
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (واتل) على هؤلاء المشركين الذي قالوا: (اتخذ الله ولدًا)، من قومك (١) = (نبأ نوح)، يقول: خبر نوح (٢) (إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي)، يقول: إن كان عظم عليكم مقامي بين أظهركم وشقّ عليكم، (٣) = (وتذكيري بآيات الله)، يقول، ووعظي إياكم بحجج الله، وتنبيهي إياكم على ذلك (٤) = (فعلى الله توكلت)، يقول: إن كان شق عليكم مقامي بين أظهركم، وتذكيري بآيات الله، فعزمتم على قتلي أو طردي من بين أظهركم، فعلى الله اتكالي وبه ثقتي، وهو سَنَدي وظهري (٥) = (فأجمعوا أمركم)، يقول: فأعدُّوا أمركم، واعزموا على ما تنوُون عليه في أمري. (٦)
* * *
يقال منه: "أجمعت على كذا"، بمعنى: عزمت عليه، (٧)
ومنه قول النبي
(٢) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف ص: ١٠٢، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " كبر " فيما سلف ١١: ٣٣٦، ٣٣٧.
(٤) انظر تفسير " التذكير " فيما سلف من فهارس اللغة (ذكر).
(٥) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ١٤: ٥٨٧، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٦) في المطبوعة: " وما تقدمون عليه "، وفي المخطوطة: " وما سومون " غير منقوطة، وهو وهم من الناسخ، والصواب الذي أرجحه، ما أثبت، لأن " الإجماع " هو إحكام النية والعزيمة.
(٧) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٣، وقد فصل القول فيه هناك.

صلى الله عليه وسلم:: "من لم يُجْمِع على الصوم من الليل فلا صَوْم له"، بمعنى: من لم يعزم، (١) ومنه قول الشاعر: (٢)
يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى لا تَنْفَعُ | هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْمًا وَأَمْرِي مُجْمَعُ (٣) |
وروي عن الأعرج في ذلك ما:-
١٧٧٦٠- حدثني بعض أصحابنا، عن عبد الوهاب، عن هارون، عن أسيد، عن الأعرج: (فأجمعوا أمركم وشركاءكم)، يقول: أحكموا أمركم، وادعوا شركاءكم. (٤)
ونصب قوله: (وشركاءكم)، بفعل مضمر له، وذلك: "وادعوا شركاءكم"، وعطف ب"الشركاء" على قوله: (أمركم)، على نحو قول الشاعر:
(٢) لم أعرف قائله، ولكني أظنه لأبي النجم، هكذا أذكر.
(٣) نوادر أبي زيد: ١٣٣، معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٣، اللسان (جمع)، (زفا)، وبعده فيما روى أبو زيد: وَتَحْتَ رَحْلِي زَفَيَانٌ مَيْلَعُ
حَرْفٌ، إذَا مَا زُجِرَتْ تَبَوَّعُ.
(٤) الأثر: ١٧٧٦٠ - " عبد الوهاب "، هو " عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي "، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم: ١٤٢٢٩. " وهارون " هو " هارون بن موسى " الأعور النحوي، مضى برقم: ٤٩٨٥، ١١٦٩٣، ١٥٥١٤، ١٥٥١٥." وأسيد "، هو " أسيد بن أبي أسيد، يزيد "، البراد. روى الحروف عن الأعرج، مترجم في التهذيب، والكبير ٢ / ١/ ٤٩، ولم يزد على أن قال " أسيد، حدثنا موسى، حدثنا هارون، عن أسيد سمع عكرمة، وعن الأعرج في القراءة "، لم يذكر له نسبًا. وفي ابن أبي حاتم ١ / ١ / ٣١٦، في ترجمة " أسيد بن يزيد المدني "، وقال: " روى عن الأعرج، روى عنه هارون النحوي". ثم أتبعه بترجمة " أسيد بن أبي أسيد البراد "، وقال: " واسم أبي أسيد يزيد "، ولم يذكر له رواية عن الأعرج، ولا في الرواة عنه هارون النحوي، فجعلهما رجلين. بيد أني رأيت ابن الجزري في طبقات القراء ١: ٣٨١ في ترجمة " الأعرج "، وهو " عبد الرحمن بن هرمز " قال: " وروى عنه الحروف أسيد بن أبي أسيد ". وانظر هذا الاختلاف في التهذيب، وما قاله الحافظ ابن حجر هناك.

وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى | مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (١) |
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته قراء الأمصار: (وَشُرَكَاءَكُمْ) نصبًا، وقوله: (فَأَجْمِعُوا)، بهمز الألف وفتحها، من: "أجمعت أمري فأنا أجمعه إجماعًا.
* * *
وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ)، بفتح الألف وهمزها = (وَشُرَكَاؤُكُمْ)، بالرفع على معنى: وأجمعوا أمركم، وليجمع أمرَهم أيضًا معكم شركاؤكم. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك قراءةُ من قرأ: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ)، بفتح الألف من "أجمعوا"، ونصب "الشركاء"، لأنها في المصحف بغير واو، ولإجماع الحجة على القراءة بها، ورفض ما خالفها، ولا يعترض عليها بمن يجوز عليه الخطأ والسهو.
* * *
وعني ب"الشركاء"، آلهتهم وأوثانهم.
* * *
وقوله: (ثم لا يكن أمركم عليكم غمة)، يقول: ثم لا يكن أمركم عليكم ملتبسًا مشكلا مبهمًا.
* * *
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: " فاكتفى " بالفاء، والصواب حذفها، وإنما خلط الناسخ.
(٣) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٣.

= من قولهم: "غُمَّ على الناس الهلال"، وذلك إذا أشكل عليهم فلم يتبيَّنوه، ومنه قول [العجاج] :(١)
بَلْ لَوْ شَهِدْتِ النَّاسَ إِذْ تُكُمُّوا | بِغُمّةٍ لَوْ لَمْ تُفَرَّجْ غُمُّوا (٢) |
وَذِي كُرْبَةٍ رَاخَى ابْنُ عَمْرٍو خِنَاقَه | وَغُمَّتَهُ عَنْ وَجْهِهِ فَتَجَلَّتِ (٤) |
وكان قتادة يقول في ذلك ما:
١٧٧٦١- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (أمركم عليكم غمة)، قال: لا يكبر عليكم أمركم.
* * *
وأما قوله: (ثم اقضوا إليّ)، فإن معناه: ثم امضوا إليّ ما في أنفسكم وافرغوا منه، كما:-
١٧٧٦٢- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون)، قال: اقضوا إليّ ما كنتم قاضين.
١٧٧٦٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون)، قال: اقضوا إليّ ما في أنفسكم.
(٢) ديوانه: ٦٣، واللسان (غمم)، (كمم)، وغيرها. أول رجز له طويل في ديوانه، ذكر فيه مسعود بن عمرو العتكي، وما أصابه وقومه من تميم رهط العجاج، وسلف بيان ذلك ١٣: ٧٥، تعليق: ٢، في شرح بيت من هذا الرجز. وقوله: " تكموا " من قوله: " تكممه "، أي غطاه وغشاه، ثم لما توالت الميمات في " تكمموا "، قلبت الأخيرة ياء، كما قيل في " التظنن " و " التظني "، فلما أسند إليه الواو، قال: " تكموا ".
(٣) في المطبوعة: " يتفرج عنه "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
(٤) ديوانها: ٢٢، وروايته " ومُخْتَنِقٍ رَاخَى ابنُ عَمْرٍو " من رثائها في أخيها صخر.

١٧٧٦٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
واختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله: (ثم اقضوا إليّ). (١).
فقال بعضهم: معناه: امضوا إلي، كما يقال: "قد قضى فلان"، يراد: قد مات ومَضَى.
* * *
وقال آخرون منهم: بل معناه: ثم افرغوا إليّ، وقالوا: "القضاء"، الفراغ، والقضاء من ذلك. قالوا: وكأنّ "قضى دينه " من ذلك، إنما هو فَرَغ منه.
* * *
وقد حُكي عن بعض القراء أنه قرأ ذلك: (ثُمَّ أَفْضُوا إِلَيَّ)، بمعنى: توجَّهوا إليّ حتى تصلوا إليّ، من قولهم: "قد أفْضَى إليّ الوَجَع وشبهه". (٢)
* * *
وقوله: (ولا تنظرون)، يقول: ولا تؤخرون.
* * *
=من قول القائل: "أنظرت فلانًا بما لي عليه من الدين". (٣)
* * *
قال أبو جعفر: وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول نبيه نوح عليه السلام لقومه: إنه بنُصرة الله له عليهم واثق، ومن كيدهم وبوائقهم غير خائف (٤) =وإعلامٌ منه لهم أن آلهتهم لا تضرّ ولا تنفع، يقول لهم: أمضوا ما تحدّثون أنفسكم به فيَّ، على عزم منكم صحيح، واستعينوا من شايعكم عليّ بآلهتكم التي تدْعون من دون الله،
(٢) انظر بيان هذه القراءة في معاني القرآن للفراء ١: ٤٧٤.
(٣) انظر تفسير " الإنظار " فيما سلف ١٣: ٣٢٢، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٤) في المطبوعة: " من كيدهم وتواثقهم "، وهي قراءة فاسدة، صوابها ما أثبت. والمخطوطة غير منقوطة. و " البوائق "، جمع " بائقة ". يعني: غوائلهم وشرهم وظلمهم وبغيهم عليه.