آيات من القرآن الكريم

ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕ

ما آتى الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم من البشارة بالفتوح وترادف الخيرات، وقيل: لما أن الأشياء باعتبار الشر وعدمه تنقسم إلى خمسة أقسام: الأول ما لا شر فيه أصلا، والثاني ما يغلب خيره على شره، والثالث ما يكون شرا محضا، والرابع ما يكون شره غالب على خيره، والخامس ما يتساوى الخير والشر فيه. والموجود من هذه الأقسام في العالم- القسم الأول، والثاني- والشر الذي فيه غير مقصود بالذات بل إنما قضاه الله تعالى لحكمة بالغة وهو وسيلة إلى خير أعظم وأعم نفعا والشر اليسير متى كان وسيلة إلى الخير الكثير كان ارتكابه مصلحة تقتضيها الحكمة ولا يأباها الكرم المطلق، ألا ترى أن الفصد والحجامة وشرب الدواء الكريه وقطع السلعة ونحوها من الأمور المؤلمة لكونه وسيلة إلى حصول الصحة يحسن ارتكابه في مقتضى الحكمة ويعد خيرا لا شرا وصحة لا مرضا وكل قضاء الله تعالى بما نراه شرا من هذا القبيل، ولهذا
ورد في الحديث «لا تتهم الله تعالى على نفسك»
وورد «ولا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين».
وجاء «لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب»
ومن هنا قيل: يا من إفساده صلاح فما قدر من المفاسد لتضمنه المصالح العظيمة اغتفر ذلك القدر اليسير في جنبها لكونه وسيلة إليها وما أدى إلى الخير فهو خير فكل شر قدره الله تعالى لكونه لم يقصد بالذات لأن أحكام القضاء والقدر كما قالوا: جارية على سنن ما اتفقت عليه الشرائع كلها من النظر إلى جلب المصالح ودبّ المفاسد بل بالعرض لما يستلزمه من الخير الأعظم والنفع الأتم يصدق عليه بهذا الاعتبار أنه خير فدخل في قوله سبحانه: بِيَدِكَ الْخَيْرُ فلذا اقتصر على الخير على وجه أنه شامل لما قصد أصلا ولما وقع استلزاما، وهذا من باب- ليس في الإمكان أبدع مما كان- وقد درج حكماء الإسلام عليه ولا يعبأ بمن وجه سهام الطعن إليه، وفي شرح الهياكل أن الشر مقضي بالعرض وصادر بالتبع لما أن بعض ما يتضمن الخيرات الكثيرة قد يستلزم الشر القليل فكان ترك الخيرات الكثيرة لأجل ذلك الشر القليل شرا كثيرا فصدر عنك ذلك الخير فلزمه حصول ذلك الشر وهو من حيث صدوره عنك خير إذ عدم صدوره شر لتضمنه فوات ذلك الخير فأنت المنزه عن الفحشاء مع أنه لا يجري في ملكك إلا ما تشاء وليس هذا من القول بوجوب الأصلح، ولا ينافيه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء: ٢٣] إذ لا يفعل ما يسأل عنه كرما وحكمة وجودا ومنة «ولو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع».

صفحة رقم 111

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ الولوج في الأصل الدخول والإيلاج الإدخال واستعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب في أكثر البلدان- وروي ذلك عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد- ولا يضر تساوي الليل والنهار دائما عند خط الاستواء لأنه يكفي الزيادة والنقصان فيهما في الأغلب، وقال الجبائي: المراد بإيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر والأول أقرب إلى اللفظ، وعلى التقديرين الظاهر من الليل والنهار ليل التكوير ونهاره وهما المشهوران عند العامة الذين يفهمون ظاهر القول: ووراء ذلك أيام السلخ التي يعرفها العارفون وأيام الإيلاج الشانية التي يعقلها العلماء الحكماء.
وبيان ذلك على وجه الاختصار أن اليوم على ما ذكره القوم الإلهيون عبارة عن دورة واحدة من دورات فلك الكواكب وهو من النطح إلى النطح ومن الشرطين إلى الشرطين ومن البطين إلى البطين وهكذا إلى آخر المنازل، ومن درجة المنزلة ودقيقتها إلى درجة المنزلة ودقيقتها، وأخفى من ذلك إلى أقصى ما يمكن الوقوف عنده وما من يوم من الأيام المعروفة عند العامة وهي من طلوع الشمس إلى طلوع الشمس أو من غروبها إلى غروبها أو من استوائها إلى استوائها أو ما بين ذلك إلى ما بين ذلك إلا وفيه نهاية ثلاثمائة وستين يوما فاليوم طوله ثلاثمائة وستون درجة لأنه يظهر فيه الفلك كله وتعمه الحركة وهذا هو اليوم الجسماني، وفيه اليوم الروحاني فيه تأخذ العقول معارفها والبصائر مشاهدها والأرواح أسرارها كما تأخذ الأجسام في هذا اليوم الجسماني أغذيتها، وزيادتها، ونموها، وصحتها، وسقمها، وحياتها، وموتها، فالأيام من جهة أحكامها الظاهرة في العالم المنبعثة من القوة الفعالة للنفس الكلية سبعة من يوم الأحد إلى آخره ولهذه الأيام أيام روحانية لها أحكام في الأرواح والعقول تنبعث من القوة العلامة للحق الذي قامت به السموات والأرض وهو الكلمة الإلهية، وعلى هذه السبعة الدوارة يدور فلك البحث فنقول قال الله تعالى في المشهود من الأيام المحسوسة: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر: ٥] وأبان عن حقيقتين من طريق الحكم بعد هذا فقال في آية: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧] فهذه أنبأت أن الليل أصل والنهار كان غيبا فيه ثم سلخ، وليس معنى السلخ معنى التكوير فلا بد أن يعرف ليل كل نهار من غيره حتى ينسب كل ثوب إلى لابسه، ويرد كل فرع إلى أصله، ويلحق كل ابن بأبيه، وقال في الآية الكريمة كاشفا عن حقيقة أخرى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحج: ٦١، لقمان: ٢٩، فاطر: ١٣، الحديد: ٦] فجعل بين الليل والنهار نكاحا معنويا لما كانت الأشياء تتولد منهما معا وأكد هذا المعنى بقوله عز قائلا: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الأعراف: ٥٤، الرعد: ٣] ولهذا كان كل منهما مولجا ومولجا فيه فكل واحد منهما لصاحبه أصل وبعل فكلما تولد في النهار فأمه النهار وأبوه الليل وكلما تولد في الليل فأمه الليل وأبوه النهار فليس إذا حكم الإيلاج حكم السلخ فإن السلخ إنما هو في وقت أن يرجع النهار من كونه مولجا ومولجا فيه والليل كذلك إلا أنه ذكر السلخ الواحد ولم يذكر السلخ الآخر من

صفحة رقم 112

أجل الظاهر، والباطن، والغيب، والشهادة، والروح والجسم، والحرف، والمعنى- وشبه ذلك- فالإيلاج روح كله والتكوير جسم هذا الروح الإيلاجي ولهذا كرر الليل والنهار في الإيلاج كما كررهما في التكوير هذا في عالم الجسم وهذا في عالم الروح، فتكوير النهار لإيلاج الليل وتكوير الليل لإيلاج النهار، وجاء السلخ واحدا للظاهر لأربابه، وقد اختلف العجم والعرب في أصالة أي المكورين على الآخر، فالعجم يقدمون النهار على الليل وزمانهم شمسي فليلة السبت عندهم مثلا الليلة التي تكون صبيحتها يوم الأحد وهكذا، والعرب يقدمون الليل على النهار وزمانهم قمري أولئك كتب في قلوبهم الإيمان فليلة الجمعة عندهم مثلا هي الليلة التي يكون صبيحتها يوم الجمعة وهم أقرب من العجم إلى العلم فإنه يعضدهم السلخ في هذا النظر غير أنهم لم يعرفوا الحكم فنسبوا الليلة إلى غير يومها كما فعل أصحاب الشمس وذلك لأن عوامّهم لا يعرفون إلا أيام التكوير والعارفون من أهل هذه الدولة، وورثة الأنبياء يعلمون ما وراء ذلك من أيام السلخ وأيام الإيلاج الشاني، ولما كانت الأيام شيئا وكل شيء عندهم ظاهر، وباطن، وغيب، وشهادة، وروح، وجسم، وملك، وملكوت، ولطيف، وكثيف قالوا: إن اليوم نهار وليل في مقابلة باطن وظاهر، والأيام سبعة ولكل يوم نهار وليل من جنسه، والنهار ظل ذلك الليل وعلى صورته لأنه أصله المدرج هو فيه المنسلخ هو منه بالنفخة الإلهية، وقد أطلق سبحانه في آية السلخ ولم يبين أي نهار سلخ من أية ليلة ولم يقل ليلة كذا سلخ منها نهار كذا ليعقلها من ألهمه الله تعالى رشده فينال فصل الخطاب، فعلى المفهوم من اللسان العربي بالحساب القمري أن ليلة
الأحد سلخ الله تعالى منها نهار الأربعاء وسلخ من ليلة الاثنين نهار الخميس، ومن ليلة الثلاثاء نهار الجمعة، ومن ليلة الأربعاء نهار السبت، ومن ليلة الخميس نهار الأحد، ومن ليلة الجمعة نهار الاثنين ومن ليلة السبت نهار الثلاثاء فجعل سبحانه بين كل ليلة ونهارها المسلوخ منها ثلاث ليال وثلاثة نهارات فكانت ستة وهي نشأتك ذات الجهات، فالليالي منها للتحت والشمال والخلف، والنهارات منها للفوق واليمين والأمام فلا يكون الإنسان نهارا ونورا تشرق شمسه وتشرق به أرضه حتى ينسلخ من ليل شهوته ولا يقبل على من لا يقبل الجهات حتى يبعد عن جهات هيكله، وإنما نسبوا هذه النسبة من جهة الاشتراك في الشأن الظاهر لستر الحكمة الإلهية على يد الموكلين بالساعات، وفي اليوم الإيلاجي الشاني يعتبرون ليلا ونهارا أيضا وهو عندهم أربع وعشرون ساعة قد اتحد فيها الشأن فلم ينبعث فيها إلا معنى واحد ويتنوع في الموجودات بحسب استعدادتها ولهذا قال سبحانه: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:
٢٩] ولم يقل- في شؤون- وتنوينه للتعظيم الظاهر باختلاف القوابل وتكثر الأشخاص فإذا ساعات ذلك اليوم تحت حكم واحد ونظر وال واحد قد ولاه من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء وتولاه وخصه بتلك الحركة وجعله أميرا في ذلك، والمتصرف الحقيقي هو الله تعالى لا هو من حيث هو، فاليوم الشاني ما كانت ساعاته كلها سواء ومتى اختلفت فليس بيوم واحد ولا يوجد هذا في أيام التكوير وكذا في أيام السلخ إلا قليلا فطلبنا ذلك في الأيام الإيلاجية فوجدناه مستوفى فيه، وقد أرسل سبحانه آية الإيلاج ولم يقل: يُولِجُ اللَّيْلَ [الحج: ٦١، لقمان: ٢٩، فاطر: ١٣، الحديد: ٦] الذي صبيحته الأحد في الأحد ولا النهار الذي مساؤه ليلة الاثنين في الاثنين فإذا لا يلتزم أن ليلة الأحد هي ليلة الكور ولا ليلة السلخ وإنما يطلب وحدانية اليوم من أجل أحدية الشأن فلا ينظر إلا إلى اتحاد الساعات، والحاكم المولى من قبل المولى فليلة الأحد الإيلاجي مركبة من الساعة الأولى من ليلة الخميس، والثانية منها، والثالثة من يوم الخميس، والعاشرة منها، والخامسة من ليلة الجمعة، والثانية عشرة منها، والسابعة من يوم الجمعة، والثامنة من ليلة السبت، والتاسعة منها، والرابعة من يوم السبت، والحادية عشرة منه، والسادسة من ليلة الأحد فهذه ساعات ليله.
وأما ساعات نهاره من أيام التكوير فالأولى من يوم الأحد. والثامنة. والثالثة من يوم الاثنين. والعاشرة منه،

صفحة رقم 113

والخامسة من يوم الاثنين. والثانية عشرة منه. والسابعة من ليلة الثلاثاء. والثانية من يوم الثلاثاء. والتاسعة منه، والرابعة من ليلة الأربعاء. والحادية عشرة منها. والسادسة من يوم الأربعاء فهذه أربعة وعشرون ساعة ظاهرة كالشمس ليوم الأحد الإيلاجي الشاني كلها كنفس واحدة لأنها من معدن واحد، وهكذا تقول في سائر الأيام حتى تكمل سبعة أيام متميزة بعضها من بعض مولجة بعضها في بعض نهارها في ليلها وليلها في نهارها لحكمة التوالد والتناسل وذلك كسريان الحكم الواحد في الأيام، ويظهر ذلك من أيام التكوير.
وقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس سره الشأن في كل يوم في رسالته المسماة بالشأن الإلهي، ولعلي إن شاء الله تعالى أذكر ذلك عند قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: ٢٩] وهذه الأيام أيضا غير يوم المثل وهو عمر الدنيا، ويوم الرب، ويوم المعارج، ويوم القمر، ويوم الشمس، ويوم زحل، ويوم الحمل. ولكل كوكب من السيارات والبروج يوم- وقد ذكر كل ذلك في الفتوحات- وإنما تعرضنا لهذا المقدار وإن كان الاستقصاء في بيان مشرب القوم ليس بدعا في هذا الكتاب تعليما لبعض طلبة العلم ما الليل والنهار إذ قد ظنوا لجهلهم بسبب بحث جرى بنا الظنون، وفي هذا كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد فحمدا لك اللهم على ما علمت ولك الشكر على ما أنعمت وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أي تكون الحيوانات من موادها أو من النطفة، وعليه ابن عباس، وابن مسعود، وقتادة ومجاهد، والسدي، وخلق كثير وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أي النطفة من الحيوانات كما قال عامة السلف.
وأخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام أخرج ذريته فقبض قبضة بيمينه فقال: هؤلاء أهل الجنة ولا أبالي وقبض بالأخرى قبضة فجاء فيها كل رديء فقال هؤلاء أهل النار ولا أبالي فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر»
فذلك قوله تعالى: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ الآية- وإلى هذا ذهب الحسن- وروي عن أئمة أهل البيت، فالحي والميت مجازيان، ولطف هذه الجملة بعد الأولى لا يخفى والقائلون بعموم المجاز قالوا: المراد تخرج الحيوانات من النطف والنطف من الحيوانات، والنخلة من النواة والنواة من النخلة، والطيب من الخبيث والخبيث من الطيب، والعالم من الجاهل والجاهل من العالم، والذكي من البليد والبليد من الذكي إلى غير ذلك. ولا يلزم من الآية أن يكون إخراج كل حي من ميت وكل ميت من حي ليلزم التسلسل في جانب المبدئ إذ غاية ما تفهمه الآية أن الله تعالى هذه الصفة وأما أنه لا يخلق شيئا إلا من شيء فلا كما لا يخفى، وقرأ الْمَيِّتِ بالتخفيف في الموضعين وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ الظرف في محل الحال من المفعول أي ترزق من تشاء غير محاسب له، أو من الفاعل أي ترزقه غير محاسب له، أو غير مضيق عليه، وجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف، أو مفعول محذوف أي رزقا غير قليل، وفي ذكر هذه الأفعال العظيمة التي تحير العقول ونسبتها إليه تعالى دلالة على أن من يقدر على ذلك لا يعجزه أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم بل هو أهون عليه من كل هين.
هذا وقد تقدم ما يشير إلى فضل هذه الآية،
وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن معاذ بن جبل قال: شكوت إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دينا كان عليّ فقال: «يا معاذ أتحب أن يقضى دينك؟ قلت: نعم قال: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء اقض عن ديني فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا أدي عنك»
وفي رواية للطبراني الآية بتمامها.

صفحة رقم 114

«ومن باب الاشارة في الآيات» شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي أبان بدلائل الآفاق والأنفس أنه لا إله في الوجود سواه، أو شهد بذاته في مقام الجمع على وحدانيته حيث لا شاهد ولا مشهود غيره، وشهد- الملائكة وأولو العلم- بذلك وهي شهادة مظاهره سبحانه في مقام التفصيل، ومن القوم من فرق بين الشهادتين بأن شهادة الملائكة من حيث اليقين وشهادة أولي العلم من حيث المشاهدة، وأيضا قالوا: شهادة الملائكة من رؤية الأفعال وشهادة أولي العلم من رؤية الصفات، وقيل: شهادة الملائكة من رؤية العظمة ولذا يغلب عليهم الخوف، وشهادة العلماء من رؤية الجمال ولذا يغلب عليهم الرجاء. وشهادة العلماء متفاوتة فشهادة بعض من الحالات، وشهادة آخرين من المقامات، وشهادة طائفة من المكاشفات، وشهادة فرقة من المشاهدات وخواص أهل العلم يشهدون به له بنعت إدراك القدم وبروز نور التوحيد من جمال الوحدانية، فشهادتهم مستغرقة في شهادة الحق لأنهم في محل المحو قائِماً بِالْقِسْطِ أي مقيما للعدل بإعطاء كل من الظهور ما هو له بحسب الاستعداد فيتجلى عليه على قدر دعائه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ فلا يصل أحد إلى معرفة كنهه وكنه معرفته الْحَكِيمُ الذي يدبر كل شيء فيعطيه من مراتب التوحيد ما يطيق إِنَّ الدِّينَ المرضي عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وهو المقام الإبراهيمي المشار إليه بقوله: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ أي نفسي وجملتي وانخلعت عن آنيتي لله تعالى ففنيت فيه إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وهم المحجوبون عن الدين والساترون للحق بالميل مع الشهوات وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ الداعين إلى التوحيد وهم العباد الواصلون الكاملون وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وهو نفي الأغيار وقصر الوجود الحق على الله تعالى من الناس، ويحتمل أن يشار- بالذين كفروا- إلى قوى النفس الأمارة- وبالنبيين- إلى أنبياء القلوب المشرفة بوحي إلهام الغيوب، وبالآمرين بالقسط القوى الروحانية التي هي من جنود أولئك الأنبياء وأتباعهم، فبشر أولئك الكافرين بعذاب أليم وهو عذاب الحجاب والبعد عن حضرة رب الأرباب أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أي بطلت وانحطت عن حيز الاعتبار أَعْمالُهُمْ لعدم شرطها وهو التوحيد في الدنيا وهي عالم الشهادة والآخرة وهي عالم الغيب وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ لسوء حظهم وقلة استعدادهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ كعلماء السوء وأحبار الضلال يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ الناطق بمقام الجمع والفرق لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وبين الموحدين ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عن قبول الحق لفرط حجابهم واغترارهم بما أوتوا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ نار البعد إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي قليلة يسيرة وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ الذي هم عليه ما كانُوا يَفْتَرُونَ من القضايا والأقيسة التي جاءت بها عقولهم المشوبة بظلمات الوهم والخيال فَكَيْفَ يكون حالهم إِذا جَمَعْناهُمْ بعد تفرقهم في صحراء الشكوك وتمزيق سباع الأوهام لهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وهو يوم القيامة الكبرى الذي يظهر فيه الحق لمنكره، ووفيت كل نفس صالحة طالحة ما كسبت بواسطة استعدادها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ جزاء ذلك قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ أي الملك المتصرف في مظاهرك من غير معارض ولا مدافع حسبما تقتضيه الحكمة تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وهو من اخترته للرياسة الباطنة وجعلته متصرفا بإرادتك وقدرتك وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ بأن تنقله إلى غيره باستيفاء مدة إقامته في عالم الأجسام وتكميل النشأة، أو تحرم من تشاء عن إيتاء ذلك الملك لظلمه المانع له من أن ينال عهدك أو يمنح رفدك وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ بإلقاء نور من أنوار عزتك عليه فإن العزة لله جميعا وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بسلب لباس عزتك عنه فيبقى ذليلا بِيَدِكَ الْخَيْرُ كله «وأنت» القادر مطلقا تعطي على حسب مشيئتك وتتجلى طبق إرادتك وتمنح بقدر قابلية مظاهرك تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ تدخل ظلمة النفس فتستنير وتخلطهما معا مع بعد المناسبة بينهما وتخرج حي القلب من ميت النفس وميت النفس من حي القلب، أو تخرج حي العلم من ميت الجهل وميت الجهل من حي العلم وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ من النعم الظاهرة والباطنة، أو من إحداهما فقط بِغَيْرِ حِسابٍ إذ لا حجر عليك.

صفحة رقم 115

هذا ولما بين سبحانه أن إعطاء الملك والإعزاز من الله تعالى وأنه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ نبه المؤمنين على أنه لا ينبغي أن يوالوا أعداء الله تعالى لقرابة
أو صداقة جاهلية أو نحوهما أو أن لا يستظهروا بهم لأنه تعالى هو المعز والقادر المطلق بقوله عز قائلا: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ قال ابن عباس: كان الحجاج بن عمرو، وكهمس بن أبي الحقيق، وقيس بن زيد- والكل من اليهود- يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة ابن المنذر، وعبد الله بن جبير، وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم فأنزل الله هذه الآية، وقال الكلبي: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية ونهى المؤمنين عن فعلهم.
وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا نقيبا وكان له حلفاء من اليهود فلما خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة: يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهر بهم على العدو فأنزل الله تعالى لا يَتَّخِذِ إلخ،
والفعل مجزوم بلا الناهية، وأجاز الكسائي فيه الرفع على الخبر والمعنى على النهي أيضا وهو متعد لمفعولين، وجوز أن يكون متعديا لواحد- فأولياء- مفعول ثان، أو حال وهو جمع ولي بمعنى الموالي من الولي وهو القرب، والمراد لا يراعوا أمورا كانت بينهم في الجاهلية بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه الآن مما يقتضيه الإسلام من بغض وحب شرعيين يصح التكليف بهما وإنما قيدنا بذلك لما قالوا: إن المحبة لقرابة أو صداقة قديمة أو جديدة خارجة عن الاختيار معفوة ساقطة عن درجة الاعتبار، وحمل الموالاة على ما يعم الاستعانة بهم في الغزو مما ذهب إليه البعض ومذهبنا- وعليه الجمهور- أنه يجوز ويرضخ لهم لكن إنما يستعان بهم على قتال المشركين لا البغاة على ما صرحوا به، وما
روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لبدر فتبعه رجل مشرك كان ذا جراءة ونجدة ففرح أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين رأوه فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «ارجع فلن أستعين بمشرك»
فمنسوخ بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم واستعان بصفوان بن أمية في هوازن، وذكر بعضهم جواز الاستعانة بشرط الحاجة والوثوق أما بدونهما فلا تجوز وعلى ذلك يحمل خبر عائشة، وكذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس في سبب النزول- وبه يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز- على أن بعض المحققين ذكر أن الاستعانة المنهي عنها إنما هي استعانة الذليل بالعزيز وأما إذا كانت من باب استعانة العزيز بالذليل فقد أذن لنا بها، ومن ذلك اتخاذ الكفار عبيدا وخدما ونكاح الكتابيات منهم وهو كلام حسن كما لا يخفى.
ومن الناس من استدل بالآية على أنه لا يجوز جعلهم عمالا ولا استخدامهم في أمور الديوان وغيره وكذا أدخلوا في الموالاة المنهي عنها السلام والتعظيم والدعاء بالكنية والتوقير بالمجالس، وفي فتاوى العلامة ابن حجر جواز القيام في المجلس لأهل الذمة وعد ذلك من باب البر والإحسان المأذون به في قوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: ٨] ولعل الصحيح أن كل ما عده العرف تعظيما وحسبه المسلمون موالاة فهو منهي عنه ولو مع أهل الذمة لا سيما إذا أوقع شيئا في قلوب ضعفاء المؤمنين ولا أرى القيام لأهل الذمة في المجلس إلا من الأمور المحظورة لأن دلالته على التعظيم قوية وجعله من الإحسان لا أراه من الإحسان كما لا يخفى مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ حال من الفاعل أي متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالا أو اشتراكا ولا مفهوم لهذا الظرف إما لأنه ورد في قوم بأعيانهم والوا الكفار

صفحة رقم 116

دون المؤمنين فهو لبيان الواقع أو لأن ذكره للاشارة إلى أن الحقيق بالموالاة هم المؤمنون وفي موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفار وكون هذه النكتة تقتضي أن يقال مع وجود المؤمنين دون من دون المؤمنين في حيز المنع، وكونه إشارة إلى أن ولايتهم لا تجامع ولاية المؤمنين في غاية الخفاء.
وقيل: الظرف في حيز الصفة لأولياء، وقيل: متعلق بفعل الاتخاذ، ومِنْ لابتداء الغاية أي لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي الاتخاذ، والتعبير عنه بالفعل- كما قال شيخ الإسلام- للاختصار أو لإيهام الاستهجان بذكره ومِنْ شرطية، ويَفْعَلْ فعل الشرط، وجوابه. فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ والكلام على حذف مضاف أي من ولايته، أو من دينه، والظرف الأول حال من شَيْءٍ والثاني خبر- ليس- وتنوين شَيْءٍ للتحقير أي ليس في شيء يصح أن يطلق عليه اسم الولاية أو الدين لأن موالاة المتضادين مما لا تكاد تدخل خيمة الوقوع ولهذا قيل:

تودّ عدوي ثم تزعم أنني صديقك ليس النوك عنك بعازب
وقيل أيضا:
إذا والى صديقك من تعادي فقد عاداك وانقطع الكلام
والجملة معترضة، وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا على صيغة الخطاب بطريق الغيبة استثناء مفرغ من أعم الأحوال والعامل فيه فعل النهي معتبرا فيه الخطاب أي لا تتخذوهم أولياء في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم، وقيل: استثناء مفرغ من المفعول لأجله أي لا يتخذ المؤمن الكافر وليا لشيء من الأشياء إلا للتقية مِنْهُمْ أي من جهتهم ومن- للابتداء متعلق بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى: تُقاةً لأنه نعت النكرة وقد تقدم عليها، والمراد- بالتقاة- ما يتقى منه وتكون بمعنى اتقاء وهو الشائع فعلى الأول يكون مفعولا به لتتقوا، وعلى الثاني مفعولا مطلقا له، ومِنْهُمْ متعلق به، وتعدى- بمن- لأنه بمعنى خاف، وخاف يتعدى بها نحو وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً [النساء: ١٢٨] فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً [البقرة: ١٨٢] والمجرور في موضع أحد المفعولين وترك المفعول الآخر للعم به أي ضررا ونحوه، وأصل تقاة وقية بواو مضمومة وياء متحركة بعد القاف المفتوحة فأبدلت الواو المضمومة تاء كتجاه وأبدلت الياء المتحركة ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ووزنه فعلة- كتخمة، وتؤدة- وهو في المصادر غير مقيس وإنما المقيس اتقاء- كاقتداء- وقرأ أبو الرجاء، وقتادة «تقيّة» - بالياء المشددة ووزنها فعلية والتاء بدل من الواو أيضا «وفي الآية دليل» على مشروعية التقية وعرفوها بمحافظة النفس، أو العرض، أو المال من شر الأعداء، والعدو قسمان: الأول من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم، والثاني من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة، ومن هنا صارت التقية قسمين: أما القسم الأول فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه ولا يجوز له أصلا أن يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف فإن أرض الله تعالى واسعة نعم إن كان ممن لهم عذر شرعي في ترك الهجرة كالصبيان والنساء والعميان والمحبوسين والذين يخوفهم المخالفون بالقتل، أو قتل الأولاد، أو الآباء، أو الأمهات تخويفا يظن معه إيقاع ما خوفوا به غالبا سواء كان هذا القتل بضرب العنق، أو بحبس القوت، أو بنحو ذلك فإنه يجوز له المكث مع المخالف والموافقة بقدر الضرورة ويجب عليه أن يسعى في الحيلة للخروج والفرار بدينه ولو كان التخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك لا يجوز له موافقتهم، وفي صورة الجواز أيضا موافقتهم رخصة وإظهار مذهبه عزيمة فلو تلفت نفسه

صفحة رقم 117

لذلك فإنه شهيد قطعا، ومما يدل على أنها رخصة- ما
روي عن الحسن- أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم ثم دعا بالآخر فقال له: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟
قال: إني أصم قالها ثلاثا، وفي كل يجيبه بأني أصم فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئا له. وأما الآخر فقد رخصه الله تعالى فلا تبعة عليه
«وأما القسم الثاني» فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال بعضهم: تجب لقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥] وبدليل النهي عن إضاعة المال، وقال قوم: لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية ولا يعود من تركها نقصان في الدين لاتحاد الملة وعدوه القوي المؤمن لا يتعرض له بالسوء من حيث هو مؤمن، وقال بعضهم: الحق أن الهجرة هنا قد تجب أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو هتك حرمته بالإفراط ولكن ليست عبادة وقربة حتى يترتب عليها الثواب فإن وجوبها لمحض مصلحة دنيوية لذلك المهاجر لا لاصلاح الدين ليترتب عليها الثواب وليس كل واجب يثاب عليه لأن التحقيق أن كل واجب لا يكون عبادة بل كثير من الواجبات ما لا يترتب عليه ثواب كالأكل عند شدة المجاعة، والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض، وعن تناول السموم في حال الصحة وغير ذلك، وهذه الهجرة أيضا من هذا القبيل وليست هي كالهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم لتكون مستوجبة بفضل الله تعالى لثواب الآخرة، وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم التبسم في وجوههم والانبساط معهم وإعطائهم لكف أذاهم وقطع لسانهم وصيانة العرض منهم ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهي عنها بل هي سنة وأمر مشروع.
فقد روى الديلمي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض» وفي رواية «بعثت بالمداراة» وفي الجامع «سيأتيكم ركب مبغضون فإذا جاؤوكم فرحبوا بهم» وروى ابن أبي الدنيا «رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس» وفي رواية البيهقي «رأس العقل المداراة» وأخرج الطبراني «مداراة الناس صدقة» وفي رواية له «ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة».
وأخرج ابن عدي، وابن عساكر «من عاش مداريا مات شهيدا قوا بأموالكم أعراضكم وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه»
وعن بردة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «استأذن رجل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «بئس ابن الشعيرة- أو أخو العشيرة- ثم أذن له فألان له القول فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال: يا عائشة إن من أشر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه»
وفي البخاري عن أبي الدرداء «إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم» وفي رواية الكشميهني «وإن قلوبنا لتقليهم» وفي رواية ابن أبي الدنيا، وإبراهيم الحرمي بزيادة، «ونضحك إليهم» إلى غير ذلك من الأحاديث لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر وتسيء الظنون.
ووراء هذا التحقيق قولان لفئتين متباينتين من الناس، وهم الخوارج، والشيعة: أما الخوارج فذهبوا إلى أنه لا تجوز التقية بحال ولا يراعى المال وحفظ النفس والعرض في مقابلة الدين أصلا ولهم تشديدات في هذا الباب عجيبة، منها أن أحدا لو كان يصلي وجاء سارق أو غاصب ليسرق أو يغصب ماله الخطير لا يقطع الصلاة بل يحرم عليه قطعها وطعنوا على بريدة الأسلمي صحابي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسبب أنه كان يحافظ فرسه في صلاته كي لا يهرب، ولا يخفى أن هذا المذهب من التفريط بمكان، وأما الشيعة فكلامهم مضطرب في هذا المقام فقال بعضهم:

صفحة رقم 118

إنها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة وربما وجبت فيها الضرب من اللطف والاستصلاح ولا تجوز في الأفعال كقتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه إفساد في الدين وقال المفيد: إنها قد تجب أحيانا وقد يكون فعلها في وقت أفضل من تركها وقد يكون تركها أفضل من فعلها، وقال أبو جعفر الطوسي: إن ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس، وقال غيره: إنها واجبة عند الخوف على المال أيضا ومستحبة لصيانة العرض حتى يسن لمن اجتمع مع أهل السنة أن يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به، ورووا عن بعض أئمة أهل البيت من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي، وفي وجوب قضاء تلك الصلاة عندهم خلاف، وكذا في وجوب قضاء الصوم على من أفطر تقية حيث لا يحل الإفطار قولان أيضا، وفي أفضلية التقية من سني واحد- صيانة لمذهب الشيعة عن الطعن- خلاف أيضا، وأفتى كثير منهم بالأفضلية. ومنهم من ذهب إلى جواز- بل وجوب- إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، وأفتى كثير منهم بالأفضلية. ومنهم من ذهب إلى جواز- بل وجوب- إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، ولا يخفى أنه من الإفراط بمكان، وحملوا أكثر أفعال الأئمة مما يوافق مذهب أهل السنة ويقوم به الدليل على رد مذهب الشيعة على التقية وجعلوا هذا أصلا أصيلا عندهم وأسسوا عليه دينهم- وهو الشائع الآن فيما بينهم- حتى نسبوا ذلك للأنبياء عليهم السلام وجل غرضهم من ذلك إبطال خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم ويأبى الله تعالى ذلك.
ففي كتبهم ما يبطل كون أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وبنيه رضي الله تعالى عنهم ذوي تقية بل ويبطل أيضا فضلها الذي زعموه
ففي كتاب نهج البلاغة الذي هو أصح الكتب- بعد كتاب الله تعالى- في زعمهم أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قال: علامة الإيمان إيثارك الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك،
وأين هذا من تفسيرهم قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: ١٣] بأكثركم تقية؟
وفيه أيضا أنه كرم الله تعالى وجهه قال: إني والله لو لقيتهم واحدا وهم طلاع الأرض كلها ما باليت ولا استوحشت وإني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربي وإلى لقاء الله تعالى وحسن ثوابه لمنتظر راج.
وفي هذا دلالة على أن الأمير لم يخف وهو منفرد من حرب الأعداء وهم جموع، ومثله لا يتصور أن يتأتى فيما فيه هدم الدين،
وروى العياشي عن زرارة بن أعين عن أبي بكر بن حزم أنه قال: توضأ رجل ومسح على خفيه فدخل المسجد فجاء علي كرم الله تعالى وجهه فوجأ على رقبته فقال: ويلك تصلي وأنت على غير وضوء فقال: أمرني عمر فأخذ بيده فانتهى إليه ثم قال: انظر ما يقول هذا عنك ورفع صوته على عمر رضي الله تعالى عنه فقال عمر: أنا أمرته بذلك فانظر كيف رفع الصوت وأنكر ولم يتأق.
وروى الراوندي شارح نهج البلاغة ومعتقد الشيعة عن سلمان الفارسي أن عليا بلغه عن عمر أنه ذكر شيعته فاستقبله في بعض طرقات بساتين المدينة وفي يد عليّ قوس فقال: يا عمر بلغني عنك ذكرك لشيعتي فقال: أربع على صلعتك فقال عليّ: إنك هاهنا ثم رمى بالقوس على الأرض فإذا هي ثعبان كالبعير فاغرا فاه وقد أقبل نحو عمر ليبتلعه فقال عمر: الله الله تعالى يا أبا الحسن لا عدت بعدها في شيء فجعل يتضرع فضرب بيده على الثعبان فعادت القوس كما كانت فمضى عمر إلى بيته قال سلمان: فلما كان الليل دعاني عليّ فقال: سر إلى عمر فإنه حمل إليه مال من ناحية المشرق وقد عزم أن يخبئه فقل له يقول لك علي: أخرج ما حمل إليك من المشرق ففرقه على من هو لهم ولا تخبه فأفضحك. قال سلمان: فمضيت إليه وأديت الرسالة فقال: أخبرني عن أمر صاحبك من أين علم به؟ فقلت وهل يخفى عليه مثل هذا؟ فقال: يا سلمان أقبل عني ما أقول لك ما عليّ إلا ساحر وإني لمستقين بك والصواب أن تفارقه

صفحة رقم 119

وتصير من جملتنا قلت: ليس كما قلت لكنه ورث من أسرار النبوة ما قد رأيت منه وعنده أكثر من هذا، قال: ارجع إليه فقل: السمع والطاعة لأمرك فرجعت إلى عليّ فقال: أحدثك عما جرى بينكما فقلت: أنت أعلم مني فتكلم بما جرى بيننا ثم قال: إن رعب الثعبان في قلبه إلى أن يموت،
وفي هذه الرواية ضرب عنق التقية أيضا إذ صاحب هذه القوس تغنيه قوسه عنها ولا تحوجه أن يزوج ابنته أم كلثوم من عمر خوفا منه وتقية.
وروى الكليني عن معاذ بن كثير عن أبي عبد الله أنه قال: إن الله عز وجل أنزل على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم كتابا فقال جبريل: يا محمد هذه وصيتك إلى النجباء فقال: ومن النجباء يا جبريل؟ فقال: عليّ بن أبي طالب وولده وكان على الكتاب خواتم من ذهب فدفعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى علي وأمره أن يفك خاتما منه فيعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسن ففك منه خاتما فعمل بما فيه ثم دفعه إلى الحسين ففك خاتما فوجد فيه أن اخرج بقومك إلى الشهادة فلا شهادة لهم إلا معك واشتر نفسك لله تعالى ففعل، ثم دفعه إلى على بن الحسين ففك خاتما فوجد فيه أن اطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ففعل، ثم دفعه إلى ابنه محمد بن علي ففك خاتما فوجد فيه حدث الناس وأفتهم وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين ولا تخافن أحدا إلا الله تعالى فإنه لا سبيل لأحد عليك، ثم دفعه إلى جعفر الصادق ففك خاتما فوجد فيه حدث الناس وأفتهم ولا تخافن إلا الله تعالى وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين فإنك في حرز وأمان ففعل، ثم دفعه إلى موسى- وهكذا إلى المهدي...
ورواه من طريق آخر عن معاذ أيضا عن أبي عبد الله، وفي الخاتم الخامس- وقل الحق في الأمن والخوف ولا تخش إلا الله تعالى
وهذه الرواية أيضا صريحة بأن أولئك الكرام ليس دينهم التقية كما تزعمه الشيعة،
وروى سليم بن قيس الهلالي الشيعي من خبر طويل أن أمير المؤمنين قال: لما قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومال الناس إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فبايعوه حملت فاطمة وأخذت بيد الحسن والحسين ولم تدع أحدا من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله تعالى حقي ودعوتهم إلى نصرتي فلم يستجب لي من جميع الناس إلى أربعة: الزبير، وسلمان، وأبو ذر، والمقداد.
وهذه تدل على أن التقية لم تكن واجبة على الإمام لأن هذا الفعل عند من بايع أبا بكر رضي الله تعالى عنه فيه ما فيه.
وفي كتاب أبان بن عياش أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه بعث إلى علي قنفذا حين بايعه الناس ولم يبايعه علي وقال: انطلق إلى علي وقل له أجب خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فانطلق فبلغه فقال له: ما أسرع ما كذبتم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وارتددتم والله ما استخلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غيري، وفيه أيضا أنه لما يجب على غضب عمر وأضرم النار بباب علي وأحرقه ودخل فاستقبلته فاطمة وصاحت يا أبتاه ويا رسول الله فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها المبارك ورفع السوط فضرب به ضرعها فاصحت يا أبتاه فأخذ علي بتلابيب عمر وهزه ووجأ أنفه ورقبته، وفيه أيضا أن عمر قال لعلي: بايع أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: إن لم أفعل ذلك؟ قال: إذا والله تعالى لأضربن عنقك قال: كذبت والله يا ابن صهاك لا تقدر على ذلك أنت ألام وأضعف من ذلك.
فهذه الروايات تدل صريحا أن التقية بمراحل عن ذلك الإمام إذ لا معنى لهذه المناقشة والمسابة مع وجوب التقية،
وروى محمد بن سنان أن أمير المؤمنين قال لعمر: يا مغرور إني أراك في الدنيا قتيلا بجراحة من عند أم معمر تحكم عليه جورا فيقتلك ويدخل بذلك الجنان على رغم منك.
وروي أيضا أنه قال لعمر مرة إن لك ولصاحبك الذي قمت مقامه هتكا وصلبا تخرجان من جوار رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتصلبان على شجرة يابسة فتورق فيفتتن بذلك من والاكما ثم يؤتى بالنار التي أضرمت لإبراهيم ويأتي جرجيس

صفحة رقم 120

ودانيال وكل نبي وصديق فتصلبان فيها فتحرقان وتصيران رمادا ثم تأتي ريح فتنسفكما في اليمّ نسفا فانظر بالله تعالى عليك
من يروي هذه الأكاذيب عن الإمام كرم الله تعالى وجهه هل ينبغي له أن يقول بنسبة التقية إليه سبحان الله تعالى هذا العجب العجاب والداء العضال، ومما يرد قولهم أيضا: إن التقية لا تكون إلا لخوف، والخوف قسمان:
الأول الخوف على النفس وهو منتف في حق حضرات الأئمة بوجهين: أحدهما أن موتهم الطبيعي باختيارهم كما أثبت هذه المسألة الكليني في الكافي، وعقد لها بابا وأجمع عليها سائر الإمامية، وثانيهما أن الأئمة يكون لهم علم بما كان وما يكون فهم يعلمون آجالهم وكيفيات موتهم وأوقاته بالتفصيل والتخصيص فقبل وقته لا يخافون على أنفسهم ويتأقون في دينهم ويغرون عوام المؤمنين، القسم الثاني خوف المشقة والإيذاء البدني والسب والشتم وهتك الحرمة ولا شك أن تحمل هذه الأمور والصبر عليها وظيفة الصلحاء فقد كانوا يتحملون البلاء دائما في امتثال أوامر الله تعالى وربما قابلوا السلاطين الجبابرة وأهل البيت النبوي أولى بتحمل الشدائد في نصرة دين جدهم صلى الله تعالى عليه وسلم.
وأيضا لو كانت التقية واجبة لم يتوقف إمام الأئمة عن بيعة خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ستة أشهر وماذا منعه من أداء الواجب أول وهلة، ومما يرد قولهم في نسبة التقية إلى الأنبياء عليهم السلام بالمعنى الذي أراده قوله تعالى في حقهم: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [الأحزاب: ٣٩] وقوله سبحانه لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: ٦٧] إلى غير ذلك من الآيات، نعم لو أرادوا بالتقية المداراة التي أشرنا إليها لكان لنسبتها إلى الأنبياء والأئمة وجه، وهذا أحد محملين لما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن أنه قال: التقية جائزة إلى يوم القيامة، والثاني حمل التقية على ظاهرها وكونها جائزة إنما هو التفصيل الذي ذكرناه.
ومن الناس من أوجب نوعا من التقية خاصا بخواص المؤمنين وهو حفظ الأسرار الإلهية عن الإفشاء للأغيار الموجب لمفاسد كلية فتراهم متى سئلوا عن سر أبهموه وتكلموا بكلام لو عرض على العامة بل وعلى علمائهم ما فهموه، وأفرغوه بقوالب لا يفهم المراد منها إلا من حسى من كأسهم أو تعطرت أرجاء فؤاده من عبير عنبر أنفاسهم، وهذا وإن ترتب عليه ضلال كثير من الناس وانجر إلى الطعن بأولئك السادة الأكياس حتى رمي الكثير منهم بالزندقة وأفتى بقتلهم من سمع كلامهم وما حققه إلا أنهم رأوا هذا دون ما يترتب على الإفشاء من المفاسد التي تعم الأرض.
وحنانيك بعض الشر أهون من بعض. وكتم الأسرار عن أهلها فيه فوات خير عظيم وموجب لعذاب أليم «وقد يقال» ليس هذا من باب التقية في شيء إلا أن القوم تكلموا بما طفح على ألسنتهم وظهر على علانيتهم وكانت المعاني المرادة لهم بحيث تضيق عنها العبارة ولا يحوم حول حماها سوى الإشارة، ومن حذا حذوهم واقتفى في التجرد إثرهم فهم ما قالوا وتحقق ما إليه مالوا، ويؤيد هذا ما ذكره الشعراني قدس سره في الدرر المنثورة في بيان زبدة العلوم المشهورة مما نصه: وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة فمن عمل بما علم تكلم كما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الإفهام حتى قال بعضهم لشيخه: إن كلام أخي فلان يدق علي فهمه فقال: لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك- وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم الباطن، وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه ظهر للخلق فاعلم ذلك انتهى.

صفحة رقم 121

فعلى هذا الإنكار على القوم ليس في محله وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي عقاب نفسه- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه- وفيه تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي عنه في القبح حيث علق التحذير بنفسه، وإطلاق النفس عليه تعالى بالمعنى الذي أراده جائز من غير مشاكلة على الصحيح، وقيل: النفس بمعنى الذات وجواز إطلاقه حينئذ بلا مشاكلة مما لا كلام فيه عند المتقدمين، وقد صرح بعض المتأخرين بعدم الجواز وإن أريد به الذات إلا مشاكلة وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي المرجع، والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة قيل: والكلام على حذف مضاف أي إلى حكمه أو جزائه وليس باللازم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه حتما قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أي تسروا ما في قلوبكم من الضمائر التي من جملتها ولاية الكفار، وإنما ذكر الصدر لأنه محل القلب أَوْ تُبْدُوهُ أي تظهروه فيما بينكم.
يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيؤاخذكم به عند مصيركم إليه ولا ينفعكم إخفاؤه، وتقديم الإخفاء على الإبداء قد مرت الإشارة إلى سره وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من إيراد العام بعد الخاص تأكيدا له وتقريرا، والجملة مستأنفة غير معطوفة على جواب الشرط.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إثبات لصفة القدرة بعد إثبات صفة العلم وبذلك يكمل وجه التحذير، فكأنه سبحانه قال:- ويحذركم الله نفسه لأنه متصف بعلم ذاتي محيط بالمعلومات كلها وقدرة ذاتية شاملة للمقدورات بأسرها فلا تجسروا على عصيانه وموالاة أعدائه إذ ما من معصية خفية كانت أو ظاهرة إلا وهو مطلع عليها وقادر على العقاب بها- والإظهار في مقام الإضمار لما علمت يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ من النفوس المكلفة.
ما عَمِلَتْ في الدنيا مِنْ خَيْرٍ وإن كان مثقال ذرة مُحْضَراً لديها مشاهدا في الصحف، وقيل:
ظاهرا في صور، وقيل: تجد جزاء أعمالها محضرا بأمر الله تعالى، وفيه من التهويل ما ليس في- حاضرا- وهو مفعول ثان لتجد وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ عطف على ما عَمِلَتْ ومُحْضَراً محضر فيه معنى إلا أنه خص بالذكر في- الخير- للإشعار بكون الخير مرادا بالذات وكون إحضار الشر من مقتضيات الحكمة التشريعية- كما قال شيخ الإسلام- وتقدير مُحْضَراً في النظم وحذفه للاقتصار بقرينة ذكره في الأول مما قاله الأكثرون ويكون من العطف على المفعولين وهو جائز- كما في الدر المصون- ولم يجعلوه من قبيل- علمت زيدا فاضلا وعمرا- وهو ليس من باب الاقتصار على المفعول الأول من قبيل- زيد قائم. وعمرو- وهو مما حذف فيه الخبر كما صرحوا به فيلزم الاقتصار ضرورة، والفرق بين المبتدأ والمفعول في هذا الباب وهم، ولك أن تجعل تَجِدُ بمعنى تصيب فيتعدى لواحد، ومُحْضَراً حال تَوَدُّ أي تتمنى وهو عامل في الظرف أي تتمنى يوم ذلك.
لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أي بين ذلك اليوم أَمَداً بَعِيداً وقيل: الضمير- لما عملت- لقربه ولأن اليوم أحضر فيه الخير والشر والمتمني بعد الشر لا ما فيه مطلقا فلا يحسن إرجاع الضمير- اليوم- وإلى ذلك ذهب في البحر، ورد بأنه أبلغ لأنه يودّ البعد بينه وبين اليوم مع ما فيه من الخير لئلا يرى ما فيه من السوء، والأمد- غاية الشيء ومنتهاه، والفرق بينه وبين الأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة، والأمد مدة لها حد مجهول والمراد هنا الغاية الطويلة، وقيل: مقدار العمر، وقيل: قدر ما يذهب به من المشرق إلى المغرب، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأمد البعيد المسافة البعيدة- ولعله الأظهر- فالتمني هنا من قبيل التمني في قوله تعالى: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف: ٣٨] وهذا الذي ذكر في نظم الآية هو ما ذهب إليه كثير من أئمة التفسير، وقال أبو حيان: إن الظاهر في بادئ الرأي مبني على أمر اختلف النحاة في جوازه وهو كون الفاعل ضميرا عائدا على ما اتصل به معمول الفعل

صفحة رقم 122

المتقدم نحو غلام هند ضربت هي، والآية من هذا القبيل على ذلك التخريج لأن الفاعل بيودّ عائد على شيء اتصل بمعمول- يودّ- وهو يوم لأنه مضاف إلى تجد كل نفس، والتقدير تودّ كل نفس يوم وجدانها ما عملت من خير وشر مُحْضَراً لو أن بينها إلخ، وجمهور البصريين على جواز ذلك وهو الصحيح، ومنه قوله:

أجل المرء يستحث- ولا يد ري- إذا يبتغي حصول الأماني
أي المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يدري، والفراء. والأخفش. وغيره من البصريين على عدم الجواز لأن هذا المعمول فضلة فيجوز الاستغناء عنه، وعود الضمير على ما اتصل به يخرجه عن ذلك لأنه يلزم ذكر المعمول ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به ولا يخفى وهنه «وفي الآية أوجه أخر» منها أن ناصب الظرف قدير، ولا يرد عليه تقييد قدرته سبحانه بذلك اليوم لأنه إذ قدر في مثله علم قدرته في غيره بالطريق الأولى، ومنها أنه منصوب بالمصير. أو بالذكر. أو بيحذركم مقدرا فيكون مفعولا به. أو بالعقاب المضاف الذي أشعر به كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وصرحوا بأنه على تقدير تعلقه بنحو- اذكروا- يجوز في ما عَمِلَتْ أن يكون مبتدأ خبره حملة تَوَدُّ وأن يكون معطوفا على ما الأولى، وجملة تَوَدُّ إما مستأنفة جوابا لسؤال مقدر كأن سائلا قال حين أمروا بذكر ذلك اليوم. فماذا يكون إذ ذاك؟ فقيل: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها إلخ، أو حال من فاعل تَجِدُ أي- اذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير وشر محضرا وادّت تباعد ما بينها وبينه- وجوز أن يكون حالا من ضمير عَمِلَتْ لقربه، واعترض بأن- الوداد- إنما هو وقت وجدان العمل حاضرا في الآخرة لا وقت العمل في الدنيا، والحالية من ضمير عَمِلَتْ تقتضيه فلا وجه لها، وأجيب بأنها حال مقدرة على معنى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ كذا مقدرا وداده- أي حال كونه ثابتا في قدرنا وداده- فالوداد وإن لم يكن مقارنا للعمل إلا أن كون الوداد ثابتا في قدر الله تعالى وقضائه مقارن له، وهذا مثل ما قيل في قوله تعالى وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: ١١٢]، واعترض أيضا بأنه على تقدير الحالية من ضمير عَمِلَتْ يلزم تخصيص العمل والمقام لا يناسب، وأجيب بأنه ليس القصد التخصيص بل بيان سوء حالهم وحسرتهم ولا بأس به، وجوز أيضا أبو البقاء أن تكون ما في ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ شرطية- وإلى ذلك مال السفاقسي- ورفع تَوَدُّ ليس بمانع لأنه إذا كان الشرط ماضيا والجزاء مضارعا جاز في الجزاء الرفع والجزم من غير تفرقة بين إن الشرطية وأسماء الشرط، واعترض بأن رفع المضارع في الجزاء شاد كرفعه في الشرط كما نص عليه المبرد وشهد به الاستعمال حيث لم يوجد إلا في قول زهير:
«وإن» أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم
فلا يستسهل تخريج القراءة المتفق عليها عليه، نعم لا بأس بتخريج الشواذ كقراءة أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النساء: ٧٨] يرفع يدرك عليه، وأجيب بأنا لا نسلم الشذوذ، وقد ذكر أبو حيان أن الرفع مسموع كثيرا في لسان العرب حتى ادعى بعض المغاربة أنه أحسن من الجزم. وبيت زهير مثله قول أبي صخر:
ولا بالذي إن بان منه حبيبه يقول ويخفي الصبر إني لجازع
وقول الآخر:
إن يسألوا الخير يعطوه وإن خبروا في الجهد أدرك منهم طيب إخبار
برفع أدرك وهو مضارع وقع جواب الشرط، وقوله:
وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه تشوف أهل الغائب المنتظر
إلى غير ذلك، وفي البحر: إن ضعف تخريج الرفع على ذلك ليس بذلك لما علمت ولكن يمتنع أن يكون ما في

صفحة رقم 123

الآية جزاء لما ذكر سيبويه أن النية في المرفوع التقديم ويكون إذ ذاك دليلا على الجواب لا نفس الجواب وحينئذ يؤدي إلى تقديم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة لأن ضمير- وبينه- عائد على اسم الشرط وهو ما فيصير التقدير- تودّ كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ما عملت من سوء- وذلك لا يجوز، ورده السفاقسي بأنا لو تنزلنا على مذهب سيبويه لا يلزم محذور أيضا لأن الجملة لاشتمالها على ضمير الشرط يلزم تأخيرها وإن كانت متقدمة في النية ألا ترى أن الفاعل إذا اشتمل على ضمير يعود على المفعول يمتنع تقديمه عليه عند الأكثر، وإن كان متقدما عليه في النية، وقرأ عبد الله- ودّت- وعليها يرتفع مانع الارتفاع بالإجماع وتصح الشرطية إلا أن العلامة الثاني قال: إن في الصحة كلاما لأن الجملة على تقدير الموصولية حال أو عطف على تَجِدُ والشرطية لا تقع حالا ولا مضافا إليها الظرف فلم يبق إلا عطفها على اذكر- وهو بتقدير صحته يخل بالمعنى- وهو كون هذه الحالة والودادة في ذلك اليوم ولا محيص سوى جعلها حالا بتقدير مبتدأ أي- وهي ما عملت من سوء ودّت- ولا يخفى ما فيه فإنهم أعربوا أن الوصلية مع جملتها على الحالية ولم ينص النحاة على منع الإضافة إليها، وقال غير واحد من الأئمة: إن الموصولية أوفق بقراءة العامة وأجرى على سنن الاستقامة لأنه كلام- كحكاية الحال الكائنة في ذلك اليوم- فيجب أن يحمل على ما يفيد الوقوع ولا كذلك الشرطية على أنها تفيد الاستقبال ولا عمل سوء في استقبال ذلك اليوم وهذا لا ينفي الصحة لأنها وإن لم تدل على الوقوع لا تنافيه، وحديث الاستقبال يدفعه تقدير- وما كان عملت كما في نظائر له، فتدبر وافهم فعلك لا يقطعك عن اختيار الموصولية شيء وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ قيل: ذكره أولا للمنع عن موالاة الكفار وهنا حثا على عمل الخير والمنع من عمل السوء مطلقا. وجوز أن يكون معطوفا على تَوَدُّ أي تهاب من ذلك اليوم ومن العمل السيء وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ بإظهار قهاريته وهو مما لا يكاد ينبغي أن يخرج الكتاب العزيز عليه، وأهون منه عطفه على تَجِدُ والظرف معمول- لا ذكروا- أي اذكروا ذلك اليوم واذكروا يوم يحذركم الله نفسه بإظهار كبريائه وقهاريته. وقد يقال: إنه تكرار لما سبق وإعادة له لكن لا للتأكيد فقط بل لإفادة ما يفيده، وقوله تعالى: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ من أن تحذيره تعالى نفسه من رحمته الواسعة للعباد لأنهم إذا عرفوه وحذروه جرهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه وذلك هو الفوز العظيم، أو من أن تحذيره سبحانه ليس مبنيا على تناسي صفة الرحمة بل هو متحقق مع تحققها أيضا.
فالجملة على الأول تذييل، وعلى الثاني حال، وإلى الأول يشير كلام الحسن رضي الله تعالى عنه، وأل- في العباد للاستغراق وتكرير الاسم الجليل لتربية المهابة وإذهاب الغفلة بتوجه الذهن إلى هذا الحكم أتم توجه.
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ذهب عامة المتكلمين إلى أن المحبة نوع من الإرادة وهي لا تتعلق حقيقة إلا بالمعاني والمنافع فيستحيل تعلقها بذاته تعالى وصفاته فهي هنا بمعنى إرادة العبد اختصاصه تعالى بالعبادة وذلك إما من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم أو من باب الاستعارة التبعية بأن شبه إرادة العبد ذلك ورغبته فيه بميل قلب المحب إلى المحبوب ميلا لا يلتفت معه إلا إليه أو من باب مجاز النقص أي- إن كنتم تحبون طاعة الله تعالى أو ثوابه فاتبعوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه- كذا قيل، وهو خلاف مذهب العارفين من أهل السنة والجماعة فإنهم قالوا المحبة تتعلق حقيقة بذات الله تعالى وينبغي للكامل أن يحب الله سبحانه لذاته وأما محبة ثوابه فدرجة نازلة، قال الغزالي عليه الرحمة في الاحياء: الحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ فإن تأكد ذلك الميل وقوي يسمى عشقا، والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب فإذا قوي سمي مقتا، ولا يظن أن الحب مقصور على مدركات الحواس الخمس حتى يقال: إنه سبحانه لا يدرك بالحواس ولا يتمثل بالخيال فلا يحب لأنه صلى الله تعالى

صفحة رقم 124

عليه وسلم سمى الصلاة- قرة عين- وجعلها أبلغ المحبوبات، ومعلوم أنه ليس للحواس الخمس فيها حظ بل حس سادس مظنته القلب والبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر والقلب أشد إدراكا من العين وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار فتكون لا محالة لذة القلوب بما تدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي تجل أن تدركها الحواس أتم وأبلغ فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى، ولا معنى للحب إلا الميل إلى ما في إدراكه لذة فلا ينكر إذا حب الله تعالى إلا من قعد به القصور في درجة البهائم فلم يجز إدراكه الحواس أصلا، نعم هذا الحب يستلزم الطاعة كما قال الوراق:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
والقول: بأن المحبة تقتضي الجنسية بين المحب والمحبوب- فلا يمكن أن تتعلق بالله تعالى- ساقط من القول لأنها قد تتعلق بالأعراض بلا شبهة ولا جنسية بين العرض والجوهر يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ جواب الأمر وهو رأي الخليل.
وأكثر المتأخرين على أن مثل ذلك جواب شرط مقدر أي إن تتبعوني يحببكم أي يقربكم- رواه ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة، وقيل: يرض عنكم وعبر عن ذلك بالمحبة على طريق المجاز المرسل أو الاستعارة أو المشاكلة، وجعل بعضهم نسبة المحبة لله تعالى من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله تعالى.
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي يتجاوز لكم عنها وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن تحبب اليه بطاعته وتقرب اليه باتباع نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، والجملة تذييل مقرر لما سبق مع زيادة وعد الرحمة، ووضع الاسم الجليل مع الإضمار لما مر للاشعار باستتباع وصف الألوهية للمغفرة والرحمة، وقرئ- تحبوني. ويحبكم. ويحببكم- من حبه يحبه، ومنه قوله:
أحب- أبا ثروان من- حب- تمره وأعلم أن الرفق بالجار أرفق
وو الله لولا تمره- ما حببته ولا كان أدنى من عبيد ومشرق
ومناسبة الآية لما قبلها كما قال الطيبي: أنه سبحانه لما عظم ذاته وبين جلالة سلطانه بقوله جل وعلا: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إلخ تعلق قلب العبد المؤمن بمولى عظيم الشأن ذي الملك والملكوت والجلال والجبروت، ثم لما ثنى بنهي المؤمنين عن موالاة أعدائه وحذر عن ذلك غاية التحذير بقوله عز قائلا: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ إلخ ونبه على استئصال تلك الموالاة بقوله عز شأنه: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ الآية وأكد ذلك بالوعيد الشديد زاد ذلك التعلق أقصى غايته فاستأنف قوله جل جلاله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ ليشير إلى طريق الوصول إلى هذا المولى جل وعلا فكأن قائلا يقول: بأي شيء ينال كمال المحبة وموالاة الرب؟ فقيل: بعد قطع موالاة أعدائنا تنال تلك الدرجة بالتوجه إلى متابعة حبيبنا إذ كل طريق سوى طريقه مسدود وكل عمل سوى ما أذن به مردود «واختلف في سبب نزولها»
فقال الحسن، وابن جريج: زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم يحبون الله تعالى فقالوا يا محمد: إنا نحب ربنا فأنزل الله تعالى هذه الآية،
وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: «وقف النبي صلّى الله عليه وسلم على قريش في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم علقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال: يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل ولقد كانا على الإسلام فقالت قريش: يا محمد إنما نعبد هذه حبا لله تعالى لتقربنا إلى الله سبحانه زلفى فأنزل الله تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ إلخ،
وفي رواية أبي صالح «إن اليهود لما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه أنزل هذه الآية فلما نزلت

صفحة رقم 125

عرضها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على اليهود فأبوا أن يقبلوها»
وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: «نزلت في نصارى نجران وذلك أنهم قالوا: إنما نعظم المسيح ونعبده حبا لله تعالى وتعظيما له فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم»
يروى أنها لما نزلت قال عبد الله بن أبيّ: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله تعالى ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزل قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
أي في جميع الأوامر والنواهي ويدخل في ذلك الأمر السابق دخولا أوليا، وإيثار الإظهار على الإضمار بطريق الالتفات لتعيين حيثية الإطاعة والإشعار بعلتها، وفيه إشارة إلى رد شبهة المنافق كأنه يقول: إنما أوجب الله تعالى عليكم متابعتي لا لما يقول النصارى في عيسى بل لكوني رسول الله فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا أو تعرضوا على أن تكون إحدى التاءين محذوفة فيكون حينئذ داخلا في حيز المقول، وفي ترك ذكر احتمال الإطاعة تلويح إلى أنها غير محتملة منهم فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي لا يقربهم أو لا يرضى عنهم بل يبعدهم عن جوار قدسه وحظائر عزه ويسخط عليها يوم رضاه عن المؤمنين.
والمراد من الكافرين من تولى ولم يعبر بضميرهم للإيذان بأن التولي عن الطاعة كفر وبأن محبته عز وجل مخصوصة بالمؤمنين لأن نفيها- عن هؤلاء الكفار المستلزم لنفيها عن سائرهم لاشتراك العلة- يقتضي الحصر في ضدهم.
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن اليهود قالوا: نحن أبناء إبراهيم. وإسحق. ويعقوب عليهم الصلاة والسلام ونحن على دينهم فنزلت: وقيل: إن نصارى نجران لما غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام وجعلوه ابن الله سبحانه واتخذوه إلها نزلت ردا عليهم وإعلاما لهم بأنه من ذرية البشر المنتقلين في الأطوار المستحيلة على الإله وهذا وجه مناسبة الآية لما قبلها.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في وجه المناسبة: إنه سبحانه لما بين إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: ١٩] وإن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو للبغي والحسد وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته منوط باتباع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم شرع في تحقيق رسالته وأنه من أهل بيت النبوة القديمة فبدأ ببيان جلالة أقدار الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتبعه ذكر مبدأ عيسى وأمه وكيفية دعوته الناس إلى الإيمان تحقيقا للحق وإبطالا لما عليه أهل الكتابين من الإفراط والتفريط في شأنهما ثم بين محاجتهم في إبراهيم وادعائهم الانتماء إلى ملته ونزه ساحته العلية عما هم عليه من اليهودية والنصرانية ثم نص على أن جميع الرسل دعاة إلى عبادة الله تعالى وتوحيده وأن أممهم قاطبة مأمورون بالإيمان بمن جاءهم من رسول مصدق لما معهم تحقيقا لوجوب الايمان بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتحتم الطاعة له حسبما يأتي تفصيله انتهى- وهو وجه وجيه-.
وبدأ بآدم عليه الصلاة والسلام لأنه أول النوع وثنى بنوح عليه الصلاة والسلام لأنه آدم الأصغر والأب الثاني وليس أحد على وجه البسيطة إلا من نسله لقوله سبحانه: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات: ٧٧] وذكر آل إبراهيم لترغيب المعترفين باصطفائهم في الإيمان بنبوة واسطة قلادتهم واستمالتهم نحو الاعتراف باصطفائه بواسطة كونه من زمرتهم وذكر آل عمران مع اندراجهم في الآله الأول لإظهار مزيد الاعتناء بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام لكمال رسوخ الاختلاف في شأنه وهذا هو الداعي إلى إضافة الآل في الأخيرين دون الأولين.
وقيل: المراد بالآل في الموضعين بمعنى النفس أي- اصطفى آدم، ونوحا، وإبراهيم، وعمران. وذكر الآل فيهما اعتناء بشأنهما وليس بشيء. والمراد بآل إبراهيم كما قال مقاتل: إسماعيل، وإسحق، ويعقوب، والأسباط. وروي عن

صفحة رقم 126

ابن عباس. والحسن رضي الله تعالى عنهم أنهم من كان على دينه كآل محمد صلّى الله عليه وسلم في أحد الإطلاقات، والمراد بآل عمران عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه مريم بنت عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود عليهما السلام قاله الحسن ووهب، وقيل: المراد بهم موسى وهارون عليهما السلام، فعمران حينئذ هو عمران بن يصهر أبو موسى- قاله مقاتل- وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة. والظاهر هو القول الأول- لأن السورة تسمى آل عمران ولم تشرح قصة عيسى ومريم في سورة أبسط من شرحها في هذه السورة، وأما موسى، وهارون فلم يذكر من قصتهما فيها طرف فدل ذلك على أن عمران المذكور هو أبو مريم، وأيضا يرجح كون المراد به أبا مريم أن الله تعالى ذكر اصطفاءها بعد ونص عليه وأنه قال سبحانه: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ [آل عمران: ٣٥] إلخ، والظاهر أنه شرح لكيفية الاصطفاء المشار إليه بقوله تعالى:
وَآلَ عِمْرانَ فيكون من قبيل تكرار الاسم في جملتين فيسبق الذهن إلى أن الثاني هو الأول نحو أكرم زيدا إن زيدا رجل فاضل، وإذا كان المراد بالثاني غير الأول كان في ذلك إلباس على السامع، وترجيح القول الأخير بأن موسى يقرن بإبراهيم في الذكر ليس في القوة- كمرجح الأول كما لا يخفى، والاصطفاء الاختيار، وأصله أخذ صفوة الشيء كالاستصفاء، ولتضمينه معنى التفضيل عدي بعلى، والمراد- بالعالمين- أهل زمان كل واحد منهم أي اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمانه، ويدخل الملك في ذلك، والتأويل خلاف الأصل.
ومن هنا استدل بعضهم بالآية على أفضلية الأنبياء على الملائكة، ووجه الاصطفاء في جميع الرسل أنه سبحانه خصهم بالنفوس القدسية وما يليق بها من الملكات الروحانية والكمالات الجسمانية حتى إنهم امتازوا كما قيل: على سائر الخلق خلقا وخلقا وجعلوا خزائن أسرار الله تعالى ومظهر أسمائه وصفاته ومحل تجليه الخاص من عباده ومهبط وحيه ومبلغ أمره ونهيه، وهذا ظاهر في المصطفين المذكورين في الآية من الرسل، وأما مريم فلها الحظ الأوفر من بعض ذلك، وقيل: اصطفى آدم بأن خلقه بيديه وعلمه الأسماء وأسجد له الملائكة وأسكنه جواره، واصطفى نوحا بأنه أول رسول بعث بتحريم البنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وسائر ذوي المحارم وأنه أب الناس بعد آدم وباستجابة دعوته في حق الكفرة والمؤمنين، واصطفى آل إبراهيم بأن جعل فيهم النبوة والكتاب، ويكفيهم فخرا أن سيد الأصفياء منهم، واصطفى عيسى وأمه بأن جعلهما آية للعالمين.
وإن أريد بآل عمران موسى وهارون فوجه اصطفاء موسى عليه الصلاة والسلام تكليم الله تعالى إياه وكتابة التوراة له بيده، ووجه اصطفاء هارون جعله وزيرا لأخيه، وأما اصطفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فمفهوم بطريق الأولى وعدم التصريح به للايذان بالغنى عنه لكمال شهرة أمره بالخلة، وكونه شيخ الأنبياء وقدوة المرسلين، وأما اصطفاء نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فيفهم من دخوله في آل إبراهيم كما أشرنا إليه وينضم إليه أن سياق هذا المبحث لأجله كما يدل عليه بيان وجه المناسبة في كلام شيخ الإسلام، وروي عن أئمة أهل البيت أنهم يقرؤون- وآل محمد على العالمين- وعلى ذلك لا سؤال، ومن الناس من قال: المراد بآل إبراهيم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم جعل كأنه كل الآل مبالغة في مدحه، وفيه أن نبينا وإن كان في نفس الأمر بمنزلة الأنبياء كلهم فضلا عن آل إبراهيم فقط إلا أن هذه الإرادة هنا بعيدة، ويشبه ذلك في البعد بل يزيد عليه ما ذكره بعضهم في الآية أنه لما أمرهم بمتابعته صلى الله تعالى عليه وسلم وإطاعته، وجعل إطاعته ومتابعته سببا لمحبة الله تعالى إياهم وعدم إطاعته سببا لسخط الله تعالى عليهم وسلب محبته عنهم أكد ذلك بتعقيبه بما هو عادة الله تعالى من اصطفاء أنبيائه على مخالفيهم وقمعهم وتذليلهم وإعدامهم لهم تخويفا لهؤلاء المتمردين عن متابعته صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر اصطفاء آل إبراهيم على العالم مع أن العالم كانوا كافرين فجعل دينهم شائعا وذلل مخالفيهم، واصطفاء موسى وهارون على العالم

صفحة رقم 127

فجعل السحرة مع كثرتهم مغلوبين لهما وفرعون مع عظمته وغلبة جنوده مغلوبا وأهلكهم، ولذا خص آدم بالذكر ونوحا والآلين، ولم يذكر إبراهيم ونبينا صلى الله تعالى عليهما وسلم إذ إبراهيم لم يغلب، وهذا الكلام لبيان أن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم سيغلب- وليس المراد الاصطفاء بالنبوة حتى يخفي وجه التخصيص- وبهذا ظهر ضعف الاستدلال به على فضلهم على الملائكة انتهى.
وفيه أن المتبادر من الاصطفاء الاجتباء والاختيار لا النصر على الأعداء على أن المقام بمراحل عن هذا الحمل، وقد أخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الاصطفاء هنا بالاختيار للرسالة- ومثله فيما أخرجه ابن جرير عن الحسن- وأيضا حمل آل عمران على موسى. وهارون مما لا ينساق إليه الذهن كما علمت، وكأن القائل لما لم يتيسير له إجراء الاصطفاء بالمعنى الذي أراده في عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه اضطر إلى الحمل على خلاف الظاهر، وأنت تعلم أن الآية غنية عن الولوج في مثل هذه المضايق.
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ نصب على البدلية من الآلين أو الحالية منهما، وقيل: بدل من «نوح» وما بعده، وجوز أن يكون بدلا من آدَمَ وما عطف عليه، ورده أبو البقاء بأن آدم ليس بذرية، وأجيب بأنه مبني على ما صرح به الراغب وغيره من أن الذرية تطلق على الآباء والأبناء لأنه من الذرء بمعنى الخلق، والأب ذرئ منه الولد، والولد ذرئ من الأب إلا أن المتبادر من الذرية النسل- وقد تقدم الكلام عليه.
والمعنى أنهم ذرية واحدة متشعبة البعض من البعض في النسب كما ينبئ عنه التعرض لكونهم ذرية، وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه- واختاره الجبائي- وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ في النية والعمل والإخلاص والتوحيد، ومِنْ على الأول ابتدائية والاستمالة تقريبية وعلى الثاني اتصالية والاستمالة برهانية، وقيل: هي اتصالية فيهما وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوال العباد عَلِيمٌ بأفعالهم وما تكنه صدورهم فيصطفي من يشاء منهم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ تقرير للاصطفاء وبيان لكيفيته، والظرف في حيز النصب على المفعولية بفعل محذوف أي اذكر لهم وقت قولها، وقيل: هو منصوب على الظرفية لما قبله، وهو سَمِيعٌ عَلِيمٌ على سبيل التنازع أو- السميع- ولا يضر الفصل بينهما بالأجنبي لتوسعهم في الظروف، وقيل: هو ظرف لمعنى الاصطفاء المدلول عليه- باصطفى- المذكور كأنه قيل: واصطفى آل عمران إِذْ قالَتِ إلخ فكان من عطف الجمل على الجمل لا المفردات على المفردات ليلزم كون اصطفاء الكل في ذلك الوقت، وامْرَأَتُ عِمْرانَ هي حنة بنت فاقوذا- كما رواه إسحق بن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه والحاكم عن أبي هريرة- وهي جدة عيسى عليه الصلاة والسلام وكان لها أخت اسمها إيشاع تزوجها زكريا عليه الصلاة والسلام- هي أم يحيى- فعيسى ابن بنت خالة يحيى- كما ذكر ذلك غير واحد من الأخباريين- ويشكل عليه ما
أخرجه الشيخان في حديث المعراج من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم، ويحي بن زكريا»
وأجاب صاحب التقريب بأن الحديث مخرج على المجاز فإنه كثيرا ما يطلق الرجل اسم الخالة على بنت خالته لكرامتها عليه، والغرض أن بينهما عليهم الصلاة والسلام هذه الجهة من القرابة وهي جهة الخئولة، وقيل: كانت إيشاع أخت حنة من الأم وأخت مريم من الأب على أن عمران نكح أولا أم حنة فولدت له إيشاع ثم نكح حنة بناء على حل نكاح الربائب في شريعتهم فولدت مريم فكانت إيشاع أخت مريم من الأب وخالتها من الأم لأنها أخت حنة من الأم، وفيه أنه مخالف لما ذكره محيي السنة من أن إيشاع وحنة بنتا فاقوذا على أنه بعيد لعدم الرواية في الأمرين.
أخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن حنة امرأة عمران كانت حبست عن الولد والمحيض

صفحة رقم 128

فبينا هي ذات يوم في ظل شجرة إذ نظرت إلى طير يزق فرخا له فتحركت نفسها للولد فدعت الله تعالى أن يهب لها ذكرا فحاضت من ساعتها فلما ظهرت أتاها زوجها فلما أيقنت بالولد قالت: لئن نجاني الله تعالى ووضعت ما في بطني لأجعلنه محررا ولم يكن يحرر في ذلك الزمان إلا الغلمان فقال لها زوجها: أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى- والأنثى عورة- فكيف تصنعين؟ فاغتمت لذلك فقالت عند ذلك:
رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي وهذا في الحقيقة استدعاء للولد الذكر لعدم قبول الأنثى فيكون المعنى- رب إني نذرت لك ما في بطني فاجعله ذكرا على حد أعتق عبدك عني- وجعله بعض الأئمة تأكيدا لنذرها إخراجا عن صورة التعليق إلى هيئة التنجيز واللام من لَكَ للتعليل، والمراد لخدمة بيتك- والمحرر من لا يعمل للدنيا ولا يتزوج، ويتفرغ لعمل الآخرة ويعبد الله تعالى ويكون في خدمة الكنيسة- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وقال مجاهد: المحرر الخادم للبيعة، وفي رواية عنه الخالص الذي لا يخالطه شيء من أمر الدنيا، وقال محمد بن جعفر بن الزبير: أرادت عتيقا خالصا لطاعتك لا أصرفه في حوائجي، وعلى كل هو من الحرية- وهي ضربان- أن لا يجري عليه حكم السبي وأن لا تتملكه الأخلاق الرديئة والرذائل الدنيوية.
وانتصابه على الحالية من ما والعامل فيه نَذَرْتُ وقيل: من الضمير الذي في الجار والمجرور والعامل فيه حينئذ الاستقرار- ولا يخفى رجحان الوجه الأول- والحال إما مقدرة أو مصاحبة، وجوز أبو حيان أن ينصب على المصدر أي- تحريرا- لأنه بمعنى النذر، وتأكيد الجملة للإيذان بوفور الرغبة في مضمونها وتقديم الجار والمجرور لكمال الاعتناء به والتعبير عن الولد بما لإبهام أمره وقصوره عن درجة العقلاء، والتقبل- أخذ الشيء على وجه الرضا وأصله المقابلة بالجزاء- وتقبل- هنا بمعنى اقبل إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لسائر المسموعات فتسمع دعائي الْعَلِيمُ بما كان ويكون فتعلم نيتي وهو تعليل لاستدعاء القبول من حيث إن علمه تعالى بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لذلك تفضلا وإحسانا، وتأكيد الجملة لغرض قوة يقينها بمضمونها وقصر صفتي السمع والعلم عليه تعالى لغرض اختصاص دعائها وانقطاع حبل رجائها عما عداه سبحانه بالكلية مبالغة في الضراعة والابتهال- قاله شيخ الإسلام- وتقديم صفة السمع لأن متعلقاتها وإن كانت غير متناهية إلا أنها ليست كتعلقات صفة العلم في الكثرة فَلَمَّا وَضَعَتْها الضمير- لما- ولما علم المتكلم أن مدلولها مؤنث جاز له تأنيث الضمير العائد إليه وإن كان اللفظ مذكرا، وأما التأنيث في قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى فليس باعتبار العلم بل باعتبار أن كل ضمير وقع بين مذكر ومؤنث هما عبارتان عن مدلول واحد جاز فيه التذكير والتأنيث نحو الكلام يسمى جملة، وأُنْثى حال بمنزلة الخبر فأنث العائد إلى «ما» نظرا إلى الحال من غير أن يعتبر فيه معنى الأنوثة ليلزم اللغو أو باعتبار التأويل بمؤنث لفظي يصلح للمذكر والمؤنث- كالنفس، والحبلة، والنسمة- فلا يشكل التأنيث ولا يلغو أُنْثى حال مبينة- كذا قيل- ولا يخلو عن نظر، فالحق أن الضمير لما- في بطني- والتأنيث في الأول لما أن المقام يستدعي ظهور أنوثته واعتباره في حيز الشرط إذ عليه بترتب جواب (لما) لا على وضع ولد ما، والتأنيث في الثاني للمسارعة إلى عرض ما دهمها من خيبة الرجاء وانقطاع حبل الأمل، وأُنْثى حال مؤكدة من الضمير أو بدل منه، وليس الغرض من هذا الكلام الإخبار لأنه إما للفائدة أو للازمها، وعلم الله تعالى محيط بهما بل لمجرد التجسر والتحزن، وقد قال الإمام المرزوقي: إنه قد يرد الخبر صورة لأغراض سوى الاخبار كما في قوله:

قومي هم قتلوا أميم أخي فإذا رميت «يصيبني سهمي»
فإن هذا الكلام تحزن وتفجع وليس بإخبار، وحاصل المعنى هنا على ما قرر- فلما وضعت بنتا تحسرت إلى

صفحة رقم 129

مولاها وتفجعت إذ خاب منها رجاها- وعلى هذا لا إشكال أصلا في التأنيث. ولا في الجزاء نفسه. ولا في ترتبه على الشرط، وما قيل: إنه يحتمل أن يكون فائدة هذا الكلام- التحقير للمحرر استجلابا للقبول لأنه من تواضع لله تعالى رفعه الله سبحانه- فمستحقر من القول بالنسبة إلى ما ذكرنا والتأكيد هنا قيل: للرد على اعتقادها الباطل وربما أنه يعود إلى الاعتناء والمبالغة في التحسر الذي قصدته والرمز إلى أنه صادر عن قلب كسير وفؤاد بقيود الحرمان أسير وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ليس المراد الرد عليها في إخبارها بما هو سبحانه أعلم به كما يتراءى من السياق بل الجملة اعتراضية سيقت لتعظيم المولود الذي وضعته وتفخيم شأنه والتجهيل لها بقدره- أي والله أعلم بالشيء الذي وضعته وما علق به من عظائم الأمور ودقائق الأسرار وواضح الآيات، وهي غافلة عن ذلك كله، و «ما» على هذا عبارة عن الموضوعة، قيل: والإتيان بها دون- من- يلائم التجهيل فإنها كثيرا ما يؤتى بها لما يجهل به وجعلها عبارة عن الواضعة- أي والله تعالى أعلم بشأن أم مريم حين تحسرها وتحزنها من توهم خيبة رجاها وأنها ليست من الولي إلى الله تعالى في شيء إذ لها مرتبة عظمى وتحريرها تحرير لا يوجد منه- مما لا وجه له وجزالة النظم تأباه، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بِما وَضَعَتْ على خطاب الله تعالى لها، والمراد به تعظيم شأن الموضوع أيضا أي إنك لا تعلمين قدر ما وضعته وما أودع الله تعالى فيه.
وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب «بما وضعت» على أنه من كلامها قالته اعتذارا إلى الله تعالى حيث وضعت مولودا لا يصلح للغرض، أو تسلية لنفسها أي ولعل لله تعالى في ذلك سرا وحكمة- ولعلى هذه الأنثى خير من الذكر فالجملة حينئذ لنفي العلم لا للتجهيل لأن العبد ينظر إلى ظاهر الحال ولا يقف على ما في خلاله من الأسرار، وحمل قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على هذا المعنى بجعل الخطاب منها لنفسها في غاية البعد، ووضع الظاهر موضع ضمير المخاطب إظهارا لغاية الإجلال وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى اعتراض آخر مبين لما اشتمل عليه الأول من التعظيم وليس بيانا لمنطوقه حتى يلحق بعطف البيان الممتنع فيه العطف.
واللام في الذكر والأنثى للعهد، أما التي في الأنثى فليسبق ذكرها صريحا في قوله سبحانه حكاية: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وأما التي في الذكر فلقولها: إِنِّي نَذَرْتُ إلخ إذ هو الذي طلبته والتحرير لا يكون إلا للذكر وسمي هذا العهد التقديري- وهو غير الذهني لأن قولها: ما فِي بَطْنِي صالح للصنفين، وقولها: مُحَرَّراً تمن لأن يكون ذكرا فأشير إلى ما في البطن حسب رجائها، وجوز أن تكون الجملة من قولها فيكون مرادها نفي مماثلة الذكر للأنثى، فاللام للجنس- كما هو الظاهر- لأنه لم يقصد خصوص ذكر وأنثى بل إن المراد أن هذا الجنس ليس كهذا الجنس، وأورد عليه أن قياس كون ذلك من قولها أن يكون وليست الأنثى كالذكر فإن مقصودها تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر والعادة في مثله أن ينفي عن الناقص شبهه بالكامل لا العكس، وأجيب بأنه جار على ما هو العادة في مثله أيضا لأن مراد أم مريم ليس تفضيل الذكر على الأنثى بل العكس تعظيما لعطية الله تعالى على مطلوبها أي وليس الذكر الذي هو مطلوبي كالأنثى على هذا يكون للعهد وهو خلاف الظاهر الذي ذهب إليه أكثر المفسرين، وأما ثانيا فلأنه ينافي التحسر والتحزن المستفاد من قولها: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى فإن تحزنها ذلك إنما هو لترجيحها الذكر على الأنثى، والمفهوم من هذا الجواب ترجيحها الأنثى على الذكر اللهم إلا أن يحمل قولها ذلك على تسلية نفسها بعد ما تحزنت على هبة الأنثى بدل الذكر الذي كانت طلبته إلا أنه تبقى مخالفة الظاهر على ما هي، فالأولى في الجواب عدم الخروج عما هو الظاهر والبحث فيما اقتضته العادة فقد قال في الانتصاف بعد نقل الإيراد وذكر القاعدة:
وقد وجدت الأمر في ذلك مختلفا فلم يثبت لي تعين ما قالوه ألا ترى إلى قوله تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ

صفحة رقم 130

[الأحزاب: ٣٢] فنفي عن الكامل شبه الناقص لأن الكمال لأزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثابت بالنسبة إلى عموم النساء- وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عمران- ومنه أيضا أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: ١٧] انتهى.
وتمام الكلام في هذا المقام ما ذكره بعض المحققين أنه إذا دخل نفي بلا. أو غيرها. أو ما في معناه على تشبيه مصرح بأركانه، أو ببعضها احتمل معنيين تفضيل لمشبه بأن يكون المعنى أنه لا يشبه بكذا لأن وجه الشبه فيه أولى وأقوى- كقولك ليس زيد كحاتم في الجود- ويحتمل عكسه بأن يكون المعنى أنه لا يشبه به لبعد المسافة بينهما كقول العرب- ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك- وقوله:
طرف الخيال ولا كليلة مدلج ووقع في شروح المقامات وغيرها أن العرب لم تستعمل النفي بلا على هذا الوجه إلا للمعنى الثاني وأن استعماله لتفضيل المشبه من كلام المولدين حتى اعترضوا على قول الحريري في قوله:
غدوت ولا اغتداء الغراب وعيب قول صاحب التلويح في خطبته: نال حظا من الاشتهار ولا اشتهار الشمس نصف النهار، ومبنى الاعتراض على هذا، ولعله ليس بلازم كما أشار إليه صاحب الانتصاف، بما أورد من الآيات، ومما أورده الثعالبي من خلافه أيضا في كتابه المنتخب- فلان حسن ولا القمر. وجواد ولا المطر- على أنه لو سلم ما ذكروه فالمعاني لا حجر فيها على أن ما ورد في النفي بلا المعترضة بين الطرفين لا في كل نفي انتهى.
وهو كما قال: من نفائس المعاني التي ينبغي حفظها- وقوله تعالى: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ عطف على إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى المنصوبة المحل على المفعولية للقول- وما بينهما كما علمت اعتراض بجملتين غير محكيتين الثانية من تتمة الأولى معنى على ما بين- ولهذا أجراه البعض مجرى الاعتراض في الاعتراض فجعله نظير قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة: ٧٦].
واعترض بأنه كيف يجوز الاعتراض بين كلامي أم مريم وكلام متكلم لا يجوز أن يكون معترضا بين كلامي متكلم آخر، وأجيب بأن كلام أم مريم من كلام الله تعالى نقلا عن أم مريم ولا بعد في أن يكون كلامه تعالى اعتراضا بين كلاميها اللذين هما من كلام الله تعالى نقلا عنها، هذا على تقدير أن لا تكون تانك الجملتان من كلام أم مريم أما إذا كانتا من كلامها بناء على ما سبق من القراءة والاحتمال فلا اعتراض.
قيل: والغرض من عرض التسمية على عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة: ١٠٩، ١١٦، التوبة: ٧٨، سبأ: ٤٨] التقرب إليه تعالى واستدعاء العصمة لها فإن مَرْيَمَ في لغتهم بمعنى العابدة- ولا يخفى بعده- إذ مجرد ذكر تسميتها بنتها مريم لا يكاد يكون مقربا لها إليه تعالى لأن التقرب إليه تعالى إنما يكون بسبب العبادة- ومجرد عرض التسمية ليس بعبادة، فكيف يكون مقربا إليهم إلا أن يقال: إن التقرب إلى الله تعالى بحبها للعبادة الذي أشعر به تسميتها بنتها عابدة، أو اعتقاد أن الله تعالى مستعاذ يجير من يستعيذ به عما يخافه.
واعترض بأن هذا لا يدفع الشبهة بل هي باقية أيضا لأن المقرب حينئذ ما في القلب من الحب والاعتقاد لا عرض ذلك على من لا تخفى عليه خافية، والأولى أن يقال: إن الغرض من ذلك إظهار أنها غير راجعة عن نيتها وإن كان ما وضعته أنثى وأنها وإن لم تكن خليقة بسدانة بيت المقدس فلتكن من العابدات فيه واستقلالها بالتسمية لكون أبيها قد مات وأمها حامل بها فتقديم المسند إليه للتخصيص يعني التسمية مني لا يشاركني فيها أبوها، قيل: وفي ذلك تعريض بيتمها استعطافا له تعالى وجعلا ليتمها شفيعا لها، والقول: بأن فائدة عرض تسميتها التحسر والتحزن أيضا أي إني سميتها لا أبوها لعدم احتفاله بها والتفاته إليها لكراهة الرجال في الغالب البنات فمع أنه خلاف ما دل عليه أكثر

صفحة رقم 131

الآثار ونطق به غالب الأخبار من موت أبيها وهي حمل يجر إلى ما ينبغي أن تنزه عنه ساحة الرجل الصالح عمران كما لا يخفى، وقد تقدم الكلام في مَرْيَمَ وزنا ومعنى، وقد اختار بعض المتأخرين أنها معربة مارية بمعنى- جارية- ويقرب أن يكون القول المعول عليه، واستدل بالآية على جواز تسمية الأطفال يوم الولادة لا يوم السابع لأن الظاهر أنها إنما قالت ذلك بإثر الوضع، واستدل بتغاير المفعولين على تغاير الاسم والمسمى، وقد تقدم البحث فيه وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ عطف على إِنِّي سَمَّيْتُها وأتى هنا بخير إن فعلا مضارعا دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها وهذا بخلاف وَضَعَتْها وسَمَّيْتُها حيث أتى بالخبرين ماضيين لانقطاعهما وقدم المعاذ به على المعطوف الآتي اهتماما به، ومعنى أُعِيذُها بِكَ أمنعها وأجيرها بحفظك، وأصل العوذ كما قال الراغب: الالتجاء إلى الالتجاء إلى الغير والتعلق به يقال: عاذ فلان بفلان إذا استجار به، ومنه أخذت العوذة وهي التميمة والرقية وقرأ أبو جعفر، ونافع- «إنّي» - بفتح ياء المتكلم وكذا في سائر المواضع التي بعد الياء ألف مضمومة إلا في موضعين بِعَهْدِي أُوفِ [البقرة: ٤٠] وآتُونِي أُفْرِغْ [الكهف: ٩٦] وَذُرِّيَّتَها عطف على الضمير المنصوب، وفي النصيص على إعاذتها وإعاذة ذريتها رمز إلى طلب بقائها حية حتى تكبر، وطلب للتناسل منها هذا إذا أريد بالإعاذة مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أي المطرود، وأصل الرجم: الرمي بالحجارة الحفظ من إغوائه الموقع في الخطايا لأنه إنما يكون بعد البلوغ إذ لا تكليف قبله، وأما إذا أريد منها الحفظ منه مطلقا فيفهم طلب الأمرين من الأمر الأخير، ويؤيد هذا ما
أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل من مسّه صارخا إلا مريم وابنها»
وفي بعض طرقه أنه ضرب بينه وبينها حجاب وأن الشيطان أراد أن يطعن بإصبعه فوقعت الطعنة في الحجاب،
وفي رواية إسحاق بن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كل ولد آدم ينال منه الشيطان يطعنه حين يقع بالأرض بإصبعه ولهذا يستهل إلا ما كان من مريم وابنها فإنه لم يصل إبليس إليهما»
وطعن القاضي عبد الجبار بإصبع فكره في هذه الأخبار بأژنها خبر واحد على خلاف الدليل، وذلك أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من له تمييز ولأنه لو تمكن من هذا الفعل لجاز أن يهلك الصالحين، وأيضا لم خص عيسى وأمه دون سائر الأنبياء، وأنه لو وجد المس أو النخس لدام أثره وليس فليس، والزمخشري زعم أن المعنى على تقدير الصحة أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: ٣٩، ٤٠، ص: ٨٢، ٨٣] واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ونحوه من التخييل قول ابن الرومي:

لما تؤذن الدنيا به من صروفها - يكون بكاء الطفل ساعة يولد-
وأما حقيقة النخس والمس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلون به من نخسه انتهى.
ولا يخفى أن الأخبار في هذا الباب كثيرة وأكثرها مدون في الصحاح والأمر لا امتناع فيه، وقد أخبر به الصادق عليه الصلاة والسلام فليتق بالقبول، والتخييل الذي ركن إليه الزمخشري ليس بشيء لأن المس باليد ربما يصلح لذلك أما الاستهلال صارخا فلا على أن أكثر الروايات لا يجري فيها مثل ذلك، وقوله: لامتلأت الدنيا عياطا قلنا: هي مليئة فما من مولود إلا يصرخ، ولا يلزم من تمكنه من تلك النخسة تمكنه منها في جميع الأوقات كيف
وفي الصحيح «لولا أن الملائكة يحفظونكم لاحتوشتكم الشياطين كما يحتوش الذباب العسل» ؟ وفي رواية «لاختطفتكم الجن»
وفسر قوله

صفحة رقم 132

تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ [الرعد: ١١] في أحد الوجوه به، وبهذا يندفع أيضا قول القاضي: من أنه لو تمكن من هذا الفعل لجاز أن يهلك الصالحين وبقاء الأثر بل وحصوله أيضا ليس أمرا ضروريا للمس ولا للنخس والحصر باعتبار الأغلب والاقتصار على عيسى عليه السلام وأمه إيذانا باستجابة دعاء امرأة عمران على أتم وجه ليتوجه أرباب الحاج إلى الله تعالى بشراشرهم، أو يقدر له ما يخصصه، وعلى التقديرين يخرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من العموم فلا يلزم تفضيل عيسى عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى، ويؤيده خروج المتكلم من عموم كلامه، وقد قال به جمع ويشهد له ما
روى الجلال في البهجة السنية عن عكرمة قال: لما ولد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أشرقت الأرض نورا فقال إبليس: لقد ولد الليلة ولد يفسد علينا أمرنا فقالت له جنوده: لو ذهبت إليه فجاءه فركضه جبريل عليه السلام فوقع بعدن،
وهذا أولى من إبقاء العام على عمومه، والقول بأنه لا يبعد اختصاص عيسى وأمه بهذه الفضيلة دون الأنبياء عليهم السلام ولا يلزم منه تفضيله عليهم السلام إذ قد يوجد في الفاضل ما لا يوجد في الأفضل، وعلى كلا الأمرين الفاضل والمفضول لا إشكال في الأخبار من تلك الحيثية، نعم قد يشكل على ظاهرها أن إعاذة أم مريم كانت بعد الوضع فلا يصح حملها على الإعاذة من المس الذي يكون حين الولادة، وأجيب بأن المس ليس إلا بالانفصال وهو الوضع ومعه الإعاذة. غايته أنه عبر عنه بالمضارع كما أشرنا إليه لقصد الاستمرار فليتأمل، والعجب من بعض أهل السنة كيف يتبع المعتزلة في تأويل مثل هذه الأحاديث الصحيحة لمجرد الميل إلى ترهات الفلاسفة مع أن إبقاءها على ظاهرها مما لا يرنق لهم شربا ولا يضيق عليهم سربا، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه ويجعل مستقبل حالنا خيرا من ماضيه فَتَقَبَّلَها أي رضي بمريم في النذر مكان الذكر ففيه تشبيه النذر بالهدية ورضوان الله تعالى بالقبول رَبُّها أي رب مريم المبلغ لها إلى كمالها اللائق بها، وقيل: الضمير لامرأة عمران بدليل أنها التي خاطبت ونادت بقولها رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها إلخ، والأول أولى بِقَبُولٍ حَسَنٍ الباء مثلها في- كتبت بالقلم- وما يقبل به الشيء- كالسعوط واللدود- ما يسعط به ويلد أي تقبلها بوجه حسن تقبل به النذائر وهو اختصاصه سبحانه إياها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم يقبل قبلها أنثى، أو تسلمها من أمها عقب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة والخدمة.
فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لما وضعتها خشيت حنة أن لا تقبل الأنثى محررة فلفتها في الخرقة ووضعتها في بيت المقدس عند القراء فتساهم القراء عليها- لأنها كانت بنت إمامهم- أيهم يأخذها فقال زكريا وهو رأس الأحبار: أنا آخذها وأنا أحقهم بها لأن خالتها عندي، فقالت القراء: ولكنا نتساهم عليها فمن خرج سهمه فهو أحق بها فدعوا بأقلامهم التي يكتبون بها الوحي وجمعوها في موضع ثم غطوها، وقال زكريا لبعض من الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم ممن في بيت المقدس: أدخل يدك فأخرج فأدخل يده فأخرج قلم زكريا فقالوا: لا نرضى ولكن نلقي الأقلام في الماء فمن خرج قلمه في جرية الماء ثم ارتفع فهو يكفلها فألقوا أقلامهم في نهر الأردن فارتفع قلم زكريا في جري الماء فقالوا: نقترع الثالثة فمن جرى قلمه مع الماء فهو يكفلها فألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا مع الماء وارتفعت أقلامهم في جرية الماء وقبضها عند ذلك زكريا.
ويجوز أن تكون الباء للملابسة، والقبول- مصدر وهو من المصادر الشاذة وهناك مضاف محذوف، والمعنى رضي بها متلبسة بأمر ذي قبول، ووجه ذي رضا وهو ما يقيمها مقام الذكور لما اختصت به من الإكرام، ويجوز أن يكون تفعل بمعنى استفعل- كتعجل بمعنى استعجل- والمعنى فاستقبلها ربها وتلقاها من أول وهلة من ولادتها بقبول أحسن وأظهر الكرامة فيها حينئذ- وفي المثل خذ الأمر بقوابله- وجوز أن تكون الباء زائدة، والقبول- مصدر مؤكد للفعل السابق بحذف الزوائد أي قبلها قبولا حسنا، وعدل عن الظاهر للإيذان بمقارنة التقبل لكمال الرضا وموافقته للعناية الذاتية فان صيغة التفعل مشعرة بحسب أصل الوضع

صفحة رقم 133

بالتكلف وكون الفعل على خلاف طبع الفاعل وإن كان المراد بها في حقه تعالى ما يترتب عليه من كمال قوة الفعل وكثرته، ويحتمل على بعد بعيد أن تكون الباء للمصاحبة بمعنى مع- أي تقبل نذرها- مع قبول حسن لدعاء أمها في حقها وحق ذريتها حيث أعاذهما من الشيطان الرجيم من أول الولادة إلى خاتمة الحياة وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً أي رباها الرب تربية حسنة في عبادة وطاعة لربها قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية عنه أنه سوّى خلقها فكانت تشب في يوم ما يشب غيرها في عام، وقيل: تعهدها بما يصلحها في سائر أحوالها، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مجاز مرسل بعلاقة اللزوم فإن الزارع يتعهد زرعه بسقيه عند الاحتياج وحمايته عن الآفات وقلع ما يخنقه من النبات.
ونَباتاً هنا مصدر على غير لفظ الفعل المذكور وهو نائب عن إنبات، وقيل: التقدير فنبتت نباتا، والنبات والنبت بمعنى. وقد يعبر بهما عن النابت وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا وهو من ولد سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام- أي ضمها الله تعالى إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها- على ما ذكر في حديث ابن عباس، وكل ذلك من آثار قدرته تعالى، ولم يكن هناك وحي إليه بذلك، وقرأ بتشديد الفاء حمزة، والكسائي، وعاصم وقصروا زَكَرِيَّا غير عاصم في رواية ابن عياش- وهو مفعول به لكفلها- وقرأ الباقون بتخفيف الفاء ومدوا زَكَرِيَّا ورفعوه على الفاعلية- وفيه لغتان أخريان- إحداهما «زكريّ» - بياء مشددة من غير ألف، وثانيتهما «زكر» بغير ياء ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: لألف التأنيث، وقرأ أبي «وأكفلها»، وقرأ مجاهد- «فتقبّلها ربّها» و «أنبتها» و «كفلها» على صيغة الدعاء في الأفعال الثلاثة ونصب «ربها» على النداء أي فاقبلها يا ربها وربها، واجعل زكريا كافلا لها، وقد استجاب الله تعالى دعائها في جميع ذلك، والذي عليه الأكثرون وشهدت له الأخبار أن كفالة زكريا كانت من أول أمرها، وزعم بعضهم أنه كفلها بعد أن فطمت ونبتت النبات الحسن وليس بالقوي كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ بيان لقبولها ولهذا لم يعطف، والمحراب على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما غرفة بنيت لها في بيت المقدس وجعل بابها في وسط الحائط وكانت لا يصعد عليها إلا بسلم مثل باب الكعبة، وقيل: المراد به المسجد إذ قد كانت مساجدهم تسمى المحاريب وقيل: أشرف مواضعه ومقدمها وهو مقام الإمام من المسجد في رأي، وأصله مفعال صيغة مبالغة- كمطعان- فسمي به المكان لأن المحاربين نفوسهم كثيرون فيه، وقيل: إنه يكون اسم مكان وسمي به لأن محل محاربة الشيطان فيه أو لتنافس الناس عليه ولبعض المغاربة في المدح:

جمع الشجاعة والخشوع لربه ما أحسن المحراب في المحراب
وتقديم الظرف على الفاعل لإظهار كمال العناية بأمرها، ونصب الْمِحْرابَ على التوسع إذ حق الفعل أن يتعدى بفي أو بإلى وإظهار الفاعل قيل: لفصل الجملة، وكُلَّما ظرف على أن «ما» مصدرية، والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت، والعائد محذوف والعامل فيها جوابها بالاتفاق لأن ما في حيز المضاف إليه لا يعمل في المضاف ولا يجري فيها الخلاف المذكور في أسماء الشرط، ومن الناس من وهم فقال: إن ناصبه فعل الشرط، وادعى أنه الأنسب معنى فزاد في الشطرنج جملا والمعنى كل زمان دخل عليها أو كل وقت دخل عليها فيه وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً أي أصاب ولقي بحضرتها ذلك أو ذلك كائنا بحضرتها، أخرج ابن جرير عن الربيع قال: إنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، والتنوين للتعظيم فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ذلك من ثمار الجنة والذي عليه الجل أن ذلك عوض لها عن الرضاعة،
فقد روي أنها لم ترضع ثديا قط،
وقيل: إن هذا كان بعد أن ترعرعت،
ففي رواية ابن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن زكريا عليه الصلاة والسلام استأجر لها ظئرا فلما تم لها حولان فطمت وتركت في

صفحة رقم 134

المحراب وحدها وأغلقت عليها الباب ولم يتعهد أمرها سواه»
قالَ يا مَرْيَمُ استئناف بياني أَنَّى لَكِ هذا أي من أين لك هذا الرزق لا يشبه أرزاق الدنيا والأبواب مغلقة دونك، ومجيء أَنَّى بمعنى من أين، أو كيف تقدم الكلام عليه، واستشهد للأول بقوله:

تمنى بوادي الرمث زينب ضلة فكيف ومن «أنّى» بذي الرمث تطرق
وللثاني بقوله:
أنى ومن أين- أبك الطرب من حيث لا صبوة ولا ريب
وحذف حرف الجر من أَنَّى نحو حذف- في- من الظروف اللازمة للظرفية من نحو- مع، وسحر- لأن الشيء إذا علم في موضع جاز حذفه، والتحقيق أن الظروف محل التوسع لكثرة استعمالهم إياها وكل ظرف يستعمل مع حرف صلته التي يكثر معها استعمالها- لأن اتصالها بمظروفها بتلك الحروف- فجاز حذفها كما جاز حذف- في- إلا أنها لما كانت الأصل لوضعها للظرفية اطرد حذفها من المتصرفة وغير المتصرفة، وغيرها من صلات الظروف لا يحذف إلا مع ما يكثر من غير المتصرفة حطا لرتبتها عن رتبة- في- كما في الكشف، واستدل بالآية على جواز الكرامة للأولياء لأن مريم لا نبوة لها على المشهور، وهذا هو الذي ذهب إليه أهل السنة والشيعة وخالف في ذلك المعتزلة، وأجاب البلخي منهم عن الآية بأن ذلك كان إرهاصا وتأسيسا لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام، وأجاب الجبائي بأنه كان معجزة لزكريا عليه الصلاة والسلام، ورد الأخير بأن اشتباه الأمر عليه يأبى ذلك، ولعله مبني على الظاهر، وإلا ففي اقتضاء هذه العبارة في نفس الأمر الاشتباه نظر لأنه يجوز أن يكون لاظهار ما فيها من العجب بتكلمها ونحوه، والقول- بأن اشتباه زكريا في أنها معجزة لا ينافي كونها معجزة لاشتباه أنه من الجنة أو من بساتين الدنيا ليس بشيء كما لا يخفى قالَتْ استئناف كالذي قبله هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قيل: أرادت من الجنة، وقيل: مما رزقنيه هو لا بواسطة البشر فلا تعجب ولا تستبعد، وقيل: تكلمت بذلك صغيرة كعيسى عليه الصلاة والسلام وقد جمع من تكلم كذلك فبلغوا أحد عشر نفسا، وقد نظمهم الجلال السيوطي فقال:
تكلم في المهد النبي «محمد» «ويحيى، وعيسى، والخليل، ومريم»
ومبري «جريج» ثم «شاهد يوسف» «وطفل لذي الأخدود» يرويه مسلم
«وطفل» عليه مر بالأمة التي يقال لها تزني ولا تتكلم
وما شطة في عهد فرعون «طفلها» وفي زمن الهادي «المبارك» يختم
أو بمن اتصف بمقام العبودية وانقطع إليه بالكلية قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي لأني سيد المحبين يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وحقيقة المحبة عند العارفين احتراق القلب بنيران الشوق، وروح الروح بلذة العشق، واستغراق الحواس في بحر الأنس، وظهارة النفس بمياه القدس، ورؤية الحبيب بعين الكل، وغمض عين الكل عن الكونين، وطيران السر في غيب الغيب، وتخلق المحب بخلق المحبوب- وهذا أصل المحبة- وأما فرعها فهو موافقة المحبوب في جميع ما يرضاه وتقبل بلائه بنعت الرضا والتسليم في قضائه وقدره بشرط الوفا، ومتابعة سنة المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأما آدابها فالانقطاع عن الشهوات واللذات المباحة والسكون في الخلوات، والمراقبات، واستنشاق نفحات الصفات، والتواضع والذل في الحركات والسكنات:
مساكين أهل العشق حتى قبورهم عليها تراب الذل بين المقابر
وهذا لا يكون إلا بعد أن ترى الروح بعين السر مشاهدة الحق بنعت الجمال وحسن القدم لا بنعت الآلاء والنعم

صفحة رقم 135

لأن المحبة متى كانت من تولد رؤية النعماء كانت معلولة وحقيقة المحبة ما لا علة فيها بين المحب والحبيب سوى ذات الحبيب، ولذا قالوا: لا تصح المحبة ممن يميز بين النار والجنة وبين السرور والمحنة وبين الفرض والسنة وبين الاعتواض والاعتراض ولا تصح إلا ممن نسي الكل واستغرق في مشاهدة المحبوب وفني فيه:
خليلي لو أحببتما لعلمتما... محل الهوى من مغرم القلب صبه
تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى... يتوق ومن يعلق به الحب يصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه... وشوق على بعد المراد وقربه
وقد يقال: المحبة ثلاثة أقسام، القسم الأول محبة العوام وهي مطالعة المنة من رؤية إحسان المحسن جبلت القلوب على محبة من أحسن إليها وهو حب يتغير وهو لمتابعي الأعمال الذين يطلبون أجرا على ما يعملون، وفيه يقول أبو الطيب:
وما أنا بالباغي على الحب رشوة... ضعيف هوى يرجى عليه ثواب
(القسم الثاني) محبة الخواص المتبعين للأخلاق الذين يحبونه إجلالا وإعظاما ولأنه أهل لذلك، وإلى هذا القسم أشار صلّى الله عليه وسلم
بقوله: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه»،
وقالت رابعة رحمها الله تعالى:
أحبك حبين حب الهوى... وحب لأنك أهل لذاكا
وهذا الحب لا يتغير إلى الأبد لبقاء الجمال والجلال إلى السرمد (والقسم الثالث) محبة خواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من الجذبة الإلهية في مكامن
«كنت كنزا مخفيا»
وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة، وحقيقتها أن يفنى المحب بسطوتها فيبقى بلا هو وربما بقي صاحبها حيران سكران لا هو حي فيرجى ولا ميت فيبكى، وفي مثل ذلك قيل:
يقولون إن الحب كالنار في الحشا... ألا كذبوا فالنار تذكو وتخمد
وما هو إلا جذوة مس عودها... ندى فهي لا تذكو ولا تتوقد
يكفي في شرح الحب لفظه فإنه- حاء، وباء- والحاء من حروف الحلق، والباء شفوية، ففيه إشارة إلى أن الهوى ما لم يستول على قلبه ولسانه وباطنه وظاهره وسره وعلنه لا يقال له: حب، وشرح ذاك يطول، وهذه محبة العبد لربه، وأما محبة ربه سبحانه له فمختلفة أيضا، وإن صدرت من محل واحد فتعلقت بالعوام من حيث إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ من عباده أن يرزقه بِغَيْرِ حِسابٍ تقدم معناه، والجملة تعليل لكونه من عند الله، والظاهر أنها من كلام مريم فحينئذ تكون في محل النصب داخلة تحت القول، وقال الطبري: إنها ليست من كلامها بل هي مستأنفة من كلامه تعالى إخبارا لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، والأول أولى،
وقد أخرج أبو يعلى عن جابر «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئا فأتى فاطمة فقال: يا بنية هل عندك شيء أكله فإني جائع؟ فقالت: لا والله فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت: لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على نفسي ومن عندي وكانوا جميعا محتاجين إلى شبعة طعام فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرجع إليها فقالت له: بأبي أنت وأمي قد أتى الله تعالى بشيء قد خبأته لك قال: هلمي يا بنية بالجفنة فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزا ولحما فلما نظرت إليها بهتت وعرفت أنها بركة من الله تعالى فحمدت الله تعالى وقدمته إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فلما رآه حمد الله تعالى، وقال: من أين لك هذا يا بنية؟ قالت: يا أبتي هو من عند الله إن

صفحة رقم 136

الله يرزق من يشاء بغير حساب فحمد الله سبحانه ثم قال: الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله تعالى رزقا فسئلت عنه قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ثم جمع عليا والحسن والحسين وجمع أهل بيته حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت فاطمة رضي الله تعالى عنها على جيرانها».
هذا (ومن باب الاشارة في الآيات) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ نهي عن موالاة المؤمنين الكافرين لعدم المناسبة بينهم في الحقيقة ولفرق بين الظلمة والنور والظل والحرور، والولاية تقتضي المناسبة ومتى لم تحصل كانت الولاية عن محض رياء أو نفاق والله تعالى لا يجب المرائين ولا المنافقين، ومن هنا نهى أهل الله تعالى المريدين عن موالاة المنكرين لأن ظلمة الإنكار- والعياذ بالله تعالى- تحاكي ظلمة الكفر وربما تراكمت فسدت طريق الإيمان، ومن يفعل ذلك فليس من ولاية الله تعالى في شيء معتد به إذ ليس فيه نورية صافية يناسب بها الحضرة الإلهية إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً فحينئذ تجوز الموالاة ظاهرا، وهذا بالنسبة للضعفاء وأما من قوي يقينه فلا يخشى إلا الله تعالى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي يدعوكم إلى التوحيد العياني لئلا يكون خوفكم من غيره وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فلا تحذروا إلا إياه، والأكثرون على أن هذا خطاب للخواص العارفين إذ لا يحذر نفسه من لا يعرفه وقد حذر من دونهم بقوله سبحانه: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ قال إبراهيم الخواص: وعلامة الخوف في القلب دوام المراقبة وعلامة المراقبة التفقد للأحوال النازلة قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ من الموالاة أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ لأنه مع كل نفس وخطرة وَيَعْلَمُ ما فِي سموات الأرواح وأرض الأجسام وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فلا يشغله شأن عن شأن ولا يقيده مظهر عن مظهر يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ لأن كل ما يعمله الإنسان أو يقوله ينتقش منه أثر في نفسه ويسطر في صحائف النفوس السماوية إلا أنه لاشتغاله بالشواغل الحسية والإدراكات الوهمية والخيالية لا يرى تلك النفوس ولا يبصر هاتيك السطور فإذا تجرد عن عالم الكثافة بصر ورأى وشاهد ما به قلم الاستعداد جرى فإذا وجد سوءا تود نفسه وتتمنى لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً لتعذبها به وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ كرره تأكيدا لئلا يعملوا ما يستحقون به عقابه وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ أي بسائرهم فلهذا حذرهم، الرحمة فكأنه قيل لهم: اتبعوني بالأعمال الصالحة يخصكم الله تعالى برحمته، وتعلقت بالخواص من حيث الفضل فكأنه قيل لهم: اتبعوني بمكارم الأخلاق يخصكم بتجلي صفات الجمال، وتعلقت بخواص الخواص من حيث الجذبة فكأنه قيل لهم: اتبعوني ببذل الوجود يخصكم بجذبه لكم إلى نفسه، وهناك يرتفع البون من البين، ويظهر الصبح لذي عينين والقطرة من هذه المحبة تغني عن الغدير:

وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ترى الدهر عبدا طائعا وله الحكم
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي معاصيكم التي سلفت منكم على خلاف المتابعة ولا يعاقبكم عليها أو يغفر لكم ذنوبكم بستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته أو يغفر لكم ذنوب وجودكم ويثيبكم مكانه وجودا لا يفنى كما
قال: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» الحديث
وَاللَّهُ غَفُورٌ يكفر خطاياكم ويمحو ذنوب صفاتكم ووجودكم رَحِيمٌ يهب لكم عوض ذاك حسنات وصفات ووجودا حقانية خيرا من ذلك قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإن المريد يلزمه متابعة المراد فَإِنْ تَوَلَّوْا أي فإن أعرضوا فهم كفار منكرون محجوبون واللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ لقصور استعدادهم عن ظهور جماله فيهم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ الاصطفاء أعم من المحبة والخلة فيشمل الأنبياء كلهم وتتفاضل فيه مراتبهم كما يشير إليه قوله تعالى:

صفحة رقم 137
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية