الْعَاقِبَةِ: كَأَنَّهُ يُرَادُ عَاقِبَةُ فِعْلِ الْمُسِيءِ، كَقَوْلِ القائل: لتذوقن عاقبة فعلك.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٧]
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْحَجَّ لَيْسَ نَفْسَ الْأَشْهُرِ فَلَا بد هاهنا مِنْ تَأْوِيلٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: التَّقْدِيرُ: أَشْهُرُ الْحَجِّ أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: الْبَرْدُ شَهْرَانِ، أَيْ وَقْتُ الْبَرْدِ شَهْرَانِ وَالثَّانِي: التقدير الحج حج أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ، أَيْ لَا حَجَّ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَجِيزُونَهَا فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَشْهُرِ، فَحَذَفَ الْمَصْدَرَ الْمُضَافَ إِلَى الْأَشْهُرِ الثَّالِثُ: يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَشْهُرَ نَفْسَ الْحَجِّ لَمَّا كَانَ الْحَجُّ فِيهَا كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ قَائِمٌ، وَنَهَارٌ صَائِمٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ شَوَّالًا وَذَا الْقِعْدَةِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاخْتَلَفُوا فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّهَا بِكُلِّيَّتِهَا مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، / وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: التِّسْعَةُ الْأُولَى مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، حُجَّةُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الله تعالى ذكر الأشهر تلفظ الْجَمْعِ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ يُفْعَلُ فِيهَا بَعْضُ مَا يَتَّصِلُ بِالْحَجِّ، وَهُوَ رَمْيُ الْجِمَارِ وَالْمَرْأَةُ إِذَا حَاضَتْ فَقَدْ تُؤَخِّرُ الطَّوَافَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ إِلَى انْقِضَاءِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْعَشْرِ، وَمَذْهَبُ عُرْوَةَ جَوَازُ تَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ يَشْتَرِكُ فِيهِ مَا وَرَاءَ الْوَاحِدِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيمِ: ٤] وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَزَّلَ بَعْضَ الشَّهْرِ مَنْزِلَةَ كُلِّهِ، كَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُكَ سَنَةَ كَذَا إِنَّمَا رَآهُ فِي سَاعَةٍ مِنْهَا وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ وَقَدْ حَجَّ بِالْحَلْقِ وَالطَّوَافِ وَالنَّحْرِ مِنْ إِحْرَامِهِ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَالْحَائِضُ إِذَا طَافَتْ بَعْدَهُ فَكَأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْقَضَاءِ لَا فِي حُكْمِ الْأَدَاءِ، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ هِيَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَقَدْ تَمَسَّكُوا فِيهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ وَالثَّانِي: أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَقْتٌ لِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ احْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ فَائِتَةً مَعَ بَقَاءِ وَقْتِهَا، فهذا تقرير هذه المذاهب.
بقي هاهنا إِشْكَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مِنْ قَبْلُ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: ١٨٩] فَجَعَلَ كُلَّ الْأَهِلَّةِ مَوَاقِيتَ لِلْحَجِّ الثَّانِي: أَنَّهُ اشْتَهَرَ عَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: مِنْ إِتْمَامِ الْحَجِّ أَنْ يُحْرِمَ الْمَرْءُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَمَنْ بَعُدَ دَارُهُ الْبُعْدَ الشَّدِيدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ بِالْحَجِّ إِلَّا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ النَّصَّ لَا يُعَارِضُهُ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنِ الصحابة.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَعْلُوماتٌ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَجَّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ مِنْ شُهُورِهَا، لَيْسَ كَالْعُمْرَةِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا فِي السَّنَةِ مِرَارًا، وَأَحَالَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْأَشْهُرِ عَلَى مَا كَانُوا عَلِمُوهُ قَبْلَ نُزُولِ هَذَا الشَّرْعِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالشَّرْعُ لَمْ يَأْتِ عَلَى خِلَافِ مَا عَرَفُوا وَإِنَّمَا جَاءَ مُقَرِّرًا لَهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَعْلُومَاتٌ بِبَيَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِهَا أَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا وَلَا تَأْخِيرُهَا، لَا كَمَا يَفْعَلُهُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التَّوْبَةِ: ٣٧].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وَأَشْهَرٌ جَمْعُ تَقْلِيلٍ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، فَلَا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُهُ إِلَى عَشَرَةٍ وَأَدْنَاهُ ثَلَاثَةٌ وَعِنْدَ التَّنْكِيرِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْأَدْنَى، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ ثَلَاثَةٌ، وَالْمُفَسِّرُونَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تِلْكَ الثَّلَاثَةَ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَبَعْضٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْعِبَادَةِ قَبْلَ وَقْتِ الْأَدَاءِ لَا يَصِحُّ قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ الثَّانِي: أَنَّ الْخُطْبَةَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لَا تَجُوزُ قَبْلَ الْوَقْتِ، لِأَنَّهَا أُقِيمَتْ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الظَّهْرِ، حُكْمًا فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ الْإِحْرَامُ وَهُوَ شُرُوعٌ فِي الْعِبَادَةِ أَوْلَى الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَبْقَى صَحِيحًا لِأَدَاءِ الْحَجِّ إِذَا ذَهَبَ وَقْتُ الْحَجِّ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَلَأَنْ لَا يَنْعَقِدَ صَحِيحًا لِأَدَاءِ الْحَجِّ قَبْلَ الْوَقْتِ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنَ الِابْتِدَاءِ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ الله عنه وجهان الأول: قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الحج: ١٨٩] فَجَعَلَ الْأَهِلَّةَ كُلَّهَا مَوَاقِيتَ لِلْحَجِّ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَوَاقِيتَ لِلْحَجِّ فَثَبَتَ إِذَنْ أَنَّهَا مَوَاقِيتُ لِصِحَّةِ الْإِحْرَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْإِحْرَامُ حَجًّا مَجَازًا كَمَا سُمِّيَ الْوَقْتُ حَجًّا فِي قَوْلِهِ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ بَلْ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْإِحْرَامَ إِلَى الْحَجِّ أَقْرَبُ مِنَ الْوَقْتِ.
وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْإِحْرَامَ الْتِزَامٌ لِلْحَجِّ، فَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَقْتِ كَالنُّذُرِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَخَصُّ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي تَمَسَّكْتُمْ بِهَا.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النذر وبين الإحرام أن الوقت معتبر لأداء وَالِاتِّصَالِ لِلنُّذُرِ بِالْأَدَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَدَاءَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِعَقْدٍ مُبْتَدَأٍ وَأَمَّا الْإِحْرَامُ فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ الْتِزَامًا فَهُوَ أَيْضًا شُرُوعٌ فِي الْأَدَاءِ وَعَقْدٌ عَلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ افْتَقَرَ إِلَى الْوَقْتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى فَرَضَ فِي اللُّغَةِ أَلَزَمَ وَأَوْجَبَ، يُقَالُ: فَرَضْتُ عَلَيْكَ كَذَا أَيْ أَوْجَبْتُهُ وَأَصْلُ مَعْنَى الْفَرْضِ فِي اللُّغَةِ الْحَزُّ وَالْقَطْعُ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْفَرْضُ الْحَزُّ فِي الْقَدَحِ وَفِي الْوَتِدِ وَفِي غَيْرِهِ، وَفُرْضَةُ الْقَوْسِ، الْحَزُّ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْوَتَرُ، وَفُرْضَةُ الْوَتِدِ الْحَزُّ الَّذِي فِيهِ، وَمِنْهُ فَرْضُ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلْعَبْدِ، كَلُزُومِ الْحَزِّ لِلْقَدَحِ، ففرض هاهنا بِمَعْنَى أَوْجَبَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ: فَرَضَ بِمَعْنَى أَبَانَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها [النُّورِ: ١] بِالتَّخْفِيفِ، وَقَوْلُهُ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ [التَّحْرِيمِ: ٢] وَهَذَا أَيْضًا رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْقَطْعِ، لِأَنَّ مَنْ قَطَعَ شَيْئًا فَقَدْ أَبَانَهُ مَنْ غَيْرِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى إِذَا فَرَضَ شَيْئًا أَبَانَهُ عَنْ غَيْرِهِ،
فَفَرَضَ بِمَعْنَى أَوْجَبَ، وَفَرَضَ بِمَعْنَى أَبَانَ، كِلَاهُمَا يَرْجِعُ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَذْفًا، وَالتَّقْدِيرُ: فَمَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ فِيهِنَّ الْحَجَّ، وَالْمُرَادُ/ بِهَذَا الْفَرْضِ مَا بِهِ يَصِيرُ الْمُحْرِمُ مُحْرِمًا إِذْ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ حَاجًّا إِلَّا بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ، فَيَخْرُجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّيْدُ وَاللُّبْسُ وَالطِّيبُ وَالنِّسَاءُ وَالتَّغْطِيَةُ لِلرَّأْسِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلِأَجْلِ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ سُمِّيَ مُحْرِمًا، لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا حَرَّمَ بِهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى نَفْسِهِ وَلِهَذَا السَّبَبِ أَيْضًا سُمِّيَتِ الْبُقْعَةُ حَرَمًا لِأَنَّهُ يُحَرِّمُ مَا يَكُونُ فِيهَا مِمَّا لَوْلَاهُ كَانَ لَا يَحْرُمُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُحْرِمِ مِنْ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ لِأَجْلِهِ يَصِيرُ حَاجًّا وَمُحْرِمًا، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مَا هُوَ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّهُ يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى التَّلْبِيَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الْإِحْرَامِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهَا التَّلْبِيَةُ أَوْ سَوْقُ الْهَدْيِ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «تَفْسِيرِهِ» : يُرْوَى عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ مَنْ أَشْعَرَ هَدْيَهُ أَوْ قَلَّدَهُ فَقَدْ أَحْرَمَ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَلَّدَ أَوْ أَشْعَرَ فَقَدْ أَحْرَمَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا قَلَّدَ الْهَدْيَ وَصَاحَبَهُ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ فَقَدْ أَحْرَمَ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُجُوهٌ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَفَرْضُ الْحَجِّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ التَّلْبِيَةِ أَوْ سَوْقِ الْهَدْيِ فَإِنَّهُ لَا إِشْعَارَ أَلْبَتَّةَ فِي التَّلْبِيَةِ بِكَوْنِهِ مُحْرِمًا لَا بِحَقِيقَةٍ وَلَا بِمَجَازٍ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الْحَجِّ عِبَارَةً عَنِ النِّيَّةِ، وَفَرْضُ الْحَجِّ مُوجِبٌ لِانْعِقَادِ الْحَجِّ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا رَفَثَ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ كَافِيَةً فِي انْعِقَادِ الْحَجِّ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: الْقِيَاسُ وَهُوَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْحَجِّ كَفٌّ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ، فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ فِيهِ بِالنِّيَّةِ كَالصَّوْمِ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: مَا رَوَى أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَا يُحْرِمُ إِلَّا مَنْ أَهَلَّ أَوْ لَبَّى الثَّانِي: أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ لَهَا تَحْلِيلٌ وَتَحْرِيمٌ فَلَا يَشْرَعُ فِيهِ إِلَّا بِنَفْسِ النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ وَلا جِدالَ بِالنَّصْبِ، وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا الْكُلَّ بِالنَّصْبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِمُقَدِّمَتَيْنِ الْأُولَى: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ اسْمٌ، فَجَوْهَرُ الِاسْمِ دَلِيلٌ عَلَى جَوْهَرِ الْمُسَمَّى، وَحَرَكَاتُ الِاسْمِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَحْوَالِ الْمُسَمَّى، فَقَوْلُكَ: رَجُلٌ يُفِيدُ الْمَاهِيَّةَ الْمَخْصُوصَةَ، وَحَرَكَاتُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، أَعْنِي كَوْنَهَا مَنْصُوبَةً وَمَرْفُوعَةً وَمَجْرُورَةً، دَالٌّ عَلَى أَحْوَالِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ وَهِيَ الْمَفْعُولِيَّةُ وَالْفَاعِلِيَّةُ وَالْمُضَافِيَّةُ، وَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْعَقْلِيُّ حَتَّى يَكُونَ الْأَصْلُ بِإِزَاءِ الْأَصْلِ، وَالصِّفَةُ بِإِزَاءِ الصِّفَةِ، فَعَلَى هَذَا الْأَسْمَاءُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَاهِيَّاتِ يَنْبَغِي أن يتلفظ بها ساكنة الأواخر فيقال:
رحل جِدَارْ حَجَرْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ/ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ لَمَّا وُضِعَتْ لِتَعْرِيفِ أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي ذَاتِ الْمُسَمَّى فَحَيْثُ أُرِيدَ تَعْرِيفُ الْمُسَمَّى مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى تَعْرِيفِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ وَجَبَ جَعْلُ اللَّفْظِ خَالِيًا عَنِ الْحَرَكَاتِ، فَإِنْ أُرِيدَ فِي
بَعْضِ الْأَوْقَاتِ تَحْرِيكُهُ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ بِالنَّصْبِ، لِأَنَّهُ أَخَفُّ الْحَرَكَاتِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى السُّكُونِ.
الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا قُلْتَ: لَا رَجُلَ بِالنَّصْبِ، فَقَدْ نَفَيْتَ الْمَاهِيَّةَ، وَانْتِفَاءُ الْمَاهِيَّةِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا قَطْعًا، أَمَّا إِذَا قُلْتَ: لَا رَجُلٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، فَقَدْ نَفَيْتَ رَجُلًا مُنْكَرًا مُبْهَمًا، وَهَذَا بِوَصْفِهِ لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ جَمِيعِ أَفْرَادِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَكَ: لَا رَجُلَ بِالنَّصْبِ أَدَلُّ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ مِنْ قَوْلِكَ: لَا رَجُلٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فَنَقُولُ: أَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا ثَلَاثَةً: بِالنَّصْبِ فَلَا إِشْكَالَ وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا الْأَوَّلَيْنِ بِالرَّفْعِ مَعَ التَّنْوِينِ، وَالثَّالِثَ بِالنَّصْبِ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِنَفْيِ الْجِدَالِ أَشَدُّ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِنَفْيِ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّفَثَ عِبَارَةٌ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَالْجِدَالُ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُجَادِلَ يَشْتَهِي تَمْشِيَةَ قَوْلِهِ، وَالْفُسُوقُ عِبَارَةٌ عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْمُجَادِلُ لَا يَنْقَادُ لِلْحَقِّ، وَكَثِيرًا مَا يُقْدِمُ عَلَى الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ فَلَمَّا كَانَ الْجِدَالُ مُشْتَمِلًا عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقُبْحِ لَا جَرَمَ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِمَزِيدِ الزَّجْرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فإنهم قالوا: من قرأ الأولين بالرفث وَالثَّالِثَ بِالنَّصْبِ فَقَدْ حَمَلَ الْأَوَّلَيْنِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَا يَكُونُ رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ وَحَمَلَ الثَّالِثَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِانْتِفَاءِ الْجِدَالِ، هَذَا مَا قَالُوهُ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بَيَانٌ أَنَّهُ لِمَ خُصَّ الْأَوَّلَانِ بِالنَّهْيِ وَخُصَّ الثَّالِثُ بِالنَّفْيِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الرَّفَثُ فَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٨٧] وَالْمُرَادُ: الْجِمَاعُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ فَالرَّفَثُ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ الْمُجَامَعَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَالرَّفَثُ بِالْيَدِ اللَّمْسُ وَالْغَمْزُ، وَالرَّفَثُ بِالْفَرَجِ الْجِمَاعُ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: التَّلَفُّظُ بِهِ فِي غَيْبَةِ النِّسَاءِ لَا يَكُونُ رَفَثًا، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَحْدُو بَعِيرَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَيَقُولُ:
وَهُنَّ يَمْشِينَ بنا هميسا | إن تصدق الطير ننك لميسا |
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ»
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّفَثَ هاهنا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا قَوْلَ الْخَنَا وَالْفُحْشِ، وَأَمَّا اللُّغَةُ فَهُوَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: الرَّفَثُ الْإِفْحَاشُ فِي الْمَنْطِقِ، يُقَالُ أَرْفَثَ الرَّجُلُ إِرْفَاثًا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرَّفَثُ اللَّغْوُ مِنَ الْكَلَامِ.
أَمَّا الْفُسُوقُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْفِسْقَ وَالْفُسُوقَ وَاحِدٌ وَهُمَا مَصْدَرَانِ لِفَسَقَ يَفْسُقُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلُ أَنَّ الْفُسُوقَ هُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَكَثِيرٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ حَمَلُوهُ عَلَى كُلِّ الْمَعَاصِي/ قَالُوا: لِأَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِلْكُلِّ وَمُتَنَاوِلٌ لَهُ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ يُوجِبُ الِانْتِهَاءَ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِ الْفُسُوقِ تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهَذَا مُتَأَكَّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الْكَهْفِ: ٥٠] وَبِقَوْلِهِ: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ [الْحُجُرَاتِ: ٧].
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَعْضُ الْأَنْوَاعِ ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا:
الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ السِّبَابُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ صفحة رقم 317
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ
[الْحُجُرَاتِ: ١١] وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»
وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِيذَاءُ والإفحاش، قال تعالى: لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٢] وَالثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الذَّبْحُ لِلْأَصْنَامِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي حَجِّهِمْ يَذْبَحُونَ لِأَجْلِ الْحَجِّ، وَلِأَجْلِ الْأَصْنَامِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الْأَنْعَامِ:
١٢١] وَقَوْلُهُ: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَامِ: ١٤٥] وَالرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّهُ الْعَاصِي فِي قَتْلِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَمْنَعُ الْإِحْرَامُ مِنْهُ وَالْخَامِسُ: أَنَّ الرَّفَثَ هُوَ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ مَعَ الْحَلِيلَةِ، وَالْفُسُوقُ هُوَ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ عَلَى سَبِيلِ الزِّنَا وَالسَّادِسُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّبَرِيِّ: الْفُسُوقُ، هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْحَجِّ إِذَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى تَرْكِ مَحْظُورَاتِهِ.
وَأَمَّا الْجِدَالُ فَهُوَ فِعَالٌ مِنَ الْمُجَادَلَةِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَدَلِ الَّذِي مِنَ الْقَتْلِ، يُقَالُ: زِمَامٌ مَجْدُولٌ وَجَدِيلٌ، أَيْ مَفْتُولٌ، وَالْجَدِيلُ اسْمُ الزِّمَامِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَفْتُولًا، وَسُمِّيَتِ الْمُخَاصَمَةُ مُجَادَلَةً لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يَرُومُ أَنْ يَفْتِلَ صَاحِبُهُ عَنْ رَأْيِهِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وُجُوهًا فِي هَذَا الْجِدَالِ.
فَالْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْجِدَالُ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْخُرُوجُ إِلَى السِّبَابِ وَالتَّكْذِيبِ وَالتَّجْهِيلِ.
وَالثَّانِي: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: إِنَّ قُرَيْشًا كَانُوا إِذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى، قَالَ بَعْضُهُمْ: حَجُّنَا أَتَمُّ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ حَجُّنَا أَتَمُّ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ.
وَالثَّالِثُ: قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» الْجِدَالُ فِي الْحَجِّ أَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فِي الْمُزْدَلِفَةِ بِقُزَحَ وَكَانَ غَيْرُهُمْ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ وَكَانُوا يَتَجَادَلُونَ يَقُولُ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ، وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ، وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ [الْحَجِّ: ٦٧، ٦٨] قَالَ مَالِكٌ هَذَا هُوَ الْجِدَالُ فِيمَا يُرْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالرَّابِعُ: قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: الْجِدَالُ فِي الْحَجِّ أَنْ يَقُولَ بَعْضُهُمْ: الْحَجُّ الْيَوْمَ، وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: بَلْ غَدًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا حِسَابَ الشُّهُورِ عَلَى رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ، وَآخَرُونَ كَانُوا يَجْعَلُونَهُ عَلَى الْعَدَدِ فَبِهَذَا السَّبَبِ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هَذَا الْيَوْمُ يَوْمُ الْعِيدِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: بَلْ غَدًا، فَاللَّهُ تَعَالَى نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ أَنَّ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، / فَاسْتَقِيمُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَا تُجَادِلُوا فِيهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ.
الْخَامِسُ:
قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَدْخُلُ فِي هَذَا النَّهْيِ مَا جَادَلُوا فِيهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَالُوا: نَرُوحُ إِلَى مِنًى وَمَذَاكِيرُنَا تَقْطُرُ مَنِيًّا؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» وَتَرَكُوا الْجِدَالَ حِينَئِذٍ.
السَّادِسُ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: جِدَالُهُمْ فِي الْحَجِّ بِسَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَيِّهِمُ الْمُصِيبُ فِي الْحَجِّ لِوَقْتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
السَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي السِّنِينَ فَقِيلَ لَهُمْ: لَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ فَإِنَّ الزَّمَانَ اسْتَدَارَ وَعَادَ إِلَى مَا كَانَ
عَلَيْهِ الْحَجُّ فِي وَقْتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خلق الله السموات وَالْأَرْضَ»
فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي كَلَامًا حَسَنًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَأَنْ يَكُونَ نَهْيًا كَقَوْلِهِ: لا رَيْبَ فِيهِ [السجدة: ٢] أَيْ لَا تَرْتَابُوا فِيهِ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ لِلْخَبَرِ فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْخَبَرِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَثْبُتُ مَعَ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِلَالِ بَلْ يَفْسُدُ لِأَنَّهُ كَالضِّدِّ لَهَا وَهِيَ مَانِعَةٌ مِنْ صِحَّتِهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالرَّفَثِ الْجِمَاعُ الْمُفْسِدُ لِلْحَجِّ، وَيُحْمَلَ الْفُسُوقُ عَلَى الزِّنَا لِأَنَّهُ يُفْسِدُ الْحَجَّ، وَيُحْمَلُ الْجِدَالُ عَلَى الشَّكِّ فِي الْحَجِّ وَوُجُوبِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ كُفْرًا فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ الْحَجُّ وَإِنَّمَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي حَتَّى يَصِحَّ خَبَرُ اللَّهِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُوجَدُ مَعَ الْحَجِّ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَصِيرُ الْحَجُّ فَاسِدًا وَيَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ الْمُضِيُّ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ الْحَجُّ بَاقِيًا مَعَهَا لَمْ يَصْدُقِ الْخَبَرُ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُوجَدُ مَعَ الْحَجِّ، قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ حُصُولُ الْمُضَادَّةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَبَيْنَ الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا ابْتِدَاءً وَتِلْكَ الْحَجَّةُ الصَّحِيحَةُ لَا تَبْقَى مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ قَضَاؤُهَا، وَالْحَجَّةُ الْفَاسِدَةُ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهَا شَيْءٌ آخَرُ سِوَى تِلْكَ الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا ابْتِدَاءً، وَأَمَّا الْجِدَالُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ الشَّكِّ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَبْقَى مَعَهُ عَمَلُ الْحَجِّ لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ وَعَمَلُ الْحَجِّ مَشْرُوطٌ بِالْإِسْلَامِ فَثَبَتَ أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ على الخبر وجب حمل الرفث والفسوق الجدال عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى النَّهْيِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عُدُولٌ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَقَدْ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالرَّفَثِ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ وَقَوْلُ الْفُحْشِ، وَأَنْ يُرَادَ بِالْفُسُوقِ جَمِيعُ أَنْوَاعِهِ، وَبِالْجِدَالِ جَمِيعُ أَنْوَاعِهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ وَمُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهَا نَهْيًا عَنْ جَمِيعِ أَقْسَامِهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ كَالْحَثِّ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالْآدَابِ الْحَسَنَةِ، وَالِاحْتِرَازِ عَمَّا/ يُحْبِطُ ثَوَابَ الطَّاعَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ لَا أَزْيَدَ وَلَا أَنْقَصَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ هِيَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِيهِ قُوًى أَرْبَعَةٌ: قُوَّةٌ شَهْوَانِيَّةٌ بَهِيمِيَّةٌ، وَقُوَّةٌ غَضَبِيَّةٌ سَبُعِيَّةٌ، وَقُوَّةٌ وَهْمِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ، وَقُوَّةٌ عَقْلِيَّةٌ مَلَكِيَّةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ قَهْرُ الْقُوَى الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي الشَّهْوَانِيَّةَ، وَالْغَضَبِيَّةَ، وَالْوَهْمِيَّةَ، فَقَوْلُهُ فَلا رَفَثَ إشارة إلى قهر الشَّهْوَانِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: وَلا فُسُوقَ إِشَارَةٌ إِلَى قَهْرِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ الَّتِي تُوجِبُ التَّمَرُّدَ وَالْغَضَبَ، وَقَوْلُهُ: وَلا جِدالَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُوَّةِ الْوَهْمِيَّةِ الَّتِي تَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى الْجِدَالِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَحْكَامِهِ، وَأَسْمَائِهِ، وَهِيَ الْبَاعِثَةُ لِلْإِنْسَانِ عَلَى مُنَازَعَةِ النَّاسِ وَمُمَارَاتِهِمْ، وَالْمُخَاصِمَةِ مَعَهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ مَنْشَأُ الشَّرِّ مَحْصُورًا فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ لَا جَرَمَ قَالَ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أَيْ فَمَنْ قَصَدَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ وَالِاطِّلَاعَ عَلَى نُورِ جَلَالِهِ، وَالِانْخِرَاطَ فِي سِلْكِ الْخَوَاصِّ مِنْ عِبَادِهِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ هَذِهِ الأمور، وهذه أسرار نفسية هِيَ الْمَقْصِدُ الْأَقْصَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَاقِلُ غَافِلًا عَنْهَا، وَمِنَ اللَّهِ التَّوْفِيقُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ عَابَ الِاسْتِدْلَالَ وَالْبَحْثَ وَالنَّظَرَ وَالْجِدَالَ وَاحْتَجَّ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَهَذَا يَقْتَضِي نَفْيَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْجِدَالِ، وَلَوْ كَانَ الْجِدَالُ فِي الدِّينِ طَاعَةً وَسَبِيلًا
إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا نَهَى عَنْهُ فِي الْحَجِّ، بَلْ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِالْجِدَالِ فِي الْحَجِّ ضَمَّ طَاعَةٍ إِلَى طَاعَةٍ فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّرْغِيبِ فِيهِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزُّخْرُفِ:
٥٨] عَابَهُمْ بِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجَدَلِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَدَلَ مَذْمُومٌ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الْأَنْفَالِ: ٤٦] نَهْيٌ عَنِ الْمُنَازَعَةِ.
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْجِدَالُ فِي الدِّينِ طَاعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْلِ: ١٢٥] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِنُوحٍ عَلَيْهِ السلام: يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هُودٍ: ٣٢] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا كَانَ ذَلِكَ الْجِدَالُ إِلَّا لِتَقْرِيرِ أُصُولِ الدِّينِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا بُدَّ مِنَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ النُّصُوصِ، فَنَحْمِلُ الْجَدَلَ الْمَذْمُومَ عَلَى الْجَدَلِ فِي تَقْرِيرِ الْبَاطِلِ، وَطَلَبِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَالْجَدَلَ الْمَمْدُوحَ عَلَى الْجَدَلِ فِي تَقْرِيرِ الْحَقِّ وَدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ، وَالذَّبِّ عَنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة: ١٩٧] فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَمَرَ بِفِعْلِ مَا هُوَ خَيْرٌ وَطَاعَةٌ، فَقَالَ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: ١٩٦] وَقَالَ: فَمَنْ فَرَضَ/ فِيهِنَّ الْحَجَّ وَنَهَى عَمَّا هُوَ شَرٌّ وَمَعْصِيَةٌ فَقَالَ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ثُمَّ عَقَّبَ الْكُلَّ بِقَوْلِهِ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى فِي الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ شَيْءٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، حَتَّى يَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْخَيْرَ بِأَنَّهُ يَعْلَمُهُ اللَّهُ لِفَوَائِدَ وَلَطَائِفَ أَحَدُهَا: إِذَا عَلِمْتُ مِنْكَ الْخَيْرَ ذَكَرْتُهُ وَشَهَّرْتُهُ، وَإِذَا عَلِمْتُ مِنْكَ الشَّرَّ سَتَرْتُهُ وَأَخْفَيْتُهُ لِتَعْلَمَ أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ رَحْمَتِي بِكَ فِي الدُّنْيَا هَكَذَا، فَكَيْفَ فِي الْعُقْبَى وَثَانِيهَا: أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [طه: ١٥] مَعْنَاهُ: لَوْ أَمْكَنَنِي أَنْ أُخْفِيَهَا عَنْ نَفْسِي لَفَعَلْتُ فَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ، كَأَنَّهُ قِيلَ لِلْعَبْدِ: مَا تَفْعَلُهُ مِنْ خَيْرٍ عَلِمْتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي تَفْعَلُهُ مِنَ الشَّرِّ فَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ أُخْفِيَهُ عَنْ نَفْسِي لَفَعَلْتُ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ السُّلْطَانَ الْعَظِيمَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ الْمُطِيعِ: كُلُّ مَا تَتَحَمَّلُهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشَقَّةِ وَالْخِدْمَةِ فِي حَقِّي فَأَنَا عَالِمٌ بِهِ وَمُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، كَانَ هَذَا وَعْدًا لَهُ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِعَبْدِهِ الْمُذْنِبِ الْمُتَمَرِّدِ كَانَ تَوَعُّدًا بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ لَا جَرَمَ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَعْدِ بِالثَّوَابِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَعِيدِ بِالْعِقَابِ وَرَابِعُهَا:
أَنَّ
جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: مَا الْإِحْسَانُ؟ فَقَالَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
فَهَهُنَا بَيَّنَ لِلْعَبْدِ أَنَّهُ يَرَاهُ وَيَعْلَمُ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ لِتَكُونَ طَاعَةُ الْعَبْدِ لِلرَّبِّ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ الْخَادِمَ مَتَّى عَلِمَ أَنَّ مَخْدُومَهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْ أَحْوَالِهِ كَانَ أَحْرَصَ عَلَى الْعَمَلِ وَأَكْثَرَ الْتِذَاذًا بِهِ وَأَقَلَّ نُفْرَةً عَنْهُ وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْخَادِمَ إِذَا عَلِمَ اطِّلَاعَ الْمَخْدُومِ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَمَا يَفْعَلُهُ كَانَ جِدُّهُ وَاجْتِهَادُهُ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ وَفِي الِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ أَشَدَّ مِمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَتْبَعَ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالْحَجِّ وَالنَّهْيَ عَنِ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ بِقَوْلِهِ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ: وَتَزَوَّدُوا مِنَ التقوى،
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ سَفَرَانِ: سَفَرٌ فِي الدُّنْيَا وَسَفَرٌ مِنَ الدُّنْيَا، فَالسَّفَرُ فِي الدُّنْيَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ زَادٍ، وَهُوَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْمَرْكَبُ وَالْمَالُ، وَالسَّفَرُ مِنَ الدُّنْيَا لَا بُدَّ فِيهِ أَيْضًا مِنْ زَادٍ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَمَحَبَّتُهُ وَالْإِعْرَاضُ عما سواه، وهذا الزاد خير من زاد الْأَوَّلِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ زَادَ الدُّنْيَا يُخَلِّصُكَ مِنْ عَذَابٍ مَوْهُومٍ وَزَادَ الْآخِرَةِ يُخَلِّصُكَ مِنْ عَذَابٍ مُتَيَقَّنٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ زَادَ الدُّنْيَا يُخَلِّصُكَ مِنْ عَذَابٍ مُنْقَطِعٍ، وَزَادَ الْآخِرَةِ يُخَلِّصُكَ مِنْ عَذَابٍ دَائِمٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ زَادَ الدُّنْيَا يُوصِلُكَ إِلَى لَذَّةٍ مَمْزُوجَةٍ بِالْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ وَالْبَلِيَّاتِ، وَزَادَ الْآخِرَةِ يُوصِلُكَ إِلَى لَذَّاتٍ بَاقِيَةٍ خَالِصَةٍ عَنْ شَوَائِبِ الْمَضَرَّةِ، آمِنَةٍ مِنَ الِانْقِطَاعِ وَالزَّوَالِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ زَادَ الدُّنْيَا وَهِيَ كُلُّ سَاعَةٍ فِي الْإِدْبَارِ وَالِانْقِضَاءِ، وَزَادَ الْآخِرَةِ يُوصِلُكَ إِلَى الْآخِرَةِ، وَهِيَ كُلُّ سَاعَةٍ فِي الْإِقْبَالِ وَالْقُرْبِ وَالْوُصُولِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ زَادَ الدُّنْيَا يُوصِلُكَ إِلَى/ مَنَصَّةِ الشَّهْوَةِ وَالنَّفْسِ، وَزَادَ الْآخِرَةِ يُوصِلُكَ إِلَى عَتَبَةِ الْجَلَالِ وَالْقُدْسِ، فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى فَاشْتَغِلُوا بِتَقْوَايَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، يَعْنِي إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَرْبَابِ الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ حَقَائِقَ الْأُمُورِ وَجَبَ عَلَيْكُمْ بِحُكْمِ عَقْلِكُمْ وَلُبِّكُمْ أَنْ تَشْتَغِلُوا بِتَحْصِيلِ هذا الزاد لما فيه كَثْرَةِ الْمَنَافِعِ، وَقَالَ الْأَعْشَى فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى | وَلَاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا |
نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ | وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصُدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا |
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُونِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّ قَوْلَهُ: وَاتَّقُونِ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى كَمَالِ عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَهُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَثْبَتَ أَبُو عَمْرٍو الْيَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُونِ عَلَى الْأَصْلِ، وَحَذَفَهَا الْآخَرُونَ لِلتَّخْفِيفِ وَدَلَالَةِ الْكَسْرِ عَلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: يا أُولِي الْأَلْبابِ فَاعْلَمْ أَنَّ لُبَابَ الشَّيْءِ وَلُبَّهُ هُوَ الْخَالِصُ مِنْهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ اسْمٌ لِلْعَقْلِ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ مَا فِي الْإِنْسَانِ، وَالَّذِي تَمَيَّزَ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنِ الْبَهَائِمِ وَقَرُبَ مِنْ دَرَجَةِ صفحة رقم 321