
ألا ترى أنه قال: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ فالعدوان من المشركين فِي اللفظ ظلم فِي المعنى والعدوان الَّذِي أباحه اللَّه وأمر به المسلمين إنما هُوَ قصاص. فلا «١» يكون القصاص ظلما، وإن كان لفظه واحدا.
ومثله قول اللَّه تبارك وتعالى: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» «٢» وليست من اللَّه على مثل معناها من المسيء لأنها «٣» جزاء.
وقوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ... (١٩٦)
وفي قراءة عَبْد اللَّه «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إلى البيت لله» «٤» فلو قرأ قارئ «وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» فرفع العمرة «٥» لأن المعتمر إذا أتى البيت فطاف به وبين الصفا والمروة حل من عمرته. والحج يأتي فِيهِ عرفاتٍ وجميع المناسك وذلك قوله «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» يقول: أتموا العمرة إلى البيت «٦» فِي الحج إلى أقصى مناسكه.
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ العرب تقول للذي يمنعه من الوصول إلى إتمام حجه أو عمرته خوف أو مرض، وكل «٧» ما «٨» لم يكن مقهورًا كالحبس والسجن (يقال للمريض) «٩» : قد
(٢) آية ٤٠ سورة الشورى.
(٣) فى أ «لأنه».
(٤) الذي فى الطبري: «فى قراءة عبد الله: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت». ويدل قول الطبري على أن ابن مسعود يقرأ بنصب العمرة، على خلاف ما فى الشواذ لابن خالويه فإنه ذكر قراءة عبد الله: والعمرة لله بالرفع.
(٥) هنا حذف «بعد العمرة». والأصل: جاز. ويتعلق به قوله بعد: «لأن المعتمر... »
وقد قرأ بالرفع على رضى الله عنه والشعبي، ورويت أيضا عن ابن مسعود. وانظر الشواذ لابن خالويه والبحر ٢/ ٧٢
(٦) كأن «فى» محرّفة عن واو العطف. [.....]
(٧) معطوف على «الذى يمنعه من الوصول... ».
(٨) أوقع «ما» موقع من ذهابا إلى الوصف كقوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء...
(٩) هذا تأكيد لقوله قبل: «العرب تقول... » فقوله: «قد أحصر... » مقول «تقول».

أحصر، وفي الحبس والقهر: قد حصر. فهذا فرق بينهما. ولو نويت فِي قهر السلطان أنها علة مانعة ولم تذهب إلى فعل الفاعل جاز لك أن تقول: قد أحصر الرجل.
ولو قلت فِي المرض وشبهه: إن المرض قد حصره أو الخوف، جاز أن تقول:
حصرتم. وقوله «وَسَيِّداً وَحَصُوراً» «١» [يقال] «٢» إنه المحصر عن النساء لأنها علة وليس بمحبوسٍ. فعلى هذا فابن.
وقوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ... (١٩٦)
«ما» فِي موضع رفع لأن أكثر ما جاء من أشباهه فِي القرآن مرفوع.
ولو نصبت على قولك: أهدوا «فَمَا اسْتَيْسَرَ» «٣».
وتفسير الهدى فى هذا الموضع بدنة «٤» أو بقرة أو شاة.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدى صام ثلاثة أيام يكون أخرها يوم عرفة، واليومان فِي العشر، فأما السبعة فيصومها إذا رجع فِي طريقه، وإن شاء إذا وصل إلى أهله و «السبعة» فيها الخفض على الاتباع للثلاثة. وإن نصبتها «٥» فجائز على فعل «٦» مجدد كما تقول فِي الكلام: لا بد من لقاء أخيك وزيدٍ وزيدا.
وقوله: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يقول: ذلك لمن كان من الغرباء من غير أهل مكة، فأما أهل مكة فليس ذلك عليهم. و «ذلِكَ» فِي موضع رفع. وعلى تصلح فِي موضع اللام أي ذلك على الغرباء.
(٢) زيادة من اللسان فى حصر.
(٣) الجواب محذوف أي جاز مثلا. وفى الطبري: «ولو قيل: موضع (ما) نصب بمعنى فإن أحصرتم فأهدوا ما استيسر من الهدى لكان غير مخطئ قائله».
(٤) يراد بالبدنة هنا الناقة أو البعير.
(٥) وهى قراءة زيد بن على، كما فى البحر.
(٦) تقديره: صوموا، أو ليصوموا.

وقوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ معناه: وقت الحج هذه الأشهر. فهي وإن كانت «فِي» تصلح فيها فلا يقال إلا بالرفع، كذلك كلام العرب، يقولون: البرد شهران، والحرّ شهران، لا ينصبون لأنه مقدار الحج. ومثله قوله: «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» «١» ولو كانت الأشهر أو الشهر معروفة على هذا المعنى لصلح «٢» فِيهِ النصب. ووجه الكلام الرفع لأن الاسم إذا كان فِي معنى صفةٍ «٣» أو محل قوى إذا أسند إلى شيء ألا ترى أن العرب يقولون: هُوَ رَجُل دونك وهو رَجُل دون، فيرفعون إذا أفردوا، وينصبون إذا أضافوا. ومن كلامهم المسلمون جانب، والكفار جانب، فإذا قَالُوا: المسلمون جانب صاحبهم نصبوا. وذلك أن «٤» الصاحب يدل على محل كما تقول: نحو صاحبهم، وقرب صاحبهم. فإذا سقط الصاحب لم تجده محلا تقيده قرب شيء أو بعده.
والأشهر المعلومات شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. والأشهر الحرم المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. وإنما جاز أن يقال له أشهر وإنما هما شهران وعشر من ثالثٍ لأن العرب إذا كان الوقت لشيء يكون فِيهِ الحج وشبهه جعلوه فِي التسمية للثلاثة والاثنين، كما قال اللَّه تبارك وتعالى: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ» وإنما يتعجل فِي يومٍ ونصف، وكذلك هُوَ فِي اليوم الثالث من أيام التشريق وليس منها شيء تام، وكذلك تقول العرب: له اليوم يومان منذ لم أره، وإنما هُوَ يوم وبعض آخر، وهذا ليس بجائزٍ فِي غير المواقيت لأن العرب قد تفعل الفعل فِي أقل من الساعة، ثُمَّ يوقعونه على اليوم وعلى
(٢) ذلك أن الظرف سبيله عنده أن يكون معروفا حتى يصح التوقيت به، فالنكرة غير المحصورة لا تصلح لذلك.
(٣) الصفة هنا الجارّ والمجرور. والمحل الظرف.
وهذا عند الكوفيين.
(٤) فى أ: «لأن».

العام والليالي والأيام، فيقال: زرته العام، وأتيتك اليوم، وقتل فلان ليالي الحجاج أمير، لأنه «١» لا يراد أول الوقت وآخره، فلم يذهب به على معنى العدد كله، وإنما يراد به (إذ ذاك الحين) «٢».
وأما قوله: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ يقال: إن الرفث الجماع، والفسوق السباب، والجدال المماراة فِي الْحَجِّ فالقراء على نصب ذلك كله بالتبرئة «٣» إلا مجاهدا فإنه رفع الرفث والفسوق ونصب الجدال. وكل ذلك جائز. فمن نصب أتبع أخر الكلام أوّله، ومن رفع بعضا ونصب بعضا فلان التبرئة فيها وجهان: الرفع بالنون «٤»، والنصب بحذف النون. ولو نصب الفسوق والجدال بالنون لجاز ذلك فِي غير القرآن لأن العرب إذا بدأت بالتبرئة فنصبوها لم تنصب بنونٍ، فإذا عطفوا عليها ب «لا» كان فيها وجهان، إن شئت جعلت «لا» معلقة يجوز حذفها فنصبت على هذه النية بالنون لأن «لا» فى معنى صلة، وإن نويت بها الابتداء كانت كصاحبتها، ولم تكن معلقة فتنصب بلا نونٍ قال فِي ذلك الشاعر:
رأت إبلى برمل جدود أ [ن] لا | مقيل لها ولا شربًا نقوعا «٥» |
فلا أب وابنا مثل مروان وأبنه | إذا هُوَ بالمجد ارتدى وتأزّرا «٦» |
(٢) فى الطبري: «إذ ذاك، وفى ذلك الحين».
(٣) يعنى: بلا التبرئة. وهى لا النافية للجنس.
(٤) يعنى نون التنوين يقال: نون الاسم ألحقه التنوين قال فى التاج: وتزاد- أي النون- للصرف فى كل اسم منصرف.
(٥) جدود: موضع فى أرض بنى تميم على سمت اليمامة. والمقيل: موضع القيلولة، وهى الاستراحة نصف النهار. والشرب: النصيب من الماء، والنقوع: المجتمع. وترى زيادة النون فى «أن» وهى لا بدّ منها، وقد سقطت من الأصول.
(٦) ورد هذا البيت فى سيبويه ١/ ٣٤٩. وهو من أبياته الخمسين التي لا يعرف قائلها. ونسبه ابن هشام لرجل من بنى عبد مناة يمدح مروان بن الحكم وابنه عبد الملك، ونسب فى شرح شواهد الكشاف للفرزدق وانظر الخزانة ٢/ ١٠٢، والعيني على هامشها ٢/ ٣٥٥

وهو فِي مذهبه بمنزلة المدعو «١» تقول: يا عمرو والصلت أقبلا. فتجعل الصلت تابعا لعمرو وفيه الألف واللام لأنك نويت به أن يتبعه «٢» بلا نية «يا» فِي الألف واللام. فإن نويتها قلت: يا زيد ويا أيها الصّلت أقبلا. فإن حذفت «يا أيها» وأنت تريدها نصبت كقول اللَّه عز وجل «يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ» «٣» نصب الطير على جهتين: على نية النداء المجدد له إذ لم يستقم دعاؤه بما دعيت به الجبال، وإن شئت أوقعت عليه فعلا: وسخرنا له «الطَّيْرَ» فتكون النية على سخرنا. فهو فِي ذلك متبع كقول الشاعر:
ورأيت زوجك فِي الوغى | متقلدا سيفا ورمحا «٤» |
فلا لغو ولا تأثيم فيها | وما فاهوا به لهم مقيم «٦» |
ذاكم- وجدكم- الصغار بعينه | لا أم لي إن كان ذاك ولا أب |
(٢) فى أ. «تتبعه».
(٣) آية ١٠ سورة سبأ.
(٤) فالتقدير: وحاملا رمحا لأن الرمح لا يتقلد وإنما يتقلد السيف. والبيت ورد فى اللسان (قلد) غير معزوّ. وفيه: «يا ليت» فى مكان: «رأيت».
(٥) قوله: بعض التبرئة يعنى ما بعد لا التبرئة.
(٦) هذا من قصيدة يذكر فيها أوصاف الجنة وأهلها وأحوال يوم القيامة، وأوّلها:
سلامك ربنا فى كل فجر | بريئا ما تليق بك الذموم |
(٧) هو رجل من مذحج عند سيبويه ١/ ٣٥٢.
وقيل فى نسبته غير ذلك. وانظر العيني على هامش الخزانة ٢/ ٣٣٩. وكان لقائل هذا الشعر أخ يسمى جندبا، وكان أهله يؤثرونه عليه ويفضلونه، فأنف من ذلك وقال هذه.