آيات من القرآن الكريم

فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ

فيكون من اهل التوحيد شقى بالمعاصي سعيد بالتوحيد فالمعاصى تدخله النار والتوحيد يخرجه منها ويكون من اهل الكفر والبدعة أشقى يصليه كفره وتكذيبه النار فيبقى خالدا مخلدا انتهى وعن ابن مسعود رضى الله عنه ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد بعد ما يلبثون فيها أحقابا وعن ابى هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص مثله ومعناه عند اهل السنة ان لا يبقى فيها أحد من اهل الايمان فتبقى طبقتهم خالية واما مواضع الكفار فممتلئة ابدا: قال الحافظ

دلا طمع مبر از لطف بى عنايت دوست كه ميرسد همه را لطف بى نهايت او
وفى هذا البيت اشارة الى سر خفى لا يدركه الا اهل الإلهام قال بعض الكبار الترقي والتدلي انما يجرى فى هذا العالم واما فى الآخرة فلا ترقى فيها فان قلت فقد ترقى العاصي الى مرتبة الجنة بعد الخروج من النار قلت ذلك الترقي كان فى الدنيا بسبب الايمان غير ان ظهوره كان فى الآخرة فعذب اوّلا ثم دخل الجنة إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ من تخليد البعض كالكفار وإخراج البعض كالفساق من غير اعتراض عليه. وانما قيل فعال لان ما يريد ويفعل فى غاية الكثرة وقال المولى ابو السعود إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ استثناء من الخلود على طريقة قوله تعالى لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وقوله ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ وقوله حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ غير ان استحالة الأمور المذكورة معلومة بحكم العقل واستحالة تعلق المشيئة بعدم الخلود معلومة بحكم النقل يعنى انهم مستقرون فى النار فى جميع الازمنة الا فى زمان مشيئة الله تعالى لعدم قرارهم فيها وإذ لا إمكان لتلك المشيئة ولا لزمانها بحكم النصوص القاطعة الموجبة للخلود فلا إمكان لانتهاء مدة قرارهم فيها ولدفع ما عسى يتوهم من كون استحالة تعلق المشيئة بطريق الوجوب على الله تعالى قال إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ يعنى انه فى تخليد الأشقياء فى النار بحيث يستحيل وقوع خلافه فعال بموجب إرادته قاض بمقتضى مشيئته الجارية على سنن حكمته الداعية الى ترتب الاجزئة على افعال العباد ولك ان تقول انهم ليسوا بمخلدين فى العذاب الجسماني بل لهم من العقوبات والآلام الروحانية ما لا يعلمه الا الله تعالى وهذه العقوبات وان كانت تعتريهم وهم فى النار لكنهم ينسون بها عذاب النار ولا يحسون بها ألا ترى ان من دهمه الغم المفرط وأدهشه خطب جليل فانه لا يحس بقرص النملة والبرغوث ونحوهما وقس عليه الحال فى جانب السرور كما سيأتى وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا من سعد بمعنى اسعد لغتان حكاهما الكسائي اى قدر لهم السعادة وخلقوا لها فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ قال قتادة الله اعلم بثنياه وقال الضحاك الا ما مكثوا فى النار حتى ادخلوا الجنة فان التأبيد من مبدأ معين كما ينقص باعتبار الانتهاء فكذلك باعتبار الابتداء وقال المولى ابو السعود فى تفسيره ان حمل على طريقة التعليق بالمحال فقوله عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ نصب على المصدرية من معنى الجملة لان قوله فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها يقتضى إعطاء وانعاما فكأنه قيل يعطيهم إعطاء غير مقطوع بل ممتدا لا الى نهاية وهو اما اسم مصدر هو الإعطاء او مصدر بحذف الزوائد كقوله تعالى أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً وان حمل على ما أعد الله لعباده الصالحين من النعيم الروحاني الذي عبر عنه (بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) فهو

صفحة رقم 189

نصب على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة قال بعض الكبار اهل الجنة يبقى فى مرتبة الجنة واهل الترقي يتجاوز ويترقى الى ما فوقها وتحقيقه على ما فى التأويلات النجمية ان اهل السعادة على ضربين سعيد واسعد فالسعيد من يبقى فى الجنة ودرجاتها وغرفاتها الى العليين بحسب العبادة والعبودية والأسعد من يدخل الجنة ويعبر عن درجاتها وغرفاتها الى مقامات القربة بحسب المعرفة والتقوى والمحبة كقوله تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ وقال ﷺ (ان اهل الجنة ليرون اهل العليين كما يرى أحدكم الكوكب الدري فى أفق السماء وان أبا بكر وعمر منهم فى أنعم مكان فمن كان من اهل الجنة واهل العليين فلهم خلود فى الجنة ومن كان فى مقام مقعد الصدق فهو فى
أنعم مقام من الجنة فلهم الخروج من الجنة من بجذبات العناية الى عالم الوحدة) والسر فى هذا ان السالك يسلك بقدم المعاملات الى أعلى مقام الروحانية من حضيض البشرية وهو بعد فى مقام الاثنينية وهو سدرة المنتهى عندها جنة المأوى فلا عبور عن هذا المقام للملك المقرب ولا للنبى المرسل الا برفرف جذبة العناية فانها توازى عمل الثقلين وبها يصل العبد الى عالم الوحدة فافهم جدا فما بقي هناك الدخول والخروج والاستثناء بقوله إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ راجع الى هذا المقام ولهذا قال عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ لانه لا انقطاع له ولا تغيير فيه انتهى يقول الفقير على ما تلقف من فم حضرة الشيخ العلامة أبقاه الله بالسلامة ان اهل الجنة يصلون بمقتضى الاستثناء الذي هو قوله تعالى إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ الى مقام لا يشابه ما قبله أصلا وذلك بعد تطاول الزمان وتباعد التنعم فى الجنان وعند ذلك يظهر سر الأزل فى مرآة الابد فكما ان مبدأ التعينات وهو شئونات الغيبية ازل الازال كذلك مقام هذا التجلي المخصوص ابد الآباد فالأبد المضاف هو ما بعد هذا التجلي لا الى نهاية والمضاف اليه ما كان قبله مذ دخولهم الجنة وكذا الأزل فان ما فوق المبدأ المذكور هو الأزل المضاف وما تحته هو الأزل المضاف اليه ونظير هذا هو ما يصل اليه اهل الفناء الكلى فى الدنيا وذلك انهم استوفوا حظهم من الأرزاق المعنوية بحيث لم يبق لهم بحسب مرتبتهم وتعينهم الخاص شىء لم يصلوا اليه من اسرار الافعال والصفات والذات فى جميع المراتب والتعينات فعند ذلك يتجلى الله لهم بصورة اخرى لا تشابه ما قبلها أصلا فيحيون حياة ابدا باقية. ثم السر المذكور المنسوب الى اهل الجنة والعليين جار على اهل النار لكنهم اهل الجلال ومقامهم مقام الفردية ولذا لا تزوج لهم ولا تنعم بما يتنعم به اهل الجنان واهل الجنة اهل الجمال ومقامهم مقام الصفة ومقتضاه التنعم والتلذذ. فالفرق بين اهل الجنة واهل النار ان لاهل الجنة ظهورا بالصفات وفى الظهور بطون وهو سر الذات وان لاهل النار بطونا وليس فى البطون ظهور ولاهل الكمال احاطة وسعة بحيث لا توصف وذلك فى الدارين فالمقربون واقفون على احوال الأبرار ومكاشفون عن مقاماتهم ومواطنهم وهم محجوبون عن المقربين فى ذلك وكذا الأبرار واقفون على احوال اصحاب المشأمة وهم محجوبون عن الأبرار فقس على حال الدنيا حال البرازخ والآخرة ولذا قال بعض الكبار ان الروح بعد خلاصه من حبس البدن ان كان علويا بعضه يقطع برزخا وبعضه اكثر الى ان يسموا

صفحة رقم 190

من الخذلان واهل الجفاء فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ يقول الفقير اى إذا تبين عندك يا محمد احوال القرون الاولى وان اخوانك الأنبياء ومؤمنيهم تحملوا من قومهم الأذى وصبروا واستقاموا على طريقتهم المثلى الى ان يأتى امر الله تعالى فدم أنت ايضا على الاستقامة على التوحيد والدعوة اليه كما أمرك الله تعالى وَمَنْ تابَ مَعَكَ معطوف على المستكن فى فاستقم من غير تأكيد بالمنفصل لوجود الفاصل القائم مقامه اى ومن تاب من الشرك والكفر وشاركك فى الايمان هو المعنى بالمعية والا فليس لهم مصاحبة له فى التوبة عما ذكر إذا الأنبياء معصومون عن الكفر وكذا عن تعمد الكبائر قبل الوحى وبعده بالإجماع لكن الظاهر ان الاشتراك فى نفس التوبة يكفى فى الاصطحاب ولا يلزم الاشتراك فى المتوب عنه وقد كان عليه السلام يستغفر الله كل يوم اكثر من سبعين مرة على ما ورد فى الحديث كذا فى حواشى سعدى المفتى يقول الفقير لعل التوبة فى مثل هذا المقام هى الرجوع عن الحالة الاولى ومفارقتها سواء صدر فيها الكفر كسجود الصنم وغيره وهو حال اكثر المؤمنين او لم يصدر وهو حال الأقلين ومنهم رسول الله ﷺ وقد صح انه عليه السلام شهد بان عليا رضى الله عنه لم يكفر بالله قط طرفة عين مع قوله له فى دعوة الإسلام (وأدعوك الى الكفر باللات والعزى) فان هذا القول لا يقتضى كفره رضى الله عنه إذ قد يدعى الرجل الى كفر ما لم يتصف به إذا كان من شأنه الكفر به والإنكار عليه وَلا تَطْغَوْا اى ولا تنحرفوا عما حد لكم بافراط وتفريط فان كلا طرفى قصد الأمور ذميم. وانما سمى ذلك طغيانا وهو تجاوز الحد تغليظا او تغليبا لحال سائر المؤمنين على حاله. وفى سورة شورى وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ والنهيان متقاربان إذ المراد عدم الاتباع لاهواء اهل الكفر لان فى الاتباع الطغيان وفى عدمه الاستقامة المحضة إِنَّهُ اى الله تعالى بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عالم لا يخفى عليه شىء فيجازيكم على ذلك فاتقوه فى المحافظة على حدوده وهو فى معنى التعليل للامر والنهى وعن بعض الصلحاء وهو ابو على السنوسى رضى الله عنه قال رأيت رسول الله ﷺ فى النوم فقلت له روى عنك انك قلت (شيبتنى سورة هود) فقال نعم فقلت فما الذي شيبك منها أقصص الأنبياء وهلاك الأمم قال لا ولكن قوله فاستقم كما أمرت وذلك لان حقيقة الاستقامة هى الوفاء بالعهود كلها وملازمة الصراط المستقيم برعاية حد التوسط فى كل الأمور من الطعام والشراب واللباس فى كل امر دينى ودنيوى ترغيب او ترهيب او حال او حكم او صفة او معاملة وذلك هو الصراط المستقيم كالصراط المستقيم فى الآخرة والتمشى على هذا الصراط الذي يقال لها الاستقامة الاعتدالية عسير جدا كما قال فى بحر العلوم الاستقامة على جميع حدود الله على الوجه الذي امر الله بالاستقامة عليه مما يكاد يخرج عن طوق البشر ولذلك قال عليه السلام (شيبتنى سورة هود) ولن يطيق مثل هذه المخاطبة بالاستقامة الا من أيد بالمشاهدات القوية والآثار الصادقة ثم بالتثبت كما قال لَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ ثم حفظ وقت المشاهدة ومشافهة الخطاب ولولا هذه المقدمات لتفسخ دون هذا الخطاب ألا تراه كيف قال للامة (استقيموا ولن تحصوا) اى لن تطيقوا الاستقامة التي أمرت بها قيل لمحمد بن فضل حاجة

صفحة رقم 194
روح البيان
عرض الكتاب
المؤلف
إسماعيل حقي بن مصطفى الإستانبولي الحنفي الخلوتي , المولى أبو الفداء
الناشر
دار الفكر - بيروت
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية