
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي حَجِّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ تَمَتُّعًا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ إِفْرَادًا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ
قِرَانًا، وَقَدْ جَمَعَ الْمُحَدِّثُونَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِوُجُوهٍ، أَقْوَاهَا وَأَجْمَعُهَا أَنَّهُ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ فَصَارَ قِرَانًا، فَيُحْمَلُ قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِالْإِفْرَادِ عَلَى مَا أَهَلَّ بِهِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِينَ بِالْقِرَانِ عَلَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ عَمَلُهُ مِنْ إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ التَّمَتُّعَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ يَتَنَاوَلُ الْقِرَانَ، فَتُحْمَلُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَجَّ تَمَتُّعًا فَتَصِحُّ جَمِيعُ الرِّوَايَاتِ. وَصَفْوَةُ الْقَوْلِ أَنَّ حَجَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قِرَانًا، وَلِذَلِكَ فَضَّلَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْقِرَانَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ وَاحْتَجُّوا لَهُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ قَالَ: أَهَلَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَلْحَةَ، وَقَدِمَ عَلِيٌّ مَنَ الْيَمَنِ وَمَعَهُ هَدْيٌ، فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً وَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيُحِلُّوا إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ. وَحَكَى اسْتِنْكَارَهُمْ وَقَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدًّا عَلَيْهِمْ: ((لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيُ لَأَحْلَلْتُ)) وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّ الْأَفْضَلَ التَّمَتُّعُ لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ لَا مُطْلَقًا. وَقَالَ ابْنُ الْقِيَمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ: أَفْتَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَوَازِ فَسْخِهِمُ الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَفْتَاهُمْ بِفِعْلِهِ حَتْمًا وَلَمْ يَنْسَخْهُ شَيْءٌ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَدِينُ لِلَّهِ بِهِ: أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِهِ أَقْوَى وَأَصَحُّ مِنَ الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ مِنْهُ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صِحَّةً لَا شَكَّ فِيهَا أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى فَلْيُهِلَّ بِعُمْرَةٍ وَمَنْ أَهْدَى فَلْيُهِلَّ بِحَجٍّ مَعَ عُمْرَةٍ)) وَالْمُرَادُ بِسَوْقِ الْهَدْيِ: أَخْذُهُ إِلَى الْحَرَمِ، وَمِنَ الْإِهْلَالِ: الْإِحْرَامُ، وَإِذَا كَانَ سَوْقُ الْهَدْيِ فِي هَذَا الزَّمَانِ شَاقًّا عَلَى حُجَّاجِ الْآفَاقِ وَكَثِيرَ النَّفَقَةِ إِلَّا عَلَى أَهْلِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْمُجَاوِرِينَ لِلْحِجَازِ فَأَكْثَرُ النَّاسِ يُحْرِمُونَ بِالْعُمْرَةِ وَحْدَهَا، وَبَعْدَ أَدَاءِ أَرْكَانِهَا يَتَحَلَّلُونَ مِنْهَا بِمَكَّةَ، ثُمَّ يُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ قَبْلَ عَرَفَةَ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ فِي الْغَالِبِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِيَوْمِ التَّرْوِيَةِ الَّذِي يَخْرُجُونَ فِيهِ إِلَى عَرَفَاتٍ.
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْحَجُّ أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي يُؤَدَّى فِيهِ الْحَجُّ أَشْهُرٌ يَعْلَمُهَا النَّاسُ، وَهِيَ شَوَّالُ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ ; أَيْ: إِنَّهُ يُؤَدَّى فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَّلِ

يَوْمٍ مِنْهَا إِلَى آخِرِ يَوْمٍ ; بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِهِ مِنْ غُرَّةِ أَوَّلِهَا وَتَنْتَهِي أَرْكَانُهُ وَوَاجِبَاتُهُ فِي أَثْنَاءِ آخِرِهَا، فَالْوُقُوفُ فِي التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَبَقِيَّةُ الْمَنَاسِكِ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ وَهِيَ يَوْمُ النَّحْرِ، الَّذِي فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) (٩: ٣) وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَجَوَّزَ بَعْضُ السَّلَفِ تَأْخِيرَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إِلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا الْأَشْهُرُ الثَّلَاثَةُ وَمِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَلَيْهِ مَالِكٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَلَا حُجَّةَ فِي الْآيَةِ لِأَحَدٍ عَلَى تَحْدِيدِهِ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْهَا مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مَعْلُومَاتٌ) إِقْرَارٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ ; لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ الْعَمَلِيِّ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ يَتَضَمَّنُ بُطْلَانَ النَّسِيءِ فِيهَا، لِأَنَّهُ جَاهِلِيٌّ مَعْرُوفٌ.
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ، لِأَنَّهُ شُرُوعٌ فِي الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا كَمَنْ يُصَلِّي قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ مِنَ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: إِنَّهُ جَائِزٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ. وَمَالُكٌ بِلَا كَرَاهَةٍ.
وَقَدْ بَحَثَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي لَفْظِ الْأَشْهُرِ وَكَوْنِهَا جَمْعَ قِلَّةٍ، وَهَلْ وَرَدَ فِي بَيَانِهَا نَصٌّ أَوْ إِجْمَاعٌ؟
وَأَقُولُ: إِنَّهُ بَحْثٌ لَا وَجْهَ لَهُ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَعْلُومَاتٌ) أَنَّهَا هِيَ أَشْهُرُ الْحَجِّ الْمَعْرُوفَةُ لِلْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا،
وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْثَرْ عَنِ الصَّحَابَةِ فِيهَا إِلَّا مَا قِيلَ فِي الثَّالِثِ مِنْهَا: هَلْ تَكُونُ أَيَّامُهُ كُلُّهَا أَيَّامَ حَجٍّ أَمْ تَنْتَهِي أَرْكَانُ الْحَجِّ فِي الْعَاشِرِ مِنْهُ؟
فَالْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ سِرُّ جَعْلِهَا خَبَرًا عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ أَعْظَمُ أَرْكَانِهِ - وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ - يَكُونُ فِي التَّاسِعِ مِنَ الثَّالِثِ عُلِمَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَتَكَرَّرُ فِيهَا، فَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ فَلَا حَجَّ لَهُ. قَالَ تَعَالَى:
(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) أَيْ: أَوْجَبَهُ وَأَلْزَمَهُ نَفْسَهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ كَيْفِيَّتِهِ (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الرَّفَثِ فِي آيَاتِ الصِّيَامِ وَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ. وَالْفُسُوقُ: الْخُرُوجُ عَنْ حُدُودِ الشَّرْعِ بِأَيِّ فِعْلٍ مَحْظُورٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذَّبْحُ لِلْأَصْنَامِ خَاصَّةً، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالسِّبَابِ وَالتَّنَابُزِ بِالْأَلْقَابِ. وَالْجِدَالُ: قِيلَ هُوَ بِمَعْنَى الْجِلَادِ مِنَ الْجَدَلِ بِمَعْنَى الْقَتْلِ، وَقِيلَ هُوَ الْمِرَاءُ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ يَكْثُرُ عَادَةً بَيْنَ الرُّفْقَةِ وَالْخَدَمِ فِي السَّفَرِ ; لِأَنَّ مَشَقَّتَهُ تُضَيِّقُ الْأَخْلَاقَ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
وَأَقُولُ: إِنَّهُ يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ وَغَيْرِهَا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ الْمُخْتَارِ عِنْدَنَا، وَيَكُونُ النَّفْيُ الْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ فِي بَعْضِهَا لِلتَّحْرِيمِ كَالرَّفَثِ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ لَا يُفْسِدُ النُّسُكَ، وَفِي بَعْضِهَا الْآخَرِ لِلْكَرَاهَةِ الشَّدِيدَةِ كَالرَّفَثِ بِمَعْنَى الْكَلَامِ الصَّرِيحِ فِي أُمُورِ الْوِقَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الصِّيَامِ إِلَخْ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ تَفْسِيرَ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَنَاسِبًا وَبِحَسَبِ حَالِ

الْقَوْمِ فِي زَمَنِ التَّشْرِيعِ، فَأَمَّا الرَّفَثُ فَهُوَ كَمَا قِيلَ: الْجِمَاعُ، وَأَمَّا الْفُسُوقُ: فَهُوَ الْخُرُوجُ عَمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَتْ مُبَاحَةً فِي الْحِلِّ، كَالصَّيْدِ وَالطِّيبِ وَالزِّينَةِ بِاللِّبَاسِ الْمَخِيطِ، وَالْجِدَالُ: هُوَ مَا كَانَ يَجْرِي بَيْنَ الْقَبَائِلِ مِنَ التَّنَازُعِ وَالتَّفَاخُرِ فِي الْمَوْسِمِ، فَبِهَذَا يَكُونُ التَّنَاسُبُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ، وَإِلَّا حُمِلَتْ كُلُّهَا عَلَى مَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ، فَجُعِلَ الرَّفَثُ قَوْلَ الْفُحْشِ، وَالْفُسُوقُ التَّنَابُزَ بِالْأَلْقَابِ عَلَى حَدِّ (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ) (٤٩: ١١) وَالْجِدَالُ الْمِرَاءُ وَالْخِصَامُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْمَنَاهِي كُلُّهَا آدَابًا لِسَانِيَّةً.
وَالنُّكْتَةُ فِي مَنْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ (عَلَى أَنَّهَا آدَابٌ لِسَانِيَّةٌ) تَعْظِيمُ شَأْنِ الْحَرَمِ وَتَغْلِيظُ
أَمْرِ الْإِثْمِ فِيهِ ; إِذِ الْأَعْمَالُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَلِلْمَلَأِ آدَابٌ غَيْرُ آدَابِ الْخَلْوَةِ مَعَ الْأَهْلِ، وَيُقَالُ فِي مَجْلِسِ الْإِخْوَانِ مَا لَا يُقَالُ فِي مَجْلِسِ السُّلْطَانِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ فِي أَوْقَاتِ الْعِبَادَةِ وَالْحُضُورِ مَعَ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَكْمَلِ الْآدَابِ وَأَفْضَلِ الْأَحْوَالِ، وَنَاهِيكَ بِالْحُضُورِ فِي الْبَيْتِ الَّذِي نَسَبَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى هَذِهِ النِّسْبَةِ فِي تَفْسِيرِ (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ) (٢: ١٢٥) الْآيَاتِ.
وَأَمَّا السِّرُّ فِيهَا - عَلَى أَنَّهَا مِنْ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ - فَهُوَ أَنْ يَتَمَثَّلَ الْحَاجُّ أَنَّهُ بِزِيَارَتِهِ لِبَيْتِ اللهِ تَعَالَى مُقْبِلٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى قَاصِدٌ لَهُ، فَيَتَجَرَّدُ عَنْ عَادَاتِهِ وَنَعِيمِهِ، وَيَنْسَلِخُ مِنْ مَفَاخِرِهِ وَمُمَيِّزَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَبِحَيْثُ يُسَاوِي الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ، وَيُمَاثِلُ الصُّعْلُوكُ الْأَمِيرَ، فَيَكُونُ النَّاسُ مِنْ جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ فِي زِيٍّ كَزِيِّ الْأَمْوَاتِ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ تَصْفِيَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِهَا وَإِشْعَارِهَا مِنْ حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَالْأُخُوَّةِ لِلنَّاسِ مَا لَا يُقَدَّرُ قَدْرَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْفَى أَمْرُهُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ((مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)) وَذَلِكَ أَنَّ الْإِقْبَالَ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ وَالتَّقَلُّبَ فِي تِلْكَ الْمَنَاسِكِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ يَمْحُو مِنَ النُّفُوسِ آثَارَ الذُّنُوبِ وَظُلْمَتَهَا وَيُدْخِلُهَا فِي حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ، لَهَا فِيهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ.
وَأَقُولُ: إِنَّ مِنْ بَلَاغَةِ الْإِيجَازِ فِي الْآيَةِ التَّصْرِيحُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ بِذِكْرِ الْحَجِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، الْمُرَادُ بِأَوَّلِهَا زَمَانُ الْحَجِّ كَقَوْلِهِمْ: الْبَرْدُ شَهْرَانِ، وَبِالثَّانِي الْحَجُّ نَفْسُهُ الْمُسَمَّى بِالنُّسُكِ، وَبِالثَّالِثِ مَا يَعُمُّ زَمَانَ أَدَائِهِ وَمَكَانَهُ وَهُوَ أَرْضُ الْحَرَمِ وَمَا يَتْبَعُهَا كَعَرَفَاتٍ، كَمَا تَعُمُّ الظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (٢٢: ٢٥) جَمِيعَ أَرْضِ الْحَرَمِ وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعًا إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَضْرِبُ خِيَامَهُ خَارِجَ حُدُودِ الْحَرَمِ فَيَطُوفُ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْمَسْجِدِ وَيُصَلِّي ثُمَّ يَجِيءُ خِيَامَهُ فَيُبَيِّتُ فِيهَا، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يُهِينَ أَحَدَ خَدَمِهِ فَيَكُونُ مُلْحِدًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَجَمِيعُ أَمْكِنَةِ الْحَرَمِ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ وَمَشَاعِرِهِ وَحُرُمَاتِهِ الَّتِي يَجِبُ احْتِرَامُهَا، وَأَهَمُّهَا اجْتِنَابُ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ فِيهَا، إِلَّا أَنَّ الرَّفَثَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يَحِلُّ بِالتَّحَلُّلِ مِنَ النُّسُكِ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ قَبِيحًا.
وَلَوْ قَالَ: فَمَنْ فَرَضَهُ فِيهِنَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِيهِ، لَمْ يُؤَدِّ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلَّهَا.
وَمِنَ
الْقِرَاءَاتِ فِيهَا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَيَعْقُوبَ ((رَفَثُ وَفُسُوقُ)) بِالرَّفْعِ ((وَجِدَالَ))

بِالْفَتْحِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ. وَهُوَ أَبْلَغُ ; لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِجِنْسِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَشْمَلُ جَمِيعَ أَفْرَادِهَا بِالنَّصِّ وَيَتَضَمَّنُ مَعْنَى النَّهْيِ عَنْهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) وَفِيهِ الْتِفَاتٌ إِلَى الْخِطَابِ وَيُشْعِرُ الْعَطْفُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَنِ اتْرُكُوا هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَمْنُوعَةَ فِي الْحَجِّ لِتَخْلِيَةِ نُفُوسِكُمْ وَتَصْفِيَتِهَا، وَحَلُّوهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِفِعْلِ الْخَيْرِ لِتَتِمَّ لَكُمْ تَزْكِيَّتُهَا، فَإِنَّ النُّفُوسَ بَعْدَ ذَلِكَ تَكُونُ أَشَدَّ اسْتِعْدَادًا لِلِاتِّصَافِ بِالْخَيْرِ، وَاللهُ لَا يُضِيعُ عَلَيْكُمْ أَقَلَّ شَيْءٍ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِهِ وَبِأَنَّكُمْ وَافَقْتُمْ فِيهِ سُنَّتَهُ وَشَرِيعَتَهُ (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) قَالُوا: إِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي رَدْعِ أَهْلِ الْيَمَنِ عَنْ تَرْكِ التَّزَوُّدِ زَعْمًا أَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ، ثُمَّ يَقْدُمُونَ فَيَسْأَلُونَ النَّاسَ فَنَزَلَتْ. فَالْمُرَادُ بِالتَّقْوَى عَلَى هَذَا اتِّقَاءُ السُّؤَالِ وَبَذْلِ مَاءِ الْوَجْهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ مِنَ الْعِبَارَةِ، بَلِ الْمُتَبَادَرُ مِنْهَا أَنَّ الزَّادَ هُوَ زَادُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَمَا تُدَّخَرُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ التَّعْلِيلُ فِي قَوْلِهِ: (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) وَالْمَعْنَى مِنَ التَّقْوَى مَعْرُوفٌ وَهُوَ مَا بِهِ يَتَّقِي سَخَطَ اللهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا الْبِرُّ وَالتَّنَزُّهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يُعَلِّلُ بِأَنَّ التَّقْوَى خَيْرُ زَادٍ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ التَّزَوُّدَ مِنْهَا، أَمَّا مَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ فَلَا يَصْلُحُ مُرَادًا مِنَ الْآيَةِ ; لِأَنَّهُ لَوْلَا مَا أَوْرَدُوا مِنَ السَّبَبِ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ سَامِعِ اللَّفْظِ، وَالسَّبَبُ لَيْسَ مَذْكُورًا فِي الْآيَةِ وَلَا مُشَارًا إِلَيْهِ فِيهَا فَلَا يَصْلُحُ قَرِينَةً عَلَى الْمُرَادِ مِنْ أَلْفَاظِهَا، نَعَمْ إِنَّ السَّبَبَ قَدْ يُنِيرُ السَّبِيلَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ، وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَفْهُومَةً بِنَفْسِهَا ; لِأَنَّ السَّبَبَ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ وَلِذَلِكَ أَتَمَّهَا بِقَوْلِهِ: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) يَعْنِي مَنْ كَانَ لَهُ لُبٌّ وَعَقْلٌ فَلْيَتَّقِنِي فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى نُورٍ مِنْ فَائِدَةِ التَّقْوَى وَأَهْلًا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا.
أَقُولُ: وَيَدْخُلُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ كَالتَّزَوُّدِ وَتَحَامِي وَسَائِلِ الْحَاجَةِ إِلَى السُّؤَالِ الْمَذْمُومِ وَاللهُ أَعْلَمُ.
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)