.

المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن محبته تستلزم محبة رسوله واتباعه وطاعته، وأن طاعة الله مقترنة بطاعة الرسول، ناسب أن يذكر من أحبهم واصطفاهم من الرسل وذرياتهم الذين يبينون للناس طريق المحبة: وهي الإيمان بالله مع طاعته وطاعة رسله الكرام.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، وجعلهم صفوة العالمين بجعل النبوة فيهم، فاختار آدم أبا البشر، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد الملائكة له، وعلمه أسماء الأشياء، وأسكنه الجنة، ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة، وتاب عليه واجتباه، كما قال: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ، فَتابَ عَلَيْهِ، وَهَدى [طه ٢٠/ ١٢٢] وكان من ذريته الأنبياء والمرسلون.
واصطفى من بعده نوحا أبا البشر الثاني، الذي جعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض فهو شيخ المرسلين، لما عبدوا الأوثان، وانتقم له بإغراقهم بالطوفان، ونجاه هو ومن تبعه من المؤمنين في الفلك العظيم، وكان من ذريته كثير من الأنبياء والمرسلين، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر القرابات.
واصطفى آل إبراهيم، ومنهم سيد البشر خاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومنهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط. واصطفى من ذرية إبراهيم آل عمران: وهم عيسى وأمه مريم بنت عمران التي ينتهي نسبها إلى يعقوب عليه السلام.
والمراد بعمران هذا: هو والد مريم أم عيسى عليه السلام، وهو عمران بن

ياشم، ابن ميشا بن حزقيا بن إبراهيم، وينتهي نسبه إلى سليمان بن داود عليهما السلام. فعيسى عليه السلام من ذرية إبراهيم.
اختار الله هؤلاء وجعلهم صفوة الخلق وجعل النبوة والرسالة فيهم. فهم ذرية واحدة وسلالة واحدة، ويشبه بعضها بعضا في الفضل والمزية والتناصر في الدين، فآل إبراهيم وهم إسماعيل وإسحاق وأولادهما من نسل إبراهيم، وإبراهيم من نسل نوح، ونوح من آدم. وآل عمران: وهم موسى وهرون وعيسى وأمه من ذرية إبراهيم ونوح وآدم. واصطفاؤهم على جميع الخلق كلهم، فهم صفوة الخلق، فأما محمد صلّى الله عليه وسلّم فقد جازت مرتبته الاصطفاء لأنه حبيب ورحمة، قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فالرسل خلقوا للرحمة، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم خلق بنفسه رحمة، فلذلك صار أمانا للخلق،
وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الحاكم وابن عساكر عن أبي هريرة: «إنما أنا رحمة مهداة»
يخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من الله، وقوله «مهداة» أي هدية من الله للخلق.
هذه الذرية هم المذكورون بمناسبة الكلام عن إبراهيم: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا.. [الأنعام ٦/ ٨٤- ٨٧].
وخص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء لأن جميع الأنبياء والرسل من نسلهم.
والله سميع لأقوال العباد، عليم بنياتهم وضمائرهم.
واذكر وقت أن قالت امرأة عمران (وهي أم مريم واسمها حنّة بنت فاقود) وكانت عاقرا لم تلد، واشتاقت للولد، فدعت الله تعالى أن يهبها ولدا، فاستجاب الله دعاءها، فلما تحققت الحمل قالت: رب إني نذرت لك ما في بطني خالصا لوجهك الكريم، متفرغا للعبادة وخدمة بيت المقدس وكان ذلك جائزا في شريعتهم، وكان على الولد الطاعة. ودعت الله أن يتقبل منها هذا النذر، وهو

السميع لكل قول ودعاء، العليم بنية صاحبه وإخلاصه، وهذا يستدعي تقبل الدعاء، فضلا منه وإحسانا، ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكر أم أنثى. والنذر:
هو ما أوجبه المكلف على نفسه من العبادات مما لو لم يوجبه لم يلزمه. فهو لا يلزم العبد إلا بأن يلزمه نفسه.
ويلاحظ أن المراد بعمران أولا في قوله: آلَ عِمْرانَ هو أبو موسى عليه السلام، وثانيا في قوله امْرَأَتُ عِمْرانَ هو أبو مريم، وبينهما نحو ألف وثمانمائة عام (١٨٠٠) تقريبا.
فلما وضعت بنتا، قالت متحسرة حزينة: إني وضعتها أنثى، وذلك أنه ما كان يؤخذ لخدمة البيت إلا الذكور لأن الأنثى تحيض وتلد، فلا تصلح لهذا، والله أعلم بما وضعت وبمكانتها، وفي هذا تعظيم لشأن الأنثى، وليس الذكر الذي طلبت وتمنت كالأنثى أي في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى، بل هذه الأنثى خير مما كانت ترجو من الذكر. أما قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ فهو من كلام الله عز وجل. وقرئ بضم تاء «وضعت» فيكون من كلام امرأة عمران عن طريق التعظيم والتنزيه لله تعالى. وأما: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى فهو من كلام الله بالمعنى المذكور. ويجوز كونه من كلام امرأة عمران، قالته معتذرة إلى ربها من ولادة أنثى على خلاف ما قصدته من خدمة المسجد لأنه أنثى لا تصلح للخدمة بسبب كونها عورة.
وقالت امرأة عمران: إني سميتها مريم، أي خادمة الرب، وإني أجيرها وأعيذها بحفظك ورعايتك من شر الشيطان المطرود من الخير، وأدعوك أن تقيها وذريتها وهو عيسى عليه السلام من الشيطان وسلطانه عليهما، فاستجاب الله دعاءها.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل بني آدم

يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها» «١»
أي أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يؤثر فيه إلا مريم وابنها.
فتقبل الله مريم من أمها بأبلغ قبول حسن، ورضي أن تكون محررة خالصة للعبادة وخدمة البيت على صغرها وأنوثتها، ورباها ونماها بما يصلح أحوالها تربية عالية تشمل الجسد والروح، كما يربى النبات في الأرض الصالحة بعد تعهد الزارع إياه بالسقي والتسميد والعزق وقلع الأعشاب الضارة من حوله.
وجعل زكريا- وكان زوج وخالتها وكان معروفا بالخلق والتقوى- كافلا لها وراعيا مصالحها حتى شبت وترعرعت. وإنما قدر الله كون زكريا كفيلها لسعادتها، لتقتبس منه علما جما نافعا وعملا صالحا.
وكان كلما دخل زكريا عليها المحراب، وجد عندها خيرا كثيرا ورزقا وافرا، وألوانا من الطعام لا توجد في مثل ذلك الوقت، قال جماعة من مفسري التابعين: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف.
فيقول لها: يا مريم، من أين لك هذا؟ والأيام أيام جدب وقحط، قالت: هو من عند الله الذي يرزق الناس جميعا، بتسخير بعضهم لبعض، إن الله يرزق من يشاء من عباده بغير حساب. قيل: هو من قول مريم، ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا، فكان ذلك سبب دعاء زكريا وسؤاله الولد.
فقه الحياة أو الأحكام:
كان المشركون وأهل الكتاب ينكرون نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه بشر مثلهم، ولأنه ليس من بني إسرائيل، فرد الله عليهم: إن الله اصطفى آدم أبا البشر.
وفي لفظ: «ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخا من مسّه إياه، إلا مريم وابنها»
ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ.

ونوحا الأب الثاني، واصطفى من ذريتهما آل إبراهيم، واختار آل عمران من آل إبراهيم. وآل عمران هم من سلالة بني إسرائيل حفيد إبراهيم. فإذا كان الاصطفاء لله فهو يصطفي أيضا نبيا من العرب وهو سليل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
فكانت هذه القصة لتقرير نبوة النبي العربي صلّى الله عليه وسلّم، ودحض شبهة أهل الكتاب الذين حصروا النبوة في بني إسرائيل، وإبطال شبهة المشركين الذين تصوروا كون النبي غير بشر، وهو لا يكون إلا بشرا من جنس المبعوث إليهم.
وفي القصة إرهاص بنبوة عيسى، إذ ولدت أمه من أم عاقر كبيرة السن، على خلاف المعهود، وقبلت الأنثى في خدمة بيت المقدس، لتكون سيرتها الطاهرة عنوانا على كون ولدها من روح الله وكلمته.
ودل قوله تعالى: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ على جواز التسمية يوم الولادة، وهو شرع من قبلنا، وأكده
ما ثبت في السنة عند البخاري ومسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: «ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي: إبراهيم».
وكان من أثر دعاء امرأة عمران الذي قبله الله بصون مولودها وذرريتها من مس الشيطان أن صان عيسى عليه السلام من إغواءات الشيطان، كما يصون الله تعالى سائر أنبيائه الكرام من وساوس الشياطين وسلطانهم، فكم تعرّض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء، ومع ذلك فعصمهم الله مما يرومه الشيطان، كما قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر ١٥/ ٤٢ والإسراء ١٧/ ٦٥].
ووجود الرزق الكثير عند مريم مما ليس كالعادة دليل على كرامات الأولياء، كما ذكر ابن كثير «١».