آيات من القرآن الكريم

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ

مَعِي فِي الْقِتَالِ، فَخَرَجَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، قِيلَ كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا حَتَّى بَلَغُوا حَمْرَاءَ الْأَسَدِ وَهُوَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، فَأَلْقَى اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ فَانْهَزَمُوا، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى عُنُقِهِ سَاعَةً، ثُمَّ كَانَ الْمَحْمُولُ يَحْمِلُ الْحَامِلَ سَاعَةً أُخْرَى، وَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ لِإِثْخَانِ الْجِرَاحَاتِ فِيهِمْ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَتَوَكَّأُ عَلَى صَاحِبِهِ سَاعَةً، وَيَتَوَكَّأُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ سَاعَةً. وَالثَّانِي:
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي يَوْمِ أُحُدٍ لَمَّا رَجَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ فَشَدَّ بِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَتَّى كَشَفَهُمْ، وَكَانُوا قَدْ هَمُّوا بِالْمُثْلَةِ فَدَفَعَهُمْ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ مَثَّلُوا بِحَمْزَةَ، فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَانْهَزَمُوا، وَصَلَّى عَلَيْهِمْ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفَنَهُمْ بِدِمَائِهِمْ، وَذَكَرُوا/ أَنَّ صَفِيَّةَ جَاءَتْ لِتَنْظُرَ إِلَى أَخِيهَا حَمْزَةَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلزُّبَيْرِ: رُدَّهَا لِئَلَّا تَجْزَعَ مِنْ مُثْلَةِ أَخِيهَا، فَقَالَتْ: قَدْ بَلَغَنِي مَا فُعِلَ بِهِ وَذَلِكَ يَسِيرٌ فِي جَنْبِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ لِلزُّبَيْرِ: فَدَعْهَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ خَيْرًا وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ. وَجَاءَتِ امْرَأَةٌ قَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَأَبُوهَا وَأَخُوهَا وَابْنُهَا فَلَمَّا رَأَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَيٌّ قَالَتْ: إِنَّ كُلَّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ هَدَرٌ،
فَهَذَا مَا قِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتَجَابَ: بِمَعْنَى أَجَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي [البقرة: ١٨٦] وَقِيلَ: أَجَابَ، فَعَلَ الْإِجَابَةَ وَاسْتَجَابَ طَلَبَ أَنْ يَفْعَلَ الْإِجَابَةَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِفْعَالِ طَلَبُ الْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى أَجَابُوا وَأَطَاعُوا اللَّهَ فِي أَوَامِرِهِ وَأَطَاعُوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْجِرَاحَاتُ الْقَوِيَّةُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَحْسَنُوا دَخَلَ تَحْتَهُ الِائْتِمَارُ بِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ، وَقَوْلُهُ: وَاتَّقَوْا دَخَلَ تَحْتَهُ الِانْتِهَاءُ عَنْ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَالْمُكَلَّفُ عِنْدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ. الثَّانِي: أَحْسَنُوا فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَاتَّقَوُا اللَّهَ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الرَّسُولِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُمُ الِاسْتِجَابَةُ لِلرَّسُولِ وَإِنْ بَلَغَ الْأَمْرُ بِهِمْ فِي الْجِرَاحَاتِ مَا بَلَغَ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مَعَهُ مِنَ النُّهُوضِ. الثَّالِثُ: أَحْسَنُوا: فِيمَا أَتَوْا بِهِ مِنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّقَوُا ارْتِكَابَ شَيْءٍ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ بَعْدَ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ لِلتَّبْيِينِ لِأَنَّ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ قَدْ أَحْسَنُوا واتقوا كلهم لا بعضهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٣ الى ١٧٤]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الصُّغْرَى،
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى أَنْ يَنْصَرِفَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ نَادَى: يَا مُحَمَّدُ مَوْعِدُنَا مَوْسِمَ بَدْرٍ الصُّغْرَى فَنَقْتَتِلُ بِهَا إِنْ شِئْتَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرَ: قُلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمَّا حَضَرَ الْأَجَلُ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ مَعَ قَوْمِهِ حَتَّى نَزَلَ بِمَرِّ

صفحة رقم 432

الظَّهْرَانِ، وَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى الرُّعْبَ فِي قَلْبِهِ، فَبَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ، فَلَقِيَ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيَّ وَقَدْ قَدِمَ نُعَيْمٌ مُعْتَمِرًا، فَقَالَ: يَا نُعَيْمُ إِنِّي وَعَدْتُ مُحَمَّدًا أَنْ نَلْتَقِيَ بِمَوْسِمِ بَدْرٍ، وَإِنَّ هَذَا عَامُ جَدْبٍ وَلَا يُصْلِحُنَا إِلَّا عَامٌ نَرْعَى فِيهِ الشَّجَرَ وَنَشْرَبُ فِيهِ اللَّبَنَ، وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أَرْجِعَ، وَلَكِنْ إِنْ خَرَجَ مُحَمَّدٌ وَلَمْ أَخْرُجْ زَادَ بِذَلِكَ جَرَاءَةً، فَاذْهَبْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَثَبِّطْهُمْ وَلَكَ عِنْدِي عَشَرَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، فَخَرَجَ نُعَيْمٌ فَوَجَدَ الْمُسْلِمِينَ يَتَجَهَّزُونَ فَقَالَ لَهُمْ: مَا هَذَا بِالرَّأْيِ، أتوكم في دياركم وقتلوا أكثرهم فَإِنْ ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لَمْ يَرْجِعْ مِنْكُمْ أَحَدٌ، فَوَقَعَ هَذَا الْكَلَامُ فِي قُلُوبِ قَوْمٍ مِنْهُمْ، فَلَمَّا عَرَفَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَخْرُجَنَّ إِلَيْهِمْ وَلَوْ وَحْدِي» ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، ومعه نحو من سَبْعِينَ رَجُلًا فِيهِمُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَذَهَبُوا إِلَى أَنْ وَصَلُوا إِلَى بَدْرٍ الصُّغْرَى، وَهِيَ مَاءٌ لِبَنِي كِنَانَةَ، وَكَانَتْ مَوْضِعَ سُوقٍ لَهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِيهَا كُلَّ عَامٍ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَلْقَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَوَافَقُوا السُّوقَ، وَكَانَتْ مَعَهُمْ نَفَقَاتٌ وَتِجَارَاتٌ، فَبَاعُوا وَاشْتَرَوْا أُدْمًا وَزَبِيبًا وَرَبِحُوا وَأَصَابُوا بِالدِّرْهَمِ دِرْهَمَيْنِ، وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ سَالِمِينَ غَانِمِينَ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مَكَّةَ فَسَمَّى أَهْلُ مَكَّةَ جَيْشَهُ جَيْشَ السَّوِيقِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَشْرَبُوا السَّوِيقَ،
فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَحَلِّ الَّذِينَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَرٌّ، صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِتَقْدِيرِ: وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ. الثَّانِي: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الثَّالِثُ: أَنَّهُ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ فَزادَهُمْ إِيماناً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، وَفِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: قالَ لَهُمُ النَّاسُ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ هُوَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا جَازَ إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّاسِ عَلَى الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ الْوَاحِدُ قَوْلًا وَلَهُ أَتْبَاعٌ يَقُولُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ أَوْ يَرْضَوْنَ بِقَوْلِهِ، حَسُنَ حِينَئِذٍ إِضَافَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ إِلَى الْكُلِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها [الْبَقَرَةِ: ٧٢] وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [الْبَقَرَةِ: ٥٥] وَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ أَسْلَافُهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ أُضِيفَ إِلَيْهِمْ لِمُتَابَعَتِهِمْ لَهُمْ على تصويبهم في تلك الأفعال/ فكذا هاهنا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ الْقَوْلُ إِلَى الْجَمَاعَةِ الرَّاضِينَ بِقَوْلِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ. الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ رَكْبًا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ مَرُّوا بِأَبِي سُفْيَانَ، فَدَسَّهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ لِيُجَبِّنُوهُمْ وَضَمِنَ لَهُمْ عَلَيْهِ جُعْلًا. الثَّالِثُ: قَالَ السُّدِّيُّ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ حِينَ تجهزوا للمسير إلى بعد لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَانَ: الْقَوْمُ قَدْ أَتَوْكُمْ فِي دِيَارِكُمْ، فَقَتَلُوا الْأَكْثَرِينَ مِنْكُمْ، فَإِنْ ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لَمْ يَبْقَ مِنْكُمْ أَحَدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ وَرُؤَسَاءُ عَسْكَرِهِ، وَقَوْلُهُ: قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ أَيْ جَمَعُوا لَكُمُ الْجُمُوعَ، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْجَيْشَ جَمْعًا وَيَجْمَعُونَهُ جُمُوعًا، وَقَوْلُهُ: فَاخْشَوْهُمْ أَيْ فَكُونُوا خَائِفِينَ مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يُقِيمُوا لَهُ وَزْنًا، فَقَالَ تَعَالَى: فَزادَهُمْ إِيماناً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَزادَهُمْ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ ذَكَرُوا هَذِهِ التَّخْوِيفَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى نَفْسِ قَوْلِهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ: فَزَادَهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ إِيمَانًا، وَإِنَّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي الْإِيمَانِ لَمَّا حَصَلَتْ عِنْدَ سَمَاعِ هَذَا الْقَوْلِ حَسُنَتْ إِضَافَتُهَا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِلَى هَذَا

صفحة رقم 433

الْقَائِلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نُوحٍ: ٦] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فَاطِرٍ: ٤٢] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِالزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الْكَلَامَ الْمُخَوِّفَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، بَلْ حَدَثَ فِي قُلُوبِهِمْ عَزْمٌ مُتَأَكِّدٌ عَلَى مُحَارَبَةِ الْكُفَّارِ، وَعَلَى طَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ ثَقُلَ ذَلِكَ أَوْ خَفَّ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ بِهِ جِرَاحَاتٌ عَظِيمَةٌ، وَكَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الْمُدَاوَاةِ، وَحَدَثَ فِي قُلُوبِهِمْ وُثُوقٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَيُؤَيِّدُهُمْ فِي هَذِهِ الْمُحَارَبَةِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَزادَهُمْ إِيماناً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ لَا عَنِ التَّصْدِيقِ بَلْ عَنِ الطَّاعَاتِ، وَإِنَّهُ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى وُقُوعِ الزِّيَادَةِ، وَالَّذِينَ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالُوا: الزِّيَادَةُ إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ وَفِي شَعَائِرِهِ، فَصَحَّ الْقَوْلُ بِوُقُوعِ الزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ مَجَازًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ تَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدِ انْهَزَمُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُ إِذَا انْهَزَمَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ عَنِ/ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ فِي قَلْبِ الْغَالِبِ قُوَّةٌ وَشِدَّةُ اسْتِيلَاءٍ، وَفِي قَلْبِ الْمَغْلُوبِ انْكِسَارٌ وَضَعْفٌ، ثُمَّ إِنَّهُ سبحانه قلب القضية هاهنا، فَأَوْدَعَ قُلُوبَ الْغَالِبِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْخَوْفَ وَالرُّعْبَ، وَأَوْدَعَ قُلُوبَ الْمَغْلُوبِينَ الْقُوَّةَ وَالْحَمِيَّةَ وَالصَّلَابَةَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّوَاعِيَ وَالصَّوَارِفَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا مَتَى حَدَثَتْ فِي الْقُلُوبِ وَقَعَتِ الْأَفْعَالُ عَلَى وَفْقِهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كُلَّمَا ازْدَادُوا إِيمَانًا فِي قُلُوبِهِمْ أَظْهَرُوا مَا يُطَابِقُهُ فَقَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: حَسْبُنَا اللَّهُ أَيْ كَافِينَا اللَّهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَحَسْبُكَ مِنْ غِنًى شِبَعٌ وَرِيٌّ
أَيْ يَكْفِيكَ الشِّبَعُ وَالرِّيُّ، وَأَمَّا (الْوَكِيلُ) فَفِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْكَفِيلُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

ذَكَرْتُ أَبَا أَرْوَى فَبِتُّ كَأَنَّنِي بِرَدِّ الْأُمُورِ الْمَاضِيَاتِ وَكِيلُ
أَرَادَ كَأَنَّنِي بِرَدِّ الْأُمُورِ كَفِيلٌ. الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْوَكِيلُ: الْكَافِي، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ «نِعْمَ» سَبِيلُهَا أَنْ يَكُونَ الَّذِي بَعْدَهَا مُوَافِقًا لِلَّذِي قَبْلَهَا، تَقُولُ: رَازِقُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الرَّازِقُ، وَخَالِقُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْخَالِقُ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ مَنْ يقول: خالقنا الله ونعم الرازق، فكذا هاهنا تَقْدِيرُ الْآيَةِ: يَكْفِينَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْكَافِي. الثَّالِثُ: الوكيل، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ، وَالْكَافِي وَالْكَفِيلُ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى وَكِيلًا، لِأَنَّ الْكَافِيَ يَكُونُ الْأَمْرُ مَوْكُولًا إِلَيْهِ، وَكَذَا الْكَفِيلُ يَكُونُ الْأَمْرُ مَوْكُولًا إِلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [إلى آخر الآية] وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَالْمَعْنَى: وَخَرَجُوا فَانْقَلَبُوا، فَحَذَفَ الْخُرُوجَ لِأَنَّ الِانْقِلَابَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاءِ: ٦٣] أَيْ فَضُرِبَ فَانْفَلَقَ، وَقَوْلُهُ: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: النعمة هاهنا الْعَافِيَةُ، وَالْفَضْلُ التِّجَارَةُ، وَقِيلَ:
النِّعْمَةُ مَنَافِعُ الدُّنْيَا، وَالْفَضْلُ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لَمْ يُصِبْهُمْ قَتْلٌ وَلَا جِرَاحٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ فِي طَاعَةِ رَسُولِهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ قَدْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْفِيقِ فِيمَا فَعَلُوا، وَفِي ذَلِكَ إِلْقَاءُ الْحَسْرَةِ في قلوب المتخلفين عنهم إظهار لِخَطَأِ رَأْيِهِمْ حَيْثُ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِمَّا فَازَ به هؤلاء،

صفحة رقم 434
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية