آيات من القرآن الكريم

فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ

وأما أهل السعادة أتباع الرّسل، فمأواهم الجنة، ماكثين فيها أبدا، مدة دوام السماء والأرض بمشيئة الله، والمراد الأبدية، ونعيمهم فيها عطاء غير منقطع ولا ممنوع، ولكنه ممتد إلى غير نهاية: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق: ٨٤/ ٢٥]. ثم خاطب الله نبيّه، والمعنى له ولأمّته، موجّها إنذاره الدائم، ومضمونه: فلا تكن يا محمد وكل سامع في شك في عاقبة ما يعبد المشركون وفي نهايتهم، فكل ما يعبدون باطل وجهل وضلال، وتقليد للأسلاف من غير وعي، وعذابهم محقق لا شك فيه، والله موفّيهم نصيبهم من العذاب غير منقوص منه شيء، وهو العقوبة التي تقتضيها أعمالهم. وهذا وعيد وتهديد.
سبب الاختلاف في التوراة وطريق الاتّفاق
أراد الله تعالى التّسرية عن هموم النّبي صلّى الله عليه وسلّم بسبب إعراض قومه عن دعوته، من طريق إيراد سوابق تاريخية من سيرة الأنبياء عليهم السّلام، ومنها ما تعرّض له موسى عليه السّلام من صدود وإعراض قومه عن دعوته، فلا يعظم عليك أيها النّبي أمر من كذّبك، فهذه هي سيرة الأمم، فقد جاء موسى بكتاب، فاختلف الناس عليه. ثم حدّد القرآن سبيل إنقاذ الأمة من طريق الاستقامة والعمل بأوامر الله تعالى، فقال الله تعالى:
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٠ الى ١١٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣)
«١» «٢»

(١) موقع في الرّيبة.
(٢) لا تجاوزوا الحدود.

صفحة رقم 1077

«١» [هود: ١١/ ١١٠- ١١٣].
والمعنى: والله لقد آتينا موسى الكتاب الذي هو التوراة، فاختلف فيه بنو إسرائيل من بعده، ظلما وبغيا، وتنازعا على الزعامة والمصالح المادية، فآمن به قوم، وكفر به آخرون. مع أن الكتاب الإلهي نزل لتوحيد الكلمة وجمع الناس على منهج واحد، فلا تبال أيها النّبي محمد باختلاف قومك في القرآن، فلك بمن سلف من الأنبياء قبلك أسوة، فلا تحزن ولا تهتم لتكذيبهم.
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لولا سبق القضاء والقدر بتأخير العذاب إلى أجل مسمى، لقضي بينهم في الدنيا، بإهلاك العصاة، وإنجاء المؤمنين، كما حدث لأم آخرين. وإن المكذّبين لفي شكّ موقع في الريبة والقلق، سواء أكانوا من قوم موسى أم من قوم محمد عليهما الصّلاة والسّلام. والكلمة من ربك هنا: عبارة عن الحكم والقضاء. وقوله تعالى: لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لفصل بين المؤمن والكافر بنعيم هذا وعذاب هذا.
وإن كلّا من المؤمنين والكافرين المختلفين في كتاب الله، ليوفينّهم الله جزاء أعمالهم، وما وعدوا به من خير أو شرّ لأنه خبير بتلك الأعمال كلها، ولا يخفى عليه شيء منها. وهذا تهديد ووعيد لقوم النّبي صلّى الله عليه وسلّم وكل مكذب برسالته.
وبعد هذا التهديد والتقريع للمختلفين في توحيد الله والنّبوة، أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ويقصد بالخطاب الأمر بالدوام والثبات، أمره بالاستقامة مثلما أمر بها غيره، والاستقامة شاملة كل ما يتعلق بالعقيدة والعلم والعمل والأخلاق.

(١) لا تطمئنوا وتميلوا بالمحبة.

صفحة رقم 1078

والمعنى: فالزم وثابر يا محمد ومن آمن معك على طريق الاستقامة في الاعتقاد والأعمال، وتطبيق أوامر القرآن في العبادات والمعاملات، وهي درجة تتطلب جهاد النفس، والترفع عن الأهواء والشهوات. ولا يعني أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالاستقامة أنه لم يكن مستقيما، وإنما كان على العكس في غاية الاستقامة، وإنما المقصود كما ذكرت في هذا الموضوع: هو الدوام والاستمرار على ما هو عليه، وذلك طريق النصر على الأعداء. وفي هذا دليل على وجوب اتّباع النصوص الشرعية من غير تصرّف ولا انحراف، ولا تقليد وعمل برأي فاسد غير صحيح، ومن حاد عن ذلك زاغ وأزاغ.
والتزام جادة الاستقامة ليس بالأمر الهيّن، وإنما يتطلب جهادا متواصلا.
روى الطبراني في الكبير في حديث صحيح عن عقبة بن عامر وأبي جحيفة: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «شيّبتني هود وأخواتها»
فقال له بعض العلماء: فما الذي شيّبك من هود؟ قال له: قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ.
وبعد الأمر بالاستقامة، نهى الله تعالى عن ضدّها وهو الطغيان، وهو البغي وتجاوز حدود الله في قوله سبحانه: وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي إن الطغيان مزلقة إلى الهلاك، والله تعالى بصير بأعمال العباد، لا يخفى عليه شيء، فيجازي عليه. وهذا تحذير واضح من الانحراف والمخالفة.
ثم نبّه الله تعالى إلى خطر الميل مع الظالمين، فقال: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي ولا تميلوا مع الظالمين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم، أو استعانة بهم، أو اعتماد عليهم، فتصيبكم النار بركونكم إليهم، فذلك ظلم، وليس لكم من غير الله أنصار أبدا ينفعونكم، ويمنعون العذاب عنكم، ثم لا ينصركم الله في حال الظلم، لأن الله سبحانه لا يحب الظلم لأحد، ولا ينصر الظالمين، كما قال تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [البقرة: ٢/ ٢٧٠]. وقال أيضا: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج: ٢٢/ ٧١، فاطر: ٣٥/ ٣٧].

صفحة رقم 1079
التفسير الوسيط
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر - دمشق
سنة النشر
1422
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية