آيات من القرآن الكريم

فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ

قال أبو علي وهذا ضعيف وقد اجتمع في هذه السورة ميمات أكثر من هذه في قوله: أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود: ٤٨] ولم يدغم هناك فأحرى أن لا يدغم هنا.
قال القاضي أبو محمد: وقال بعض الناس أصلها: لمن ما، ف «من» خبر «إن» و «ما» زائدة وفي التأويل الذي قبله أصله: لمن ما، ف «ما» هي الخبر دخلت عليها «من» على حد دخولها في قول الشاعر:

وإنا لمن ما نضرب الكبش ضربة على رأسه تلقي اللسان من الفم
وقالت فرقة «لما» أصلها «لما» منونة، والمعنى: وإن كلا عاما حصرا شديدا، فهو مصدر لم يلم، كما قال: وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا «لَمًّا» [الفجر: ١٩] أي شديدا قالت: ولكنه ترك تنوينه وصرفه وبني منه فعلى كما فعل في تترى فقرىء: تترى.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، حكي عن الكسائي أنه قال: لا أعرف وجه التثقيل في «لما»، قال أبو علي: وأما من قرأ «لمّا» بالتنوين وشد الميم فواضح الوجه كما بينا، وأما من قرأ: «وإن كل لما» فهي المخففة من الثقيلة، وحقها- في أكثر لسان العرب- أن يرتفع ما بعدها، و «لما» هنا بمعنى إلا، كما قرأ جمهور القراء: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [الطارق: ٤]. ومن قرأ «إلا» مصرحة فمعنى قراءته واضح، وهذه الآية وعيد.
وقرأ الجمهور: «يعملون» بياء على ذكر الغائب، وقرأ الأعرج «تعملون» بتاء على مخاطبة الحاضر.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٢ الى ١١٥]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)
أمر النبي رسول الله ﷺ بالاستقامة وهو عليها إنما هو أمر بالدوام والثبوت، وهذا كما تأمر إنسانا بالمشي والأكل ونحوه وهو ملتبس به. والخطاب بهذه الآية للنبي ﷺ وأصحابه الذين تابوا من الكفر، ولسائر أمته بالمعنى، وروي أن بعض العلماء رأي النبي ﷺ في النوم فقال له: يا رسول الله بلغنا عنك أنك قلت: شيبتني هود وأخواتها فما الذي شيبك من هود؟
قال له: قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ.
قال القاضي أبو محمد: والتأويل المشهور في قوله عليه السّلام: شيبتني هود وأخواتها- أنها إشارة إلى ما فيها مما حل بالأمم السابقة، فكان حذره على هذه الأمة مثل ذلك شيبه عليه السّلام.
وقوله: أُمِرْتَ مخاطبة تعظيم، وقوله: وَمَنْ معطوف على الضمير في قوله: فَاسْتَقِمْ،

صفحة رقم 211

وحسن ذلك دون أن يؤكد لطول الكلام بقوله: كَما أُمِرْتَ. ولا تَطْغَوْا معناه: ولا تتجاوزوا حدود الله تعالى، و «الطغيان» : تجاوز الحد ومنه قوله: طَغَى الْماءُ [الحاقة: ١١] وقوله في فرعون: إِنَّهُ طَغى [طه: ٢٤- ٤٣، النازعات: ١٧]، وقيل في هذه معناه: ولا تطغينكم النعم، وهذا كالأول.
وقرأ الجمهور «تعملون» بتاء، وقرأ الحسن والأعمش «يعملون» بياء من تحت- وقرأ الجمهور: «ولا تركنوا» بفتح الكاف، وقرأ طلحة بن مصرف وقتادة والأشهب العقيلي وأبو عمرو- فيما روى عنه هارون- بضمها، وهو لغة، يقال: ركن يركن وركن يركن، ومعناه السكون، إلى الشيء والرضا به قال أبو العالية:
«الركون» : الرضا. قال ابن زيد: «الركون» : الإدمان.
قال القاضي أبو محمد: فالركون يقع على قليل هذا المعنى وكثيره، والنهي هنا يترتب من معنى الركون على الميل إليهم بالشرك معهم إلى أقل الرتب من ترك التغيير عليهم مع القدرة، والَّذِينَ ظَلَمُوا هنا هم الكفار، وهو النص للمتأولين، ويدخل بالمعنى أهل المعاصي.
وقرأ الجمهور «فتمسكم»، وقرأ يحيى وابن وثاب وعلقمة والأعمش وابن مصرف وحمزة- فيما روي عنه- «فتمسكم» بكسر التاء وهي لغة في كسر العلامات الثلاث دون الياء التي للغائب، وقد جاء في الياء ييجل وييبى، وعللت هذه بأن الياء التي وليت الأولى ردتها إلى الكسر.
وقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ الآية، لم يختلف أحد في أن الصَّلاةَ في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة، واختلف في طَرَفَيِ النَّهارِ وزلف الليل فقيل: الطرف الأول الصبح، والثاني الظهر والعصر والزلف المغرب والعشاء، قاله مجاهد ومحمد بن كعب القرظي وروي أن النبي ﷺ قال في المغرب والعشاء: «هما زلفتا الليل». وقيل: الطرف الأول: الصبح، والثاني: العصر، قاله الحسن وقتادة والضحاك، والزلف: المغرب والعشاء، وليست الظهر في هذه الآية على هذا القول- بل هي في غيرها، وقيل الطرفان: الصبح والمغرب- قاله ابن عباس والحسن- أيضا- والزلف: العشاء، وليست في الآية الظهر والعصر. وقيل: الطرفان: الظهر والعصر، والزلف: المغرب والعشاء والصبح.
قال القاضي أبو محمد: كأن هذا القائل راعى جهر القراءة، والأول أحسن هذه الأقوال عندي ورجح الطبري أن الطرفين: الصبح والمغرب، وأنه الظاهر، إلا أن عموم الصلوات الخمس بالآية أولى.
وقرأ الجمهور «زلفا» بفتح اللام، وقرأ طلحة بن مصرف وابن محيصن وعيسى وابن إسحاق وأبو جعفر: «زلفا» بضم اللام كأنه اسم مفرد. وقرأ «زلفا» بسكون اللام مجاهد، وقرأ أيضا: «زلفى» على وزن- فعلى- وهي قراءة ابن محيصن. والزلف: الساعات القريب بعضها من بعض. ومنه قول العجاج: [الرجز]

ناج طواه الأين مما وجفا طي الليالي زلفا فزلفا
سماوة الهلال حتى احقوقفا وقوله إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ذهب جمهور المتأولين من صحابة وتابعين إلى أن الْحَسَناتِ يراد بها الصلوات الخمس- وإلى هذه الآية ذهب عثمان- رضي الله عنه- عند وضوئه على

صفحة رقم 212

المقاعد وهو تأويل مالك، وقال مجاهد: الْحَسَناتِ: قول الرجل: سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله إنما هو على جهة المثال في الحسنات، ومن أجل أن الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال، والذي يظهر أن لفظ الآية لفظ عام في الحسنات خاص في السيئات بقوله عليه السّلام: «ما اجتنبت الكبائر».
وروي أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار، قيل: هو أبو اليسر بن عمرو، وقيل: اسمه عباد، خلا بامرأة فقبلها وتلذّذ بها فيما دون الجماع، ثم جاء إلى عمر فشكا إليه، فقال: قد ستر الله عليك فاستر على نفسك، فقلق الرجل فجاء أبا بكر فشكا إليه، فقال له مثل مقالة عمر، فقلق الرجل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى معه، ثم أخبره وقال: اقض فيّ ما شئت، فقال الرسول ﷺ لعلها زوجة غاز في سبيل الله، قال: نعم، فوبخه رسول الله ﷺ وقال: ما أدري، فنزلت هذه الآية، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاها عليه: فقال معاذ بن جبل: يا رسول الله خاصة؟
قال: بل للناس عامة. وروي أن الآية كانت نزلت قبل ذلك واستعملها رسول الله ﷺ في ذلك الرجل وروي أن عمر قال ما حكي عن معاذ.
قال القاضي أبو محمد: وروي أن رسول الله ﷺ قال: «الجمعة إلى الجمعة، والصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان- كفارة لما بينها إن اجتنبت الكبائر». فاختلف أهل السنة في تأويل هذا الشرط في قوله: «إن اجتنبت الكبائر»، فقال جمهورهم: هو شرط في معنى الوعد كله، أي إن اجتنبت الكبائر كانت العبادات المذكورة كفارة للذنوب، فإن لم تجتنب لم تكفر العبادات شيئا من الصغائر. وقالت فرقة: معنى قوله إن اجتنبت: أي هي التي لا تحطها العبادات، فإنما شرط ذلك ليصح بشرطه عموم قوله: ما بينهما، وإن لم تحطها العبادات وحطت الصغائر.
قال القاضي أبو محمد: وبهذا أقول وهو الذي يقتضيه حديث خروج الخطايا مع قطر الماء وغيره وذلك كله بشرط التوبة من تلك الصغائر وعدم الإصرار عليها، وهذا نص الحذاق الأصوليين. وعلى التأويل الأول تجيء هذه مخصوصة في مجتنبي الكبائر فقط.
وقوله ذلك إشارة إلى الصلوات، ووصفها ب ذِكْرى، أي هي سبب ذكر وموضع ذكرى، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الإخبار ب إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، فتكون هذه الذكرى تحض على الحسنات، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى جميع ما تقدم من الأوامر والنواهي في هذه السورة، وهو تفسير الطبري.
ثم أمره تعالى بالصبر، وجاءت هذه الآيات في نمط واحد: أعلمه الله تعالى أنه يوفي جميع الخلائق أعمالهم المسيء والمحسن، ثم أمره بالاستقامة والمؤمنين معه، ثم أمره بإقامة الصلوات ووعد على ذلك ثم أمره بالصبر على التبليغ والمكاره في ذات الله تعالى، ثم وعد بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.

صفحة رقم 213
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز
عرض الكتاب
المؤلف
أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي
تحقيق
عبد السلام عبد الشافي محمد
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1422 - 2001
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية