أحكام الحج والعمرة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٦ الى ١٩٧]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧)
الإعراب:
... وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ متعلق بأتموا، وهو مفعول لأجله، ويجوز أن يكون في موضع الحال، وعامله محذوف تقديره: كائنين لله.
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: ما: مبتدأ، وخبره مقدر، وتقديره: فعليكم ما استيسر.
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ مبتدأ وخبر، ولا بد فيه من محذوف مقدر، وفي تقديره وجهان:
أحدهما- أشهر الحج أشهر معلومات، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والثاني: الحج حج أشهر معلومات.
فَلا رَفَثَ.... فِي الْحَجِّ لا: نافية للجنس، كما في قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ واسمها
وهو رفث: مبني على الفتح، وبني مع «لا» لأنه معه بمنزلة «خمسة عشر». و «لا» مع النكرة المبنية في موضع مبتدأ، وقوله فِي الْحَجِّ خبر.
وَما تَفْعَلُوا ما: شرطية منصوب بتفعلوا، وتفعلوا مجزوم بما، ويعلمه: مجزوم لأنه جواب شرط.
البلاغة:
حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ: كناية عن ذبحه في مكان الإحصار. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً فيه إيجاز بالحذف، أي كان مريضا فحلق وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ فيه التفات من الغائب إلى المخاطب.
تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ فيه إجمال بعد التفصيل، لزيادة التأكيد، ويسمى «الإطناب».
وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ إظهار اسم الجلالة في موضع الإضمار لتربية الهيبة والجلال.
لِمَنْ اللام بمعنى على، أي وجوب الدم على من لم يكن من أهل مكة.
فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ نفي بمعنى النهي، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا أي لا تماروا مع الرفقاء والخدم والمكارين، والنفي أبلغ من النهي الصريح، أي لا ينبغي أن يقع أصلا، والأمر بالاجتناب في الحج مع أن وجوبه في كل حال، لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة، والتطريب في قراءة القرآن.
المفردات اللغوية:
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ أدوهما بحقوقهما فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ منعتم عن إتمامهما بعدو أو مرض اسْتَيْسَرَ تيسر الْهَدْيِ أي سهل عليكم وهو شاة، أو كل ما يهديه الحاج والمعتمر إلى البيت الحرام من النّعم، ليذبح ويفرق على الفقراء وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ أي لا تتحللوا حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ مكان الحلول والنزول، حيث يحل ذبحه، وهو مكان الإحصار عند الشافعي ومالك، فيذبح فيه بنية التحلل، ويفرق على مساكينه، ويحلق به، وبه يحصل التحلل. وفي رأي الحنفية:
هو الحرم. أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ كقمل وصداع، فحلق في الإحرام فَفِدْيَةٌ عليه مِنْ صِيامٍ ثلاثة أيام أَوْ صَدَقَةٍ ثلاثة أصوع «١» من غالب قوت البلد، على ستة مساكين أَوْ نُسُكٍ أي ذبح شاة، وأصل النسك: العبادة، والمراد هنا الذبيحة، وسميت نسكا لأنها من أشرف
العبادات التي يتقرب بها المؤمن إلى الله تعالى. وأو: للتخيير. وألحق به: من حلق لغير عذر، ومن استمتع بغير الحلق كالطيب واللبس والدهن لعذر أو غيره. فَإِذا أَمِنْتُمْ قيل: برأتم من المرض، وقيل: من خوفكم من العدو.
فَمَنْ تَمَتَّعَ استمتع بِالْعُمْرَةِ أي بسبب فراغه منها، أي تمتع بمحظورات الإحرام إِلَى الْحَجِّ أي الإحرام به، بأن يكون أحرم بها في أشهره.
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ تيسر عليه من الهدي وهو شاة يذبحها بعد الإحرام بالحج بمكة، والأفضل يوم النحر. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدي، لفقده أو فقد ثمنه، فعليه صيام ثلاثة أيام في حال الإحرام بالحج، فيجب حينئذ أن يحرم قبل السابع من ذي الحجة، والأفضل قبل السادس، لكراهة صوم يوم عرفة، ولا يجوز صومها أيام التشريق في الأصح عند الشافعي. وسبعة أيام بعد الرجوع إلى الوطن: مكة أو غيرها.
وحاضرو المسجد الحرام: هم أهل مكة وما دونها إلى المواقيت في رأي الحنفية، وإلى ما دون مرحلتين من الحرم عند الشافعي.
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وقته شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، في رأي الشافعي، وقال الجمهور: يجوز الإحرام بالحج فيما عدا هذه الأشهر مع الكراهة. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أي ألزمه نفسه بالشروع فيه بالنية قصدا باطنا، وبالإحرام فعلا ظاهرا، وبالتلبية نطقا مسموعا. وليست التلبية عند الشافعي من أركان الحج، وأوجبها الظاهرية.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر تعالى بإتمام الحج والعمرة، وكانت العمرة لا وقت لها معلوما، بيّن أن الحج له وقت معلوم.
فَلا رَفَثَ جماع فيه، وَلا فُسُوقَ عصيان وَلا جِدالَ خصام ومجادلة «١» والمراد بالنفي في الثلاثة: النهي عنها. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ كصدقة يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيجازيكم به، ونزل في أهل اليمن، وكانوا يحجون بلا زاد، فيكونون كلّا على الناس. وَتَزَوَّدُوا ما يبلغكم لسفركم فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ما يتقى به سؤال الناس وغيره، واتقوا الله يا أولي العقول.
والألباب: جمع لبّ، ولبّ كل شيء: خالصة، ولذلك قيل للعقل: لبّ.
سبب النزول:
سبب نزول قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ:
أخرج ابن أبي حاتم عن صفوان بن أمية قال: جاء رجل إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم متضمخ بالزعفران، عليه جبة، فقال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي؟ فأنزل الله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فقال: أين السائل عن العمرة، قال: ها أنا ذا، فقال له: ألق عنك ثيابك، ثم اغتسل واستنشق ما استطعت، ثم ما كنت صانعا في حجك، فاصنعه في عمرتك.
وقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً:
روى البخاري عن كعب بن عجرة أنه سئل عن قوله: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ قال: حملت إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، أما تجد شاة؟ قال: قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك، فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة.
وروى مسلم عن كعب بن عجرة قال: «فيّ أنزلت هذه الآية، أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أدنه، فدنوت مرتين أو ثلاثا، فقال: أيؤذيك هوامك؟
قال ابن عون، وأحسبه قال: نعم، فأمرني بصيام، أو صدقة، أو نسك ما تيسر».
وروى أحمد عن كعب قال: كنا مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية، ونحن محرمون، وقد حصر المشركون، وكانت لي وفرة، فجعلت الهوام تسّاقط على وجهي، فمرّ بي النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ فأمره أن يحلق، قال: ونزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ.
وقوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا: روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال:
كان أهل اليمن يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون، فأنزل الله:
وَتَزَوَّدُوا، فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى.
المناسبة:
ذكرت أحكام الصيام، ثم ذكرت أحكام الأشهر الحرم والمسجد الحرام والقتال فيها وفيه، ثم ذكرت هنا أحكام الحج، لأن شهوره بعد شهر الصيام، فأوضح تعالى فيها حكم المحصر الذي منعه العدو من إتمام الحج، وحكم المتمتع إلى زمن الحج من غير أهل الحرم، ووقت الحج في أشهر معلومات.
التفسير والبيان والأحكام:
كان الحج معروفا بين عرب الجاهلية، من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأقره الإسلام بعد أن أبطل ما فيه من أنواع الشرك والمنكرات، وزاد فيه بعض المناسك.
وقد فرضه الله تعالى على المسلمين سنة ست من الهجرة بقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران ٣/ ٩٧] وكانت أول حجة حجها المسلمون سنة تسع بإمرة أبي بكر رضي الله عنه، ثم حج النّبي صلّى الله عليه وسلّم سنة عشر، وفيها أذّن أبو بكر بالمشركين الذين حجوا: ألا يطوف بعد هذا العام مشرك، ونزلت الآية إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة ٩/ ٢٨].
واستمر المسلمون منذ ذلك التاريخ يهرعون بقلوب ملؤها الشوق والحنين والتعظيم إلى بيت الله الحرام كل عام، من مختلف الأقطار في المشارق والمغارب، تظللهم راية الإيمان بالله تعالى، وترتفع أصواتهم بتلبية أوامر الله، وتخشع نفوسهم لتلك المواقف المهيبة، قاصدين تطهير أنفسهم من شوائب العصيان
ومخالفة الأوامر الإلهية، وهم في صفوفهم وتحركاتهم الجماعية منصهرون ماديا وفعليا بمعنى المساواة، دون تفرقة بين سيد ومسود وحاكم ومحكوم وغني وفقير، ومتجردون من مظاهر الدنيا وزينتها، فلا تكاد تجد في أنحاء العالم تجمعا كثيفا ومؤتمرا عالميا، مثل مؤتمر الحج كل عام، حيث تجد فيه مختلف الجنسيات والألوان والألسنة من كل أنحاء العالم.
ويبين الله تعالى في هذه الآيات بعض أحكام الحج وهي:
١- إتمام الحج والعمرة:
أي أداؤهما تامين كاملين لا ينقصهما شيء من شروطهما وأفعالهما من غير أن يفعل أثناءهما شيء من المحظورات، ظاهرا بأداء المناسك على وجهها المطلوب شرعا، وباطنا بالإخلاص لله تعالى دون قصد شيء دنيوي. والتعبير بالإتمام مشعر بأن المسلمين قد شرعوا فيهما، وبدؤوا في العمرة سنة ست وصدوا عنها، ولذلك تسمى العمرة التي وقعت في سنة سبع عمرة القضاء. ودل قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ على وجوب القضاء على من أحصر بمرض أو عدو إذا حل منهما بالهدي، في رأي الحنفية، لأن الأمر في الآية يقتضي الإيجاب بالشروع في العبادة، والمراد بقوله وَأَتِمُّوا.. تمامهما بعد الشروع فيهما. وقال مالك والشافعي: إن أحصر المحرم بعدو، فحلّ فلا قضاء عليه في الحج ولا العمرة، والمراد بالآية: أداؤهما والإتيان بهما، كقوله:
فَأَتَمَّهُنَّ وقوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ.
٢- اتفق العلماء على فرضية الحج، واختلفوا في العمرة
، بالرغم من الأمر إتمامهما في هذه الآية. فقال الشافعية والحنابلة: العمرة واجبة كالحج، لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وقوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وقوله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة ٢/ ١٥٨]. ولما
روي في
الصحيح أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه: «من كان معه هدي، فليهلّ بحج وعمرة»
وقوله أيضا: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة»
وروى الدارقطني والحاكم من حديث زيد بن ثابت عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الحج والعمرة فريضتان، لا يضرك بأيهما بدأت».
وذهب المالكية والحنفية: إلى أن العمرة سنة، لأن كل الآيات التي فرض فيها الحج، جاءت مجردة عن ذكر العمرة: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران ٣/ ٩٧] وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ.. [الحج ٢٢/ ٢٧]، ولأن أحاديث أركان الإسلام لم يذكر فيها العمرة،
ولقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن ماجه وعبد بن حميد عن أبي صالح الحنفي- «الحج جهاد، والعمرة تطوع» وأخرج الترمذي وصححه عن جابر: أن رجلا سأل رسول الله عن العمرة، أواجبة هي؟ قال: لا، وأن تعتمروا خير لكم»،
وتأولوا أحاديث فريضة العمرة بأنها بعد الشروع فيها، وهي واجبة حينئذ بلا خلاف. والظاهر هو الرأي الأول، لأن هذه الآية وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ دليل على وجوب العمرة، لأنه تعالى أمر بإتمامها، كما أمر بإتمام الحج.
٤- الإحصار:
إن منعتم وأنتم محرمون من إتمام النسك بسبب عدو أو مرض أو نحوهما، وجب عليكم إن أردتم التحلل أن تذبحوا ما تيسر من الهدي: وهو ناقة (بدنة) أو بقرة أو شاة، فإن لم يجدها المحصر قوّم الحيوان، واشترى بقيمته طعاما، وتصدق به، فإن لم يجد، صام عن كل مدّ من الطعام يوما. والإحصار يكون عن الحج، وعن العمرة، لأن المنع قد يحصل منهما على سواء.
واختلف الفقهاء في أسباب الإحصار: فذهب الحنفية: إلى أنه يشمل كل حالات المنع من دخول مكة بعد الإحرام، بمرض أو عدو، أو سجن أو غيره،
لأن الله تعالى علّق الحكم على مطلق الإحصار: وهو الحبس، وهو عام، يتناول الكل.
وذهب الشافعية والمالكية: إلى أن معنى الإحصار: المنع بالعدو، أخذا بما روي عن ابن عباس وابن عمر، ولأن الحصر هو المنع، والمنع لا بد له من مانع قادر على المنع، وذلك يتصور في العدو لا في المرض، ولأن الأمن في قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ إنما يستعمل في الخوف من العدو، لا في المرض. وأما من أحصره المرض فلا يحلّه إلا الطواف بالبيت، وإن أقام سنين، حتى يفيق.
والظاهر هو الرأي الأول، لأن الأمن عام ليس مقصورا على الأمن من العدو، ولأن المانع هو كل حاجز عن الشيء، والمرض حاجز عن متابعة السير وإتمام الأعمال المطلوبة في المناسك، وتخصيص بعض أفراد العام بحكم في آية:
فَإِذا أَمِنْتُمْ لا يخصص العام المفهوم في آية: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ.
وأما اشتراط المحرم: بأن يقول: لبيك اللهم لبيك، ومحلّي حيث حبستني من الأرض، فلا ينفعه عند الجمهور، وعليه دم. وأجاز أحمد وأبو ثور وإسحاق بن راهويه الاشتراط، ولا دم ولا هدي عليه، لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أذن بذلك لضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فيما رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما.
٤- حلق الرأس أو التقصير:
يعبر عن الدخول بالحج أو العمرة بالإحرام، وذلك بالنية من الميقات، وتجرد الرجال من لبس المخيط والحذاء، ولبس النعل، والامتناع عن الطيب والنساء والصيد البري ونحوها، ويكون الخروج من الإحرام بما يسمى بالتحلل: وهو حلق الرأس أو التقصير، وقد نهى الله تعالى عن الحلق قبل بلوغ الهدي مكان ذبحه، وهو مكان الإحصار في رأي مالك والشافعي، عملا بفعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في عام الحديبية، وفي الحرم المكي في رأي الحنفية، لقوله تعالى في جزاء الصيد: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة ٥/ ٩٥]
فبين أن شرط الهدي أن يكون على صفة بلوغ الكعبة، فلا يصح أن تغير هذه الصفة، وكان الذبح من النّبي صلّى الله عليه وسلّم في طرف الحرم من جهة الحديبية. والظاهر الرأي الأول لأن منع العدو أو المرض لا يتحدد بمكان معين، ويحول بين المحرم وبين تقدمه أو تجاوزه المكان الممنوع، فكيف يتصور وصوله إلى الحرم، وهو ممنوع منه؟! قال الله تعالى: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح ٤٨/ ٢٥] قيل: محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق.
وهل لذبح الهدي وقت معين؟ لا خلاف في أن هدي العمرة غير مؤقت بزمان مخصوص، بل له أن يذبح متى شاء، ويحل من إحرامه. وأما هدي الإحصار في الحج: فيذبح عند الجمهور متى شاء ويحل، لأن قوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ عام في كل الأوقات متى حصل الإحصار، ولأن حكم الإحصار بالعمرة لا توقيت فيه، فلا يفرق بين دم إحصار الحج ودم إحصار العمرة، ولأن تأخير الذبح حتى يجيء يوم النحر فيه ضرر واضح.
وقال الثوري وأبو يوسف ومحمد: لا يذبح الهدي قبل يوم النحر.
وهل على المحصر حلق؟ قال أبو حنيفة ومحمد: ليس على المحصر تقصير ولا حلاق. وقال الجمهور: يحلق المحصر أو يقصر، لأن ذلك قادر عليه، ولقوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة ٢/ ١٩٦] ولا يجوز لأحد أن يحلق رأسه حتى ينحر هديه، لأن سنة الذبح الحلاق، وللآية المذكورة: وَلا تَحْلِقُوا..
٥- جزاء الحلق وقتل الهوام:
إذا خالف المحرم شروط الإحرام، فحلق رأسه أو قصر بسبب المرض، أو الأذى في رأسه من قمل أو جرح أو صداع وغيره، أو قلم ثلاثة أظافر، أو قبّل زوجته مثلا، أو تطيب أو ادّهن في جسمه مثلا، فعليه فدية مخير فيها بين صيام ثلاثة أيام أو صدقة وهي إطعام ستة مساكين، أو
نسك «١» وهو ذبح شاة، والتخيير بين هذه الخصال مستفاد من (أو) التي تقتضي التخيير. وتجب الفدية المذكورة عند مالك وأبي حنيفة، سواء فعل المخالفة عامدا أو ناسيا، ولا تجب عند الشافعي وأحمد إن خالف ناسيا.
وتقدير الطعام: إما بستة صيعان لكل مسكين صاع «٢»، كما في رواية، وإما بثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع، في رواية أخرى، فجمع الجمهور بينهما، بحمل رواية الستة الآصع على التمر، والثلاثة الآصع على طعام القمح، لأنه المعهود في سائر الصدقات. ودليل التقدير: ما
أخرجه البخاري من حديث كعب بن عجرة، قال: «وقف عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية، ورأسي يتهافت قملا، فقال: يؤذيك هوامّك؟ قلت: نعم، قال: فاحلق رأسك» قال:
فنزلت هذه الآية، وذكرها، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق «٣» بين ستة، أو انسك بما تيسر».
قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن:
لا يجزي أن يغدّي المساكين ويعشّيهم في كفارة الأذى حتى يعطي كل مسكين مدّين بمد النّبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال أبو يوسف: يجزيه أن يغديهم ويعشيهم.
وأما موضع الفدية: فقال الحنفية: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء. وقال مالك: يفعل ذلك أين شاء، والذبح هنا نسك وليس بهدي، والنسك يكون حيث شاء، والهدي لا يكون إلا بمكة. وقال الشافعي: الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة، والصوم حيث شاء، لأن الصيام لا منفعة فيه لأهل الحرم. وقال أحمد: فدية الحلق في الموضع الذي حلق فيه،
(٢) الصاع البغدادي: (٢٧٥١ غم)
(٣) الفرق: مكيال ستة عشر رطلا أي بغداديا، والرطل البغدادي (٤٠٨ غم) والرطل المصري (٤٥٠ غم)
وما عدا فدية الشعر من الدماء يكون بمكة. وأما الإطعام فهو بمكة، وأما الصوم فحيث شاء.
٦- فدية المتمتع:
من أمن العدو والحصار وتمتع بسبب فراغه من المناسك والتحلل من الإحرام بالعمرة، وبقي متمتعا إلى زمن الحج، ليحرم من مكة به، فعليه دم أي ذبح هدي (شاة) شكرا لله تعالى، يذبحه يوم النحر بمنى ويأكل منه كالأضحية، أو يذبحه في مكة في رأي الشافعي، وهذا يحقق اليوم فائدة أكثر، لإيصاله إلى الفقراء. والقارن بالحج والعمرة مثل المتمتع في وجوب الفدية، لأن التمتع يشمل معنيين: استباحة التمتع بالنساء والتفرقة بترك محظورات الإحرام، وجمع الحج مع العمرة في أشهر الحج بأعمال واحدة.
فمن لم يجد الهدي، لعدم وجوده، أو لم يجد المال الذي يشتري به، فعليه صيام ثلاثة أيام بعد الإحرام بالحج قبل السادس من ذي الحجة قبل يوم التروية «١» ويوم عرفة، وسبعة أيام إذا رجع إلى بلده، أو شرع في الرجوع، فله أن يصوم في الطريق.
هذه الأيام الثلاثة والسبعة الأيام عشرة كاملة، لتأكيد المراد بالسبعة وهو العدد، دون الكثرة في الآحاد، ووصفت بالكمال للتنبيه إلى رعاية العدد فلا ينقص منها شيء، وللإشارة إلى أن البدل قائم تماما مقام المبدل منه، وهما في الفضيلة سواء.
ذلك التمتع بإنهاء أعمال العمرة ثم الإحرام بالحج، وإيجاب الفدية، تخفيف ورخصة للآفاقيين الذين حضروا من البلاد البعيدة، دون أهل الحرم، لأن الغريب يتحمل مشاق السفر أكثر من المقيم بمكة، فالغرباء هم الذين يحتاجون إلى
هذه الرخصة، حتى لا يؤدوا كلا من الحج والعمرة على انفراد، أما أهل الحرم فليسوا في حاجة إلى ذلك، فلا تمتع ولا قران لحاضري المسجد الحرام.
واتقوا الله واخشوه بالمحافظة على امتثال أمره، والانتهاء عن نواهيه، واحذروا أن تعتدوا في ذلك، واعلموا أن الله شديد العقاب لمن تجاوز حدود الله تعالى.
ومن المعلوم أن كيفيات أداء الحج والعمرة الجائزة إجماعا ثلاث:
الأولى- الإفراد: الإحرام بالحج وحده، ثم بالعمرة بعد إنهائه.
الثانية- التمتع «١» : الإحرام بالعمرة في أشهر الحج من الميقات وكان من أهل الآفاق، ثم الإحرام بالحج من مكة.
الثالثة- القرآن: أن يحرم الشخص بالحج وبالعمرة معا، أو يحرم بأحدهما ثم يدخل الآخر عليه في عام واحد وفي أشهر الحج. وأيها هو الأفضل؟ للعلماء آراء ثلاثة:
قال الحنفية: القرآن أفضل، ثم التمتع، ثم الإفراد،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الطحاوي عن أم سلمة: «أهلّوا يا آل محمد بعمرة في حجة»
وقال أنس فيما أخرجه البخاري ومسلم: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبي بالحج والعمرة يقول:
لبيك عمرة وحجة».
وقال المالكية والشافعية: الإفراد بالحج أفضل، ثم التمتع، ثم القرآن: لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم حج مفردا على الأصح،
قالت عائشة فيما أخرجه البخاري ومسلم: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام حجة الوداع، فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من
أهل بحج وعمرة، وأهلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحج»
وروي حديث آخر: «القران رخصة»
ولأن في الإفراد زيادة التلبية، والسفر، والحلق، والثواب على قدر المشقة وهذا أصح الآراء.
وقال الحنابلة: التمتع أفضل، فالإفراد، فالقرآن، لأن التمتع جاء ذكره في القرآن، ولما
رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر: «تمتع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عام حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى وساق الهدي معه من ذي الحليفة»
وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة» «١».
وعلى كل حال، فإن الآية لا تدل لأحد المذاهب السابقة، إذ ليس فيها إلا الأمر بالإتمام، وهو لا يقتضي شيئا منها، وإنما المعول على ما في السنة، والترجيح بين الروايات. ويلاحظ أن من اعتمر في أشهر الحج، ثم رجع إلى بلده ومنزله، ثم حج من عامه، فليس بمتمتع في رأي الجمهور. وقد جمع المحدثون بين روايات حجه صلّى الله عليه وسلّم بوجوه: أقواها أنه أهل بالحج مفردا، ثم أدخل عليه العمرة فصار قرانا، فيحمل قول القائلين بالإفراد على ما أهل به، وقول القائلين بالقرآن على ما انتهى إليه عمله من إدخال العمرة على الحج.
٧- وقت الحج: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فيه حذف، تقديره:
وقت أعمال الحج أشهر معلومات، أو الحج في أشهر معلومات، وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، فلا تصح نية الحج في مذهب الشافعي إلا في هذا الوقت، وتنتهي أعماله في أيام التشريق الثلاث. والأشهر المعلومات هي ما ذكر في رأي الجمهور غير المالكية.
وقوله مَعْلُوماتٌ: إقرار لما كان عليه العرب في الجاهلية من اعتبار
هذه الأشهر أشهرا للحج، وذلك من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
وقال مالك: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله. وفائدة الخلاف: تظهر فيمن أوقع شيئا من أعمال الحج بعد يوم النحر، فمن قال: إن ذا الحجة كله من أشهر الحج، قال: تم حجه، ولا يلزمه دم بالتأخير.
ومن قال: إلى عشر ذي الحجة، قال: يلزمه دم بالتأخير، كما ذكر الشوكاني.
وذكر الجصاص الرازي توفيقا بين القولين، فقال: وقال قائلون: وجائز أن لا يكون ذلك اختلافا في الحقيقة، وأن يكون مراد من قال: وذو الحجة: أنه بعضه، لأن الحج لا محالة، إنما هو في بعض الأشهر، لا في جميعها، لأنه لا خلاف أنه ليس يبقى بعد أيام (منى) شيء من مناسك الحج. وقالوا: ويحتمل أن يكون من تأوله على ذي الحجة كله: مراده أنها لما كانت هذه أشهر الحج، كان الاختيار عنده فعل العمرة في غيرها، كما روي عن عمر وغيره من الصحابة استحبابهم لفعل العمرة في غير أشهر الحج «١».
وأضاف الجصاص قائلا:
ولا تنازع بين أهل اللغة في تجويز إرادة الشهرين وبعض الثالث بقوله:
أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ كما
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أيام منى ثلاثة»
وإنما هي يومان وبعض الثالث. ويقولون: حججت عام كذا، وإنما الحج في بعضه، ولقيت فلانا سنة كذا، وإنما كان لقاؤه في بعضها، وكلمته يوم الجمعة، والمراد البعض، وذلك من مفهوم الخطاب إذا تعذر استغراق الفعل للوقت، كان المعقول منه البعض.
ثم قال: ولقول من يقول: إنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة وجه آخر، وهو ينتظم القولين جميعا، وهو أن الآية سيقت لبيان أن هذه هي الأشهر التي يكون فيها الحج، بدون تبديل ولا تغيير، على نحو ما كان يفعله أهل الجاهلية من التغيير والتبديل، فكانوا ينسئون الشهور، فيجعلون صفرا المحرم، ويستحلون المحرم، على حسب ما يتفق لهم من الأمور التي يريدون فيها القتال، وكانوا يغيرون في أشهر الحج، فمعنى قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ: أن عمال الحج تقع في هذه الأشهر، على مقتضى بيان السنة، دون ما كان يفعله أهل الجاهلية من تبديل الشهور، وتأخير الحج وتقديمه.
وهل يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج؟
اختلف السلف وأئمة المذاهب في ذلك، فقال الجمهور غير الشافعية «١» : يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، وينعقد حجا، ولا ينقلب عمرة، ولكنه مكروه، لما أخرجه البخاري عن ابن عباس: «من السنة ألا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج» وتكون فائدة توقيت الحج بهذه الأشهر لبيان أن أفعال الحج لا تصح إلا فيها، وأما صحة الإحرام في غيرها، فلأنه شرط للحج، فيجوز تقديمه على أدائه، كتقديم الطهارة على أداء الصلاة.
وقال الشافعي: لا يجوز لأحد أن يهلّ بالحج قبل أشهر الحج، وينعقد إحرامه بالعمرة، وظاهر الآية يشهد له، لأنها قد جعلت وقت الحج هذه الأشهر المعلومات، والإحرام بالعبادة قبل وقتها لا يجوز، كما لا تجوز نية الظهر قبل الظهر.
ونية الإحرام بالحج: تجب فرضا، لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ ومن تمام العبادة: حضور النية، وهي فرض عند الإحرام،
لقوله عليه الصلاة والسلام لما
ركب راحلته: «لبيك بحجة وعمرة معا»
، فمن شهد مناسك الحج، وهو لا ينوي حجا ولا عمرة، وهو بالغ عاقل، لم يسقط عنه الفرض.
وأما المواقيت:
فروى الأئمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم «١»، هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة. ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة يهلّون منها.
وأجمع أهل العلم على القول بظاهر هذا الحديث واستعماله، لا يخالفون شيئا منه. وأما ميقات أهل العراق فهو ذات عرق «٢»،
جاء في كتاب أبي داود عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقّت لأهل العراق ذات عرق.
وأجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه محرم، ولكنه مكروه، لأنه ضيّق على نفسه ما قد وسّع الله عليه.
٨- من هم حاضرو المسجد الحرام؟
اختلف العلماء في حاضري المسجد الحرام بعد إجماعهم على أهل الحرم (مكة وحاضريها) فقال الحنفية: هم أهل المواقيت ومن دونها من كل ناحية، وقال المالكية: هم أهل مكة وما اتصل بها خاصة، وقال الشافعية والحنابلة: هم أهل الحرم ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر (٨٩ كم).
٩- ما يحظر في الإحرام:
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أي فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن، وجب أن يبتعد عن الجماع ومقدماته وهو المعبر عنه بالرفث، وعن أنواع المعاصي والمخالفات مثل
(٢) ذات عرق: قرية على مرحلتين من مكة.
صيد البر والطيب والزينة ولبس المخيط، وعن كل ما يؤدي إلى التنازع والتباغض والاختلاف، كالجدال والمراء والخصام والتنابز بالألقاب، لأن الشرع يريد من الحاج أن يتجرد عن كل مظاهر الدنيا ومغرياتها ومفاسدها، ويتطهر من الذنوب والسيئات، فيتحقق الغرض المنشود من الحج وهو تهذيب النفس وإشعارها بالعبودية لله الواحد الأحد،
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حج، ولم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»
وقد جمعت الآية والحديث أصول الأخلاق الفاضلة، ونهت عن كل ما يعكر صفوها، فالآية خبر لفظا، نهي معنى، ويراد من الرفث الوقاع ومقدماته وقول الفحش، والفسوق: (وهو الخروج عن طاعة الله إلى المعصية) جميع أنواع المعاصي، والجدال جميع أنواع الخصام.
وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا لتصفو نفوسكم، وتتخلى عن الرذائل، وتتحلى بالفضائل، لأن الله يعلم ما تفعلون، فيجازيكم على كل خير تقدمونه لأنفسكم، فالآية شرط وجوابه، والمعنى: أن الله يجازيكم على أعمالكم، لأن المجازاة إنما تقع من العالم بالشيء.
وتزودوا بالأعمال الصالحة التي تنفعكم، واتخذوا التقوى زادا لمعادكم، فإن خير الزاد اتقاء المنهيات، وأخلصوا لي يا أهل العقول أعمالكم، بأداء ما أوجبته عليكم من الفرائض، واجتناب ما حرمته عليكم، فإن فعلتم ذلك نجوتم من العقاب، وأدركتم الفوز بالرضا والرحمة الإلهية.
وخص أولي الألباب بالخطاب- وإن كان الأمر يعم الكل- لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله، وهم قابلو أوامره والناهضون بها.
١٠- حكمة محرمات الإحرام:
السر في محرمات الإحرام: هو أن يتمثل الحاج أنه بزيارته لبيت الله تعالى مقبل على الله تعالى قاصد له، فيتجرد من عاداته