آيات من القرآن الكريم

فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ

عجلت عقوبته ومن أخّرت، ومن صدّق الرسل ومن كذب، حالهم سواء في أنه تعالى يوفيهم جزاء أعمالهم في الآخرة، وهو مأخوذ من الآية لَيُوَفِّيَنَّهُمْ التي جمعت بين الوعد والوعيد، فإن إيفاء جزاء الطاعات وعد عظيم، وإيفاء جزاء المعاصي وعيد عظيم.
وتأكد الوعد والوعيد بقوله تعالى: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لأنه تعالى لما كان عالما بجميع المعلومات، كان عالما بمقادير الطاعات والمعاصي، وعالما بالقدر المناسب لكل عمل من الجزاء، فلا يضيع شيء عنده من الحقوق والجزاءات.
وأكد الله تعالى توفية الجزاءات على المستحقين في الآية المذكورة: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ بسبعة أنواع من المؤكدات: وهي إنّ، وكل، والام الداخلة على خبر إن، وحرف «ما» إذا جعلناه على قول الفراء موصولا، والقسم المضمر، فإن تقدير الكلام: وإن جميعهم والله ليوفينهم، واللام الثانية الداخلة على جواب القسم، والنون المؤكدة في قوله: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ فكل هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد، تدل على أن أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر، ثم أردفه بقوله: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ كما تقدم، وهو من أعظم المؤكدات «١».
الاستقامة على أوامر الله تعالى
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٢ الى ١١٣]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣)

(١) تفسير الرازي: ١٨/ ٧٠

صفحة رقم 164

الإعراب:
وَمَنْ تابَ مَعَكَ مرفوع بالعطف على ضمير فَاسْتَقِمْ وجاز العطف على الضمير المرفوع لأن الفصل بالظرف، وهو قوله تعالى: كَما أُمِرْتَ ينزّل منزلة التأكيد، فجاز العطف. ويجوز أن يكون وَمَنْ تابَ في موضع نصب لأنه مفعول معه.
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ الواو للحال.
المفردات اللغوية:
فَاسْتَقِمْ على العمل بأمر ربّك والدّعاء إليه، والاستقامة شاملة للاستقامة في العقائد والأعمال، من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزلت، والقيام بوظائف العبادات من غير إفراط ولا تفريط. والاستقامة في غاية العسر، لذا
قال عليه الصّلاة والسّلام: «شيبتني سورة هود».
وَمَنْ تابَ مَعَكَ أي وليستقم من تاب معك، بأن تاب من الشرك والكفر وآمن معك.
وَلا تَطْغَوْا لا تجاوزوا حدود الله، والطغيان: مجاوزة الحدّ بالإفراط أو التفريط. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فهو مجازيكم عليه، وهو في معنى التّعليل للأمر والنّهي.
وَلا تَرْكَنُوا لا تميلوا إليهم أدنى ميل، والرّكون: الميل اليسير. إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا لا تميلوا إلى الظالمين بمودة أو مداهنة أو رضى بأعمالهم. فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ فتصيبكم النّار كونكم إليهم. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره. مِنْ أَوْلِياءَ مِنْ: زائدة، وأَوْلِياءَ مناصرون يحفظونكم منه، أو أنصار يمنعون العذاب عنكم. ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ تمنعون من عذابه، ولا ينصركم الله إذ سبق في حكمه أن يعذبكم ولا يبقي عليكم. وثُمَّ: لاستبعاد نصره إياهم بعد أن أوعدهم بالعذاب على فعلهم، وأوجبه.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى أمر المختلفين في التّوحيد والنبّوة، وأطنب في بيان وعدهم ووعيدهم، أمر رسوله صلى الله عليه وسلّم بالاستقامة مثلما أمر بها غيره، وهي كلمة شاملة لكلّ ما ينعق بالعقيدة والعلم والعمل والأخلاق.
التفسير والبيان:
فالزم يا محمد ومن آمن معك طريق الاستقامة في الاعتقاد والأعمال

صفحة رقم 165

والأخلاق، دون إفراط ولا تفريط. فالاستقامة تقتضي توحيد الله في ذاته وصفاته، والإيمان بالغيب من جنّة ونار وبعث وحساب وجزاء، وملائكة وعرش، والتزام ما أمر به القرآن في نطاق العبادات والمعاملات. وهي درجة عليا وعسيرة إلا على من جاهد نفسه، وترفّع عن أهوائه وشهواته، وقد أمر بها موسى وهارون بقوله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس ١٠/ ٨٩]، وكان جزاؤها تطمين الملائكة بعدم الخوف والحزن، والتّبشير بالجنّة، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت ٤١/ ٣٠]،
وأجاب النّبي صلى الله عليه وسلّم سائلا- هو سفيان الثقفي فيما رواه مسلّم- قال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك؟ فقال: «قل آمنت بالله ثم استقم».
ولا يعني أمر الرّسول بالاستقامة أنه لم يكن مستقيما، وإنما كان على العكس في غاية الاستقامة، والمقصود بهذا الأمر الدّوام والاستمرار على ما هو عليه. فالله تعالى يأمر رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدّوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النّصر على الأعداء. وخطاب الرّسول صلى الله عليه وسلّم ومن معه من المؤمنين بالاستقامة للتّثبيت على الاستقامة.
وفي الآية دليل على وجوب اتّباع النّصوص الشّرعية من غير تصرّف وانحراف، ولا تقليد وعمل برأي فاسد غير صحيح، ومن حاد عن منهج السّلف زاغ وضلّ، فكانوا كقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الرّوم ٣٠/ ٣٢].
وطريق رفع الخلاف الرّد إلى القرآن والسّنة، فقال تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النّساء ٤/ ٥٩].

صفحة رقم 166

وبعد أن أمر الله تعالى بالاستقامة، نهى عن ضدّها وهو الطّغيان، أي البغي وتجاوز حدود الله، فإنه مزلقة إلى الهلاك، فقال تعالى: وَلا تَطْغَوْا.
ثمّ حذّر الله تعالى من المخالفة، فقال: إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي إنه تعالى بصير بأعمال العباد، لا يغفل عن شيء، ولا يخفى عليه شيء، فيجازي عليها.
والدّعوة إلى الاستقامة وتجنّب الطّغيان هو هدف القرآن الكريم المتكرر فيه، فقال تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَقُلْ: آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى ٤٢/ ١٥].
ثم نبّه الله تعالى إلى خطر الميل مع الظالمين، فقال: وَلا تَرْكَنُوا.. أي ولا تميلوا إلى الظالمين بمودة أو مداهنة أو رضى بأعمالهم، أو استعانة بهم، أو اعتماد عليهم، فتصيبكم النّار بركونكم إليهم، فالرّكون إلى الظّالمين ظلم، وليس لكم من غير الله أنصار أبدا ينفعونكم، ويمنعون العذاب عنكم، ثم لا ينصركم الله، أي لا تجدون من ينصركم من تلك الواقعة لأنه تعالى لا ينصر الظّالمين:
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [البقرة ٢/ ٢٧٠]، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحجّ ٢٢/ ٧١، فاطر ٣٥/ ٣٧].
والآية تدلّ على عاقبة الرّكون، وعلى أن الميل إلى الظّالمين موقع عادة في الظّلم، ومزلقة تستدعي إقرارهم على ما يفعلون، والرّضى بما هم عليه من الظّلم، واستحسان طريقتهم، وتزيينها عندهم وعند غيرهم، ومشاركتهم في أعمالهم الظّالمة. قال البيضاوي: ولعل الآية أبلغ ما يتصوّر في النّهي عن الظّلم والتّهديد عليه.
وإذا كان الرّكون إلى الظّلم موجبا عذاب النّار، فكيف يكون حال الظّالم في نفسه؟!

صفحة رقم 167

فقه الحياة أو الأحكام:
تدلّ الآيتان على الأمر بالاستقامة والثّبات والدّوام عليها، وعلى تحريم ضدّها وهو الطّغيان، أي تجاوز حدود الله تعالى، وعدم الاعتماد على الظّلمة والرّضا بظلمهم.
والاستقامة: امتثال أمر الله، وليست تلك مهمة سهلة وإنما هي شاقّة عسيرة تستدعي الطّاعة الدّائمة، ومراقبة الإنسان نفسه، والحذر من المخالفة، قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم آية هي أشدّ ولا أشقّ من هذه الآية عليه، ولذلك
قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشّيب! فقال:
«شيّبتني هود وأخواتها».
وروي عن أبي علي السّري قال: رأيت النّبي صلى الله عليه وسلّم في المنام، فقلت: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: «شيّبتني هود»، فقال:
«نعم»، فقلت: ما الذي شيّبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم! فقال:
«لا، ولكن قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ».
والاستقامة تقتضي اتّباع نصوص القرآن والسنّة، والبعد عن التّأويلات الباطلة، والعمل بالرّأي الفاسد المخالف روح الشّريعة ومبادئها العامة.
ثمّ حذّرت الآية من الاعتماد على الظّلمة، والرّضا بظلمهم، والاستعانة بهم، والتعاون معهم، وودّهم وإطاعتهم لأن ودّهم يستدعي إطراءهم وتملّقهم، وتزييف الحقائق، وكتمان الحقّ، والسّكوت عن المنكر، وعدم الأمر بالمعروف.
والظّلم: يشمل الشّرك وكلّ أنواع القبائح والمعاصي والمنكرات، والآية دالّة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية، إذ الصّحبة لا تكون إلا عن مودّة. أما صحبة الظّالم على التّقيّة، فهي مستثناة من النّهي بحال الاضطرار.
روى الإمام أحمد وأصحاب السّنن عن أبي بكر أنه قام، فحمد الله،

صفحة رقم 168
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية